هذه مقالة للدكتور حمدى شعيب نشر بموقع منارات يسجل فيها بعض من دروس السيرة :
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من غزوة بني المصطلق مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له: جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة)، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على مَن حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر: مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله. فقال: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل)، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة منكرة؟ فقال له: (أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال: (زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، قال: فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يرى أنك استلبته ملكاً.
ثم مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسَّ الأرض فوقعوا نياماً. فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث.
أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلَّغ الخبر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال مَن حضر من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فصدقه، قال زيد: فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} إلى {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ". [المنافقون1 ـ 8]، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليَّ. ثم قال: (إن الله قد صدقك).
وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له فخلى سبيله، وكان قد قال عبد الله بن عبد الله بن أبي: يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه). [الرحيق المختوم: المباركفوري]
تلك هي أحوال المسيرات العظيمة، وسنن التاريخ تتكرر معها ومعنا؛ خاصة في أيام ما بعد ثورتنا.
فما أشبه الليلة بالبارحة!؟.
تشققات، ومؤامرات داخلية، وأحقاد، ونزاعات، وحوادث طائفية، ومطالب فئوية، وشباب يحمي ويتحرك بحماسة وغيرة، وشيوخ حكماء يضبطون بوصلة الحركة، واستشاريون يدعمون قرارات القيادة.
ومواقف فاصلة تفرز معادن الرجال، وقوة انتماءاتهم للحق.
فكيف كانت السفينة تواصل سيرها لتصل إلى بر الأمان رغم هذه الأمواج والأعاصير؟!.
كيف نتعامل مع هذه التصدعات المجتمعية؟!.
أو بمعنى آخر كيف نتقي التشققات الفئوية، ونعالج الفتن الطائفية؟.
أو كيف نجيد فنون ومهارات إدارة الأزمات الفئوية والطائفية المجتمعية؟.
1- لقد حدثت هذه الفتنة في أثناء غزوة غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع في شعبان سنة 5 أو 6 هـ؛ أي بعد فترة من تأسيس المجتمع المدني واستقراره.
وهذه تعطينا رسالة؛ أن مثل هذه الحوادث ليست غريبة على أي مجتمع ولو في جيل الخيرية الأول؛ فما بالنا بأحوالنا اليوم؟. ولماذا نستغرب أن يحدث في مصرنا وبعد زخم الثورة مثل هذه الوقائع؟.
2- حدثت الشرارة بين غلامين خادمين.
وكذلك تأتي كل الأزمات الكبار من غلمان ليس في حداثة السن فقط؛ بل غلمان في السياسة، وفي الإدارة وفي التعامل مع الآخرين!؟.
لذا يجب على كل فئة أو طائفة أن تضبط وتراقب حركة غلمانها.
3- تدخل الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذا البيان السريع والمقتضب والحاسم والسريع.
وتلك هي الخطوة الأولي والحاسمة والقاصمة لأي فتنة ولحمياة بنيان المجتمع؛ وهو سرعة الحسم في وأد الفتن والأزمات؛ فالعدل البطيء ظلم!؟.
وكم من أزمات تطويها السنوات، وتشحن النفوس المظلومة، وتنخر كالسوس في المؤسسات؛ بل وتصدع الجدران المجتمعية؛ بينما القيادات مشغولة باجتماعاتها المكيفة ومناظراتها الاستعراضية أو ما يسمونها الآن (المَكْلَمَات الفضائية)!؟.
4- لقد غضب ابن سلول؛ ووجدها فرصة لبث سموم حقده للنيل من هذا المجتمع المدني الوليد؛ وذلك على اعتبار ثارات شخصية، تملأ صدره، وتحركة من الداخل؛ حتى أخرج هذه الكلمات الفاجرة علانية!؟.
