الامام الينا والمشروع الاسلامي
منذ 59 عاماً امتدت رصاصات الغدر لتنال من المشروع الإسلامي الذي قدمه الإمام البنا للأمة ، فمات الإمام وبقي المشروع الإسلامي ، ومازال يحمله رجال هذه الدعوة المباركة ، ويورثونه للأجيال التي تنبؤ بمستقبل مشرق لأمتنا الإسلامية .
لقد استطاع الإمام البنا في صراحة ووضوح ، بلا لبس أو غبار، أن يقدم للأمة مشروعها العصري : منهجاً ونهضة ودعوة وتربية ومقاومة وتحريراً للأوطان ، حتي بات السؤال الدائر اليوم : هل المشروع الذي قدمه الإمام البنا صالح اليوم في صد الهجمة الأمريكية والصهيونية ؟ وللإجابة يجب علينا أن نستعرض ملامح هذا المشروع كما قدمه البنا ويقدمه اليوم رجال هذه الدعوة .
أولاً : المنهج
فقد قدمه الإمام بينما التصارع قائم بين المنهجين الإصلاحي والتغييري ، وذلك باختياره للإسلام الذي يدعو إلى التغيير المرحلي والقائم على المبادرات الإصلاحية العملية ، وبذلك جمع الإمام البنا بين النهجين الإصلاحي والتغييري ، فسار بخطوات واضحة خاصة مع الملفات الشائكة مثل التعامل مع الأقباط ، والتعامل مع النظام ، والتعامل مع الخلافة .
وكذلك كان صريحاً في اختياره للوسائل ، فرفض الثورة ، ووضع شروطاً لاستعمال القوة ، واعتمد النضال الدستوري السلمي في التغيير والإصلاح .
ولذلك جاءت خلاصة ما قدمه البنا من المنهج ممثلة في التالي :
- الإسلام منهج تغييري يشمل كل جوانب الحياة
- كل خطى الإصلاح المؤدية للتغيير معتمدة شريطة موافقة الشرع
- منهج البنا موافق للإسلام ومنهج الرسول صلي الله عليه وسلم
ووفق هذا المنهج :
فالساحة الإسلامية ليست بديلا عن الأمة الإسلامية ، والدولة المدنية ليست بديلاً عن دولة الإسلام ، والمطالبة بالحرية والعدالة والمساواة ليست بديلاً عن شرع الله ، والجماعات الإسلامية ليست بديلاً عن الدولة الإسلامية ، والديمقراطية ليست بديلاً عن الشوري .
ثانياً : في مجال الدعوة وإصلاح الأمة
انطلقت من خلال قواعد ثابتة لدي الإمام وهي : إيمانه بالتغيير وأخذه بالإعداد والتدريب وانتهاجه للتخطيط والمرحلية واعتماده للنهج الجماهيري واستيعابه للجميع .
ومن ثم أوجب ذلك على الإخوان عدة واجبات منها :
الانطلاق الذاتي والعمل الاجتماعي والولاء لله والدعوة إلى رأي عام يساند الإصلاح الشامل وانتقاء الصالحين المؤهلين لحمل الأعباء برغبتهم واختيارهم الحر.
ثالثاً : في مجال التربية ونهضة الأمة
لم يكن ما قدمه البنا هو تربية أفراد الإخوان فقط ، أو تربية المجتمع ليكون أفراده من الإخوان المسلمين ، بل ما قدمه هو تربية الأمة ونهضتها .
ومن ثم غرس في الأمة معاني جديدة هي لب الإسلام مثل :
المسئولية والغيرة على الإسلام والمسلمين ، والعمل المتواصل والفناء في خدمة الآخرين ، والدعوة لوحدة الأمة ، والاستقامة بالتوازن والاعتدال والوسطية بعيداً عن التعصب والتطرف والعنف .
ومبيناً أن هذه المعاني لا تتحقق إلا :
بصفاء النفوس والبذل والعطاء والايمان العميق والتكوين الدقيق ، ولذلك لم يكن التنظيم سوي وسيلة لتطبيق هذه المعاني وليس هدفاً ، فقد أطلق الإمام عليها دقة التنظيم وليس سرية التنظيم ، فشتان بين الاثنين فكرا وسلوكاً .
رابعاً : صفات الشخصية التي أرادها لحامل هذا المشروع
فقد أوضحها الإمام من خلال تطور شخصيته هو ، من التأثر بالصوفية ثم السلفية ثم الأزهر ، حتي أصبح قائداً دعوياً ، ثم قائداً شعبياً ، ومن ثم كان الطريق طبيعباً إلى زعامة سياسية ، سرعان ما اختارته الأمة زعيماً لها يقودها في أخطر قضاياها - القضية الفلسطينية - ، والتي استشهد من أجلها .
ومن خلال ذلك وضع الإمام صفات هذه الشخصية المؤهلة لحمل المشروع الإسلامي ، في ست سمات ترجمها الإمام البنا بسيرته وسلوكه وعمله ، حتي بات يعرف بها وهي : العالمية والميدانية والجهاد والتغيير والجماهيرية و الأمل .
خامساً : وضع وتقديم أول مشروع للمقاومة
حيث كان الإمام أول من وضع للأمة مشروعاً للمقاومة وتحرير الأوطان ، فحول الفكر الإسلامي إلى حركة فاعلة ، وحول مفهوم الجهاد من الاعتقاد إلى الممارسة ، ثم وضع هذه الأفكار في إطار عملي تنفيذي متجدد ومتطور .
وكانت الأسس التي اعتمدها الأمام في مشروع المقاومة أربعة أسس :
الأول : استنهاض الأمة
الثاني : تحديد المقاومة كفكر
الثالث : غرس المفاهيم الجهادية
الرابع : بيان الدور العملي للأفراد والمجتمع
وقد استطاع الإمام البنا قبل الدعوة لتحرير الأوطان من صور الاحتلال أن يغرس فكر المقاومة قبل المقاومة العملية ، ومن ثم كان هذا التنافس الغير مسبوق بين أفراد المجتمع ، للانضمام في صفوف المقاومة سواء كان في حرب القنال ضد الانجليز ، أو حرب فلسطين 48 ضد الصهاينة .
