الدعوة الاسلامية في العهد المكي
مقياس صدر الاسلام : السنة الثانية تاريخ
ولادة الرسول (صلى الله عليه وسلم) :
أولاً: مكان ولادته صلى الله عليه وسلم
ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة على القول الصحيح الذي عليه الجمهور، واختُلف في مكانه من مكة على أقوال:
أحدها: في الدار التي في الزقاق المعروف بزقاق المولد في شعب مشهور بشعب بني هاشم – وكانت بيد عقيل-.
قال ابن الأثير -رحمه الله تعالى-: قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهبها عقيل بن أبي طالب فلم تزل بيده حتى توفي عنها، فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل: إن عقيل باعها بعد الهجرة تبعاً لقريش حين باعوا دور المهاجرين.
الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم- ولد في شعب بني هاشم، حكاه الزبير.
الثالث: أنه ولد - صلى الله عليه وسلم- بالرَّدم.
الرابع: بعسفان(1).
قال الدكتور محمد أبو شهبة: وقد صارت هذا الدار إلى محمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج، ذلك أن ابن عقيل بن أبي طالب باع دور من هاجر من بني هاشم ومنها هذه الدار، وقد أدخلها محمد بن يوسف هذا في داره التي يقال لها: البيضاء، ولم تزل كذلك حتى حجت الخيزران أم الرشيد، فأفردت ذلك البيت وجعلته مسجداً، وقيل: إن التي بنته هي السيدة زبيدة زوجته حين حجَّت وقد بقى هذا المسجد حتى هدم أخيراً(2).
ثانياً: زمان ولادته صلى الله عليه وسلم
لما أخذت أشهر الحمل بالسيدة الشريفة آمنة بنت وهب تتقدم وهي تترقب الوليد الذي حملته في بطنها تسعة أشهر، ولما بلغ الكتاب أجله، وبعد تسعة أشهر أذن الله للنور أن يسطع وللجنين المستكن أن يظهر إلى الوجود، وللنسمة المباركة أن تخرج إلى الكون، لتؤدي أسمى وأعظم رسالة عرفتها الدنيا في عمرها الطويل.
قال الإمام الشامي: الصواب أنه - صلى الله عليه وسلم- ولد يوم الاثنين. روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن يوم الاثنين فقال: (ذاك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه).
وروى يعقوب بن سفيان عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين(3).
وروى الزبير بن بكار وابن عساكر عن معروف بن حزّبوذ - رحمه الله تعالى- قال: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين حين طلع الفجر.
وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في المورد: الصواب أنه - صلى الله عليه وسلم- ولد في النهار وهو الذي ذكره أهل السير. وحديث أبي قتادة مصرح به.
وعن سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى- قال: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عند إبهار النهار وجزم به ابن دحية وصححه الزركشي في شرح البردة(4).
ومن قال: كذلك أنه ولد يوم الاثنين ابن إسحاق وابن كثير وابن القيم وغيرهم كثير، والحق معهم للحديث السابق.
أما عن الشهر الذي ولد فيه وتاريخ هذا اليوم فقد اختلف فيه العلماء، فقال ابن إسحاق: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول، عام الفيل(5).
وقال ابن كثير: ولد -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وقيل ثامنة، وقيل عاشرة، وقيل: لثنتي عشرة منه، وقال الزبير بن بكار ولد في رمضان وهو شاذ حكاه السهيلي في "الروض"(6). وقيل في التاسع من شهر ربيع الأول(7).
أما العام: فقال ابن إسحاق - رحمه الله تعالى-: عام الفيل، قال ابن كثير وهو المشهور عند الجمهور، وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري: وهو الذي لا يشك فيه أحد من العلماء، وحكاه خليفة بن الخياط وابن الجزَّار وابن دحية وابن الجوزي وابن القيم وغيرهم إجماعاً(
.
وروى البيهقي والحاكم، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوم الفيل. يعني عام الفيل(9).
