متى نكتشف حقيقة استشهاد العقيدين عميروش وسي الحواس؟!
الشاذلي بن جديد أنهى مأساة العقيدين /'' حركي'' أخبر السلطات بمكان دفن شهيدي جبل تامر
الطريق إلى بوسعادة، عبر سور الغزلان، يمتلئ بكثير من التساؤلات، خاصة إذا كنت ذاهبا إلى عين الملح، وبالضبط إلى المكان المسمى عين غراب، للوقوف على المكان الذي استشهد فيه العقيدان عميروش وسي الحواس في مارس .1959 أول تلك الأسئلة: لماذا قطع العقيد عميروش كل هذه المسافة سيرا على الأقدام، من مقر الولاية الثالثة
إلى غاية عين الغراب عبر جبل مسعد، ليكون على موعد مع الاستشهاد؟
أخبرنا مرافقنا ودليلنا في المهمة، والذي كان في انتظارنا بوسط مدينة بوسعادة، التي دخلناها عند حدود التاسعة صباحا، أن مكان سقوط عميروش والحواس يبعد عن بوسعادة بحوالي خمسة وثلاثون كيلومترا.
سارت بنا السيارة في طريق ملتوية، فعبرنا مدينة الهامل النقية والمتسقة العمران. ومن الهامل توجهنا إلى عين الملح، وسرنا بمحاذاة جبل مساعد، حيث يوجد مقر الولاية التاريخية السادسة، بالمكان المسمى ''الزعفرانية''. وصلنا إلى عين الملح بعد نصف ساعة، فبدا لنا المكان كقرية نائية تعمّها الحركة، لكن مظاهر البؤس كانت بادية للعيان. ومن عين الملح، توجهنا إلى عين الغراب، حيث جرت معركة جبل ثامر.
يكاد المكان المسمى ''عين الغراب''، يكون مجهولا، الوحيد الذي خلّده، هو المرحوم خليفي أحمد، الذي يقول في إحدى أغانيه ''حَطين عين غراب، بيننا وبين ناس الجلفة''.. فالحياة هنا منعدمة، والمكان مقفر، وبارد. ولا شيء يشجع على العيش هنا إطلاقا، بسبب ملوحة التربة، فالوحيد الذي وجد ضالته هنا هو الغراب.
لماذا مرّ العقيد عميروش على العقيد سي الحواس؟
كان العقيد عميروش غاضبا على وزراء الحكومة المؤقتة، ولم يكن راضيا عن أدائهم. وكان يعتقد أن الوفد الخارجي لم يوفّق في المهمة التي غادر من أجلها الداخل، وهي إيصال الأسلحة للمجاهدين. فقرر التوجه إلى تونس لطلب توضيحات بخصوص هذا التقصير، فأبلغ القادة الثلاثة المؤثرين (كريم، بوصوف وبن طوبال) بمجيئه إلى تونس، وكان ينوي إحداث تغييرات جذرية على مستوى تشكيلة الحكومة. كما كان ينوي الدفاع عن قرار ''تصفية الثورة'' من ''الخونة والمثقفين'' الذين صفّاهم خلال مؤامرة ''لابلويت''. علما أن الحكومة المؤقتة لم تكن راضية عن تصرفاته بشأن هذه المسألة. كما كان ينوي التعبير عن رفضه المطلق لالتحاق فرحات عباس وأتباعه بمؤسسات الثورة.
قبل أن يصل إلى بوسعادة، نجا العقيد عميروش من كمين نصبه له العقيد ''بوييس''. بضعة أيام بعد ذلك، يلتقي عميروش مع قائد الولاية السادسة سي الحواس، فقررا التوجه إلى الولاية الثانية للقاء قائدها العقيد علي كافي. لكن القدر أراد غير ذلك. فقد وصلت إلى مكتب العقيد دوكاس معلومة في غاية الأهمية، تفيد بأن اثنين من قادة الثورة متواجدان على مستوى جبل ثامر.
