ملامح التحولات السياسية في السعودية:
الجهاديون، المحافظون الجدد و الليبرو اسلاميون
26/09/2007
تُكرّس رسالة الشيخ سلمان العودة، أحد رموز السلفية الاصلاحية في السعودية حالة القطيعة بين تيار الصحوة وتيار السلفية الجهادية المتماهي والمؤيد لتنظيم القاعدة، اذ أنّها المرّة الأولي التي تظهر فيها انتقادات علنية واضحة، مصحوبة بضجّة اعلامية، من مشايخ الصحوة لزعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن. فعلي الرغم من الخلافات الشديدة و الحرب الاعلامية الباردة والصدع الكبير بين التيارين الاّ أنّ تيار الصحوة كان حنوناً ليّنا في نقده لرموز القاعدة، في السابق، متجنّباً الأشخاص ومركّزاً علي الأفكار والممارسة.
المفارقة الملفتة أنّ رسالة العودة ـ التي فسّرها خصومه في سياق علاقته الجديدة الجيّدة، نوعاً ما، مع السلطة ـ جاءت متزامنة مع رسالة أخري لأحد القيادات الاسلامية الاصلاحية الصاعدة في السعودية، د. محمد الأحمري، العائد من الولايات المتحدة منذ سنوات قليلة. رسالة الأحمري وجّهها مباشرة الي العاهل السعودي مطالباً باطلاق سراح الاصلاحيين المعتقلين وفي مقدمتهم الدكتور سعود مختار الهاشمي وسليمان الرشودي وموسي القرني.
وفي حين حظيت رسالة العودة بصدي اعلامي واسع، فانّ رسالة الأحمري وجدت تعاطفاً وتأييداً داخلياً كبيراً، واستذكر عدد من المعلقين والمعقبين علي الرسالة خطاب تيار الصحوة في بدايته في تسعينات القرن الماضي، ذلك الخطاب الذي لم يكن يتواني عن نقد السلطة ومطالبتها باصلاحات سياسية، بينما يلاحظ خصوم العودة أو حتي المراقبين خلو رسالته من أي لوم للسلطة والحكومة السعودية مكتفياً بتأنيب بن لادن بعبارات قاسية وحادّة فاجأت الجميع اللهم اننا نبرأ اليك مما صنع أسامة .
تثير كلتا الرسالتين والتداعيات الناجمة عنهما تساؤلات أبرزها: فيما اذا كان ثمة مسافة فاصلة بين الخطابين؟ ما يعكس وجود شقوق في خطاب السلفية الاصلاحية وخلافات حول قضايا فكرية وسياسية؟ وتثير الرسالتان ـ كذلك ـ سؤالاً رئيساً حول طبيعة الحراك الاصلاحي والعلاقة بين التيارات المختلفة؛ فيما اذا كنّا أمام خارطة فكرية وسياسية يمكن تمييز ملامحها بوضوح أم أمام حالة ضبابية وتداخل غير مستقر بين التيارات المختلفة، وداخل كل تيار؟..
تحريك المياه الراكدة وصعود المحافظين الجدد
بداية بروز الحراك الفكري والسياسي الي السطح كانت مع بداية التسعينات من القرن الماضي، اذ تحرّكت المياه السلفية الراكدة وخرجت مجموعة من القيادات الجديدة من رحم المؤسسة الدينية. الارهاصات كانت من خلال محاضرات ودروس لعدد من الفقهاء الجدد تختلف في مصادرها وطبيعتها عن الخطاب السلفي التقليدي، اذ بينما يكتفي الخطاب السلفي التقليدي بالالتزام بالتراث و الجمود علي الموجود فانّ الخطاب الجديد، وان انطلق من المنطلقات العقدية والفكرية ذاتها للمدرسة السلفية الاّ أنّه أظهر قدراً أكبر من متابعة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي.
الاختراق الكبير حدث مع حرب الخليج 1991، حيث قدّم هذا التيار الوليد خطاباً نقدياً شاملاً لموقف كل من الحكومة والمؤسسة الدينية الرسمية هيئة كبار العلماء في قضية الاستعانة بالولايات المتحدة، وأصدر الشيخ سفر الحوالي كتاباً بعنوان وعد كيسنجر والأهداف الأمريكية بالخليج وجّه فيه نقداً غير مسبوق للحالة السياسية، وترافق ذلك مع خطاب شبيه ومتعدد الجوانب من القيادات الجديدة (سلمان العودة، عائض القرني، ناصر العمر، وغيرهم).