وروى ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقي عن المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قال: ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- عام الفيل كنا لِدَيْنِ(10).
وسأل عثمان بن عفان قياث بن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قياث أنت أكبر أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكبر مني، وأنا أسن منه!! ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عام الفيل ووقفت بي أمي على خذق الفيل أخضر مُحِيلا(11).
وعلى هذا فقيل: بعد الفيل بخمسين يوماً. قال ابن كثير وهو أشهر، وصححه المسعودي والسهيلي. وزاد أنه الأشهر والأكثر وقيل: بزيادة خمس. وقيل: بزيادة ثمان.
وروى ابن مسعود ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر -رحمه الله تعالى- قال: كان قدوم أصحاب الفيل في النصف من المحرم ومولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعده بخمس وخمسين ليلة.
وصحح الحافظ الدمياطي هذا القول.
وقيل بأربعين يوماً. وقيل بشهر وستة أيام، وقيل بعشر سنين، وقيل بثلاثين عاماً. وقيل بأربعين عاماً. وقيل بسبعين عاماً(12).
وكان مولده -صلى الله عليه وسلم- لأربعين خلت من ملك كسرى أنو شروان، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر أبريل سنة 571 وقيل: 570(13).
ومن هنا نأتي على القول بأنه ولد في يوم الاثنين في شهر ربيع الأول لأول عام من حادثة الفيل هذا هو القول الذي عليه أغلب العلماء.
وروى ابن سعد أن أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قالت: لما ولدته خرج مني نور أضاءت له قصور الشام(14).
وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت روى ذلك البيهقي(15).
قال الشيخ الألباني – رحمه الله- في كتابه : "صحيح السيرة النبوية" (14) ما نصه : " ذكر ارتجاس الإيوان وسقوط الشرفات وخمود النيران ورؤيا الموبذان وغير ذلك من الدلالات و ليس فيه شيء".
قلت: ومراده –رحمه الله – أنه لم يرد فيه شيء صحيح.
ويقول الدكتور أكرم ضياء العمري – حفظه الله – في كتابه القيم: "السيرة النبوية الصحيحة" (1/98-101) ما نصه: "... وكذلك وردت روايات موضوعة حول هواتف الجان في ليلة مولده وتبشيرها به، وانتكاس بعض الأصنام في المعابد الوثنية بمكة. وحول ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط شرفاته، وخمود نيران المجوس، وغَيض بحيرة ساوة، ورؤيا الموبذان الخيل العربية تقطع دجلة، وتنتشر في بلاد الفرس. كذلك وردت روايات ضعيفة عن إخبار يهود بليلة مولده، وإخبار الراهب عيصا بمر الظهران بمولده. وقول العباس عمه إنه رآه في المهد يُناغي القمر. ولكن ثمة أخباراً تَقوى ببعضها إلى الحسن احتفَّت بمولده منها ما يفيد أن آمنة رأت حين وضعته نوراً خرج منها أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام." اهـ
ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشراً ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد(16).
هذا ما كان في مولده -صلى الله عليه وسلم-، جعلنا الله من المتبعين لسنته، المهتدين بهديه، المقتفين أثره، إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين.
مقدمة حول نشأته (صلى الله عليه وسلم)
في مكة / قبل النبوة
إن الله سبحانه – يصطفي من عباده ما يشاء ويختار، وقد اختار الله لإنقاذ البشرية خليله وحبيبه محمداً (صلى الله عليه وسلم) ، وقد تم اختيار الله لمحمد من قبل خلق آدم، ولكن الله أظهر للوجود ، وجعله خاتم رسله وأنبيائه فلا نبي بعده.
وقد أحاط الله نبيه ورعاه وحماه منذ ولادته، فإنه في يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، وقيل لثمانية، وقيل لعشرة، وقيل لثنتي عشرة وعليه الأكثر، وذلك عام الفيل ظهرت تباشير الصباح وولد المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم، وهي التي سميت بعد ذلك بدار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف، وهي الآن مكتبة عامة.
وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية أمة أبيه، وأول من أرضعته ثويبة أمة عمه أبي لهب.
ثم استُرضع (صلى الله عليه وسلم) في بني سعد بن بكر، وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ليكون أنجب للولد، وكانوا يقولون إن المُربَّى في المدينة يكون كليل الذهن، فاتر العزيمة، فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالاً يرضعنهم فكان الرضيع المحمود المبارك من نصيب حليمة السعدية.
وحصل له ( صلى الله عليه وسلم) وهو في بادية بني سعد بن بكر حادثة شق الصدر، فقد روى مسلم عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) أتاه جبريل - عليه السلام- وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة ، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس (رضي الله عنه) : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره، ثم أشفقت عليه مرضعته فأعادته إلى أمه، وتوجهت به أمه إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق، فماتت بالأبواء ، ودفنت هناك. وكأن الله يقول: هذا الغلام لا يؤثر عليه أبوه، وأمه بنوع من التربية، والله (عز وجل) سيتولى تربيته وتهذيبه.
والأكثر على أن وفاة أمه آمنة كان وله (صلى الله عليه وسلم) من العمر ست سنوات، فحضنته أم أيمن، وكفله جده عبد المطلب، ورقَّ له رقة لم تُعهد له في ولد. روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال: ثم توفيت أمه فيتم في حجر جده فكان – وهو غلام - يأتي وسادة جده فيجلس عليها، فيخرج جده، فتقول الجارية التي تقوده: أنزل عن وسادة جدك، فيقول عبد المطلب: دعي ابني فإنه يُحس بخير، ثم توفي جده ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) غلام (1).
وتُوفي عبد المطلب وكان عمر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ثماني سنوات، فكفله شقيقُ أبيه أبو طالب، وكان به رحيماً، وكان مُقلاً في الرزق، فعمل النبيّ (صلى الله عليه وسلم) برعي الغنم مساعدةً منه لعمه، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه ) عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم). فقال أصحابه: وأنت؟، فقال: (نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)(2).
وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: كنَّا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمرّ الظهران نجني الكباث، فقال: (عليكم بالأسود منه فأنه أطيب). فقيل: أكنت ترعى الغنم؟ قال: (نعم وهل من نبي إلا رعاها)3 . ثم اشتغل (صلى الله عليه وسلم) بالتجارة، روى عبد الرزاق في المصنف عن معمر عن الزهري في سرده للسيرة قال: فلما استوى وبلغ أشده ، وليس له كثير مال استأجرته خديجة ابنة خويلد إلى سوق حباشة، وهو سوق بتهامة، واستأجرت معه رجلاً آخر من قريش، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يحدث عنها: (ما رأيت من صاحبة أجيرٍ خيراً من خديجة)(4). وهذه نبذه قصيرة عن مولده وكيفية تنشئته – عليه الصلاة والسلام - وأعماله التي قام بها في نشأته، وقبل بعثته. وسوف يأتيك - أخي القارئ - ذلك كله مفصلاً- إن شاء الله - .
مكانة النبيّ - صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وبعض أعماله
كانت حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة حياة فاضلة شريفة، لم تعرف له فيها هفوة، ولم تُحصَ عليه فيها زلّة، لقد شبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحوطه الله - سبحانه وتعالى - بعنايته، ويحفظه من أقذار الجاهلية، لما يريده له من كرامته ورسالته، حتى صار أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزهاً وتكرماً حتى صار معروفاً (بالأمين).
