بحث حول سقراط
خطة البحث
مقدمة
المبحث الأول : نبــــــــــــــــــــذة عن سقـــــــــــراط
v المطلب الأول : حيـــــــــــــــــــــــــاته
v المطلب الثاني : فلسفتـــــــــــــــــــــــه
المبحث الثاني : نبــــــــــــذة عــــــن السفسطائيون
v المطلب الأول : تعريف السفســــطائية
v المطلب الثاني : الفلسفة السفســـــطائية
المبحث الثالث : سقــــراط والسفسطائيــــــــــــــون
v المطلب الأول : خلفية تاريخية للصـــــــراع الفكري
v المطلب الثاني : الأخلاق عند سقراط والسفسطائيون
خاتمة
قائمة المصادر والمراجع
مقدمة
لقد أنعم الله على بيئة اليونان حين منحها هذه الشخصية العالمية الفذة التي استطاعت بما تملك من قدرات خاصة أن توجه الفلسفة والتفكير الأخلاقي في اتجاه منضبط، من حيث المنهج ومن حيث تحديد الموضوعات الخاصة التي يدور حولها التفكير في الفلسفة وفي الأخلاق.
ومن خلال هذه البحث نحاول أن نسلط الضوء على أهم النقاط في فلسفة سقراط ونبرز جانبا ً آخر للسفسطائيين , وموقفهم من فلسفته ؟
المبحث الأول : نبذة عن سقراط
المطلب الأول : حياته
لقد وردت التفاصيل الخاصة بحياة سقراط من ثلاثة مصادر حديثة وهي حوارات كل من "أفلاطون" و"زينوفون" (الاثنان من أنصار "سقراط") ومسرحيات "أريستوفانيس". وقد وصفه بعض تلاميذه، بما فيهم "إيريك هافلوك" و"والتر أونج"، على أنه مناصر لأساليب التواصل الشفوية حيث وقف أمام الإسهاب غير المقصود الذي تتصف به الكتابة.
وفي مسرحية السحب التي قام "أريستوفانيس" بتأليفها، وصف "سقراط" على أنه مهرج يعلم تلاميذه كيف يتملصون من الديون. وعلى الرغم من ذلك، فإن معظم أعمال "أريستوفانيس" تتصف بأنها أعمال تحاكي بسخرية أعمال المؤلفين الآخرين. ومن ثم، قد نسلم بأن هذا الوصف لم يكن موضوعيًا وواقعيًا أيضًا. وفقًا لما ذكره "أفلاطون"، اسم والد "سقراط" هو "سوفرونيسكوس" واسم والدته هو "فيناريت" وهي كانت تعمل كقابلة (داية). وعلى الرغم مما ورد عن وصفه بأن شكله كان غير جذاب وأنه كان قصير القامة، تزوج سقراط من "زانثيبي" التي كانت تصغره في السن بكثير. وأنجبت منه ثلاثة أبناء، هم "لامبروكليس" و"سوفرونيسكوس" و"مينيكسينوس". وقد انتقده صديقه "كريتو" من ألوبيكا لتخليه عن أبنائه عندما رفض محاولة الهروب قبل تنفيذ حكم الإعدام عليه. لم يبد واضحًا كيف كان "سقراط" يكسب قوت يومه. ويبدو أن النصوص القديمة أشارت إلى أن "سقراط" لم يكن يعمل. وفي كتاب Symposium للمؤرخ "زينوفون"، نقل عن "سقراط" أنه كان يقول إنه يكرس نفسه للشيء الذي يعتبره أهم فن أو مهنة وهو مناقشة الفلسفة. وفي مسرحية السحب، يصور "أريستوفانيس" "سقراط" على أنه كان يتقاضى مالاً مقابل تعليم الطلاب وإدارة مدرسة سوفسطائية مع "كريفون"، في حين أنه ورد في حواري "دفاع سقراط" و"المأدبة" لـ "أفلاطون" وفي روايات "زينوفون" إنكار "سقراط" الصريح لقبوله أي أموال مقابل تعليم الطلاب. وفي حوار دفاع سقراط على وجه الخصوص, استشهد سقراط بفقره كبرهان على كونه ليس مدرسًا. ووفقًا لما ذكره "تيمون فليوسي" وما ورد في مصادر أحدث، امتهن "سقراط" مهنة نحت الصخور عن والده. ولقد كان هناك اعتقاد في العصور القديمة بأن "سقراط" نحت تماثيل ربات القدر الثلاث (Three Graces) التي ظلت موجودة بالقرب من معبد "أكروبوليس" حتى القرن الثاني بعد الميلاد، ولكن لم يصدق العلم الحديث على صحة هذا الاعتقاد.