أخذت المواجهة بين التيار الجديد والسلطات السعودية مدي أوسع وانتقلت الي مرحلة أخطر، بعد نهاية حرب 1991، اذ انتقل خطاب التيار الجديد للمطالبة باصلاحات شاملة، وظهر ذلك من خلال ما سمي بـ رسالة النصيحة 1992 التي وجّهوها الي الملك السعودي، ومن ثم بروز حركة الدفاع عن الحقوق الشرعية ، وقيادات اسلامية جديدة تحظي بتأييد اجتماعي، ما عزز وجود التيار وتكوين قاعدة اجتماعية صلبة له.
رفعت هيئة كبار العلماء ، المؤسسة الدينية التقليدية، الغطاء عن التيار الجديد، فأطلقت ـ بذلك ـ يد الحكومة ضده وجرت اعتقالات كبيرة، وأدّت في المحصلة الي سجن رموز التيار الجديد وفي مقدمتهم الحوالي والعودة والعمر.
التيار الجديد أُطلِق عليه ـ آنذاك ـ تيار الصحوة ولاحقاً السلفية الاصلاحية تمييزاً له عن السلفية التقليدية، لكنّ الوقوف عند معالم خطابه الفكري والسياسي يدفع الي اعتباره أقرب الي المحافظين الجدد ؛ فبينما دعا الي اصلاحات سياسية وتوسيع دائرة الحريات وحقوق الانسان واصلاح مؤسسات الدولة، فانّه في المقابل كان يضع ذلك كله ضمن النسق الديني، والحفاظ علي هوية الدولة السلفية .
فقد كان موقف هذا التيار حادّاً في المجال الاجتماعي ـ الثقافي ضد الحداثة والعلمانيين والحركات النسوية (مسألة قيادة المرأة للسيارة)، وكان خطابه الوعظي يقوم علي التشدد في تطبيق الشريعة الاسلامية في مختلف مناحي الحياة، وعلي معاداة الولايات المتحدة والمطالبة بموقف حاسم معها، بالاضافة الي مناصرة الحركات الاسلامية الأخري، وحظي بولاء وتأييد الشباب المتحمس والشخصيات التي أصبحت لاحقاً قيادات للتيار السلفي الجهادي والقاعدة.
من يملأ الفراغ؟
أدّي سجن شيوخ الصحوة الي فراغ كبير في الساحة السياسية والثقافية، وبرز تياران رئيسان حاولا ملأه.
التيار الأول السلفية الجهادية الذي أخذ بالتشكل في منتصف التسعينات في أطره العالمية، وزادت حدة الخلافات بين أسامة بن لادن والسلطات السعودية، واستطاع التيار الجهادي اكتساب قاعدة جيدة ورثها من تيار المحافظين الجدد مستثمراً ارث الخطاب النقدي للحوالي والعودة، ومستفيداً من حالة الغضب والاحتقان لدي الشباب من سجن قياداته من ناحية، ومن وجود عدد كبير من الشباب السعودي العائد من أفغانستان والبوسنة ومناطق أخري، وهم لا يزالون في أجواء القتال، ويحملون أفكاراً تقوم علي أنّ العمل المسلّح هو الاستراتيجية الرئيسة للتغيير من ناحية أخري.
أمّا التيار الثاني فهو التيار الاصلاحي الجديد الذي تشكّلت نواته الأولي من عدد من المثقفين والتكنوقراط المؤيدين للعودة، وبعضهم سُجن وخرج لكن بأفكار مختلفة أكثر ليبرالية ونقدية للمرحلة السابقة، التي رأوا أنها خضعت للنزعة العاطفية، وكذلك من عدد من الشباب الجهادي المتراجع عن أفكاره الأولي، ومن نخبة ليبرالية أعادت التفكير في دور الدين في الحياة العامة لتخفف من مواقفها العلمانية باتجاه تصالحي أكبر مع الاسلاميين الاصلاحيين.
بذور التيار الجديد بدأت بالنمو منذ عام 1998، لكنه أخذ منحي أكثر جدّية وقوة مع أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، التي هزّت المجتمع السعودي بالدرجة نفسها التي ضربت هيبة أميركا، وكأنّ بن لادن ألقي بالكرة الملتهبة في قلب المجتمع السعودي وأحدث حالة من الحراك والقلق والتحولات الكبيرة التي قلبت كثيراً من المواقف والاتجاهات!