توجه دوكاس من بوسعادة على رأس الفيلق السادس، والتقى بالنقيب غالو لافالي ببرج الآغا بين بوسعادة والجلفة، يوم 20 مارس، وبلغ عدد الجنود الفرنسيين ألفين وخمسمائة جندي، كانوا في انتظار أربعين مجاهدا.
معركة غير متكافئة بين ألفين وخمسمائة جندي فرنسي وأربعين مجاهدا
توجهنا للتو إلى المتحف الذي يخلّد ذكرى استشهاد العقيدين عميروش وسي الحواس ورفاقهما. وجدنا باب المتحف موصدا. بحثنا عن الحارس، فلم نعثر له على أثر، فقليلا ما يأتي أحد لزيارة المتحف، والرسميون، كما علمنا لاحقا، لا يأتون إلا في المناسبات فقط. عثرنا عند المدخل على بقايا طائرة فرنسية حطمها المجاهدون خلال معركة ''جبل ثامر''... فتساءلنا ''من يكون قد أسقط طائرة ال بي 26 الأمريكية هذه؟'' سألنا الحارس، فعجز عن الإجابة. علمنا لاحقا أن مساعد العقيد الحواس، المدعو عمور دريس (اسمه الحقيقي هو محمد دريس المولود سنة 1931 بالقنطرة) هو صاحب هذا الإنجاز. جرح خلال معركة جبل ثامر، ونقل إلى السجن، أين خضع للاستنطاق مدة شهرين، واستشهد في سجن الجلفة دون أن يبوح بأي سر للجيش الفرنسي.
وأثناء إلقاء القبض عليه، قال عمور إدريس المدعو ''بوعينين النمر'' للضباط الفرنسيين الملتفين حوله: ''إن العقيد الذي قاد هذه المعركة حقق إنجازا كبيرا، لكن لا شيء بإمكانه أن يجعلنا نحيد عن نضالنا''.
حارس الذاكرة يسكن في ''فوربي''
اجتزنا حائطا صغيرا، وعبرنا ساحة العلم، وسرعان ما لمحنا الحارس قادما باتجاهنا، وهو شيخ في السبعين من العمر، أخبرنا أنه يدعى سليمان بوبكري، وهو مقيم هنا في عين الغراب، وفي ''فوربي'' صغير قرب المتحف.
لم يكن العجوز سليمان على علم بزيارتنا، وبعد أن أخبره مرافقنا بمهمتنا، فتح لنا باب المتحف، فبدا لنا المكان ضيّقا، باهتا، لكنه سرعان ما تحوّل إلى مكان له مآثره، بعد أن اقتربنا من محتوياته، فوجدنا منظار العقيد سي الحواس، وهو منظار صغير من النحاس، بقي كما هو، صامدا أمام الزمن. كما وجدنا جوارب وأحذية رفاق العقيدين عميروش والحواس، الذين استشهدوا معهما في ذات المعركة. كما عرضت بقايا علب الأكل التي كانت لدى المجاهدين، وأشياء أخرى مثل قنابل انفجرت، ومئات الرصاصات التي تبعثرت في مكان المعركة.
اقتربنا من العجوز سليمان، لنسأله عن المكان، لكن بؤس حاله كان كثير الأثر. أخبرنا أنه ناشد السلطات المحلية منذ عدة سنوات ليبنوا له مسكنا محترما قرب المتحف الذي يحرسه، لكن طلبه بقي حبيس الأدراج، حتى الرسميون الذين زاروا المكان لم يستجيبوا لندائه. حارس الذاكرة يسكن في ''فوربي'' هكذا فكرنا ونحن نتحدث معه.
أخبرنا سليمان بوبكري أنه ما يزال يتذكر جيدا، ذلك اليوم البعيد الذي نهض فيه عند الفجر على وقع دويّ قدوم الجيش الفرنسي بمدرّعاته وشاحناته وطائراته، بتعداد قدره ألفا جندي جاؤوا لمحاصرة جبل ثامر. كان عمره آنذاك ستة عشر عاما. يقول إن المعركة انطلقت مع الفجر.
