<اللّهم إِنّك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك وتعاهدت على نصرة شريعتك، فوثق اللّهم رابطتها وأدم ودها، واهدها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك، وأمتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم>
أولاً: صفات القلوب:
اجتمعت على محبتك.
والتقت على طاعتك.
وتوحدت على دعوتك.
وتعاهدت على نصرة شريعتك.
ثانياً: تربية القلوب:
فوثق اللهم رابطتها.
وأدم ودها.
وأهدها سبلها.
ثالثاً: زاد القلوب:
واملأها بنورك الذي لا يخبو.
واشرح صدورها بفيض الإيمان بك.
وجميل التوكل عليك.
رابعاً:عمل القلوب:
وأحيها بمعرفتك.
وأمتها على الشهادة في سبيلك.
إنك نِعمَ المولى ونِعمَ النصير.
هيد
لماذا هذا التقسيم؟
بالتأمل في ما جعله الإمام حسن البنا ورداً تجتمع عليه القلوب في كل مساء بعد تدبر تلاوة الآيات الكريمات < قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)>
يتضح من الآيات أن المظاهر الدنيوية من ملك وجاه ومال وعزة بيد الله، وقدرته، وهيمنته ومن خلال التأمل في قدرة الله وصفاته وأسمائه ونعمه، تكون الحقيقة ناصعة، ويثبت المعنى الرباني من وراء الآيات، فالأمر أمر قلوب تتجه إلى ربها وترتقي في منازل التصعيد حتى تصل إلى القرب فتحظى بالأنس والبهجة والسرور والفرحة وذلك غاية خلقها ومقصود وجودها.
وعند بداية الغروب يكون مبدئ الليل، تراه القلوب فتفرح وتسعد لأنه لقاؤها مع ربها، مع محبوبها، ففي الليل إذا نام الناس، وسكن الكون وصمتت الحركات، ينزل الله إلى السماء الدنيا حيث اللقاء مع القلوب المتيقظة البصيرة، ولذا كان البدء بهذا الدعاء:
اللهم إن هذا إقبال ليلك
وإدبار نهارك
وأصوات دُعَاتِك
فاغفر لنا
بهذه التهيئة للقلوب أراد الإمام حسن البنا أن ينقل إلينا حاله مع ربه وسعادته وسرور قلبه، فلم تكن هذه الدعوات باختيارات عشوائية يخطها قلم كاتب، أو فكر مؤلف، وأحسب إن الإمام أراد بهذا الورد أن تكون الديمومة والاستمرار على دعوة الله مرتبطة بالقلوب وحركتها، وكيف تتلقى الحقيقة؟ وتودع فيها؟ ثم تثبت وتستقر! ثم تستمر ويداوم عليها! وبهذا أراد أن يضمن للإخوان جميعاً أن يستمروا على دعوة الله، تحركهم الحقيقة ثابتين مستقرين، مستمرين مداومين، فقال رضي الله عنه مفتتحاً ورد القلوب:
"اللّهم إنك تعلم أن هذه القلوب"
1- اللَّهم:هل تريد أن تعيش على الأرض وأنت في الجنة؟ هذا ما سأله السلف لأتباعه فقالوا جميعاً:
نعم، فأبلغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلقُ الذكر..
والقلوب تضطرب وتقلق ولا تهدأ إلا بسكينة من الله فتزداد إيماناً، وبمداومة الذكر يقذف الله في القلوب الطمأنينة فتقر دوماً، وتهدأ أبداً، فالسكينة جزء من الطمأنينة، لأنها وقتية أما الطمأنينة فهي دائمة <ألا بذكر القلوب تطمئن القلوب>.
والذاكرون هم السابقون الفائزون لمناجاتهم، فالمناجاة حياة مع الحبيب، لقد كان أحدهم يتهيأ ليسأل الله حاجته فيدخل في مناجاة ربه فتنسيه المناجاة حاجته، من لذتها وحلاوتها، وجلالها وجمالها، فيقضي الله حاجته دون أن يسأله إياها.
ولقد كان بدء الدعاء بكلمة اللَّهم بما فيها من فقر وذلة وانكسار وعبودية، فهي مفتاح المناجاة، وعنوان الذاكرين، وعلامة الخضوع لرب العالمين.
2- إنك تعلم أنّ هذه القلوب:
من جمال الدعاء مع رب العالمين أن تدعو الله وقد أديت ما عليك، وأن تقدم عملك بين يدي دعائك، وتدعوه وأنت متيقن من الإجابة، فأراد الإمام البنا أن يقدم جهد القلوب مع ربها، وما اتصفت به من صفات تؤهلها لاختيار الله لها، لتصنع على عينه فقال:
إنك تعلم أنّ هذه القلوب قد وعلى عادة الإمام البنا أن ينادي من الإخوان العاملين (الإخوان الصادقين) فيوجه إليهم رسائل خاصة في الفهم والتكوين والعمل، كذلك فهذه القلوب هي قلوب بعينها، وليست مختارة عشوائياً، وإنما هي التي حققت صفات معينة، ولذا جاءت هذه المؤكدات أنّ هذه القلوب قد، لتكون منزلة لا يصل إليها إلا من قام بحقها من الإخوان الصادقين.