فقدم مشروع المقاومة الذي أراه اليوم الضامن الوحيد ، لمقاومة المحتل في أفغانستان و العراق و فلسطين ، والذي يقوم علىعشر خطوات :
أولاً : معركة مفاهيم والتي أجملها في أركان البيعة العشرة
ثانياً : رؤية شاملة في إطار ماقدمه من الأصول العشرين
ثالثاً : مواجهة فكرية وعلمية وواقعية للشبهات والتحديات
رابعاً : الوعي بالمؤامرات المستترة وغرس الإرادة القوية
خامساً : الحركة بهذا المفهوم والعمل على نشره في الأمة
سادساً : بناء روح المقاومة وحب التضحية والعمل المتواصل
سابعاً : اعتماد لغة خطاب جديدة تدفع إلى الهمة والحركة
ثامناً : بعث الأمل وغرس بشريات النصر والثقة في الله
تاسعاً : اعتماد المقاومة الشاملة بكل أشكالها وأنواعها
عاشراً : الحرية أولاً والتحرر من كل سلطان أجنبي واقتصادي
وشهد شاهد من أهلها
لقد جاءت شهادة باحثة ألمانية في محاضرة لها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة تأكيدا لدور الإمام البنا في تقديم المشروع الإسلامي للأمة ، حيث تقول : إن الإخوان المسلمين يمثلون قوة سياسية واجتماعية هامة في المنطقة العربية ، وتقول : حسن البنا هو مؤسس أول حركة اجتماعية عربية حديثة ، وأكدت أن جماعة الاخوان ومؤسسها لها تأثيرات حاسمة على الخطاب الإسلامي وعلى التطورات الاجنماعية والثقافية والايدلوجية في العالم الإسلامي أجمع .
إن هذا المشروع هو بعينه السبب الرئيس في قوة وثبات حماس اليوم حركة وحكومة ، وأزعم أن هذا المشروع هو ما تسبب في الأزمة الدماغية التي أصابت شارون، وهو كذلك سر التحديات التي تواجه اليوم حماس ، وأعظم هذه التحديات خوف الأنظمة من تصدير هذا النموذج العملي الواقعي إلى شعوبها الملتهبة والتي تقترب من الخط الأحمر الذي وضعته الأنظمة ، بسبب هشاشتها وتآكلها وشيخوختها ، أو بالأحري انتهاء صلاحيتها ! .
وهو بعينه ما يقلق المشروع الصهيوني والأمريكي ، الذي يعلن في كل لحظة عن انحساره ، وأترك لك الإجابة عن سؤالنا المتقدم ؟ .
جمال ماضي
شهادة الشيخ الغزالي للإمام البنا
الشهادة الأولى: من داعية عصره الأول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، الذي قال في مقدمة كتابه (دستور الوحدة الثقافية) الذي شرح فيه (الأصول العشرين) لحسن البنا قال الشيخ: (ملهم هذا الكتاب وصاحب موضوعه: الأستاذ الإمام حسن البنا، الذي أصفه ويصفه معي كثيرون بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة، فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلي كتاب ربهم، وسنة نبيهم وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء، بيد آسية، وعين لماحة فلا تدع سببا لضعف أو خمول.
ومن الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة في هذا القرن الذليل، لقد سبقه في الشرق العربي، والمغرب العربي، وأعماق الهند وإندونيسيا، وغيرها، رجال اشتبكوا مع الأعداء في ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاء حسنا في خدمة دينهم وأمتهم.
وليس يضيرهم أبدا أنهم انهزموا آخر الأمر، فقد أدوا واجبهم لله. وأتم من بعدهم بقية الشوط الذي هلكوا دونه.
إن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه، وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين.
كان مدمنا لتلاوة القرآن يتلوه بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرة ملحوظة على فهم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب.
وهو لم يحمل عنوان التصوف، بل لقد أبعد من طريقة كانت تنتمي إليها بيئته.
ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبى حامد الغزالي.
وقد درس السنة المطهرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب، فأفاده ذلك بصرا سديدا بمنهج السلف والخلف.
ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبى التورط فيما تورط فيه. "يقصد: تصديه بعنف للحملة على الأزهر وعلمائه المقلدين للمذاهب، وعلى الطرق الصوفية وغيرهم فوافق الشيخ البنا الشيخ رشيد في فكره وخالفه في أسلوبه وطريقته. (القرضاوي)"
ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع لبقة من أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.
وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمق تعمقا شديدا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده.
ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل في مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف من القرى الأربعة آلاف التي تكون القطر كله.
وخلال عشرين عاما تقريبا صنع الجماهير التي صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد.
شهادة الشهيد سيد قطب للإمام البنا
سيد قطب تحدث عن (حسن البنا وعبقرية البناء) ففي إحدى مقالاته التي جمعت في كتاب تحت عنوان (دراسات إسلامية) وهو لم يصاحب حسن البنا، وإن تعاصرا، وكان كلاهما خريج دار العلوم، ولكن قطبا عرف البنا من آثاره في إخوانه، وفى حركته، وفى تأثيره في مصر وفي العالم الإسلامي. وهى شهادة من شهيد لاحق لشهيد سابق، والمسلمون شهود عدول بعضهم على بعض.
يقول سيد قطب رحمه الله:
" في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر مقدور، وحكمة مدبرة في كتاب مسطور.. حسن البنا.. إنها مجرد مصادفة أن يكودن هذا لقبه .. ولكن من يقول: إنها مصادفة، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء، وإحسان البناء، بل عبقرية البناء؟
لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيرا من الدعاة.. ولكن الدعاية غير البناء.. وما كل داعية يملك أن يكون بناء، وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء.
هذا البناء الضخم.. الإخوان المسلمون.. إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات..إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس، استجاش الداعية وجداناتهم، فالتفوا حول عقيدة..إن عبقرية البناء تبدو في كل خطوة من خطوات التنظيم.. من الأسرة إلى الشعبة، إلى المنطقة، إلى المركز الإداري، إلى الهيئة التأسيسية، إلى مكتب الإرشاد.