لذا لا نستغرب تلك الأفواه الزاعقة المتطرفة فكرياً والموجهة بأحقاد داخلية وخارجية؛ وكأنها أبواق تتصدر الساحة الإعلامية بصوتها وبفكرها وبمالها؛ والتي لا تتعامل بحكمه ورحمة بمجتمعاتها أثناء الأزمات؛ وكأنها لا تعيش إلا في الظلام، ولا تصطاد مستمعيها ومشاهديها إلا في الماء العكر بالأزمات!.
5- من اللقطات الرائعة الموحية هي موقف الغلام زيد بن أرقم، وما حدث له.
وهكذا الدور الرائد للشباب دوماً؛ بما يتميزون به من حماسة وقوة وغيرة وإيجابية في حماية مجتمعهم، وثوراتهم ومنجزاتهم؛ حتى وإن أُضيروا، حتى وإن اتهموا في أخبارهم ومصادرها وتوثيقها.
6- كان من الفقه الرائع والراقي للحبيب صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يستشير الحكماء والرموز من أصحابه رضوان الله عليهم في كل أمر خاصة هذه الأزمة الغريبة على المجتمع الوليد.
لذا مما يثير ريبة الثوار والمصريين الآن بعد الثورة أن هناك مَن يخرج كل يوم بقرار مصيري دون شورى ودون دراية بحالة الأمة؛ خاصة تلك الفترة الحرجة، رغم ما نراه ليل نهار من (المَكْلَمات) والندوات والمؤتمرات والتي تبدو وكأنها عملية (خليهم يتسلوا)!؟.
والحل هو تفعيل عملية الشورى مع حكماء الأمة المخلصين.
7- لقد كان الحل هو الرحيل والسفر في غير الموعد المألوف، ولمدة أطول دون راحة.
وذلك حتى ينشغل الناس بأمر يبعدهم عن جلسات الجدال واللغط، أو من باب شغل الأمة بكل فئاتها بإيجاد الهدف القومي الواحد، وإعلان حالة التعبئة العامة حوله، وهذا من شأنه أن يثمر الرغبة العارمة في هذا الأمر، والانشغال به دون غيره؛ ومن هنا تتوحد الجهود فيثمر الهدف المرجو.
فدوماً تأتي الفتن من الأفراد غير المشغولين؛ كما قال (مونتجمري): الجندي الفاضي يجيد المشاغبة.
وتلك الحالة تواجهها الثورات الشعبية؛ بعد خفوت الزخم الثوري بالاتحاد حول الهدف الواحد، إلى الانشغال بالمطالب الفئوية، والمشاغل الحياتية؛ فالحل إذن هو إيجاد هدف قومي واحد يجمع فئات الأمة.
8- لقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التعامل المباشر مع رأس الفتنة ابن سلول؛ أي رفض أن يقوم بمجازاته أحد من الصحابة الكبار رضي الله عنهم.
وهو من باب كان من الذكاء السياسي، ومراعاة الرأي العام، وعدم التمسك بالسياسة التصادمية مع العرف السائد للأمة، أو من فقه الموازانات؛ حسب القاعدة الفقهية (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة).
ومهما كان الزخم الثوري للثوار؛ فلا يشفع لهم أن يكسروا هذه القواعد؛ حتى لا يفتحوا جبهات معادية، ويؤلبوا القوى المضادة فتجتمع وتتآمر ضدهم؛ فتودي بثورتهم.
9- لقد ترك شأن توقيف ومجازاة ابن سلول؛ لابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّْ.
فهذا هو الذكاء الاجتماعي؛ وذلك لمراعاة مشاعره؛ حتى لا يرى قاتل أبيه؛ فيثأر من مسلم بمنافق.
وكذلك لمنع العداوات الشخصية والثارات بين أفراد المجتمع الوليد.
وكذلك من الحكمة أن نترك لكل فئة تحاسب أفرادها من خلال حكمائها، أو من خلال الجهة القضائية المخولة بمحاسبته دون تدخل من القيادة.
وانتهت الفتنة دون خسائر في نسيج المجتمع، ودخل الحبيب صلى الله عليه وسلم المدينة معززاً مكرماً، وأذن بدخول هذا الذليل رأس النفاق ابن سلول؛ والذي انكشف، وانكسر فلم تقم له قائمة علنية.