قامت قوات العقيد دوكاس بمحاصرة المكان، عند نقطة يوجد بها منفذ للولوج إلى جبل ثامر. ثم سرعان ما حلّقت طائرات ال بي 26 الأمريكية، وشرعت في قَنبلة الموقع، مما سهّل صعود الجنود الفرنسيين إلى أعلى الجبل، فاندلع اشتباك مع نفر من المجاهدين. انتهت المعركة عند حدود الساعة الواحدة زوالا. واستشهد خمس وثلاثون مجاهدا، وألقي القبض على خمسة منهم. وتم العثور على جثة االعقيد الحواس، والتعرّف عليه بسهولة، في حين تأخر التعرّف على العقيد عميروش. وتقول كثير من المصادر التاريخية إن الجيش الفرنسي عثر لديه على وثيقة هامة تتمثل في محضر اجتماع قادة الولايات بين 6 و12 ديسمبر .1958
من أفشى سرّ مكان تواجد عميروش والحواس؟
تساءلنا ونحن متواجدون في عين الغراب: من يكون قد أفشى بسرّ وجود الكتيبة الصغيرة التي رافقت العقيدين، للجيش الفرنسي؟ وظل السؤال يلقي بنفسه علينا، ونحن نتأمل تضاريس المكان الوعرة. وتحدّث أغلب الذين سألناهم عن إمكانية وجود وشاية.
وتقول كثير من المصادر التاريخية إن العقيدين عميروش وسي الحواس، كانا يتنقلان في المنطقة في سرية تامة، وبحذر شديد. ثم إن كثيرا من المؤرخين الفرنسيين أوردوا أن العقيد دوكاس، تمكّن من نشر ''الحركى'' في كل مكان. ويكتفي الناس في هذه المنطقة بالحديث عن وجود ''البيعة'' أي الوشاية، دون تقديم تفاصيل أخرى.. وهو ما دفعنا إلى البحث عن شهود عيان من المجاهدين الذين شاركوا في المعركة. لكننا علمنا أن لا أحد منهم بقي على قيد الحياة؛ وهو ما أكده لنا المجاهد جودي عتومي المقيم حاليا في بجاية، بصفته أحد المقربين من العقيد عميروش. لكن آخرون أخبرونا أن مجاهدا من بسكرة، جاء رفقة عدد من المجاهدين للقاء عميروش والحواس، ما يزال على قيد الحياة، فبحثنا عنه لكن دون جدوى. وحسب ايف كوريير، فإن النقيب غالو لافالي هو من تمكّن من الحصول على المعلومة التي تفيد باحتمال وقوع اجتماع هام للمجاهدين بجبل ثامر. ويضيف كوريير: أن طفلا في العاشرة هو من أخبره بذلك. وقبل ذلك كانت الاستخبارات الفرنسية، قد تحصلت على معلومات من بعض مموني المنطقة، تفيد أن العقيد سي الحواس موجود بجبل ثامر.
بعد نهاية المعركة، قرر العقيد دوكاس نقل جثماني العقيدين عميروش والحواس إلى واد الشعير، مقر كتيبته، وفي غضون يومين تم التعرّف على العقيد عميروش الذي مات شهيدا وقد أصيب بثلاث رصاصات في الصدر. وكتبت صحيفة باري ماتش في اليوم الموالي ''مات أسد الجبل. ستون ساعة بعد مقتله، بقيت عيناه مفتوحتان على سعتهما. وكان الجنود خائفين حتى من الاقتراب منه''. وانتشرت حينها إشاعات تقول بأن الجيش الفرنسي أودع جثمان العقيد عميروش في مخبر علمي ''لإجراء تحاليل ودراسة على دماغه''، مثلما فعل العلماء الأمريكيون على دماغ أدولف هتلر. علما أن الجزائريين لا يعرفون إلى اليوم شيئا عن مكان دفن قائد الولاية الرابعة العقيد أمحمد بوفرة الذي استشهد بدوره يوم 5 ماي 1959، أي بعد بضعة أيام من سقوط عميروش وسي الحواس.