لقد نشأ سليم العقيدة، صادق الإيمان، عميق التفكير، غير خاضع لترهات الجاهلية، فما عُرف عنه أنه سجد لصنم، أو تمسح به، أو ذهب إلى عرّاف أو كاهن، بل بُغِّضت إليه عبادة الأصنام، والتمسح بها.وكذلك بُغِّض إليه قول الشعر فلم يعرف عنه أنه قال شعراً، أو أنشأ قصيدة، أو حاول ذلك؛ لأن ذلك لا يتلاءم مع مقام النبوة، فالشعر شيء والنبوة شيء آخر.ولم يكن الشعراء بذوي الأخلاق، والسير المرضية، فلا عجب أن نزهه الله سبحانه عن الشر، والرسالة تقتضي انطلاقاً في الأسلوب والتعبير، والشعر تقيد والتزام.وصدق الله حيث يقول: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) سورة يــس.
ومع هذا فقد كان يتذوق ما في الشعر من جمال وحكمة وروعة، ويستنشده أصحابه أحياناً، ولا عجب فهو القائل: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة)(1).
ولم يشرب خمراً قط، ولا اقترف فاحشة، ولا انغمس فيما كان ينغمس فيه المجتمع العربي حينئذ من اللهو، واللعب، والميسر (القمار)، ومصاحبة الأشرار، ومعاشرة القيان، والجري وراء القيد الكواعب2 على ما كان عليه من فتوة، وشباب، وشرف نسب، وعزة قبيلة، وكمال، وجمال وغيرها من وسائل الإغراء.
لهذه الصفات والمميزات كانت المكانة الرفيعة له بين قومه، فكان يُدعى بالصادق الأمين، فهو صدوق عند قومه، وهو الأمين، فكان محل ثقة الناس وأماناتهم، لا يأتمنه أحد على وديعة من الودائع إلا أدّاها له، فكانت قريش لا تضع أمانتها إلا عنده لما سُمع من أمانته وصدقه، ولا يأتمنه أحد على سر أو كلام إلا وجده عند حس الظن به، فلا عجب أن كان معروفاً في قريش قبل النبوة (بالأمين)(3).
لما شاهدوا من طهارته وصدق حديثه، وأمانته حتى إنه لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره فوصولا إلى موضع الحجر الأسود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه، فقالت كل قبيلة: نحن نضعه، ثم اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: جاء الأمين، فرضوا به، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ثم أخذ(4). الحجر فوضعه موضعه - صلى الله عليه وسلم- ). ثم طفق لا يزداد فيهم على السِّنِّ إلاّ رضاً، حتى سموه الأمين، قبل أن ينزل عليه الوحي. قال: وطفقوا لا ينحرون جزوراً للبيع إلا دعوه ليدعو لهم فيها. وهذا يدل دلالة واضحة أنه - عليه الصلاة والسلام- بلغت مكانته درجة رفيعة عند قومه وعشيرته، وهذا شيء اختاره الله - عز وجل - لكي يمهد لرسالته.
أعماله - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة:
لقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته بأعمال عدة، وذلك ليعلمنا الجد والعمل، وخدمة النفس، وأن أفضل ما أكل ابن آدم من عمل يديه، وأنه لا ينبغي الاعتماد على الغير، بل ينبغي الجد والعمل لخدمة النفس، وأن ذلك مما يؤجر عليه الإنسان عن هو أصلح نيته، كما أنه لابد من التحلي بالأخلاق الرفيعة كالتواضع، والصدق والأمانة ، وغير ذلك من الأخلاق النبيلة، ومن هذه الأعمال التي قام بها النبي قبل البعثة ما يلي:
أولاً: رعيه - صلى الله عليه وسلم – للغنم:
قال ابن إسحاق: وحدثني ثور بن يزيد، عن بعض أهل العلم، ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعيّ: أن نفراً من أصحابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟ قال: (نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمّي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام، واستُرضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بَهْماً لنا إذا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بَطست من ذهب مملوءة ثلجاً، ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي، فشقاه و استخرجا منه علقة سوداء فطرحاها. ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم زنه بمئة من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم. ثم قال: زنه بألفٍ من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم. فقال: دعه عنك، فوا الله لو وزنته بأمته لوزنها)(5).