هذه من ناحية الشكل الخارجي، وهو أقل مظاهر هذه العبقرية، ولكن البناء الداخلي لهذه الجماعة أدق وأحكم، وأكثر دلالة على عبقرية التنظيم والبناء.. البناء الروحي..هذا النظام الذي يربط أفراد الأسرة وأفراد الكتيبة وأفراد الشعبة. هذه الدراسات المشتركة، والصلوات المشتركة، والتوجيهات المشتركة، والرحلات المشتركة، والمعسكرات المشتركة.. وفى النهاية هذه الاستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة التي تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل النفس، قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظما.
والعبقرية في استخدام طاقة الأفراد، طاقة المجموعات، في نشاط لا يدع في نفوسهم ولا يدعهم يتلفتون هنا أو هناك يبحثون عما يملأون به الفراغ..إن مجرد استثارة الوجدان الديني لا يكفى.. وإذا قصر الداعية همه على هذه الاستثارة فانه سينتهي بالشباب خاصة إلى نوع من الهوس الديني، الذي لا يبنى شيئا، وإن مجرد الدراسة العلمية للعقيدة لا تكفى. وإذا قصر الداعية همه على هذه الدراسة، فإنه سينتهي إلى تجفيف الينابيع الروحية التي تكسب هذه الدراسة نداوتها وحرارتها وخصوبتها. وإن مجرد استثارة الوجدان والدراسة معا لا يستغرقان الطاقة، فستبقى هنالك طاقة عضلية، وطاقة عملية، وطاقة فطرية أخرى في الكسب والمتاع والشهرة والعمل والقتال.
وقد استطاع حسن البنا أن يفكر فى هذا كله.. أو أن يلهم هذا كله، فيجعل نشاط الأخ المسلم يمتد- وهو يعمل في نطاق الجماعة- إلى هذه المجالات كلها، بحكم نظام الجماعة ذاته، وأن يستنفد الطاقات الفطرية كلها، في أثناء العمل للجماعة، وفى مجال بناء الجماعة.. استطاع ذلك في نظام الكتائب، ونظام المعسكرات، ونظام الشركات الإخوانية، ونظام الدعاة، ونظام الفدائيين، الذين شهدت معارك فلسطين ومعارك القنال نماذج من آثاره، تشهد بالعبقرية لذلك النظام.
وعبقرية البناء في تجميع الأنماط من النفوس، ومن العقليات ومن الأعمار، ومن البيئات.. تجميعها كلها في بناء واحد. كما تتجمع النغمات المختلفة في اللحن العبقري.. وطبعها كلها بطابع واحد يعرفون به جميعا، ودفعها كلها في اتجاه واحد.. على تباين المشاعر والإدراكات والأعمار والأوساط، في ربع قرن من الزمان.
ترى أكانت مصادفة عابرة أن يكون هذا لقبه؟ أو أنها الإرادة العليا التي تنسق في كتابها المسطور بين أصغر المصادفات وأكبر المقدورات في توافق واتساق؟
ويمضي حسن البنا إلى جوار ربه، يمضي وقد استكمل البناء أسسه ،يمضي فيكون استشهاده على النحو الذي أريد له: عملية جديدة من عمليات البناء.. عملية تعميق للأساس، وتقوية للجدران. و ما كانت ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان، كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق.
إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة.
وحينما سلط الطغاة الأقزام الحديد والنار على الإخوان، كان الوقت قد فات. كان البناء الذي أسسه حسن البنا قد استطال على الهدم، وتعمق على الاجتثاث. كان قد استحال فكرة لا يهدمها الحديد والنار، فالحديد والنار لم يهدما فكرة في يوم من الأيام. واستعلت عبقرية البناء على الطغاة الأقزام، فذهب الطغيان، وبقى الإخوان.
ومرة بعد مرة، نزت في نفوس بعض الرجال- من الإخوان- نزوات..وفى كل مرة سقط أصحاب هذه النزوات كما تسقط الورقة الجافة من الشجرة الضخمة، أو انزوت تلك النزوة، ولم تستطع أن تحدث حدثا في الصفوف.
ومرة بعد مرة، استمسك أعداء الإخوان بفرع من تلك الشجرة، يحسبونه عميقا في كيانها، فإذا جذبوه إليهم جذبوا الشجرة، أو اقتلعوا الشجرة.. حتى إذا آن أوان الشد خرج ذلك الفرع في أيديهم جافا يابسا كالحطبة الناشفة، لا ماء فيه ولا ورق ولا ثمار!
إنها عبقرية البناء، تمتد بعد ذهاب البناء.. ".
دراسات إسلامية لسيد قطب. مقال (حسن البنا وعبقرية البناء) ص 225-228
شهادة العلامة أبي الحسن الندوي للإمام البنا
أضيف إلى هاتين الشهادتين (للغزالي وقطب) شهادتين من خارج محيط الإخوان، ومن خارج مصر، وممن لم يلقوا حسن البنا، ولكن عرفوه من آثاره ومن تلاميذه وأصحابه، الأولى هي شهادة من رباني عصره العلامة أبى الحسن على الحسنى الندوي- رحمه الله - الذي قال في تقديمه لكتاب (مذكرات الدعوة والداعية) للإمام الشهيد:
"إن الذي عرف الشرق العربي الإسلامي في فجر القرن العشرين، وعرف بصفة خاصة، وعرف ما أصيب به هذا الجزء الحساس الرئيسي من جسم العالم الإسلامي من ضعف في العقيدة والعاطفة، والأخلاق والاجتماع، والإرادة والعزم، والقلب والجسم، وعرف الرواسب التي تركها حكم المماليك وحكم الأتراك وحكم الأسرة الخديوية، وما زاد إليها الحكم الأجنبي الإنكليزي، وما جلبته المدنية الإفرنجية المادية والتعليم العصري اللاديني، والسياسة الحزبية النفعية.