وليس معنى ذلك أن ورد القلوب يصلح لأناس ولا يصلح لغيرهم أو هو حجر على مجموعة بعينها، وإنّما الأمر أمر تسابق في الخيرات ومسارعة في تحقيق الصفات، لأن الإسلام يفتح طريق السالكين إلى ربهم ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، ولما كان الأمر يختص بالقلوب فكان أولى بالسالكين أن يسارعوا الخطى، فما أبدع التشمير والاجتهاد للوصول إلى رب العالمين، وهل يدندن الصالحون والصادقون إلا حول هذا المعنى؟!
ولاً: صفات هذه القلوب
1- اجتمعت على محبتك:
هذا هو الاجتماع الذي لا يعرف توقفاً أو تعثراً، لأنه الاجتماع الموصول المستمر المتواصل، القائم على محبة الله، وذلك لأن المحبة هي أرقى منزلة من منازل السائرين إلى الله حيث تتحقق العبودية المحضة لله رب العالمين، وفي مشاهد هذه المنزلة أحلى وأبهج اجتماع حيث يتروح العابدون بنسيمها، لأنها قوت القلوب وقرة العيون وهي الحياة الحقيقية والنور والشفاء، بل واللذة الكاملة.
هذه المحبة هي سمة السالكين فالكتاب يعرف من عنوانه وكذلك الصادقون يعرفون بالمحبة، وهي النسبة بين العبد ربه، فالرب رب، والعبد خلق ليكون عبداً، ولا تتحقق العبودية إلا بالمحبة، وهي روح الإيمان والعمل، وإلا أصبح المؤمنون كجسد لا روح فيه وأعمالهم إذا خلت من الروح لم تصعد إلى السماء.
ولما كثر السالكون في طريق المحبة امتحنهم الله بقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ فبيّن الله أن القضية ليست في أن يحبه المحبون، وإنما في أن يحبهم الله، وذلك باتباعهم للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. فتراجع المدّعون وبقى المحبون فامتحنهم الله بقوله: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ.
فبقي المجاهدون الذين أعلمهم الله بأن أموالهم وأنفسهم ليست ملكاً لهم بل لله في قوله: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ فلما علموا أن سلعة الله غالية قالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فوالله اجتماعهم على الله وفي الله وبالله، وكذلك حركاتهم وصمتهم، فأعمالهم إلى السماء صاعدة وإن ناموا على الفرش:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ...
فلا حاجز ولا حجاب...
ومن أجمع ما ذكره أبو بكر الكتاني قال: جرت مسألة في المحبة بمكة فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا: هات ما عندك. فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال:
عبد ذاهب عن نفسه
متصل بذكر ربه
قائم بأداء حقوقه
ناظر إليه بقلبه
فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله فهو بالله ولله ومع الله.
فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جزاك الله يا تاج العارفين.
وصدق في المحبين قول الشاعر:
من لي بمثل سيرك المدلل ***** تمشي رويداً؟ وتجيء في الأول
وفي اللغة:
(حَبَتُ الأسنان) أي بياضها وصفاؤها.
(حَبَبُ الماء) أي علوه وظهوره.
(حبَّ البعير) إذا برك لم يقم، أي اللزوم والثبات.
(حبة القلوب) أي لٌبُّ القلب وداخله.
(حبة من الحبوب) أي أصل الشيء ومادته.
ولقد علق الإمام ابن القيم على معنى المحبة في منظور اللغة بقول بديع: فإنها صفاء المودة وهيمان إرادات القلب للمحبوب وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة القلب للمحبوب، ولزومها لزاماً لا تفارقه، لإعطاء المحب محبوبه لُبّه، وأشرف ما عنده، وهو قلبه ...
فبالله عليك اجتماع قلوب على محبة الله بهذه الحقيقة وبهذه المعاني... هل يتوقف أو تعثر أو يزول، إنه اجتماع ثابت مستمر، لازم مستقر، ورحم الله الإمام البنا وهو يبدأ بهذه الصفة في قلوب الإخوان كأساس في السلوك وارتقاء في القرب من الله.
- والتقت على طاعتك:
أهل الطاعة بل قل أهل العبادة، التي هي غاية مرادهم، ما يزدادون إلا طلبًا من الله أن يعينهم ويوفقهم للطاعة، وهذا ما علمه رسول الله الحبيب صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: يا معاذ والله إني أحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وأهل الطاعة هم أهل الإخلاص والمتابعة، فأعمالهم كلها لله وأموالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، ولا يريدون من الناس جزاءاً ولا شكورا. وكذلك أعمالهم وعبادتهم وطاعتهم موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه، ومن أجل ذلك كان ابتلاء الله للناس: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.