رعيه - صلى الله عليه وسلم- للغنم وافتخاره بقُرَشيَّته:
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم)، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: (وأنا). وإنما أراد ابن إسحاق بهذا الحديث رعايته الغنم في بني سعد مع أخيه من الرضاعة، وقد ثبت في الصحيح أنه رعاها بمكة أيضاً على قراريط لأهل مكة. الروض 1/192. (6)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم- قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم). فقال أصحابه: وأنت؟ قال: (نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)7.
ورث سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- عن أبيه خمسة من الإبل، وقطيعاً من الغنم، وجارية هي أم أيمن (أعتقها الرسول فيما بعد)، وزوجها مولاه زيد بن حارثة فولدت له أسامة.
فائدة: وتلك ثروة – في عرف زمانها - ضئيلة، إلا أن الله - تعالى - هيأ له الأسباب ، وعمل سيدنا محمد في رعي الغنم، فقد رعاها وهو صبي في بني سعد، ورعاها وهو شاب في مكة، وكان يذكر ذلك مغتبطاً ، فالعمل شرف، واكتساب الرزق فريضة.. وفي رواية البخاري قال - عليه الصلاة والسلام-: (ما بعث الله نبياً إلا وقد رعى الغنم). فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: (وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط) والقراريط: من أجزاء الدراهم والدنانير.
تعليق: ولعل لله حكمة في رعي النبيّ للغنم، فالرعي يكسب صاحبه يقظة حتى لا يعدوا الذئب على شاة منها ويجعله حريصاً على المصلحة، صابراً على المشاق، مثابراً على الهدف كي يوفر لغنمه مآكلها ومشاربها..
ثم إن الرعي بعد ذلك يدع للراعي فرصة للتأمل في مظاهر الطبيعة ، ونظام الكون حين يجلس في امتداد الصحراء يلحظ غنمه... والمتتبع لتاريخ الأنبياء يجد أن للغنم دوراً في هذا التاريخ... فإسماعيل - عليه السلام - ترتبط قصة حياته بكبش أنزله الله فداءً له وتصديقاً لرؤيا أبيه.. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * ... إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* سورة الصافات(103)- (107).
وموسى - عليه السلام- وهو في الوادي المقدس ، حال المفاجأة الكبرى، جرى هذا الحوار: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى* سورة طـه(18).
ولما ائتمر القوم بموسى وتوجه تلقاء مدين وقعت أحداث كان للغنم فيها نصيب، فقد سقى للمرأتين ثم دعي إلى بيت أبيهما الشيخ الكبير، وانتهى الأمر بالزواج من إحداهما، وظل مع أبيها عشر سنين يرعى له الغنم: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌسورة القصص(26)(27)(28).
وداود - عليه السلام - تسور عليه الخصمان مكان عبادته ليحكم بينهما في شركة لأحدهما تسع وتسعون نعجة، وللأخر نعجة واحدة، وأراد صاحب النصيب الكبير أن يستأثر بالشركة كلها لنفسه، فحكم داود وعدل، وبين عبرة الحياة: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ... سورة ص(24). وأشار القرآن إلى قصة نزاع بسبب الغنم تحاكم فيها أصحابها إلى داود وسليمان - عليهما السلام - فحكم سليمان وهو صغير بحكم غير حكم أبيه، وكان حكم سليمان أرفق: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَسورة الأنبياء(78) (79). وقال أكثر أهل العلم: إن الحرث الذي حكم فيه سليمان وداود – إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ – بستان عنب، والنفش: رعي الغنم ليلاً خاصة. وقيل : كان الحرث المذكور زرعاً. وذكروا أن داود حكم بدفع الغنم لأهل الحرث عوضاً عن حرثهم الذي نفشت فيه فأكلته.
وقال بعض أهل العلم: اعتبر قيمة الحرث فوجد الغنم بقدر القيمة فدفعها إلى أصحاب الحرث، إما لأنه لم يكن لهم دراهم أو تعذر بيعها، ورضوا بدفعها، ورضي أولئك بأخذها بدلاً من القيمة.