وما زاد هذا الطين بلة من ضعف العلماء وخضوعهم للمادة والسلطة، وتنازل أكثرهم عن منصب الإمامة والتوجيه، وانسحابهم عن ميدان الدعوة والإرشاد، والكفاح والجهاد، واستسلامهم (للأمر الواقع) وخفوت صوت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، زد إلى ذلك كله نشاط دعاة الفساد والهدم، والخلاعة والمجون، والإلحاد والزندقة، وتزعم الصحف والمجلات واسعة الانتشار، قوية التأثير، للدعوات المفسدة، والحركات الهدامة، والاستخفاف بالدين وقيمه، والأخلاق وأسسها، وما آل إليه الأمر ووصلت إليه الأقطار العربية بصفة عامة، والقطر المصري بصفة خاصة من التبذل والإسفاف، والضعف والانحطاط، والثورة والفوضى، والانهيار الخلقي، والروحي في الثلث الأول من هذا القرن الميلادي، ورأى كل ذلك مجسما مصورا في أعداد (الأهرام) و (المقطم) و (الهلال) و (المصور)، وفى كتب كان يصدرها أدباء مصر وكتابها المفضلون المحببون عند الشباب، ورأى ذلك مجسما مصورا في أعياد مصر ومهرجاناتها، وحفلاتها وسهراتها، واستمع إلى الشباب الجامعي في نواديهم ومجالسهم، وزار الإسكندرية وشواطئها ومصايفها، ورافق فرق الكشافة والرياضة والمباراة، ودخل دور السينما، ورأى الأفلام الأجنبية والمحلية، واطلع على الروايات التي تصدرها المكتبة العربية في مصر بين حين وآخر، ويتهافت عليها الشباب بنهامة وجشع، وعاش متصلا بالحياة والشعب، وتتبع الحوادث ولم يعش في برج عاجي وفي عالم الأحلام والأوهام، وعرف رزية الإسلام والمسلمين، ونكبة الدعوة الإسلامية في هذا الجزء الذي كان يجب أن يكون زعيما للعالم العربي كله، وزعيما للعالم الإسلامي عن طريقه، وقد بقى قرونا كنانة الإسلام ومصدر العلم والعرفان، وأسعف العالم العربي وأنجده، بل أنقذه في فترات دقيقة عصيبة في التاريخ الإسلامي، ولا يزال يحتضن الأزهر الشريف اكبر مركز ثقافي إسلامي وأقدمه.
إن كل من عرف ذلك عن كثب لا عن كتب وعاش متصلا به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود، وفاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها، وقوتها الفذة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات، قد تبدو متناقضة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق، ومن المؤرخين والناقدين: هي العقل الهائل النير، والفهم المشرق الواسع، والعاطفة القوية الجياشة، والقلب المبارك الفياض، والروح المشبوبة النضرة، واللسان الذرب البليغ، والزهد والقناعة- دون عنت- في الحياة الفردية، والحرص وبعد الهمة- دونما كلل- في سبيل نشر الدعوة والمبدأ، والنفس الولوعة الطموح، والهمة السامقة الوثابة، والنظر النافذ البعيد، والإباء والخيرة على الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس.. تواضعا يكاد يجمع الشهادة عارفوه، حتى لكأنه- كما حدثنا كثير منهم- مثل رفيف الضياء: لا ثقل ولا ظل ولا غشاوة.
وقد تعاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية، لم يعرف العالم العربي وما وراءه قيادة دينية سياسية أقوى وأعمق تأثيرا وأكثر إنتاجا منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد- في دنيا العرب خاصة - حركة أوسع نطاقا وأعظم نشاطا، وأكبر نفوذا، وأعظم تغلغلا في أحشاء المجتمع، وأكثر استحواذا على النفوس منها.
وقد تجلت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها- في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين.
أولاهما: شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يجرى الله على أيديهم الخير الكثير.
والناحية الثانية: تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه، ونجاحه، المدهش في التربية والإنتاج: فقد كان منشئ جيل، ومربى شعب، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية، وقد أثر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين، وفى أذواقهم، وفى مناهج تفكيرهم، وأساليب بيانهم ولغتهم وخطاباتهم، تأثيرا بقى على مر السنين والأحداث، ولا يزال شعارا وسمة يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان ". انتهى.
الألباني .. يتحدث عن قصته مع الإمام البنا
وكانت لي بعض [كلمة غير واضحة] الكتابية التحريرية، مع الأستاذ الشيخ حسن البنا –رحمه الله- ولعل بعضكم-بعض الحاضرين منكم- يذكر أنه حينما كانت مجلة (الإخوان المسلمون)، تصدر في القاهرة، وهي التي
تصدر طبعاً عن جماعة الإخوان المسلمين، كان الأستاذ سيد سابق بدأ ينشر مقالات له في فقه السنّة، هذه المقالات التي أصبحت بعد ذلك كتاباً ينتفع فيه المسلمون الذين يتبنون نهجنا من السير في الفقه الإسلامي على الكتاب والسنة، هذه المقالات التي صارت فيما بعد كتاب(فقه السنة) لسيد سابق، كنتُ بدأت في الاطلاع عليها، وهي لمّا تُجمع في الكتاب، وبدت لي بعض الملاحظات، فكتبتُ إلى المجلة هذه الملاحظات، وطلبتُ منهم أن ينشروها فتفضلوا، وليس هذا فقط؛ بل جاءني كتاب تشجيع من الشيخ حسن البنا-رحمه الله-، وكم أنا آسَف أن هذا الكتاب ضاع مني ولا أدري أين بقي.. ثم نحن دائماً نتحدث بالنسبة لحسن البنا- رحمه الله- فأقول أمام إخواني،إخوانا السلفيين، وأمام جميع المسلمين، أقول: لو لم يكن للشيخ حسن البنا-رحمه الله- من الفضل على الشباب المسلم سوى أنه أخرجهم من دور الملاهي في السينمات ونحو ذلك والمقاهي، وكتّلهم وجمعهم على دعوة واحدة، ألا وهي دعوة الإسلام..لو لم يكن له من الفضل إلا هذا لكفاه فضلاً وشرفاً..هذا نقوله معتقدين، لا مرائين، ولا مداهنين.