وبأمر من العقيد دوكاس، وُوري عميروش والحواس التراب في ثكنة واد الشعير، بساحة العلم. وفي عام 1964، جرت واقعة غريبة كانت في طريقها لإعطاء بعض الأمل للباحثين عن رفات شهيدي جبل ثامر، فقد قرر أحد ''الحركى'' الزواج بإحدى بنات عمومته بواد الشعير. راسل السلطات الجزائرية للسماح له بذلك، لكنه تلقى ردا بالنفي. بعث برسالة ثانية، وأخبر قيادات الجيش الوطني الشعبي بامتلاكه سرا مهما.
ما هو هذا السر؟
أخبر ''الحركي'' السلطات الجزائرية أنه يعرف المكان الذي دفن فيه العقيدان عميروش والحواس. سقط الخبر كالصاعقة، وتغيرت لهجة السلطات، فعدلت عن رفضها ومنحت الحركي رخصة العودة للجزائر للزواج، مقابل إخبارهم بمكان دفن شهيدي الثورة. وفي نفس اليوم، انتقل وفد رسمي هام إلى واد الشعير، وبالضبط إلى الثكنة الفرنسية. وأخبرنا شهود عيان أن العقيد بن شريف، قائد الدرك الوطني حينها، هو من أشرف شخصيا على العملية. وفي ساحة العلم، تم العثور على جثماني عميروش وسي الحواس، فتم نقلهما على سبيل السرعة إلى باب جديد، بأمر من الرئيس هواري بومدين شخصيا.
الشاذلي بن جديد أنهى مأساة عميروش والحواس
ظل جثمانا سي الحواس وعميروش في مكان مجهول بباب جديد، ونُسيا هناك. والحق أن توجهات السلطة بعد انقلاب هواري بومدين فيما يتعلق برموز الثورة، والتي كانت خاضعة لمنطق ''الشعب هو البطل الوحيد''، والتي كانت تسير جنبا إلى جنب مع ظاهرة القضاء على رموز الثورة الحقيقيين، ساهمت في نسيان شهيدي جبل ثامر طيلة هذه المدة.
بعد وفاة الرئيس هواري بومدين يوم 27 ديسمبر 1978، ومجيء الرئيس الشاذلي بن جديد، محمّلا بسياسة الانفتاح، استمر نور الدين آيت حمودة ابن العقيد عميروش، في بعث رسائل للسلطة يسأل فيها عن مكان دفن والده الشهيد. وقال آيت حمودة، في حديث لـ''الخبر''، إنه توجه في مارس 1983 لحضور ذكرى استشهاد والده، وهناك أدرك أن جثماني العقيد عميروش ورفيقه العقيد سي الحواس كانا موجودين في ثكنة واد الشعير، ونقلا إلى باب جديد بالجزائر العاصمة سنة .1964 وهو ما شجعه على بعث مزيد من الرسائل للرئيس بن جديد الذي قرر نقل جثماني عميروش وسي الحواس إلى مقبرة العاليا.
سي الحواس وعميروش بعد تسعة وأربعين عاما؟
عدنا من بوسعادة محمّلين بالأسئلة، حول ظروف استشهاد العقيدين عميروش وسي الحواس، ومن معهما من مجاهدين. فلا تخلو كتابات بعض المؤرخين الفرنسيين من إشارات لاحتمال تورّط أعضاء الحكومة المؤقتة في عملية اغتيال عميروش والحواس. لكن مؤرخين آخرين منهم ايف كوريير، لم يقدموا هذه الفرضية. كما رفض المؤرخ جيلبير مينييه، وهو آخر المؤرخين الذين اشتغلوا على أرشيف ''الشات''، وهو أرشيف المركز التاريخي للجيش الفرنسي، الذي فُتح على المؤرخين لأول مرة عام 1999، تقديم ذات الفرضية. فمن أين جاءت فكرة احتمال تورط عبد الحفيظ بوصوف، بصفته المسؤول الأول عن المخابرات الجزائرية خلال حرب التحرير؟ هذا هو السؤال المطروح على المؤرخين الجزائريين.