وأما سليمان فحكم بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان حين نفشت فيه غنمهم، ولم يضيع عليهم غلته من حيث الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى أصحاب البستان ما شية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم ، وقد اعتبر النماءين فوجدهما سواء.. قالوا: وهذا هو العلم الذي خصة الله به وأثنى عليه بإدراكه .. هكذا يقولون - والله تعالى أعلم- 8.
لقد كان للرعي دور أساسي في التاريخ الإنساني، ولا زال للأنعام ارتباطها الوثيق بحياة الإنسان ... وصدق الله حيث يقول: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ سورة يــس(71 - 73). والأنبياء ما هم إلا بشر يعيشون مجتمعهم بكل معالمه الإنسانية، ولعل في رعي الغنم توطئة لرعي الخلق وسياستهم...9.
وفي رعي الغنم من الفوائد ما يعجز الإنسان عن تحصيلها من غير هذا العمل، وقد يرى كثير من الناس أنه- صلى الله عليه وسلم - رعاها كعادة قومه، ولم يكن يبتغي من وراء ذلك إلا الكسب الذي يستطيع به مواجهة متطلبات الحياة فقد كان عمه فقيرا ذا عيال، وهو فوق ذلك سيد قومه، وكان للسيادة حينئذ من التكاليف ما يعجز الثرى المليء.
لم تكن السيادة يومئذ بابا واسعا من أبواب الرزق كما هي الآن، ولكنها كانت عبئا ثقيلا تنوء به كواهل الرجال، حيث كان السيد يتحمل استضافة القادمين، وغرم الغارمين، وتبعات أفراد القبيلة إلى غير ذلك مما كان يقوم به سيد القوم، وهو يشعر أنه يؤدي واجبا عليه لا ينتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً. يقول أصحاب هذه النظرة القصيرة المادية: إن محمداً رعى الغنم ليساعد عمه الفقير، وليعينه على تكاليف الحياة الباهظة، وليرد جميلا أسداه إليه حين كان عاجزاً عن الكسب غير قادر على إعالة نفسه. وليس في ذلك عيب لو اقتصر عمله على تلك الغاية؛ لأن فيها من الوفاء وحسن المعاشرة، وحفظ الجميل ما يجعل فاعله عظيما في أعين الناس.
ولكنا مع ذلك نقول لم يكن أمر رعيه الغنم – صلى الله عليه وسلم – قاصرا على إرادة الكسب ومساعدة عمه، بل كان من وراء ذلك مقاصد عظيمة، وفوائد جليلة لا يدركها أصحاب النظر القاصر، لأنها أمور تدق عن الإدراك إلا لذوي البصائر والألباب، أذكر منها :
1. يقظة الراعي: إن الراعي يجب أن يكون يقظا واعيا مدركا لما حوله، وذلك لأن الغنم كثيرة الجري سريعة الحركة، شديدة النفور، فإذا غفل عنها راعيها تفلتت منه، وصعب عليه جمعها وردها إلى مرعاها، وتكون بعد ذلك عرضة لا فتراس الضواري من السباع، ومهددة بالفناء والضياع. وهذه الصفة ليست موجودة في كثير من الناس، وكثير من الناس يغادرون الحياة دون أن يتصفوا بها، فأما الذين يمارسون رعي الغنم، ويخرجون معها في الصباح ينتجعون أماكن الرعي، ويعودون بها آخر النهار ممتلئة موفورة، كاملة غير منقوصة، فهؤلاء يكتسبون تلك الصفة بالممارسة حين يفقدونها بالفطرة والوراثة.