[6] تشير العديد من حوارات "أفلاطون" إلى الخدمة العسكرية التي أداها "سقراط". يقول "سقراط" إنه خدم في الجيش الأثيني خلال ثلاث معارك، وهي بوتيديا وأمفبوليس وديليوم. وفي حوار "المأدبة"، وصف "ألكيسيبياديس" شجاعة وبسالة "سقراط" في معركتي "بوتيديا" و"ديليوم" وذكر كيف أن "سقراط" أنقذ حياته في معركة "بوتيديا" (219e – 221b). كما ورد الأداء الرائع الذي أداه "سقراط" في معركة "ديليوم" ضمن حوار "لاكاس" (أو الشجاعة باللغة الإنجليزية) من قبِل الجنرال الذي سمي الحوار على اسمه وفي حوار "دفاع سقراط"، يقارن "سقراط" بين خدمته العسكرية ومعاناته التي واجهها في قاعة المحكمة ويقول إنه إذا كان هناك في هيئة المحلفين من يعتقد أنه يجب أن ينسحب ويتخلى عن الفلسفة، فينبغي لهذا الشخص أن يفكر أيضًا في أنه لا بد للجنود أن تنسحب من المعركة عندما يبدو لهم أنهم سيُقتلون فيها. في عام 406، كان "سقراط" عضوًا في مجلس الشيوخ اليوناني وكان قومه - قوم Antiochis - هي التي عقدت مجلس المحاكمة في اليوم الذي شهد إعدام الجنرالات الذين شاركوا في معركة أرجنوسي لأنهم تخلوا عن القتلى والناجين من السفن الغارقة من أجل مطاردة الأسطول الإسبارطي المنهزم واللحاق به. وكان "سقراط" أحد الأعضاء الرئيسيين بالمجلس وعارض المطلب غير الدستوري الذي اقترحه "كاليكسنيس" بعقد محاكمة جماعية لإدانة جميع الجنرالات الثمانية. في آخر الأمر، رفض "سقراط" أن يذعن للتهديدات التي وجهت إليه بأن يتم حتفه في السجن وأن يتم اتهامه بالتقصير وأعاق التصويت الجماعي حتى انتهى مجلس محاكمته في اليوم التالي والذي شهد إدانة الجنرالات والحكم عليهم بالإعدام. وفي عام 404 سعى حكومة الطغاة الثلاثين لأن يضمنوا ولاء من عارضوهم وذلك بتوريطهم وإشراكهم فيما يقومون من أفعال. فقد طلب من "سقراط" وأربعة آخرين أن يحضروا حاكم مدينة سلاميز من منزله لتنفيذ حكم إعدام غير عادل عليه. رفض "سقراط" بهدوء، ولم يحل دون إعدامه سوى الإطاحة بحكم الطغاة الثلاثين التي وقعت في وقت لاحق.
اريد اصغر تعريف لسقراط {قبل أن يحكم عليه القضاة بالاعدام قال سقراط الفيلسوف العظيم لن ارفض فلسفتي إلى ان الفظ النفس الأخير.}
لقد عاش "سقراط" في الفترة الانتقالية فيما بين ازدهار الحكم الاثيني وانهياره حينما هزم أمام مدينة أسبرطة وحلفائها في معركة البلوبونيز. وفي الوقت الذي سعت فيه مدينة "أثينا" وراء الاستقرار واستعادة مكانتها بعد الهزيمة المخزية التي لحقت بها، ربما قد استمتع الأثينيون بالشكوك التي دارت حول الديمقراطية كصورة فعالة للحكم. ولقد بدا أن "سقراط" من الأشخاص كثيري الانتقاد للديمقراطية وقد فسر بعض تلاميذه المحاكمة التي عقدت له كتعبير عن صراع سياسي محتدم.