الموضوع منقول للامانة
الشاذلي بن جديد أنهى مأساة العقيدين /'' حركي'' أخبر السلطات بمكان دفن شهيدي جبل تامر
الطريق إلى بوسعادة، عبر سور الغزلان، يمتلئ بكثير من التساؤلات، خاصة إذا كنت ذاهبا إلى عين الملح، وبالضبط إلى المكان المسمى عين غراب، للوقوف على المكان الذي استشهد فيه العقيدان عميروش وسي الحواس في مارس .1959 أول تلك الأسئلة: لماذا قطع العقيد عميروش كل هذه المسافة سيرا على الأقدام، من مقر الولاية الثالثة
إلى غاية عين الغراب عبر جبل مسعد، ليكون على موعد مع الاستشهاد؟
أخبرنا مرافقنا ودليلنا في المهمة، والذي كان في انتظارنا بوسط مدينة بوسعادة، التي دخلناها عند حدود التاسعة صباحا، أن مكان سقوط عميروش والحواس يبعد عن بوسعادة بحوالي خمسة وثلاثون كيلومترا.
سارت بنا السيارة في طريق ملتوية، فعبرنا مدينة الهامل النقية والمتسقة العمران. ومن الهامل توجهنا إلى عين الملح، وسرنا بمحاذاة جبل مساعد، حيث يوجد مقر الولاية التاريخية السادسة، بالمكان المسمى ''الزعفرانية''. وصلنا إلى عين الملح بعد نصف ساعة، فبدا لنا المكان كقرية نائية تعمّها الحركة، لكن مظاهر البؤس كانت بادية للعيان. ومن عين الملح، توجهنا إلى عين الغراب، حيث جرت معركة جبل ثامر.
يكاد المكان المسمى ''عين الغراب''، يكون مجهولا، الوحيد الذي خلّده، هو المرحوم خليفي أحمد، الذي يقول في إحدى أغانيه ''حَطين عين غراب، بيننا وبين ناس الجلفة''.. فالحياة هنا منعدمة، والمكان مقفر، وبارد. ولا شيء يشجع على العيش هنا إطلاقا، بسبب ملوحة التربة، فالوحيد الذي وجد ضالته هنا هو الغراب.
لماذا مرّ العقيد عميروش على العقيد سي الحواس؟
كان العقيد عميروش غاضبا على وزراء الحكومة المؤقتة، ولم يكن راضيا عن أدائهم. وكان يعتقد أن الوفد الخارجي لم يوفّق في المهمة التي غادر من أجلها الداخل، وهي إيصال الأسلحة للمجاهدين. فقرر التوجه إلى تونس لطلب توضيحات بخصوص هذا التقصير، فأبلغ القادة الثلاثة المؤثرين (كريم، بوصوف وبن طوبال) بمجيئه إلى تونس، وكان ينوي إحداث تغييرات جذرية على مستوى تشكيلة الحكومة. كما كان ينوي الدفاع عن قرار ''تصفية الثورة'' من ''الخونة والمثقفين'' الذين صفّاهم خلال مؤامرة ''لابلويت''. علما أن الحكومة المؤقتة لم تكن راضية عن تصرفاته بشأن هذه المسألة. كما كان ينوي التعبير عن رفضه المطلق لالتحاق فرحات عباس وأتباعه بمؤسسات الثورة.
قبل أن يصل إلى بوسعادة، نجا العقيد عميروش من كمين نصبه له العقيد ''بوييس''. بضعة أيام بعد ذلك، يلتقي عميروش مع قائد الولاية السادسة سي الحواس، فقررا التوجه إلى الولاية الثانية للقاء قائدها العقيد علي كافي. لكن القدر أراد غير ذلك. فقد وصلت إلى مكتب العقيد دوكاس معلومة في غاية الأهمية، تفيد بأن اثنين من قادة الثورة متواجدان على مستوى جبل ثامر.