2. حرصه على رعيته: ومحافظة الراعي على رعيته، وحرصه على سلامتها أمر تحتمه عليه هذه الوظيفة، إذ لوكان مهملا، أو متهاونا لأدى ذلك إلى أوخم العواقب، حيث تتعرض لها الذئاب فلا تجد من يدفعه، وتفترسها الوحوش وهو غافل عنها. وأما الراعي الحاذق فهو الذي يتفقد غنمه، ويجمعها كلما تفرقت وإذا شذت منها واحدة ردها إلى الجماعة، فهو لا يهدأ له بال، ولا تغمض له عين ما دامت غنمه تسرح هنا وهناك، وأن حرصه ليدفعه لأن يدفع عنها كل معتد، ويحفظها من التعرض للمهالك حتى يعود بها سالمة من كل سوء.
3. حسن السياسة: وتلك من أهم الصفات التي يستفيدها الراعي من وظيفته؛ لأن رعي الغنم يحتاج إلى سعة الصدر وحسن الحيلة، وطول البال، وإذا فقد الراعي شيئا من ذلك ضاق بغنمه فنقرها، أو ضاقت هي بها فنفرت منه، ويرجع آخر النهار وقد فقد الكثير من رعيته إن لم يكن فقدها كلها. ومن حسن سياستها أن يرتاد بها المراعي الخصبة، وألا يدع واحدة منها ترجع دون أن تأخذ كفايتها من الرعي، وألا يترك بعضها يعتدي على بعض، فتنطح القرناء منها الجماء، وتحول بينها وبين الأكل والشرب فتهزل، ثم تتعرض للهلاك.
4. الأمانة: ومن أعظم صفات الراعي الأمانة؛ لأنه مؤتمن على ما تحت يده، فإذا لم يكن أمينا عرض رعيته لكثير من المفاسد، وهذه الصفة هي جماع ما تقدم من الصفات، فهي التي تجعل الراعي يقظا حتى يؤدي الأمانة كما استلمها، وهي التي تجعله حريصا عليها؛ لأن فقد شيء منها تعمدا خيانة، وهي التي تدفعه لحسن سياستها؛ لأنه إذا لم يرعها الخصب من المراعي، ويحافظ على كيانها يكون قد خان الأمانة. زد على ذلك أنه يستطيع أن يبيع منها ويدعي أنها فقدت، ويحلب لبنها لنفسه ويحرم أولادها منه إلى غير ذلك مما يسد حياة الغنم، ويضيع الفائدة على صاحبها. ونحن إذا نظرنا إلى هذه الصفات وجدناها ضرورية لكل من يقوم بهذا العمل، وإذا كانت تلك الصفات ضرورية فيمن يرعى الغنم، أفلا يكون من يرعى الناس ويقوم على أمورهم أشد حاجة إليها ممن يرعى الغنم؟؟. أعتقد أنه لا يختلف اثنان في ذلك، ولهذا أراد الله – عزوجل – لرسله أن يرعوا الغنم قبل البعثة لتتأصل فيهم هذه الصفات، وليتدربوا عمليا عليها، وليقودوا أممهم على أساسها قيادة رشيدة. ولقد رأينا هذه الصفات واضحة جلية في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكان يقظا لما يفعله أصحابه لا يرى مخالفة ويسكت عنها، وكان يتفقد أصحابه إذا غابوا، ويطمئن عليهم إذا حضروا، ويعودهم إذا مرضوا.
كذلك كان حريصا عليهم، وما أعظم وصف الله – سبحانه – له بقوله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ سورة التوبة(128). وفي حديثه – صلى الله عليه وسلم – ما يصور لنا هذا الحرص أروع تصوير حيث يقول: (مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش، وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال: فذلك مثلي ومثلكم , أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقحمون فيها)10. كما كان – صلى الله عليه وسلم – يسوس أمته سياسة حكيمة رشيدة، فكان يدلها على الخير، ويبعدها عن الشر، ويرتاد بهم مناهل البر، فيأخذ بأيديهم إلى المعالي، ويعينهم على طاعة الله، ولم يترك – صلى الله عليه وسلم – شيئا مما ينفعهم إلا دلهم عليه، ولم يترك شيئا مما يضر بهم إلا حذرهم منه فكان كما قال الله - تعالى - : بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ التوبة(128).وبهذا نعلم أن رعيه – صلى الله عليه وسلم – الغنم لم يكن فقط للتكسب ، وجلب الرزق، وإنما كان إلى جوار ذلك وسيلة للتربية والتدريب على رعاية أمة أراد لها الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس11.