وعلى الرغم من ادعاء "سقراط" بأنه يبدي الولاء لمدينته لدرجة بلغت تحديه للموت، تعارض كل من سعي "سقراط" وراء الفضيلة والتزامة الصارم بالحقيقة مع النهج الحالي للمجتمع الأثيني وسياساته. لقد أثنى في حوارات عديدة على "أسبرطة" وهي المنافس الرئيسي لـ "أثينا"، سواءً أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة. ومع ذلك، لقد مثل موقفه كناقد اجتماعي وأخلاقي أكثر المناحي التي تجلت فيها الانتقادات والإساءات التاريخية التي أبداها "سقراط" نحو المدينة. فبدلاً من أن يؤيد الوضع الراهن ويقبل بسيادة الأعمال اللا أخلاقية في منطقته، عمل "سقراط" على تقويض المفهوم الجماعي الذي انتهجه الآخرون والذي شاع للغاية في اليونان خلال تلك الفترة، ألا وهو "إن القوة تصنع العدل". ويشير "أفلاطون" إلى "سقراط" بوصفه ذبابة الخيل في المدينة (فذبابة الخيل تلدغ الخيل فتحثها على القيام بفعل ما، وبالمثل كان "سقراط" يحث "أثينا" على اتخاذ فعل ما عن طريق لدغها بالانتقادات)، لدرجة أنه أرق الحكام وكان يحثهم دائمًا بأنهم يجب عليهم مراعاة تحقيق العدل والسعي وراء الخير. فالأمر بلغ أن محاولاته لتغيير مفهوم العدل الذي ينتهجه الأثينيون كانت السبب وراء الحكم عليه بالإعدام. ووفقًا لما جاء في حوار "دفاع سقراط" لأفلاطون، بدأت حياة "سقراط" بوصفه "ذبابة الخيل" في أثينا عندما سأل "كريفون" – وهو صديق "سقراط" – مهبط الوحي في مدينة "دلفي" هل في الناس من هو أعقل من سقراط وأكثر حكمة منه؟ فأجاب مهبط الوحي بأنه ما من شخص أكثر حكمة منه. وكان "سقراط" يعتقد بأن ما قاله مهبط الوحي يحوي قدرًا كبيرًا من التناقض (المفارقة)، لأنه كان يعتقد أنه ليس لديه أية حكمة على الإطلاق. فقرر أن يحل هذا اللغز بأن يدنو من الرجال الذين كان أهل مدينة "أثينا" يعتبرونهم من الحكماء مثل رجال الدولة والشعراء والصناع المهرة، وذلك لكي يفند رأي مهبط الوحي. وحينما طرح "سقراط" عليهم مجموعة من الأسئلة، توصل إلى أنه في الوقت الذي كان فيه كل واحد منهم يعتقد أنه ذو شأن وحكيم للغاية هو في الحقيقة قليل المعرفة للغاية وغير حكيم على الإطلاق. حينئذ أدرك "سقراط" أن مهبط الوحي كان محقًا في رأيه، ولأنه أدرك أنه في حين يعتقد هؤلاء الرجال بأنهم حكماء وهم ليسوا كذلك، عرف أنه هو نفسه غير حكيم على الإطلاق، وبالتالي، ومن هذا التناقض، يكون هو الأكثر حكمة لأنه الوحيد الذي أدرك جهله. وهذه الحكمة التناقضية التي توصل إليها "سقراط" أظهرت أبرز الأثينيين الذين تحاور معهم كحمقى، وبالتالي انقلبوا عليه واتهموه بالإثم. وقد دافع "سقراط" عن دوره كذبابة الخيل التي تحث أثينا حتى آخر حياته، فعندما طلب منه في محاكمته أن يقترح أسلوب العقاب الذي يتلقاه، اقترح أنه لا يستحق العقاب بل يجب أن يثاب ويرى بأن حقه أن يحصل على مكافأة وهي أن يعيش بقية أيامه على نفقة الدولة كسبيل لمنحه ما يستحقه لقضائه الوقت سعيًا وراء إفادة الأثينيين. ومع ذلك، أدين بتخريبه لعقول الشباب الأثينيين وتم الحكم عليه بالإعدام عن طريق تناول شراب معد من نبات الشوكران السام.