وكان الفضيل بن عياض يقول: العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه، ويتلو قوله: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، وفي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد.
وأهل الطاعة هم الذين يعملون على مرضاة الرب في كل وقت وأفضل الطاعات عندهم في وقت الجهاد: الجهاد، والأفضل في وقت السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في وقت إرشاد الناس: تعليمهم ودعوتهم، والأفضل في وقت الصلوات الخمس: المبادرة إلى أول الوقت والخروج إلى المسجد وصلاتها في جماعة والحرص على إقامتها كاملة .. وهكذا مع كل الطاعات: في تلاوة القرآن، في الحج، في العشر الآواخر من رمضان، في وقت مرض أخيك، في مخالطة الناس والتأثير فيهم بالدعوة، حتى يتحقق فيهم قول القائل: فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ...
أليس ذلك معنى الالتقاء الجميل على الطاعة؟!
وأهل الطاعة هم أهل الذلة والخضوع لله رب العالمين، <وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ> ولأنهم عبيد إلهيته والناس جميعاً عبيد لربوبيته: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فأوجب ذلك عليهم طاعة قلوبهم لله، فمن عطلها عطل الطاعة كلها، لأن القلب للجوارح كالملك، فإن قام بمهمته قام هو ورعيته، ومن ثم كان حرص الإمام البنا أن تكون هذه الصفة من صفات القلوب والتقت على طاعتك.
وربما كان للترتيب عند الإمام البنا فن حال، وفقه موقف، فبدأ بصيغة <الاجتماع على محبة الله> ثم ثنى بصيغة <الالتقاء على طاعة الله> وذلك لأن المحبة لا تحقق إلا باتباع أمره وطاعته واجتناب نهيه وطاعته أيضاً فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة المحبة، ولهذا جعل الله اتباع رسوله علماً عليها وشاهداً لمن ادعاها فقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ مصداقاً لقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً.
ودل ذلك أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله بطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما يقول:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
فمن قدم طاعة أحد من هؤلاء أو قوله أو مرضاته أو معاملته أو حكمه على طاعة الله ورسوله في قوله ومرضاته ومعاملته وحكمه، فخرج من دائرة: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وهكذا كان للترتيب فن وفقه، وارتباط متداخل في الحكمة دقيق، فأهل طاعة الله وإن تناءت بهم الأقطار هم في التقاء لا يزول، وإن تباعدت بهم الديار فهم في التقاء لا يحول، يكفيهم أنهم قلوب التقت على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- وتوحدت على دعوتك:
المقصود بالدعوة التي نسبها الإمام الشهيد إلى الله هي رسالة الإسلام وأصحاب الرسالة هم هذه القلوب التي توحدت في فهمها للرسالة، وتلقيها وتصوراتهم عنها، ثم توحدت عملاً وتطبيقاً وممارسة للرسالة كما أنزلها الله، ثم توحدت سعياً وتشميراً وجهاداً في نشرها على ربوع الأرض والتبشير بها في العالمين، ولقد صدق ربعي بن عامر صاحب الرسالة وهو يرد على رستم القائد الفارسي حينما سأله: ما الذي جاء بكم؟ فقال:
إن الله ابتعثنا لنخرج من نشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
لقد لخص الإمام البنا عمل أصحاب الرسالة في تعاملهم مع الإسلام حين ما قال: الفهم الدقيق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل، فتعلمنا أن الاتحاد على دعوة الله تعني ثلاث دوائر:
الدائرة الأولى: الفهم والتصور لرسالة الإسلام، ولقد جاءت رسائل الإمام في تبيين هذه الدائرة خير تبيين، ثم جاء الشارحون وهم يزيدون الأمر شرحاً ويطوفون حول تحقيق هدف الدائرة: الفهم الدقيق.
الدائرة الثانية: العمل والتطبيق والتكوين والتربية وفق هذه الرسالة، فإن توحد الفهم والتصور لا يكفي إذا انقطع عن ملاحمة العمل به وتطبيقه، وهنالك تكون البصيرة بالدعوة التي ينطلق بها أصحاب الرسالة.
الدائرة الثالثة: وهي دائرة التبشير بالرسالة ونشرها على ربوع العالمين والتبليغ عن رب العزة في عمل متواصل لا يعرف توقفاً وهنالك تكون الحركة الواعية العابدة لله تحقيقاً لقوله: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
والمعنى: أنا أدعو إلى الله على بصيرة ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة.