توجه دوكاس من بوسعادة على رأس الفيلق السادس، والتقى بالنقيب غالو لافالي ببرج الآغا بين بوسعادة والجلفة، يوم 20 مارس، وبلغ عدد الجنود الفرنسيين ألفين وخمسمائة جندي، كانوا في انتظار أربعين مجاهدا.
معركة غير متكافئة بين ألفين وخمسمائة جندي فرنسي وأربعين مجاهدا
توجهنا للتو إلى المتحف الذي يخلّد ذكرى استشهاد العقيدين عميروش وسي الحواس ورفاقهما. وجدنا باب المتحف موصدا. بحثنا عن الحارس، فلم نعثر له على أثر، فقليلا ما يأتي أحد لزيارة المتحف، والرسميون، كما علمنا لاحقا، لا يأتون إلا في المناسبات فقط. عثرنا عند المدخل على بقايا طائرة فرنسية حطمها المجاهدون خلال معركة ''جبل ثامر''... فتساءلنا ''من يكون قد أسقط طائرة ال بي 26 الأمريكية هذه؟'' سألنا الحارس، فعجز عن الإجابة. علمنا لاحقا أن مساعد العقيد الحواس، المدعو عمور دريس (اسمه الحقيقي هو محمد دريس المولود سنة 1931 بالقنطرة) هو صاحب هذا الإنجاز. جرح خلال معركة جبل ثامر، ونقل إلى السجن، أين خضع للاستنطاق مدة شهرين، واستشهد في سجن الجلفة دون أن يبوح بأي سر للجيش الفرنسي.
وأثناء إلقاء القبض عليه، قال عمور إدريس المدعو ''بوعينين النمر'' للضباط الفرنسيين الملتفين حوله: ''إن العقيد الذي قاد هذه المعركة حقق إنجازا كبيرا، لكن لا شيء بإمكانه أن يجعلنا نحيد عن نضالنا''.
حارس الذاكرة يسكن في ''فوربي''
اجتزنا حائطا صغيرا، وعبرنا ساحة العلم، وسرعان ما لمحنا الحارس قادما باتجاهنا، وهو شيخ في السبعين من العمر، أخبرنا أنه يدعى سليمان بوبكري، وهو مقيم هنا في عين الغراب، وفي ''فوربي'' صغير قرب المتحف.
لم يكن العجوز سليمان على علم بزيارتنا، وبعد أن أخبره مرافقنا بمهمتنا، فتح لنا باب المتحف، فبدا لنا المكان ضيّقا، باهتا، لكنه سرعان ما تحوّل إلى مكان له مآثره، بعد أن اقتربنا من محتوياته، فوجدنا منظار العقيد سي الحواس، وهو منظار صغير من النحاس، بقي كما هو، صامدا أمام الزمن. كما وجدنا جوارب وأحذية رفاق العقيدين عميروش والحواس، الذين استشهدوا معهما في ذات المعركة. كما عرضت بقايا علب الأكل التي كانت لدى المجاهدين، وأشياء أخرى مثل قنابل انفجرت، ومئات الرصاصات التي تبعثرت في مكان المعركة.
اقتربنا من العجوز سليمان، لنسأله عن المكان، لكن بؤس حاله كان كثير الأثر. أخبرنا أنه ناشد السلطات المحلية منذ عدة سنوات ليبنوا له مسكنا محترما قرب المتحف الذي يحرسه، لكن طلبه بقي حبيس الأدراج، حتى الرسميون الذين زاروا المكان لم يستجيبوا لندائه. حارس الذاكرة يسكن في ''فوربي'' هكذا فكرنا ونحن نتحدث معه.
أخبرنا سليمان بوبكري أنه ما يزال يتذكر جيدا، ذلك اليوم البعيد الذي نهض فيه عند الفجر على وقع دويّ قدوم الجيش الفرنسي بمدرّعاته وشاحناته وطائراته، بتعداد قدره ألفا جندي جاؤوا لمحاصرة جبل ثامر. كان عمره آنذاك ستة عشر عاما. يقول إن المعركة انطلقت مع الفجر.