منذ 59 عاماً امتدت رصاصات الغدر لتنال من المشروع الإسلامي الذي قدمه الإمام البنا للأمة ، فمات الإمام وبقي المشروع الإسلامي ، ومازال يحمله رجال هذه الدعوة المباركة ، ويورثونه للأجيال التي تنبؤ بمستقبل مشرق لأمتنا الإسلامية .
لقد استطاع الإمام البنا في صراحة ووضوح ، بلا لبس أو غبار، أن يقدم للأمة مشروعها العصري : منهجاً ونهضة ودعوة وتربية ومقاومة وتحريراً للأوطان ، حتي بات السؤال الدائر اليوم : هل المشروع الذي قدمه الإمام البنا صالح اليوم في صد الهجمة الأمريكية والصهيونية ؟ وللإجابة يجب علينا أن نستعرض ملامح هذا المشروع كما قدمه البنا ويقدمه اليوم رجال هذه الدعوة .
أولاً : المنهج
فقد قدمه الإمام بينما التصارع قائم بين المنهجين الإصلاحي والتغييري ، وذلك باختياره للإسلام الذي يدعو إلى التغيير المرحلي والقائم على المبادرات الإصلاحية العملية ، وبذلك جمع الإمام البنا بين النهجين الإصلاحي والتغييري ، فسار بخطوات واضحة خاصة مع الملفات الشائكة مثل التعامل مع الأقباط ، والتعامل مع النظام ، والتعامل مع الخلافة .
وكذلك كان صريحاً في اختياره للوسائل ، فرفض الثورة ، ووضع شروطاً لاستعمال القوة ، واعتمد النضال الدستوري السلمي في التغيير والإصلاح .
ولذلك جاءت خلاصة ما قدمه البنا من المنهج ممثلة في التالي :
- الإسلام منهج تغييري يشمل كل جوانب الحياة
- كل خطى الإصلاح المؤدية للتغيير معتمدة شريطة موافقة الشرع
- منهج البنا موافق للإسلام ومنهج الرسول صلي الله عليه وسلم
ووفق هذا المنهج :
فالساحة الإسلامية ليست بديلا عن الأمة الإسلامية ، والدولة المدنية ليست بديلاً عن دولة الإسلام ، والمطالبة بالحرية والعدالة والمساواة ليست بديلاً عن شرع الله ، والجماعات الإسلامية ليست بديلاً عن الدولة الإسلامية ، والديمقراطية ليست بديلاً عن الشوري .
ثانياً : في مجال الدعوة وإصلاح الأمة
انطلقت من خلال قواعد ثابتة لدي الإمام وهي : إيمانه بالتغيير وأخذه بالإعداد والتدريب وانتهاجه للتخطيط والمرحلية واعتماده للنهج الجماهيري واستيعابه للجميع .
ومن ثم أوجب ذلك على الإخوان عدة واجبات منها :
الانطلاق الذاتي والعمل الاجتماعي والولاء لله والدعوة إلى رأي عام يساند الإصلاح الشامل وانتقاء الصالحين المؤهلين لحمل الأعباء برغبتهم واختيارهم الحر.
ثالثاً : في مجال التربية ونهضة الأمة
لم يكن ما قدمه البنا هو تربية أفراد الإخوان فقط ، أو تربية المجتمع ليكون أفراده من الإخوان المسلمين ، بل ما قدمه هو تربية الأمة ونهضتها .
ومن ثم غرس في الأمة معاني جديدة هي لب الإسلام مثل :
المسئولية والغيرة على الإسلام والمسلمين ، والعمل المتواصل والفناء في خدمة الآخرين ، والدعوة لوحدة الأمة ، والاستقامة بالتوازن والاعتدال والوسطية بعيداً عن التعصب والتطرف والعنف .
ومبيناً أن هذه المعاني لا تتحقق إلا :
بصفاء النفوس والبذل والعطاء والايمان العميق والتكوين الدقيق ، ولذلك لم يكن التنظيم سوي وسيلة لتطبيق هذه المعاني وليس هدفاً ، فقد أطلق الإمام عليها دقة التنظيم وليس سرية التنظيم ، فشتان بين الاثنين فكرا وسلوكاً .
رابعاً : صفات الشخصية التي أرادها لحامل هذا المشروع
فقد أوضحها الإمام من خلال تطور شخصيته هو ، من التأثر بالصوفية ثم السلفية ثم الأزهر ، حتي أصبح قائداً دعوياً ، ثم قائداً شعبياً ، ومن ثم كان الطريق طبيعباً إلى زعامة سياسية ، سرعان ما اختارته الأمة زعيماً لها يقودها في أخطر قضاياها - القضية الفلسطينية - ، والتي استشهد من أجلها .
ومن خلال ذلك وضع الإمام صفات هذه الشخصية المؤهلة لحمل المشروع الإسلامي ، في ست سمات ترجمها الإمام البنا بسيرته وسلوكه وعمله ، حتي بات يعرف بها وهي : العالمية والميدانية والجهاد والتغيير والجماهيرية و الأمل .
خامساً : وضع وتقديم أول مشروع للمقاومة
حيث كان الإمام أول من وضع للأمة مشروعاً للمقاومة وتحرير الأوطان ، فحول الفكر الإسلامي إلى حركة فاعلة ، وحول مفهوم الجهاد من الاعتقاد إلى الممارسة ، ثم وضع هذه الأفكار في إطار عملي تنفيذي متجدد ومتطور .
وكانت الأسس التي اعتمدها الأمام في مشروع المقاومة أربعة أسس :
الأول : استنهاض الأمة
الثاني : تحديد المقاومة كفكر
الثالث : غرس المفاهيم الجهادية
الرابع : بيان الدور العملي للأفراد والمجتمع
وقد استطاع الإمام البنا قبل الدعوة لتحرير الأوطان من صور الاحتلال أن يغرس فكر المقاومة قبل المقاومة العملية ، ومن ثم كان هذا التنافس الغير مسبوق بين أفراد المجتمع ، للانضمام في صفوف المقاومة سواء كان في حرب القنال ضد الانجليز ، أو حرب فلسطين 48 ضد الصهاينة .