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من غزوة بني المصطلق مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له: جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة)، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على مَن حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر: مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله. فقال: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل)، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة منكرة؟ فقال له: (أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال: (زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، قال: فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يرى أنك استلبته ملكاً.
ثم مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسَّ الأرض فوقعوا نياماً. فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث.
أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلَّغ الخبر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال مَن حضر من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فصدقه، قال زيد: فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} إلى {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ". [المنافقون1 ـ 8]، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليَّ. ثم قال: (إن الله قد صدقك).
وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له فخلى سبيله، وكان قد قال عبد الله بن عبد الله بن أبي: يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه). [الرحيق المختوم: المباركفوري]
تلك هي أحوال المسيرات العظيمة، وسنن التاريخ تتكرر معها ومعنا؛ خاصة في أيام ما بعد ثورتنا.
فما أشبه الليلة بالبارحة!؟.
تشققات، ومؤامرات داخلية، وأحقاد، ونزاعات، وحوادث طائفية، ومطالب فئوية، وشباب يحمي ويتحرك بحماسة وغيرة، وشيوخ حكماء يضبطون بوصلة الحركة، واستشاريون يدعمون قرارات القيادة.
ومواقف فاصلة تفرز معادن الرجال، وقوة انتماءاتهم للحق.
فكيف كانت السفينة تواصل سيرها لتصل إلى بر الأمان رغم هذه الأمواج والأعاصير؟!.
كيف نتعامل مع هذه التصدعات المجتمعية؟!.
أو بمعنى آخر كيف نتقي التشققات الفئوية، ونعالج الفتن الطائفية؟.
أو كيف نجيد فنون ومهارات إدارة الأزمات الفئوية والطائفية المجتمعية؟.
1- لقد حدثت هذه الفتنة في أثناء غزوة غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع في شعبان سنة 5 أو 6 هـ؛ أي بعد فترة من تأسيس المجتمع المدني واستقراره.
وهذه تعطينا رسالة؛ أن مثل هذه الحوادث ليست غريبة على أي مجتمع ولو في جيل الخيرية الأول؛ فما بالنا بأحوالنا اليوم؟. ولماذا نستغرب أن يحدث في مصرنا وبعد زخم الثورة مثل هذه الوقائع؟.
2- حدثت الشرارة بين غلامين خادمين.
وكذلك تأتي كل الأزمات الكبار من غلمان ليس في حداثة السن فقط؛ بل غلمان في السياسة، وفي الإدارة وفي التعامل مع الآخرين!؟.
لذا يجب على كل فئة أو طائفة أن تضبط وتراقب حركة غلمانها.
3- تدخل الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذا البيان السريع والمقتضب والحاسم والسريع.
وتلك هي الخطوة الأولي والحاسمة والقاصمة لأي فتنة ولحمياة بنيان المجتمع؛ وهو سرعة الحسم في وأد الفتن والأزمات؛ فالعدل البطيء ظلم!؟.
وكم من أزمات تطويها السنوات، وتشحن النفوس المظلومة، وتنخر كالسوس في المؤسسات؛ بل وتصدع الجدران المجتمعية؛ بينما القيادات مشغولة باجتماعاتها المكيفة ومناظراتها الاستعراضية أو ما يسمونها الآن (المَكْلَمَات الفضائية)!؟.
4- لقد غضب ابن سلول؛ ووجدها فرصة لبث سموم حقده للنيل من هذا المجتمع المدني الوليد؛ وذلك على اعتبار ثارات شخصية، تملأ صدره، وتحركة من الداخل؛ حتى أخرج هذه الكلمات الفاجرة علانية!؟.
لذا لا نستغرب تلك الأفواه الزاعقة المتطرفة فكرياً والموجهة بأحقاد داخلية وخارجية؛ وكأنها أبواق تتصدر الساحة الإعلامية بصوتها وبفكرها وبمالها؛ والتي لا تتعامل بحكمه ورحمة بمجتمعاتها أثناء الأزمات؛ وكأنها لا تعيش إلا في الظلام، ولا تصطاد مستمعيها ومشاهديها إلا في الماء العكر بالأزمات!.