قامت قوات العقيد دوكاس بمحاصرة المكان، عند نقطة يوجد بها منفذ للولوج إلى جبل ثامر. ثم سرعان ما حلّقت طائرات ال بي 26 الأمريكية، وشرعت في قَنبلة الموقع، مما سهّل صعود الجنود الفرنسيين إلى أعلى الجبل، فاندلع اشتباك مع نفر من المجاهدين. انتهت المعركة عند حدود الساعة الواحدة زوالا. واستشهد خمس وثلاثون مجاهدا، وألقي القبض على خمسة منهم. وتم العثور على جثة االعقيد الحواس، والتعرّف عليه بسهولة، في حين تأخر التعرّف على العقيد عميروش. وتقول كثير من المصادر التاريخية إن الجيش الفرنسي عثر لديه على وثيقة هامة تتمثل في محضر اجتماع قادة الولايات بين 6 و12 ديسمبر .1958
من أفشى سرّ مكان تواجد عميروش والحواس؟
تساءلنا ونحن متواجدون في عين الغراب: من يكون قد أفشى بسرّ وجود الكتيبة الصغيرة التي رافقت العقيدين، للجيش الفرنسي؟ وظل السؤال يلقي بنفسه علينا، ونحن نتأمل تضاريس المكان الوعرة. وتحدّث أغلب الذين سألناهم عن إمكانية وجود وشاية.
وتقول كثير من المصادر التاريخية إن العقيدين عميروش وسي الحواس، كانا يتنقلان في المنطقة في سرية تامة، وبحذر شديد. ثم إن كثيرا من المؤرخين الفرنسيين أوردوا أن العقيد دوكاس، تمكّن من نشر ''الحركى'' في كل مكان. ويكتفي الناس في هذه المنطقة بالحديث عن وجود ''البيعة'' أي الوشاية، دون تقديم تفاصيل أخرى.. وهو ما دفعنا إلى البحث عن شهود عيان من المجاهدين الذين شاركوا في المعركة. لكننا علمنا أن لا أحد منهم بقي على قيد الحياة؛ وهو ما أكده لنا المجاهد جودي عتومي المقيم حاليا في بجاية، بصفته أحد المقربين من العقيد عميروش. لكن آخرون أخبرونا أن مجاهدا من بسكرة، جاء رفقة عدد من المجاهدين للقاء عميروش والحواس، ما يزال على قيد الحياة، فبحثنا عنه لكن دون جدوى. وحسب ايف كوريير، فإن النقيب غالو لافالي هو من تمكّن من الحصول على المعلومة التي تفيد باحتمال وقوع اجتماع هام للمجاهدين بجبل ثامر. ويضيف كوريير: أن طفلا في العاشرة هو من أخبره بذلك. وقبل ذلك كانت الاستخبارات الفرنسية، قد تحصلت على معلومات من بعض مموني المنطقة، تفيد أن العقيد سي الحواس موجود بجبل ثامر.
بعد نهاية المعركة، قرر العقيد دوكاس نقل جثماني العقيدين عميروش والحواس إلى واد الشعير، مقر كتيبته، وفي غضون يومين تم التعرّف على العقيد عميروش الذي مات شهيدا وقد أصيب بثلاث رصاصات في الصدر. وكتبت صحيفة باري ماتش في اليوم الموالي ''مات أسد الجبل. ستون ساعة بعد مقتله، بقيت عيناه مفتوحتان على سعتهما. وكان الجنود خائفين حتى من الاقتراب منه''. وانتشرت حينها إشاعات تقول بأن الجيش الفرنسي أودع جثمان العقيد عميروش في مخبر علمي ''لإجراء تحاليل ودراسة على دماغه''، مثلما فعل العلماء الأمريكيون على دماغ أدولف هتلر. علما أن الجزائريين لا يعرفون إلى اليوم شيئا عن مكان دفن قائد الولاية الرابعة العقيد أمحمد بوفرة الذي استشهد بدوره يوم 5 ماي 1959، أي بعد بضعة أيام من سقوط عميروش وسي الحواس.