ثانياً: عمله - صلى الله عليه وسلم- بالتجارة:
كانت خديجة - رضي الله عنها - سيدة تاجرة ذات شرف، ومال، وتجارة تبعث بها إلى الشام، وكانت تستأجر الرجال، وتدفع إليهم المال مضاربة12 ، وكان رجال قريش تُجاراً، ومن لم يكن تاجراً فليس عندهم بشيء.
وكان النبيّ قد ناهز العشرين من عمره المبارك، وأصبح شاباً جلداً قوياً، أغر الطالع ، ميمون النقية، يزين شبابه الغض ما يتمتع به من حلو الشمائل، وكرم الأخلاق من أمانة، وصدق حديث، وعفة، وعزوف عما ينغمس فيه أمثاله من الشباب من لهو ومجون، فكان ذلك مما وجَّه نفس السيدة خديجة إلى أن يعمل لها في تجارتها، فأرسلت إليه، فلما جاء إليها قالت له: دعاني إلى طلبك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك، فذكر ذلك لعمه أبي طالب، فقال له: إن هذا لرزق ساقه الله إليك. وفي رواية أخرى : أن أبا طالب هو الذي عرض على النبيّ أن يعمل لها في تجارتها، وأنها – ولا شك - ستفضله على غيره، وأن أبا طالب هو الذي سعى إليها، وقال لها: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمداً؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلاناً ببكرين، ولن نرضى لمحمد إلا بأربعة أبكار، فقالت: هذه الكلمة تنم عن تقدير صادق، وحس مرهف، وشعور يفيض بالحب والحنان. لو طلبت هذا لبغيض بعيد لأجبتك، فكيف، وقد طلبته لحبيب قريب!! فرجع الشيخ أبو طالب مغتبطاً، وحدّث ابن أخيه بما سمع، ولا تَسَلْ عما كان لهذه الكلمات الصادقة من أثر في نفس النبيّ الشاب13. ثم خرج النبيّ بتجارة خديجة إلى الشام وكانت سَّنه تخطو إلى الخامسة والعشرين، وكان خروجه لأربع عشرة ليلة من ذي الحجة ومعه غلام خديجة (مَيْسَرة، حتى وصل سوق (بصرى) وفي رواية، سوق حباشة (سوق من أسواق العرب) وفي رواية أخرى بتهامة فنزل تحت ظل شجرة في سوق (بصرى) قريباً من صومعة راهب يسمى (نطورا) فقال: ما ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال: رجل من قريش أهل الحرم، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة، وفي رواية بعد عيسى- إلا نبيّ!!. ولا تَسَل عما غمر نفس ميسرة من حب، وتقدير لسيده محمد لقد رأى تظليل الغمام له في مسيره هذا، ولمس عن كثب الكثير من أخلاقه، وبره، وعطفه، وحسن معاملته وأمانته، وسمع من(نطورا) ما سمع، فلا عجب إن كان حّدث سيدته بعد عودته بما رأى وما سمع، وما وجده منه من حسن خلق. وباع النبيّ التجارة وابتاع، وعاد بربح وفير، وعاد معه غلام خديجة، ووصل الركب في الظهيرة إلى مكة، وخديجة في عليّة لها، فرأت النبيّ تكسوه المهابة والجلال، فلما دخل عليها أخبرها بخبر التجارة وما ربحت، فسرت لذلك سروراً عظيماً، وخرج النبي، وترك ميسرة يقص على سيدته من شأن سيده محمد ما شاءت نفسه أن يقص(14).