أما عن حكمة الترتيب فله علاقة وثيقة بالصفتين السابقتين، قلوب بلغت القرب من ربها بالمحبة ثم التقت هذه القلوب على طاعة الله، فهو تهيئة ربانية لهذه القلوب لحمل الرسالة فهماً وعملاً وجهاداً، إنها الصناعة الربانية <ولتصنع علي عيني>، "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، إن قلوبنا قد هيأها الله، وصنعها على عينه، ما أعظم ما شرفها الله به من حمل الرسالة والتبليغ عنه، فهي تحمل هذا الإرث النبوي ويكفيها بحمله تيهاً وفخراً، وتعمل عمل الأنبياء رحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما جاء سفير الروم يبحث عن قصره فقالوا له: هو النائم هناك تحت الشجرة ! فتساءل الرجل في دهشة: أين حرّاسه؟ أين حُجّابه؟ قالوا: ليس له حجّاب ولا حرّاس، فقال: ينبغي أن يكون نبياً !! فقالوا له: بل يعمل عمل الأنبياء ...
فأصحاب الرسالة توحدت قلوبهم على عمل الأنبياء وكفى به اتحاداً لا ينفصل ولا يتأثر مهما كانت الأعاصير هادرة، والأمواج عاتية.
- وتعاهدت على نصرة شريعتك:
إن هذه القلوب التي تهيئت من قبل ربها لمنزلة القرب منه، فكان اجتماعها على محبته، والتقاؤها على طاعته، وكانت صفاً متيناً فتوحدت على دعوته فهماً وعملاً ونشراً... أعدها الله لدور الأنبياء وكان عملهم عمل الأنبياء، فهم المصلحون حين الغربة، وهم أهل الحق أمام كل باطل، وهم المبتعثون إلى الناس يرشدونهم وينذرونهم ويبشرونهم بسعادتهم في الدنيا والآخرة، فكان العهد مع الله الذي هيأها وأعدها وصنعها وشرفها باختياره لحمل الرسالة والصدع بالحق، وكان أن تعاهدت هذه القلوب على عمل الأنبياء والثبات عليه، ألا وهو نصرة شريعة الله.
وإن كان حال أمتنا كما نرى، اجتماع الكفر في صف واحد: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ... وبمؤازرة من حكام ضعاف رضوا بالذلة وباعوا عقيدتهم وتخلوا عن دينهم، فأعلنوا جميعاً محاربة الإسلام، في صور مختلفة، إما إبادة وذبح وسحق وقتل للبلدان المسلمة في حرب ينزع فيها السلاح عن المسلمين وإما بحرب يقودها الحكام ضد شعوبهم ورموزها الإسلامية، كل ذلك في ظل مؤامرات مخططة محبكة للغزو الثقافي والفكري لإحداث خلل عقلي فيصنع إنسانٌ لا صلة له بتاريخه أو لغته أو دينه أو حضارته، أو نشر للانحلال والإباحية والإلحاد بوسائل متعددة وبشعارات زائفة أو طمس للهوية باسم تطوير التعليم ومحاربة الحجاب وتحرير المرأة من دينها، أو إثارة الفرقة والقطيعة على مستوى كل الدوائر سواء في الوطن الواحد أو المستوى العربي أو المستوى الإسلامي أو المستوى الإنساني العالمي، بنشر بدعة الإرهاب !! التي هم أول من يمارسونها بل ويجندون مؤسساتهم وللأسف في تنفيذ لعبة قذرة أشبه (بالعسكر والحرامية) التي يلهو بها الأطفال ويضحك عليها الكبار.. فمن يا ترى يضحك على حال أمتنا؟!!
لقد كان مصطفى صادق الرافعي يتعجب قائلاً: كيف تصنع أمة يكون أكثر العاملين هم أكبر العاطلين إذ يعملون ولكن بروح غير عاملة.
ماذا لو بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته هكذا حالها لقال: "يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" ولتساءل صلى الله عليه وسلم: ماذا فعلتم بشريعة ربكم، من ينصرها ويرفع لواءها؟ من يبايع على نصرة شريعته؟ من يبايع على الجهاد للتمكين لدينه؟ من يتعاهد على الاحتكام إلى قرآنه؟ ...
بالأمس نادى بها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت بيعة الرضوان: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً".
ها هو الرسول ينادي هذه القلوب التي تهيئت وصنعها الله وتوحدت على دعوته! فكان جوابها تعاهدنا على نصرة شريعتك يا ربنا!!
وهكذا ترتبط الصفات في تداخل دقيق وترتيب حكيم لتجمع صفات يعلمها الله في هذه القلوب التي انتمت لدعوة الإخوان المسلمين وتنتظر، كل غروب يدبر فيه النهار، ويقبل فيه الليل، لتجدد العهد مع ربها عزَّ وجلَّ وتعاهدت على نصرة شريعتك.
يقول الإمام البنا بمناسبة مرور 20 عاماً على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في أيلول 9/ 1948م: اذكروا أيها الإخوان دائماً أنكم الكتيبة المؤمنة التي انتهى إليها في هذا العصر المادي المظلم بالشهوات والأهواء واجب الدفاع عن كلمات الله ورسالاته والمحافظة على أحكام شريعته ودعوة الإنسانية القائمة إلى الطريق المستقيم.