شيوخ الصحوة: الخروج وصدمة التحول!
تزامن خروج شيوخ الصحوة مع صعود التيار الجهادي، ثم مع وقوع أحداث ايلول (سبتمبر) التي خلقت بيئة جديدة بالكلية وأسئلة مختلفة عن تلك التي واجهوها في بداية التسعينات (أي قبل الاعتقال). وقد بدت ملامح التغير واضحة علي خطابهم ومواقفهم، وهو التغير الذي أخذ صورة أكثر وضوحاً وقوة مع الحرب الأفغانية ثم الحرب العراقية، وكذلك في الموقف من أحداث العنف التي تعرّضت لها السعودية في السنوات الماضية والتي عكست وجوداً حقيقياً للقاعدة وأنصارها.
لم يرحّب شيوخ الصحوة بأحداث 11 ايلول (سبتمبر)، وان كان نقدهم لها علي استحياء، وبكثير من الجمل المعترضة، لكن موقف بعضهم (سلمان العودة) كان واضحاً من انتقاد ورفض سفر الشباب السعودي الي الحرب هناك. ثم جاءت رسالة علي أي أساس نتعايش ، التي صدّرها شيوخ الصحوة، لتعكس تحوّلاً جذرياً في الخطاب وخروجا علي قواعد المنهج السلفي، تحديداً في مجال العلاقة مع الآخر ـ كما يرصد الباحث الفرنسي ستيفان لاكوروا. وهي الرسالة التي نالت نقداً حاداً وهجوماً اعلامياً قاسياً من أنصار القاعدة وخلقت فجوة كبيرة بين المحافظين الجدد و الجهاديين .
المفارقة أنّ الحوالي أصدر رسالة خاصة، بعد رسالة علي أي أساس نتعايش ، تظهر ميلاً أقل من التحول والخروج علي الخطاب السلفي، ثم اضطر كل من العودة والحوالي والعمر الي تقديم توضيح وتفسير لرسالتهم أقرب الي الاعتذارية ، ما أظهر حالة من التردد والاختلاف والشقوق في الخطاب الجديد للمحافظين الجدد .
الاّ أنّ اشتعال الجبهة الداخلية السعودية بأحداث العنف أدي الي اشتغال المحافظين الجدد بها، من خلال خطاب نقدي، والدخول في معارك اعلامية وسياسية في مواجهة القاعدة، والقيام بمبادرات لاطفاء النيران الملتهبة (كما فعل الحوالي قبل اصابته بمرض لا يزال يتعافي منه)، كما أنّ الهجوم الاعلامي الغربي الشديد علي الوهابية وعلي الحكومة السعودية دفع بهذا التيار الي تأجيل مواقفه النقدية وصراعه مع السلطة مقابل الوقوف في وجه الهجمة الغربية، وهو ما خلق حالة من التهدئة والتفاهمات التكتيكية بين السلطة وقيادات هذا التيار.
في المقابل قطع التيار الاصلاحي الجديد ، الذي أطلق عليه ستيفان لاكوروا الليبروـ اسلامي ، مسافة أكبر وتمكّن من بناء توافق بين مئات المثقفين والاعلاميين وأساتذة الجامعات، وكذلك بين القيادات الاصلاحية السنية والشيعية، حول رؤية اصلاحية محددة وواضحة، برزت من خلال ثلاث وثائق رئيسة: رؤية لحاضر الوطن ومستقبله ، شركاء في الوطن ، الاصلاح الدستوري أولاً ، وتذهب الوثائق الثلاث الي بناء ملامح خطاب وطني توافقي يقوم علي ركائز رئيسة: الاعتراف بالحكم والاصلاح السلمي من الداخل، المطالبة بالملكية الدستورية، التأكيد علي الاصلاحات السياسية والاقتصادية، حقوق المواطنة والمساواة أمام القانون..الخ.
ملامح الخارطة السياسية الحالية
يبدو تيار السلفية الجهادية الأكثر وضوحاً وحسماً بين التيارات المختلفة، فقد أعلن حرباً مع النظام السعودي والولايات المتحدة الامريكية، وقفز خطوات متسارعة الي الأمام، وبرزت له قيادات جديدة، فكرياً وسياسياً، وساهمت قوة القاعدة الضاربة في العراق بتعزيز خطاب هذا التيار. وعلي الرغم من الضربات الأمنية المتلاحقة التي تعرّض لها الاّ أنّ قابليته للحياة والاستمرار لا تزال واضحة، وهنالك عوامل عديدة تغذي وجوده وبقاءه.