وبأمر من العقيد دوكاس، وُوري عميروش والحواس التراب في ثكنة واد الشعير، بساحة العلم. وفي عام 1964، جرت واقعة غريبة كانت في طريقها لإعطاء بعض الأمل للباحثين عن رفات شهيدي جبل ثامر، فقد قرر أحد ''الحركى'' الزواج بإحدى بنات عمومته بواد الشعير. راسل السلطات الجزائرية للسماح له بذلك، لكنه تلقى ردا بالنفي. بعث برسالة ثانية، وأخبر قيادات الجيش الوطني الشعبي بامتلاكه سرا مهما.
ما هو هذا السر؟
أخبر ''الحركي'' السلطات الجزائرية أنه يعرف المكان الذي دفن فيه العقيدان عميروش والحواس. سقط الخبر كالصاعقة، وتغيرت لهجة السلطات، فعدلت عن رفضها ومنحت الحركي رخصة العودة للجزائر للزواج، مقابل إخبارهم بمكان دفن شهيدي الثورة. وفي نفس اليوم، انتقل وفد رسمي هام إلى واد الشعير، وبالضبط إلى الثكنة الفرنسية. وأخبرنا شهود عيان أن العقيد بن شريف، قائد الدرك الوطني حينها، هو من أشرف شخصيا على العملية. وفي ساحة العلم، تم العثور على جثماني عميروش وسي الحواس، فتم نقلهما على سبيل السرعة إلى باب جديد، بأمر من الرئيس هواري بومدين شخصيا.
الشاذلي بن جديد أنهى مأساة عميروش والحواس
ظل جثمانا سي الحواس وعميروش في مكان مجهول بباب جديد، ونُسيا هناك. والحق أن توجهات السلطة بعد انقلاب هواري بومدين فيما يتعلق برموز الثورة، والتي كانت خاضعة لمنطق ''الشعب هو البطل الوحيد''، والتي كانت تسير جنبا إلى جنب مع ظاهرة القضاء على رموز الثورة الحقيقيين، ساهمت في نسيان شهيدي جبل ثامر طيلة هذه المدة.
بعد وفاة الرئيس هواري بومدين يوم 27 ديسمبر 1978، ومجيء الرئيس الشاذلي بن جديد، محمّلا بسياسة الانفتاح، استمر نور الدين آيت حمودة ابن العقيد عميروش، في بعث رسائل للسلطة يسأل فيها عن مكان دفن والده الشهيد. وقال آيت حمودة، في حديث لـ''الخبر''، إنه توجه في مارس 1983 لحضور ذكرى استشهاد والده، وهناك أدرك أن جثماني العقيد عميروش ورفيقه العقيد سي الحواس كانا موجودين في ثكنة واد الشعير، ونقلا إلى باب جديد بالجزائر العاصمة سنة .1964 وهو ما شجعه على بعث مزيد من الرسائل للرئيس بن جديد الذي قرر نقل جثماني عميروش وسي الحواس إلى مقبرة العاليا.
سي الحواس وعميروش بعد تسعة وأربعين عاما؟
عدنا من بوسعادة محمّلين بالأسئلة، حول ظروف استشهاد العقيدين عميروش وسي الحواس، ومن معهما من مجاهدين. فلا تخلو كتابات بعض المؤرخين الفرنسيين من إشارات لاحتمال تورّط أعضاء الحكومة المؤقتة في عملية اغتيال عميروش والحواس. لكن مؤرخين آخرين منهم ايف كوريير، لم يقدموا هذه الفرضية. كما رفض المؤرخ جيلبير مينييه، وهو آخر المؤرخين الذين اشتغلوا على أرشيف ''الشات''، وهو أرشيف المركز التاريخي للجيش الفرنسي، الذي فُتح على المؤرخين لأول مرة عام 1999، تقديم ذات الفرضية. فمن أين جاءت فكرة احتمال تورط عبد الحفيظ بوصوف، بصفته المسؤول الأول عن المخابرات الجزائرية خلال حرب التحرير؟ هذا هو السؤال المطروح على المؤرخين الجزائريين.
الموضوع منقول للامانة