فقدم مشروع المقاومة الذي أراه اليوم الضامن الوحيد ، لمقاومة المحتل في أفغانستان و العراق و فلسطين ، والذي يقوم علىعشر خطوات :
أولاً : معركة مفاهيم والتي أجملها في أركان البيعة العشرة
ثانياً : رؤية شاملة في إطار ماقدمه من الأصول العشرين
ثالثاً : مواجهة فكرية وعلمية وواقعية للشبهات والتحديات
رابعاً : الوعي بالمؤامرات المستترة وغرس الإرادة القوية
خامساً : الحركة بهذا المفهوم والعمل على نشره في الأمة
سادساً : بناء روح المقاومة وحب التضحية والعمل المتواصل
سابعاً : اعتماد لغة خطاب جديدة تدفع إلى الهمة والحركة
ثامناً : بعث الأمل وغرس بشريات النصر والثقة في الله
تاسعاً : اعتماد المقاومة الشاملة بكل أشكالها وأنواعها
عاشراً : الحرية أولاً والتحرر من كل سلطان أجنبي واقتصادي
وشهد شاهد من أهلها
لقد جاءت شهادة باحثة ألمانية في محاضرة لها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة تأكيدا لدور الإمام البنا في تقديم المشروع الإسلامي للأمة ، حيث تقول : إن الإخوان المسلمين يمثلون قوة سياسية واجتماعية هامة في المنطقة العربية ، وتقول : حسن البنا هو مؤسس أول حركة اجتماعية عربية حديثة ، وأكدت أن جماعة الاخوان ومؤسسها لها تأثيرات حاسمة على الخطاب الإسلامي وعلى التطورات الاجنماعية والثقافية والايدلوجية في العالم الإسلامي أجمع .
إن هذا المشروع هو بعينه السبب الرئيس في قوة وثبات حماس اليوم حركة وحكومة ، وأزعم أن هذا المشروع هو ما تسبب في الأزمة الدماغية التي أصابت شارون، وهو كذلك سر التحديات التي تواجه اليوم حماس ، وأعظم هذه التحديات خوف الأنظمة من تصدير هذا النموذج العملي الواقعي إلى شعوبها الملتهبة والتي تقترب من الخط الأحمر الذي وضعته الأنظمة ، بسبب هشاشتها وتآكلها وشيخوختها ، أو بالأحري انتهاء صلاحيتها ! .
وهو بعينه ما يقلق المشروع الصهيوني والأمريكي ، الذي يعلن في كل لحظة عن انحساره ، وأترك لك الإجابة عن سؤالنا المتقدم ؟ .
جمال ماضي
شهادة الشيخ الغزالي للإمام البنا
الشهادة الأولى: من داعية عصره الأول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، الذي قال في مقدمة كتابه (دستور الوحدة الثقافية) الذي شرح فيه (الأصول العشرين) لحسن البنا قال الشيخ: (ملهم هذا الكتاب وصاحب موضوعه: الأستاذ الإمام حسن البنا، الذي أصفه ويصفه معي كثيرون بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة، فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلي كتاب ربهم، وسنة نبيهم وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء، بيد آسية، وعين لماحة فلا تدع سببا لضعف أو خمول.
ومن الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة في هذا القرن الذليل، لقد سبقه في الشرق العربي، والمغرب العربي، وأعماق الهند وإندونيسيا، وغيرها، رجال اشتبكوا مع الأعداء في ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاء حسنا في خدمة دينهم وأمتهم.
وليس يضيرهم أبدا أنهم انهزموا آخر الأمر، فقد أدوا واجبهم لله. وأتم من بعدهم بقية الشوط الذي هلكوا دونه.
إن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه، وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين.
كان مدمنا لتلاوة القرآن يتلوه بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرة ملحوظة على فهم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب.
وهو لم يحمل عنوان التصوف، بل لقد أبعد من طريقة كانت تنتمي إليها بيئته.
ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبى حامد الغزالي.
وقد درس السنة المطهرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب، فأفاده ذلك بصرا سديدا بمنهج السلف والخلف.
ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبى التورط فيما تورط فيه. "يقصد: تصديه بعنف للحملة على الأزهر وعلمائه المقلدين للمذاهب، وعلى الطرق الصوفية وغيرهم فوافق الشيخ البنا الشيخ رشيد في فكره وخالفه في أسلوبه وطريقته. (القرضاوي)"
ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع لبقة من أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.
وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمق تعمقا شديدا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده.
ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل في مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف من القرى الأربعة آلاف التي تكون القطر كله.
وخلال عشرين عاما تقريبا صنع الجماهير التي صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد.
شهادة الشهيد سيد قطب للإمام البنا
سيد قطب تحدث عن (حسن البنا وعبقرية البناء) ففي إحدى مقالاته التي جمعت في كتاب تحت عنوان (دراسات إسلامية) وهو لم يصاحب حسن البنا، وإن تعاصرا، وكان كلاهما خريج دار العلوم، ولكن قطبا عرف البنا من آثاره في إخوانه، وفى حركته، وفى تأثيره في مصر وفي العالم الإسلامي. وهى شهادة من شهيد لاحق لشهيد سابق، والمسلمون شهود عدول بعضهم على بعض.
يقول سيد قطب رحمه الله:
" في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر مقدور، وحكمة مدبرة في كتاب مسطور.. حسن البنا.. إنها مجرد مصادفة أن يكودن هذا لقبه .. ولكن من يقول: إنها مصادفة، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء، وإحسان البناء، بل عبقرية البناء؟
لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيرا من الدعاة.. ولكن الدعاية غير البناء.. وما كل داعية يملك أن يكون بناء، وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء.
هذا البناء الضخم.. الإخوان المسلمون.. إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات..إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس، استجاش الداعية وجداناتهم، فالتفوا حول عقيدة..إن عبقرية البناء تبدو في كل خطوة من خطوات التنظيم.. من الأسرة إلى الشعبة، إلى المنطقة، إلى المركز الإداري، إلى الهيئة التأسيسية، إلى مكتب الإرشاد.