التيار الليبرو اسلامي ، يبدو هو الآخر أكثر جدية في تقديم طرح جديد، مستثمراً الدور الجديد الذي يقوم به رجال الأعمال والأكاديميون السعوديون الدارسون في الخارج وحالة التقارب الواضحة بين التيار الليبرالي والخارجين من ثوب الاسلاميين والاصلاحيين الشيعة، وأظهر هذا التيار قدرة ملفتة في تجاوز مواضع الخلاف والوقوف علي الأرض المشتركة بتغليب الجانب الوطني والاصلاحي في الخطاب.
المعضلة الحقيقية تبدو لدي تيار المحافظين الجدد أو شيوخ الصحوة، فعلي الرغم أنّ هذا التيار لا يزال يحظي بقاعدة اجتماعية كبيرة، ويعتبر البعض أنه قد ورث المؤسسة الدينية الرسمية وأنّ السلطة اضطرت الي اللجوء اليه، الاّ أنّ هذا التيار يواجه أزمة حقيقية ذات أبعاد متعددة لكن جوهرها غياب وحدة الخطاب والرؤية وتشقق قيادات هذا التيار بين مواقف متباينة في قضايا مفصلية كالموقف من الشيعة داخلياً وخارجياً، ومستوي التقدم في الطرح باتجاه الليبرالية والديمقراطية، كما أنّ تحسّن علاقة رموز من التيار بالسلطة ألقي بظلاله علي جرأة التيار وقوة طرحه السياسي الداخلي، حيث لوحظ الفقر الكبير في هذا المجال في الآونة الأخيرة.
في المرحلة القادمة يبدو أنّ تيار الاصلاحيين الجدد سيتغذي علي القاعدة الاجتماعية الاسلامية المعتدلة، وسيسحب البساط من تحت أقدام المحافظين الجدد اذا استمرت حالة الجمود والتشتت الحالية لديهم، والتي ظهرت ملامحها في المسافة الفاصلة في رسالتي كل من العودة والأحمري.
ہ كاتب وباحث أردني
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fn...0&storytitlec=
الجهاديون، المحافظون الجدد و الليبرو اسلاميون
26/09/2007
تُكرّس رسالة الشيخ سلمان العودة، أحد رموز السلفية الاصلاحية في السعودية حالة القطيعة بين تيار الصحوة وتيار السلفية الجهادية المتماهي والمؤيد لتنظيم القاعدة، اذ أنّها المرّة الأولي التي تظهر فيها انتقادات علنية واضحة، مصحوبة بضجّة اعلامية، من مشايخ الصحوة لزعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن. فعلي الرغم من الخلافات الشديدة و الحرب الاعلامية الباردة والصدع الكبير بين التيارين الاّ أنّ تيار الصحوة كان حنوناً ليّنا في نقده لرموز القاعدة، في السابق، متجنّباً الأشخاص ومركّزاً علي الأفكار والممارسة.
المفارقة الملفتة أنّ رسالة العودة ـ التي فسّرها خصومه في سياق علاقته الجديدة الجيّدة، نوعاً ما، مع السلطة ـ جاءت متزامنة مع رسالة أخري لأحد القيادات الاسلامية الاصلاحية الصاعدة في السعودية، د. محمد الأحمري، العائد من الولايات المتحدة منذ سنوات قليلة. رسالة الأحمري وجّهها مباشرة الي العاهل السعودي مطالباً باطلاق سراح الاصلاحيين المعتقلين وفي مقدمتهم الدكتور سعود مختار الهاشمي وسليمان الرشودي وموسي القرني.
وفي حين حظيت رسالة العودة بصدي اعلامي واسع، فانّ رسالة الأحمري وجدت تعاطفاً وتأييداً داخلياً كبيراً، واستذكر عدد من المعلقين والمعقبين علي الرسالة خطاب تيار الصحوة في بدايته في تسعينات القرن الماضي، ذلك الخطاب الذي لم يكن يتواني عن نقد السلطة ومطالبتها باصلاحات سياسية، بينما يلاحظ خصوم العودة أو حتي المراقبين خلو رسالته من أي لوم للسلطة والحكومة السعودية مكتفياً بتأنيب بن لادن بعبارات قاسية وحادّة فاجأت الجميع اللهم اننا نبرأ اليك مما صنع أسامة .