يُتبع بإذن الله
أولاً: صفات القلوب:
اجتمعت على محبتك.
والتقت على طاعتك.
وتوحدت على دعوتك.
وتعاهدت على نصرة شريعتك.
ثانياً: تربية القلوب:
فوثق اللهم رابطتها.
وأدم ودها.
وأهدها سبلها.
ثالثاً: زاد القلوب:
واملأها بنورك الذي لا يخبو.
واشرح صدورها بفيض الإيمان بك.
وجميل التوكل عليك.
رابعاً:عمل القلوب:
وأحيها بمعرفتك.
وأمتها على الشهادة في سبيلك.
إنك نِعمَ المولى ونِعمَ النصير.
هيد
لماذا هذا التقسيم؟
بالتأمل في ما جعله الإمام حسن البنا ورداً تجتمع عليه القلوب في كل مساء بعد تدبر تلاوة الآيات الكريمات < قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)>
يتضح من الآيات أن المظاهر الدنيوية من ملك وجاه ومال وعزة بيد الله، وقدرته، وهيمنته ومن خلال التأمل في قدرة الله وصفاته وأسمائه ونعمه، تكون الحقيقة ناصعة، ويثبت المعنى الرباني من وراء الآيات، فالأمر أمر قلوب تتجه إلى ربها وترتقي في منازل التصعيد حتى تصل إلى القرب فتحظى بالأنس والبهجة والسرور والفرحة وذلك غاية خلقها ومقصود وجودها.
وعند بداية الغروب يكون مبدئ الليل، تراه القلوب فتفرح وتسعد لأنه لقاؤها مع ربها، مع محبوبها، ففي الليل إذا نام الناس، وسكن الكون وصمتت الحركات، ينزل الله إلى السماء الدنيا حيث اللقاء مع القلوب المتيقظة البصيرة، ولذا كان البدء بهذا الدعاء:
اللهم إن هذا إقبال ليلك
وإدبار نهارك
وأصوات دُعَاتِك
فاغفر لنا
بهذه التهيئة للقلوب أراد الإمام حسن البنا أن ينقل إلينا حاله مع ربه وسعادته وسرور قلبه، فلم تكن هذه الدعوات باختيارات عشوائية يخطها قلم كاتب، أو فكر مؤلف، وأحسب إن الإمام أراد بهذا الورد أن تكون الديمومة والاستمرار على دعوة الله مرتبطة بالقلوب وحركتها، وكيف تتلقى الحقيقة؟ وتودع فيها؟ ثم تثبت وتستقر! ثم تستمر ويداوم عليها! وبهذا أراد أن يضمن للإخوان جميعاً أن يستمروا على دعوة الله، تحركهم الحقيقة ثابتين مستقرين، مستمرين مداومين، فقال رضي الله عنه مفتتحاً ورد القلوب:
"اللّهم إنك تعلم أن هذه القلوب"
1- اللَّهم:هل تريد أن تعيش على الأرض وأنت في الجنة؟ هذا ما سأله السلف لأتباعه فقالوا جميعاً:
نعم، فأبلغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلقُ الذكر..
والقلوب تضطرب وتقلق ولا تهدأ إلا بسكينة من الله فتزداد إيماناً، وبمداومة الذكر يقذف الله في القلوب الطمأنينة فتقر دوماً، وتهدأ أبداً، فالسكينة جزء من الطمأنينة، لأنها وقتية أما الطمأنينة فهي دائمة <ألا بذكر القلوب تطمئن القلوب>.
والذاكرون هم السابقون الفائزون لمناجاتهم، فالمناجاة حياة مع الحبيب، لقد كان أحدهم يتهيأ ليسأل الله حاجته فيدخل في مناجاة ربه فتنسيه المناجاة حاجته، من لذتها وحلاوتها، وجلالها وجمالها، فيقضي الله حاجته دون أن يسأله إياها.
ولقد كان بدء الدعاء بكلمة اللَّهم بما فيها من فقر وذلة وانكسار وعبودية، فهي مفتاح المناجاة، وعنوان الذاكرين، وعلامة الخضوع لرب العالمين.
2- إنك تعلم أنّ هذه القلوب:
من جمال الدعاء مع رب العالمين أن تدعو الله وقد أديت ما عليك، وأن تقدم عملك بين يدي دعائك، وتدعوه وأنت متيقن من الإجابة، فأراد الإمام البنا أن يقدم جهد القلوب مع ربها، وما اتصفت به من صفات تؤهلها لاختيار الله لها، لتصنع على عينه فقال:
إنك تعلم أنّ هذه القلوب قد وعلى عادة الإمام البنا أن ينادي من الإخوان العاملين (الإخوان الصادقين) فيوجه إليهم رسائل خاصة في الفهم والتكوين والعمل، كذلك فهذه القلوب هي قلوب بعينها، وليست مختارة عشوائياً، وإنما هي التي حققت صفات معينة، ولذا جاءت هذه المؤكدات أنّ هذه القلوب قد، لتكون منزلة لا يصل إليها إلا من قام بحقها من الإخوان الصادقين.