ووفقًا لما جاء في رواية "زينوفون"، ألقى "سقراط" عن عمد دفاعًا جريئًا أمام هيئة المحلفين، لأنه كان يعتقد أنه من الأفضل له أن يموت. ويواصل "زينوفون" حديثه ليصف دفاع "سقراط" والذي يوضح قسوة العهد القديم وكيف كان "سقراط" سعيدًا لأنه سيهرب من هذه القسوة بإعدامه. كما يفهم ضمنًا من وصف "زينوفون" أن "سقراط" تمنى أيضًا الموت لأنه كان يعتقد فعليًا أن الوقت المناسب قد حان لأن يفارق الحياة.
ويتفق أفلاطون وزينوفون على أن "سقراط" كانت لديه الفرصة للهرب، حيث كان بإمكان تابعيه أن يقدموا رشوة لحراس السجن. لكنه اختار البقاء لعدة أسباب هي:
1. لأنه كان يعتقد أن الهروب قد يشير إلى خوفه من الموت وهو الخوف الذي اعتقد بأنه لا وجود له لدى أي فيلسوف حقيقي.
2. لأنه لو هرب من أثينا، لن تلقى تعاليمه أي نجاح في مدينة أخرى لأنه سيستمر في محاورة كل من يقابلهم وسيثير استياءهم بالطبع.
3. ولأنه وافق- على نحو متعمد- على أن يعيش بالمدينة ويخضع لقوانينها، فهو قد أخضع نفسه ضمنيًا لاحتمالية أن يتهمه أهل المدينة بارتكاب بالجرائم وأن يدان من قبل هيئة المحلفين. ولو قام بما ينافي ذلك، ذلك ليعني أنه يخرق العقد الاجتماعي الذي وقعه مع الدولة وبالتالي سيسبب ضررًا لها ومثل هذا التصرف ينافي المبادئ التي ينتهجها "سقراط".
وكانت الأسباب والحجج التي تكمن وراء رفضه الهروب موضع اهتمام حوار "كريتو" لأفلاطون. وقد تم وصف وفاة "سقراط" في نهاية حوار "فيدون" لـ "أفلاطون". وفيه رفض "سقراط" الحجج التي قدمها "كريتو" كذريعة لمحاولة الهروب من السجن. وبعد أن تجرع السم، أصدر له أمر بأن يمشي حتى يشعر بتنميل في القدمين. وبعد أن استقلى على السرير, قام الرجل الذي منحه السم بالضغط بشكل مؤلم على قدميه. لم يعد "سقراط" يشعر بقدميه. وتسرب فقد الإحساس بأعضاء جسمه ببطء خلال جسمه حتى وصل إلى قلبه. وقبل أن يقضي نحبه بفترة قصيرة، تحدث "سقراط" إلى "كريتو" قائلاً: "أنا مدين إلى "أسكليبوس". رجاءً لا تنس أن تدفع له هذا الدين". و"أسكليبوس" هو إله الطب عند الإغريق ومن المحتمل أن الكلمات الأخيرة لـ"سقراط" كانت تعني أن الموت هو شفاء للروح وتحررها من الجسد. وقد حاول الفيلسوف الروماني "سنيكا" أن يحاكي وفاة "سقراط" بالسم حينما أجبره الحاكم "نيرون" على الانتحار.