تثير كلتا الرسالتين والتداعيات الناجمة عنهما تساؤلات أبرزها: فيما اذا كان ثمة مسافة فاصلة بين الخطابين؟ ما يعكس وجود شقوق في خطاب السلفية الاصلاحية وخلافات حول قضايا فكرية وسياسية؟ وتثير الرسالتان ـ كذلك ـ سؤالاً رئيساً حول طبيعة الحراك الاصلاحي والعلاقة بين التيارات المختلفة؛ فيما اذا كنّا أمام خارطة فكرية وسياسية يمكن تمييز ملامحها بوضوح أم أمام حالة ضبابية وتداخل غير مستقر بين التيارات المختلفة، وداخل كل تيار؟..
تحريك المياه الراكدة وصعود المحافظين الجدد
بداية بروز الحراك الفكري والسياسي الي السطح كانت مع بداية التسعينات من القرن الماضي، اذ تحرّكت المياه السلفية الراكدة وخرجت مجموعة من القيادات الجديدة من رحم المؤسسة الدينية. الارهاصات كانت من خلال محاضرات ودروس لعدد من الفقهاء الجدد تختلف في مصادرها وطبيعتها عن الخطاب السلفي التقليدي، اذ بينما يكتفي الخطاب السلفي التقليدي بالالتزام بالتراث و الجمود علي الموجود فانّ الخطاب الجديد، وان انطلق من المنطلقات العقدية والفكرية ذاتها للمدرسة السلفية الاّ أنّه أظهر قدراً أكبر من متابعة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي.
الاختراق الكبير حدث مع حرب الخليج 1991، حيث قدّم هذا التيار الوليد خطاباً نقدياً شاملاً لموقف كل من الحكومة والمؤسسة الدينية الرسمية هيئة كبار العلماء في قضية الاستعانة بالولايات المتحدة، وأصدر الشيخ سفر الحوالي كتاباً بعنوان وعد كيسنجر والأهداف الأمريكية بالخليج وجّه فيه نقداً غير مسبوق للحالة السياسية، وترافق ذلك مع خطاب شبيه ومتعدد الجوانب من القيادات الجديدة (سلمان العودة، عائض القرني، ناصر العمر، وغيرهم).
أخذت المواجهة بين التيار الجديد والسلطات السعودية مدي أوسع وانتقلت الي مرحلة أخطر، بعد نهاية حرب 1991، اذ انتقل خطاب التيار الجديد للمطالبة باصلاحات شاملة، وظهر ذلك من خلال ما سمي بـ رسالة النصيحة 1992 التي وجّهوها الي الملك السعودي، ومن ثم بروز حركة الدفاع عن الحقوق الشرعية ، وقيادات اسلامية جديدة تحظي بتأييد اجتماعي، ما عزز وجود التيار وتكوين قاعدة اجتماعية صلبة له.
رفعت هيئة كبار العلماء ، المؤسسة الدينية التقليدية، الغطاء عن التيار الجديد، فأطلقت ـ بذلك ـ يد الحكومة ضده وجرت اعتقالات كبيرة، وأدّت في المحصلة الي سجن رموز التيار الجديد وفي مقدمتهم الحوالي والعودة والعمر.
التيار الجديد أُطلِق عليه ـ آنذاك ـ تيار الصحوة ولاحقاً السلفية الاصلاحية تمييزاً له عن السلفية التقليدية، لكنّ الوقوف عند معالم خطابه الفكري والسياسي يدفع الي اعتباره أقرب الي المحافظين الجدد ؛ فبينما دعا الي اصلاحات سياسية وتوسيع دائرة الحريات وحقوق الانسان واصلاح مؤسسات الدولة، فانّه في المقابل كان يضع ذلك كله ضمن النسق الديني، والحفاظ علي هوية الدولة السلفية .
فقد كان موقف هذا التيار حادّاً في المجال الاجتماعي ـ الثقافي ضد الحداثة والعلمانيين والحركات النسوية (مسألة قيادة المرأة للسيارة)، وكان خطابه الوعظي يقوم علي التشدد في تطبيق الشريعة الاسلامية في مختلف مناحي الحياة، وعلي معاداة الولايات المتحدة والمطالبة بموقف حاسم معها، بالاضافة الي مناصرة الحركات الاسلامية الأخري، وحظي بولاء وتأييد الشباب المتحمس والشخصيات التي أصبحت لاحقاً قيادات للتيار السلفي الجهادي والقاعدة.