وليس معنى ذلك أن ورد القلوب يصلح لأناس ولا يصلح لغيرهم أو هو حجر على مجموعة بعينها، وإنّما الأمر أمر تسابق في الخيرات ومسارعة في تحقيق الصفات، لأن الإسلام يفتح طريق السالكين إلى ربهم ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، ولما كان الأمر يختص بالقلوب فكان أولى بالسالكين أن يسارعوا الخطى، فما أبدع التشمير والاجتهاد للوصول إلى رب العالمين، وهل يدندن الصالحون والصادقون إلا حول هذا المعنى؟!
ولاً: صفات هذه القلوب
1- اجتمعت على محبتك:
هذا هو الاجتماع الذي لا يعرف توقفاً أو تعثراً، لأنه الاجتماع الموصول المستمر المتواصل، القائم على محبة الله، وذلك لأن المحبة هي أرقى منزلة من منازل السائرين إلى الله حيث تتحقق العبودية المحضة لله رب العالمين، وفي مشاهد هذه المنزلة أحلى وأبهج اجتماع حيث يتروح العابدون بنسيمها، لأنها قوت القلوب وقرة العيون وهي الحياة الحقيقية والنور والشفاء، بل واللذة الكاملة.
هذه المحبة هي سمة السالكين فالكتاب يعرف من عنوانه وكذلك الصادقون يعرفون بالمحبة، وهي النسبة بين العبد ربه، فالرب رب، والعبد خلق ليكون عبداً، ولا تتحقق العبودية إلا بالمحبة، وهي روح الإيمان والعمل، وإلا أصبح المؤمنون كجسد لا روح فيه وأعمالهم إذا خلت من الروح لم تصعد إلى السماء.
ولما كثر السالكون في طريق المحبة امتحنهم الله بقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ فبيّن الله أن القضية ليست في أن يحبه المحبون، وإنما في أن يحبهم الله، وذلك باتباعهم للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. فتراجع المدّعون وبقى المحبون فامتحنهم الله بقوله: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ.
فبقي المجاهدون الذين أعلمهم الله بأن أموالهم وأنفسهم ليست ملكاً لهم بل لله في قوله: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ فلما علموا أن سلعة الله غالية قالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فوالله اجتماعهم على الله وفي الله وبالله، وكذلك حركاتهم وصمتهم، فأعمالهم إلى السماء صاعدة وإن ناموا على الفرش:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ...
فلا حاجز ولا حجاب...
ومن أجمع ما ذكره أبو بكر الكتاني قال: جرت مسألة في المحبة بمكة فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا: هات ما عندك. فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال:
عبد ذاهب عن نفسه
متصل بذكر ربه
قائم بأداء حقوقه
ناظر إليه بقلبه
فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله فهو بالله ولله ومع الله.
فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جزاك الله يا تاج العارفين.
وصدق في المحبين قول الشاعر:
من لي بمثل سيرك المدلل ***** تمشي رويداً؟ وتجيء في الأول
وفي اللغة:
(حَبَتُ الأسنان) أي بياضها وصفاؤها.
(حَبَبُ الماء) أي علوه وظهوره.
(حبَّ البعير) إذا برك لم يقم، أي اللزوم والثبات.
(حبة القلوب) أي لٌبُّ القلب وداخله.
(حبة من الحبوب) أي أصل الشيء ومادته.
ولقد علق الإمام ابن القيم على معنى المحبة في منظور اللغة بقول بديع: فإنها صفاء المودة وهيمان إرادات القلب للمحبوب وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة القلب للمحبوب، ولزومها لزاماً لا تفارقه، لإعطاء المحب محبوبه لُبّه، وأشرف ما عنده، وهو قلبه ...
فبالله عليك اجتماع قلوب على محبة الله بهذه الحقيقة وبهذه المعاني... هل يتوقف أو تعثر أو يزول، إنه اجتماع ثابت مستمر، لازم مستقر، ورحم الله الإمام البنا وهو يبدأ بهذه الصفة في قلوب الإخوان كأساس في السلوك وارتقاء في القرب من الله.
- والتقت على طاعتك:
أهل الطاعة بل قل أهل العبادة، التي هي غاية مرادهم، ما يزدادون إلا طلبًا من الله أن يعينهم ويوفقهم للطاعة، وهذا ما علمه رسول الله الحبيب صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: يا معاذ والله إني أحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وأهل الطاعة هم أهل الإخلاص والمتابعة، فأعمالهم كلها لله وأموالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، ولا يريدون من الناس جزاءاً ولا شكورا. وكذلك أعمالهم وعبادتهم وطاعتهم موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه، ومن أجل ذلك كان ابتلاء الله للناس: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.