هذه من ناحية الشكل الخارجي، وهو أقل مظاهر هذه العبقرية، ولكن البناء الداخلي لهذه الجماعة أدق وأحكم، وأكثر دلالة على عبقرية التنظيم والبناء.. البناء الروحي..هذا النظام الذي يربط أفراد الأسرة وأفراد الكتيبة وأفراد الشعبة. هذه الدراسات المشتركة، والصلوات المشتركة، والتوجيهات المشتركة، والرحلات المشتركة، والمعسكرات المشتركة.. وفى النهاية هذه الاستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة التي تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل النفس، قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظما.
والعبقرية في استخدام طاقة الأفراد، طاقة المجموعات، في نشاط لا يدع في نفوسهم ولا يدعهم يتلفتون هنا أو هناك يبحثون عما يملأون به الفراغ..إن مجرد استثارة الوجدان الديني لا يكفى.. وإذا قصر الداعية همه على هذه الاستثارة فانه سينتهي بالشباب خاصة إلى نوع من الهوس الديني، الذي لا يبنى شيئا، وإن مجرد الدراسة العلمية للعقيدة لا تكفى. وإذا قصر الداعية همه على هذه الدراسة، فإنه سينتهي إلى تجفيف الينابيع الروحية التي تكسب هذه الدراسة نداوتها وحرارتها وخصوبتها. وإن مجرد استثارة الوجدان والدراسة معا لا يستغرقان الطاقة، فستبقى هنالك طاقة عضلية، وطاقة عملية، وطاقة فطرية أخرى في الكسب والمتاع والشهرة والعمل والقتال.
وقد استطاع حسن البنا أن يفكر فى هذا كله.. أو أن يلهم هذا كله، فيجعل نشاط الأخ المسلم يمتد- وهو يعمل في نطاق الجماعة- إلى هذه المجالات كلها، بحكم نظام الجماعة ذاته، وأن يستنفد الطاقات الفطرية كلها، في أثناء العمل للجماعة، وفى مجال بناء الجماعة.. استطاع ذلك في نظام الكتائب، ونظام المعسكرات، ونظام الشركات الإخوانية، ونظام الدعاة، ونظام الفدائيين، الذين شهدت معارك فلسطين ومعارك القنال نماذج من آثاره، تشهد بالعبقرية لذلك النظام.
وعبقرية البناء في تجميع الأنماط من النفوس، ومن العقليات ومن الأعمار، ومن البيئات.. تجميعها كلها في بناء واحد. كما تتجمع النغمات المختلفة في اللحن العبقري.. وطبعها كلها بطابع واحد يعرفون به جميعا، ودفعها كلها في اتجاه واحد.. على تباين المشاعر والإدراكات والأعمار والأوساط، في ربع قرن من الزمان.
ترى أكانت مصادفة عابرة أن يكون هذا لقبه؟ أو أنها الإرادة العليا التي تنسق في كتابها المسطور بين أصغر المصادفات وأكبر المقدورات في توافق واتساق؟
ويمضي حسن البنا إلى جوار ربه، يمضي وقد استكمل البناء أسسه ،يمضي فيكون استشهاده على النحو الذي أريد له: عملية جديدة من عمليات البناء.. عملية تعميق للأساس، وتقوية للجدران. و ما كانت ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان، كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق.
إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة.
وحينما سلط الطغاة الأقزام الحديد والنار على الإخوان، كان الوقت قد فات. كان البناء الذي أسسه حسن البنا قد استطال على الهدم، وتعمق على الاجتثاث. كان قد استحال فكرة لا يهدمها الحديد والنار، فالحديد والنار لم يهدما فكرة في يوم من الأيام. واستعلت عبقرية البناء على الطغاة الأقزام، فذهب الطغيان، وبقى الإخوان.
ومرة بعد مرة، نزت في نفوس بعض الرجال- من الإخوان- نزوات..وفى كل مرة سقط أصحاب هذه النزوات كما تسقط الورقة الجافة من الشجرة الضخمة، أو انزوت تلك النزوة، ولم تستطع أن تحدث حدثا في الصفوف.
ومرة بعد مرة، استمسك أعداء الإخوان بفرع من تلك الشجرة، يحسبونه عميقا في كيانها، فإذا جذبوه إليهم جذبوا الشجرة، أو اقتلعوا الشجرة.. حتى إذا آن أوان الشد خرج ذلك الفرع في أيديهم جافا يابسا كالحطبة الناشفة، لا ماء فيه ولا ورق ولا ثمار!
إنها عبقرية البناء، تمتد بعد ذهاب البناء.. ".
دراسات إسلامية لسيد قطب. مقال (حسن البنا وعبقرية البناء) ص 225-228
شهادة العلامة أبي الحسن الندوي للإمام البنا
أضيف إلى هاتين الشهادتين (للغزالي وقطب) شهادتين من خارج محيط الإخوان، ومن خارج مصر، وممن لم يلقوا حسن البنا، ولكن عرفوه من آثاره ومن تلاميذه وأصحابه، الأولى هي شهادة من رباني عصره العلامة أبى الحسن على الحسنى الندوي- رحمه الله - الذي قال في تقديمه لكتاب (مذكرات الدعوة والداعية) للإمام الشهيد:
"إن الذي عرف الشرق العربي الإسلامي في فجر القرن العشرين، وعرف بصفة خاصة، وعرف ما أصيب به هذا الجزء الحساس الرئيسي من جسم العالم الإسلامي من ضعف في العقيدة والعاطفة، والأخلاق والاجتماع، والإرادة والعزم، والقلب والجسم، وعرف الرواسب التي تركها حكم المماليك وحكم الأتراك وحكم الأسرة الخديوية، وما زاد إليها الحكم الأجنبي الإنكليزي، وما جلبته المدنية الإفرنجية المادية والتعليم العصري اللاديني، والسياسة الحزبية النفعية.