من يملأ الفراغ؟
أدّي سجن شيوخ الصحوة الي فراغ كبير في الساحة السياسية والثقافية، وبرز تياران رئيسان حاولا ملأه.
التيار الأول السلفية الجهادية الذي أخذ بالتشكل في منتصف التسعينات في أطره العالمية، وزادت حدة الخلافات بين أسامة بن لادن والسلطات السعودية، واستطاع التيار الجهادي اكتساب قاعدة جيدة ورثها من تيار المحافظين الجدد مستثمراً ارث الخطاب النقدي للحوالي والعودة، ومستفيداً من حالة الغضب والاحتقان لدي الشباب من سجن قياداته من ناحية، ومن وجود عدد كبير من الشباب السعودي العائد من أفغانستان والبوسنة ومناطق أخري، وهم لا يزالون في أجواء القتال، ويحملون أفكاراً تقوم علي أنّ العمل المسلّح هو الاستراتيجية الرئيسة للتغيير من ناحية أخري.
أمّا التيار الثاني فهو التيار الاصلاحي الجديد الذي تشكّلت نواته الأولي من عدد من المثقفين والتكنوقراط المؤيدين للعودة، وبعضهم سُجن وخرج لكن بأفكار مختلفة أكثر ليبرالية ونقدية للمرحلة السابقة، التي رأوا أنها خضعت للنزعة العاطفية، وكذلك من عدد من الشباب الجهادي المتراجع عن أفكاره الأولي، ومن نخبة ليبرالية أعادت التفكير في دور الدين في الحياة العامة لتخفف من مواقفها العلمانية باتجاه تصالحي أكبر مع الاسلاميين الاصلاحيين.
بذور التيار الجديد بدأت بالنمو منذ عام 1998، لكنه أخذ منحي أكثر جدّية وقوة مع أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، التي هزّت المجتمع السعودي بالدرجة نفسها التي ضربت هيبة أميركا، وكأنّ بن لادن ألقي بالكرة الملتهبة في قلب المجتمع السعودي وأحدث حالة من الحراك والقلق والتحولات الكبيرة التي قلبت كثيراً من المواقف والاتجاهات!
شيوخ الصحوة: الخروج وصدمة التحول!
تزامن خروج شيوخ الصحوة مع صعود التيار الجهادي، ثم مع وقوع أحداث ايلول (سبتمبر) التي خلقت بيئة جديدة بالكلية وأسئلة مختلفة عن تلك التي واجهوها في بداية التسعينات (أي قبل الاعتقال). وقد بدت ملامح التغير واضحة علي خطابهم ومواقفهم، وهو التغير الذي أخذ صورة أكثر وضوحاً وقوة مع الحرب الأفغانية ثم الحرب العراقية، وكذلك في الموقف من أحداث العنف التي تعرّضت لها السعودية في السنوات الماضية والتي عكست وجوداً حقيقياً للقاعدة وأنصارها.
لم يرحّب شيوخ الصحوة بأحداث 11 ايلول (سبتمبر)، وان كان نقدهم لها علي استحياء، وبكثير من الجمل المعترضة، لكن موقف بعضهم (سلمان العودة) كان واضحاً من انتقاد ورفض سفر الشباب السعودي الي الحرب هناك. ثم جاءت رسالة علي أي أساس نتعايش ، التي صدّرها شيوخ الصحوة، لتعكس تحوّلاً جذرياً في الخطاب وخروجا علي قواعد المنهج السلفي، تحديداً في مجال العلاقة مع الآخر ـ كما يرصد الباحث الفرنسي ستيفان لاكوروا. وهي الرسالة التي نالت نقداً حاداً وهجوماً اعلامياً قاسياً من أنصار القاعدة وخلقت فجوة كبيرة بين المحافظين الجدد و الجهاديين .
المفارقة أنّ الحوالي أصدر رسالة خاصة، بعد رسالة علي أي أساس نتعايش ، تظهر ميلاً أقل من التحول والخروج علي الخطاب السلفي، ثم اضطر كل من العودة والحوالي والعمر الي تقديم توضيح وتفسير لرسالتهم أقرب الي الاعتذارية ، ما أظهر حالة من التردد والاختلاف والشقوق في الخطاب الجديد للمحافظين الجدد .