وكان الفضيل بن عياض يقول: العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه، ويتلو قوله: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، وفي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد.
وأهل الطاعة هم الذين يعملون على مرضاة الرب في كل وقت وأفضل الطاعات عندهم في وقت الجهاد: الجهاد، والأفضل في وقت السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في وقت إرشاد الناس: تعليمهم ودعوتهم، والأفضل في وقت الصلوات الخمس: المبادرة إلى أول الوقت والخروج إلى المسجد وصلاتها في جماعة والحرص على إقامتها كاملة .. وهكذا مع كل الطاعات: في تلاوة القرآن، في الحج، في العشر الآواخر من رمضان، في وقت مرض أخيك، في مخالطة الناس والتأثير فيهم بالدعوة، حتى يتحقق فيهم قول القائل: فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ...
أليس ذلك معنى الالتقاء الجميل على الطاعة؟!
وأهل الطاعة هم أهل الذلة والخضوع لله رب العالمين، <وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ> ولأنهم عبيد إلهيته والناس جميعاً عبيد لربوبيته: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فأوجب ذلك عليهم طاعة قلوبهم لله، فمن عطلها عطل الطاعة كلها، لأن القلب للجوارح كالملك، فإن قام بمهمته قام هو ورعيته، ومن ثم كان حرص الإمام البنا أن تكون هذه الصفة من صفات القلوب والتقت على طاعتك.
وربما كان للترتيب عند الإمام البنا فن حال، وفقه موقف، فبدأ بصيغة <الاجتماع على محبة الله> ثم ثنى بصيغة <الالتقاء على طاعة الله> وذلك لأن المحبة لا تحقق إلا باتباع أمره وطاعته واجتناب نهيه وطاعته أيضاً فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة المحبة، ولهذا جعل الله اتباع رسوله علماً عليها وشاهداً لمن ادعاها فقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ مصداقاً لقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً.
ودل ذلك أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله بطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما يقول:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
فمن قدم طاعة أحد من هؤلاء أو قوله أو مرضاته أو معاملته أو حكمه على طاعة الله ورسوله في قوله ومرضاته ومعاملته وحكمه، فخرج من دائرة: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وهكذا كان للترتيب فن وفقه، وارتباط متداخل في الحكمة دقيق، فأهل طاعة الله وإن تناءت بهم الأقطار هم في التقاء لا يزول، وإن تباعدت بهم الديار فهم في التقاء لا يحول، يكفيهم أنهم قلوب التقت على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- وتوحدت على دعوتك:
المقصود بالدعوة التي نسبها الإمام الشهيد إلى الله هي رسالة الإسلام وأصحاب الرسالة هم هذه القلوب التي توحدت في فهمها للرسالة، وتلقيها وتصوراتهم عنها، ثم توحدت عملاً وتطبيقاً وممارسة للرسالة كما أنزلها الله، ثم توحدت سعياً وتشميراً وجهاداً في نشرها على ربوع الأرض والتبشير بها في العالمين، ولقد صدق ربعي بن عامر صاحب الرسالة وهو يرد على رستم القائد الفارسي حينما سأله: ما الذي جاء بكم؟ فقال:
إن الله ابتعثنا لنخرج من نشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
لقد لخص الإمام البنا عمل أصحاب الرسالة في تعاملهم مع الإسلام حين ما قال: الفهم الدقيق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل، فتعلمنا أن الاتحاد على دعوة الله تعني ثلاث دوائر:
الدائرة الأولى: الفهم والتصور لرسالة الإسلام، ولقد جاءت رسائل الإمام في تبيين هذه الدائرة خير تبيين، ثم جاء الشارحون وهم يزيدون الأمر شرحاً ويطوفون حول تحقيق هدف الدائرة: الفهم الدقيق.
الدائرة الثانية: العمل والتطبيق والتكوين والتربية وفق هذه الرسالة، فإن توحد الفهم والتصور لا يكفي إذا انقطع عن ملاحمة العمل به وتطبيقه، وهنالك تكون البصيرة بالدعوة التي ينطلق بها أصحاب الرسالة.
الدائرة الثالثة: وهي دائرة التبشير بالرسالة ونشرها على ربوع العالمين والتبليغ عن رب العزة في عمل متواصل لا يعرف توقفاً وهنالك تكون الحركة الواعية العابدة لله تحقيقاً لقوله: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
والمعنى: أنا أدعو إلى الله على بصيرة ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة.