وما زاد هذا الطين بلة من ضعف العلماء وخضوعهم للمادة والسلطة، وتنازل أكثرهم عن منصب الإمامة والتوجيه، وانسحابهم عن ميدان الدعوة والإرشاد، والكفاح والجهاد، واستسلامهم (للأمر الواقع) وخفوت صوت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، زد إلى ذلك كله نشاط دعاة الفساد والهدم، والخلاعة والمجون، والإلحاد والزندقة، وتزعم الصحف والمجلات واسعة الانتشار، قوية التأثير، للدعوات المفسدة، والحركات الهدامة، والاستخفاف بالدين وقيمه، والأخلاق وأسسها، وما آل إليه الأمر ووصلت إليه الأقطار العربية بصفة عامة، والقطر المصري بصفة خاصة من التبذل والإسفاف، والضعف والانحطاط، والثورة والفوضى، والانهيار الخلقي، والروحي في الثلث الأول من هذا القرن الميلادي، ورأى كل ذلك مجسما مصورا في أعداد (الأهرام) و (المقطم) و (الهلال) و (المصور)، وفى كتب كان يصدرها أدباء مصر وكتابها المفضلون المحببون عند الشباب، ورأى ذلك مجسما مصورا في أعياد مصر ومهرجاناتها، وحفلاتها وسهراتها، واستمع إلى الشباب الجامعي في نواديهم ومجالسهم، وزار الإسكندرية وشواطئها ومصايفها، ورافق فرق الكشافة والرياضة والمباراة، ودخل دور السينما، ورأى الأفلام الأجنبية والمحلية، واطلع على الروايات التي تصدرها المكتبة العربية في مصر بين حين وآخر، ويتهافت عليها الشباب بنهامة وجشع، وعاش متصلا بالحياة والشعب، وتتبع الحوادث ولم يعش في برج عاجي وفي عالم الأحلام والأوهام، وعرف رزية الإسلام والمسلمين، ونكبة الدعوة الإسلامية في هذا الجزء الذي كان يجب أن يكون زعيما للعالم العربي كله، وزعيما للعالم الإسلامي عن طريقه، وقد بقى قرونا كنانة الإسلام ومصدر العلم والعرفان، وأسعف العالم العربي وأنجده، بل أنقذه في فترات دقيقة عصيبة في التاريخ الإسلامي، ولا يزال يحتضن الأزهر الشريف اكبر مركز ثقافي إسلامي وأقدمه.
إن كل من عرف ذلك عن كثب لا عن كتب وعاش متصلا به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود، وفاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها، وقوتها الفذة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات، قد تبدو متناقضة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق، ومن المؤرخين والناقدين: هي العقل الهائل النير، والفهم المشرق الواسع، والعاطفة القوية الجياشة، والقلب المبارك الفياض، والروح المشبوبة النضرة، واللسان الذرب البليغ، والزهد والقناعة- دون عنت- في الحياة الفردية، والحرص وبعد الهمة- دونما كلل- في سبيل نشر الدعوة والمبدأ، والنفس الولوعة الطموح، والهمة السامقة الوثابة، والنظر النافذ البعيد، والإباء والخيرة على الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس.. تواضعا يكاد يجمع الشهادة عارفوه، حتى لكأنه- كما حدثنا كثير منهم- مثل رفيف الضياء: لا ثقل ولا ظل ولا غشاوة.
وقد تعاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية، لم يعرف العالم العربي وما وراءه قيادة دينية سياسية أقوى وأعمق تأثيرا وأكثر إنتاجا منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد- في دنيا العرب خاصة - حركة أوسع نطاقا وأعظم نشاطا، وأكبر نفوذا، وأعظم تغلغلا في أحشاء المجتمع، وأكثر استحواذا على النفوس منها.
وقد تجلت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها- في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين.
أولاهما: شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يجرى الله على أيديهم الخير الكثير.
والناحية الثانية: تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه، ونجاحه، المدهش في التربية والإنتاج: فقد كان منشئ جيل، ومربى شعب، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية، وقد أثر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين، وفى أذواقهم، وفى مناهج تفكيرهم، وأساليب بيانهم ولغتهم وخطاباتهم، تأثيرا بقى على مر السنين والأحداث، ولا يزال شعارا وسمة يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان ". انتهى.
الألباني .. يتحدث عن قصته مع الإمام البنا
وكانت لي بعض [كلمة غير واضحة] الكتابية التحريرية، مع الأستاذ الشيخ حسن البنا –رحمه الله- ولعل بعضكم-بعض الحاضرين منكم- يذكر أنه حينما كانت مجلة (الإخوان المسلمون)، تصدر في القاهرة، وهي التي
تصدر طبعاً عن جماعة الإخوان المسلمين، كان الأستاذ سيد سابق بدأ ينشر مقالات له في فقه السنّة، هذه المقالات التي أصبحت بعد ذلك كتاباً ينتفع فيه المسلمون الذين يتبنون نهجنا من السير في الفقه الإسلامي على الكتاب والسنة، هذه المقالات التي صارت فيما بعد كتاب(فقه السنة) لسيد سابق، كنتُ بدأت في الاطلاع عليها، وهي لمّا تُجمع في الكتاب، وبدت لي بعض الملاحظات، فكتبتُ إلى المجلة هذه الملاحظات، وطلبتُ منهم أن ينشروها فتفضلوا، وليس هذا فقط؛ بل جاءني كتاب تشجيع من الشيخ حسن البنا-رحمه الله-، وكم أنا آسَف أن هذا الكتاب ضاع مني ولا أدري أين بقي.. ثم نحن دائماً نتحدث بالنسبة لحسن البنا- رحمه الله- فأقول أمام إخواني،إخوانا السلفيين، وأمام جميع المسلمين، أقول: لو لم يكن للشيخ حسن البنا-رحمه الله- من الفضل على الشباب المسلم سوى أنه أخرجهم من دور الملاهي في السينمات ونحو ذلك والمقاهي، وكتّلهم وجمعهم على دعوة واحدة، ألا وهي دعوة الإسلام..لو لم يكن له من الفضل إلا هذا لكفاه فضلاً وشرفاً..هذا نقوله معتقدين، لا مرائين، ولا مداهنين.