5- من اللقطات الرائعة الموحية هي موقف الغلام زيد بن أرقم، وما حدث له.
وهكذا الدور الرائد للشباب دوماً؛ بما يتميزون به من حماسة وقوة وغيرة وإيجابية في حماية مجتمعهم، وثوراتهم ومنجزاتهم؛ حتى وإن أُضيروا، حتى وإن اتهموا في أخبارهم ومصادرها وتوثيقها.
6- كان من الفقه الرائع والراقي للحبيب صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يستشير الحكماء والرموز من أصحابه رضوان الله عليهم في كل أمر خاصة هذه الأزمة الغريبة على المجتمع الوليد.
لذا مما يثير ريبة الثوار والمصريين الآن بعد الثورة أن هناك مَن يخرج كل يوم بقرار مصيري دون شورى ودون دراية بحالة الأمة؛ خاصة تلك الفترة الحرجة، رغم ما نراه ليل نهار من (المَكْلَمات) والندوات والمؤتمرات والتي تبدو وكأنها عملية (خليهم يتسلوا)!؟.
والحل هو تفعيل عملية الشورى مع حكماء الأمة المخلصين.
7- لقد كان الحل هو الرحيل والسفر في غير الموعد المألوف، ولمدة أطول دون راحة.
وذلك حتى ينشغل الناس بأمر يبعدهم عن جلسات الجدال واللغط، أو من باب شغل الأمة بكل فئاتها بإيجاد الهدف القومي الواحد، وإعلان حالة التعبئة العامة حوله، وهذا من شأنه أن يثمر الرغبة العارمة في هذا الأمر، والانشغال به دون غيره؛ ومن هنا تتوحد الجهود فيثمر الهدف المرجو.
فدوماً تأتي الفتن من الأفراد غير المشغولين؛ كما قال (مونتجمري): الجندي الفاضي يجيد المشاغبة.
وتلك الحالة تواجهها الثورات الشعبية؛ بعد خفوت الزخم الثوري بالاتحاد حول الهدف الواحد، إلى الانشغال بالمطالب الفئوية، والمشاغل الحياتية؛ فالحل إذن هو إيجاد هدف قومي واحد يجمع فئات الأمة.
8- لقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التعامل المباشر مع رأس الفتنة ابن سلول؛ أي رفض أن يقوم بمجازاته أحد من الصحابة الكبار رضي الله عنهم.
وهو من باب كان من الذكاء السياسي، ومراعاة الرأي العام، وعدم التمسك بالسياسة التصادمية مع العرف السائد للأمة، أو من فقه الموازانات؛ حسب القاعدة الفقهية (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة).
ومهما كان الزخم الثوري للثوار؛ فلا يشفع لهم أن يكسروا هذه القواعد؛ حتى لا يفتحوا جبهات معادية، ويؤلبوا القوى المضادة فتجتمع وتتآمر ضدهم؛ فتودي بثورتهم.
9- لقد ترك شأن توقيف ومجازاة ابن سلول؛ لابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّْ.
فهذا هو الذكاء الاجتماعي؛ وذلك لمراعاة مشاعره؛ حتى لا يرى قاتل أبيه؛ فيثأر من مسلم بمنافق.
وكذلك لمنع العداوات الشخصية والثارات بين أفراد المجتمع الوليد.
وكذلك من الحكمة أن نترك لكل فئة تحاسب أفرادها من خلال حكمائها، أو من خلال الجهة القضائية المخولة بمحاسبته دون تدخل من القيادة.
وانتهت الفتنة دون خسائر في نسيج المجتمع، ودخل الحبيب صلى الله عليه وسلم المدينة معززاً مكرماً، وأذن بدخول هذا الذليل رأس النفاق ابن سلول؛ والذي انكشف، وانكسر فلم تقم له قائمة علنية.