أما عن حكمة الترتيب فله علاقة وثيقة بالصفتين السابقتين، قلوب بلغت القرب من ربها بالمحبة ثم التقت هذه القلوب على طاعة الله، فهو تهيئة ربانية لهذه القلوب لحمل الرسالة فهماً وعملاً وجهاداً، إنها الصناعة الربانية <ولتصنع علي عيني>، "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، إن قلوبنا قد هيأها الله، وصنعها على عينه، ما أعظم ما شرفها الله به من حمل الرسالة والتبليغ عنه، فهي تحمل هذا الإرث النبوي ويكفيها بحمله تيهاً وفخراً، وتعمل عمل الأنبياء رحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما جاء سفير الروم يبحث عن قصره فقالوا له: هو النائم هناك تحت الشجرة ! فتساءل الرجل في دهشة: أين حرّاسه؟ أين حُجّابه؟ قالوا: ليس له حجّاب ولا حرّاس، فقال: ينبغي أن يكون نبياً !! فقالوا له: بل يعمل عمل الأنبياء ...
فأصحاب الرسالة توحدت قلوبهم على عمل الأنبياء وكفى به اتحاداً لا ينفصل ولا يتأثر مهما كانت الأعاصير هادرة، والأمواج عاتية.
- وتعاهدت على نصرة شريعتك:
إن هذه القلوب التي تهيئت من قبل ربها لمنزلة القرب منه، فكان اجتماعها على محبته، والتقاؤها على طاعته، وكانت صفاً متيناً فتوحدت على دعوته فهماً وعملاً ونشراً... أعدها الله لدور الأنبياء وكان عملهم عمل الأنبياء، فهم المصلحون حين الغربة، وهم أهل الحق أمام كل باطل، وهم المبتعثون إلى الناس يرشدونهم وينذرونهم ويبشرونهم بسعادتهم في الدنيا والآخرة، فكان العهد مع الله الذي هيأها وأعدها وصنعها وشرفها باختياره لحمل الرسالة والصدع بالحق، وكان أن تعاهدت هذه القلوب على عمل الأنبياء والثبات عليه، ألا وهو نصرة شريعة الله.
وإن كان حال أمتنا كما نرى، اجتماع الكفر في صف واحد: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ... وبمؤازرة من حكام ضعاف رضوا بالذلة وباعوا عقيدتهم وتخلوا عن دينهم، فأعلنوا جميعاً محاربة الإسلام، في صور مختلفة، إما إبادة وذبح وسحق وقتل للبلدان المسلمة في حرب ينزع فيها السلاح عن المسلمين وإما بحرب يقودها الحكام ضد شعوبهم ورموزها الإسلامية، كل ذلك في ظل مؤامرات مخططة محبكة للغزو الثقافي والفكري لإحداث خلل عقلي فيصنع إنسانٌ لا صلة له بتاريخه أو لغته أو دينه أو حضارته، أو نشر للانحلال والإباحية والإلحاد بوسائل متعددة وبشعارات زائفة أو طمس للهوية باسم تطوير التعليم ومحاربة الحجاب وتحرير المرأة من دينها، أو إثارة الفرقة والقطيعة على مستوى كل الدوائر سواء في الوطن الواحد أو المستوى العربي أو المستوى الإسلامي أو المستوى الإنساني العالمي، بنشر بدعة الإرهاب !! التي هم أول من يمارسونها بل ويجندون مؤسساتهم وللأسف في تنفيذ لعبة قذرة أشبه (بالعسكر والحرامية) التي يلهو بها الأطفال ويضحك عليها الكبار.. فمن يا ترى يضحك على حال أمتنا؟!!
لقد كان مصطفى صادق الرافعي يتعجب قائلاً: كيف تصنع أمة يكون أكثر العاملين هم أكبر العاطلين إذ يعملون ولكن بروح غير عاملة.
ماذا لو بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته هكذا حالها لقال: "يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" ولتساءل صلى الله عليه وسلم: ماذا فعلتم بشريعة ربكم، من ينصرها ويرفع لواءها؟ من يبايع على نصرة شريعته؟ من يبايع على الجهاد للتمكين لدينه؟ من يتعاهد على الاحتكام إلى قرآنه؟ ...
بالأمس نادى بها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت بيعة الرضوان: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً".
ها هو الرسول ينادي هذه القلوب التي تهيئت وصنعها الله وتوحدت على دعوته! فكان جوابها تعاهدنا على نصرة شريعتك يا ربنا!!
وهكذا ترتبط الصفات في تداخل دقيق وترتيب حكيم لتجمع صفات يعلمها الله في هذه القلوب التي انتمت لدعوة الإخوان المسلمين وتنتظر، كل غروب يدبر فيه النهار، ويقبل فيه الليل، لتجدد العهد مع ربها عزَّ وجلَّ وتعاهدت على نصرة شريعتك.
يقول الإمام البنا بمناسبة مرور 20 عاماً على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في أيلول 9/ 1948م: اذكروا أيها الإخوان دائماً أنكم الكتيبة المؤمنة التي انتهى إليها في هذا العصر المادي المظلم بالشهوات والأهواء واجب الدفاع عن كلمات الله ورسالاته والمحافظة على أحكام شريعته ودعوة الإنسانية القائمة إلى الطريق المستقيم.
يُتبع بإذن الله