الاّ أنّ اشتعال الجبهة الداخلية السعودية بأحداث العنف أدي الي اشتغال المحافظين الجدد بها، من خلال خطاب نقدي، والدخول في معارك اعلامية وسياسية في مواجهة القاعدة، والقيام بمبادرات لاطفاء النيران الملتهبة (كما فعل الحوالي قبل اصابته بمرض لا يزال يتعافي منه)، كما أنّ الهجوم الاعلامي الغربي الشديد علي الوهابية وعلي الحكومة السعودية دفع بهذا التيار الي تأجيل مواقفه النقدية وصراعه مع السلطة مقابل الوقوف في وجه الهجمة الغربية، وهو ما خلق حالة من التهدئة والتفاهمات التكتيكية بين السلطة وقيادات هذا التيار.
في المقابل قطع التيار الاصلاحي الجديد ، الذي أطلق عليه ستيفان لاكوروا الليبروـ اسلامي ، مسافة أكبر وتمكّن من بناء توافق بين مئات المثقفين والاعلاميين وأساتذة الجامعات، وكذلك بين القيادات الاصلاحية السنية والشيعية، حول رؤية اصلاحية محددة وواضحة، برزت من خلال ثلاث وثائق رئيسة: رؤية لحاضر الوطن ومستقبله ، شركاء في الوطن ، الاصلاح الدستوري أولاً ، وتذهب الوثائق الثلاث الي بناء ملامح خطاب وطني توافقي يقوم علي ركائز رئيسة: الاعتراف بالحكم والاصلاح السلمي من الداخل، المطالبة بالملكية الدستورية، التأكيد علي الاصلاحات السياسية والاقتصادية، حقوق المواطنة والمساواة أمام القانون..الخ.
ملامح الخارطة السياسية الحالية
يبدو تيار السلفية الجهادية الأكثر وضوحاً وحسماً بين التيارات المختلفة، فقد أعلن حرباً مع النظام السعودي والولايات المتحدة الامريكية، وقفز خطوات متسارعة الي الأمام، وبرزت له قيادات جديدة، فكرياً وسياسياً، وساهمت قوة القاعدة الضاربة في العراق بتعزيز خطاب هذا التيار. وعلي الرغم من الضربات الأمنية المتلاحقة التي تعرّض لها الاّ أنّ قابليته للحياة والاستمرار لا تزال واضحة، وهنالك عوامل عديدة تغذي وجوده وبقاءه.
التيار الليبرو اسلامي ، يبدو هو الآخر أكثر جدية في تقديم طرح جديد، مستثمراً الدور الجديد الذي يقوم به رجال الأعمال والأكاديميون السعوديون الدارسون في الخارج وحالة التقارب الواضحة بين التيار الليبرالي والخارجين من ثوب الاسلاميين والاصلاحيين الشيعة، وأظهر هذا التيار قدرة ملفتة في تجاوز مواضع الخلاف والوقوف علي الأرض المشتركة بتغليب الجانب الوطني والاصلاحي في الخطاب.
المعضلة الحقيقية تبدو لدي تيار المحافظين الجدد أو شيوخ الصحوة، فعلي الرغم أنّ هذا التيار لا يزال يحظي بقاعدة اجتماعية كبيرة، ويعتبر البعض أنه قد ورث المؤسسة الدينية الرسمية وأنّ السلطة اضطرت الي اللجوء اليه، الاّ أنّ هذا التيار يواجه أزمة حقيقية ذات أبعاد متعددة لكن جوهرها غياب وحدة الخطاب والرؤية وتشقق قيادات هذا التيار بين مواقف متباينة في قضايا مفصلية كالموقف من الشيعة داخلياً وخارجياً، ومستوي التقدم في الطرح باتجاه الليبرالية والديمقراطية، كما أنّ تحسّن علاقة رموز من التيار بالسلطة ألقي بظلاله علي جرأة التيار وقوة طرحه السياسي الداخلي، حيث لوحظ الفقر الكبير في هذا المجال في الآونة الأخيرة.
في المرحلة القادمة يبدو أنّ تيار الاصلاحيين الجدد سيتغذي علي القاعدة الاجتماعية الاسلامية المعتدلة، وسيسحب البساط من تحت أقدام المحافظين الجدد اذا استمرت حالة الجمود والتشتت الحالية لديهم، والتي ظهرت ملامحها في المسافة الفاصلة في رسالتي كل من العودة والأحمري.
ہ كاتب وباحث أردني
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fn...0&storytitlec=