المطلب الثاني : فلسفته
على الأرجح تتمثل أكثر إسهامات "سقراط" أهميةً في الفكر الغربي في منهج الجدل والتداول القائم عن طريق الحوار، وهو المنهج المعروف أيضًا السقراطي أو "أسلوب إلينخوس" (والتي تعني مجادلة) وقد قام "سقراط" بتطبيق هذا المنهج في دراسة مفاهيم أخلاقية أساسية مثل الخير والعدالة. وكان أفلاطون أول من وصف المنهج السقراطي في "الحوارات السقراطية". فلحل مشكلة ما، قد يتم تحليلها إلى مجموعة من الأسئلة والتي تعمل إجاباتها تدريجيًا على الوصول إلى الحل المنشود. ويتجلى تأثير هذا المنهج بشدة اليوم في استخدام المنهج العلمي والذي لا تكون مرحلة الافتراض أول مراحله. ويعد تطوير هذا المنهج وتوظيفه من أبرز الإسهامات المستمرة لـ"سقراط" كما أنهما شكلا عاملاً رئيسيًا في ارتداء "سقراط" لعباءة مؤسس الفلسفة السياسية أو علم الأخلاق أو الفلسفة الأخلاقية، وفي تميزه كأبرز الشخصيات في كل الموضوعات الرئيسية المتعلقة بالفلسفة الغربية. لتوضيح استخدام المنهج السقراطي، تم طرح مجموعة من الأسئلة لمساعدة شخص أو مجموعة من الأشخاص على تحديد معتقداتهم الأساسية ومدى معارفهم. والمنهج السقراطي هو منهج سلبي قائم على التخلص من الافتراضات، والذي يكون بالعثور على الافتراضات الجيدة عن طريق تحديد الافتراضات غير الجيدة والتي تؤدي إلى التناقضات ثم التخلص منها. وقد تم تصميم هذا المنهج بحيث يجبر المرء على مراجعة معتقداته وتحديد مدى صحتها. وفي الواقع، قال "سقراط" ذات مرة: "أعرف أنكم لن تصدقوني ولكن أبرز صور التفوق الإنساني هي مساءلة الذات ومساءلة الآخرين"
من الصعب تمييز معتقدات "سقراط" عند فصلها عن معتقدات "أفلاطون". فليس لدى الاستدلال المادي الكثير الذي يمكن به التمييز بين معتقدات هذين الفيلسوفين. فإن "أفلاطون" هو من وضع النظريات المطولة الواردة في معظم حواراته وبعض العلماء يعتقدون أن "أفلاطون" انتهج الأسلوب السقراطي بشدة لدرجة جعلت من المستحيل التمييز بين الشخصية الأدبية والفيلسوف نفسه. وجادل آخرون بأن لـ "أفلاطون" نظريات ومعتقدات خاصة به ولكن أثير جدل كبير حول ماهية هذه النظريات والمعتقدات بسبب صعوبة فصل معتقدات "سقراط" عن معتقدات "أفلاطون" وصعوبة تفسير حتى الكتابات الدرامية المتعلقة بـ "سقراط". لذا, ليس من السهل التمييز بين المعتقدات الفلسفية الخاصة بـ "سقراط" عن تلك التي انتهجها "أفلاطون" و"زينوفون"، ولا بد أن نتذكر أن ما قد يتم نسبه لـ "سقراط" قد يعكس عن كثب الاهتمامات المحددة لهذين المفكرين. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو حقيقة أن شخصية "سقراط" التاريخية اشتهرت على نحو سلبي بطرحها للأسئلة دون الإجابة عنها، مدعيين بذلك أنها تفتقر إلى الحكمة في الموضوعات التي تطرح على الآخرين أسئلة بشأنها. بصفة عامة، إذا كان هناك ما يمكن ذكره عن المعتقدات الفلسفية لـ "سقراط"، فهو أنها كانت تتعارض أخلاقيًا وفكريًا وسياسيًا مع رفقائه الأثينيين. فحينما كانت تتم محاكمته لإدانته بالهرطقة وتخريب عقول شباب "أثينا"، استخدم "سقراط" منهجه السقراطي أو ما يعرف بأسلوب "إلينخوس" لكي يشرح لأعضاء هيئة المحلفين أن قيمهم الأخلاقية معتمدة على أفكار غير صحيحة. لقد أخبرهم أنه في الوقت الذي من المفترض أن يهتموا بنقاء أرواحهم, كانوا يبدون الاهتمام فقط بعائلاتهم وأعمالهم ومسئولياتهم السياسية. ولقد بدا أن اعتقاد "سقراط" بافتقار نفوس الأثينيين للأخلاقية واقتناعه بأن الآلهة قد اختارته كرسول سماوي كانا مصدر إزعاج للأثينيين - إن لم يثيران سخريتهم. كما اعترض "سقراط" على المذهب السوفسطائي بأن الفضيلة يمكن تعليمها للآخرين. لقد أحب أن يلاحظ أن الآباء الناجحين (مثل الجنرال العسكري البارز "بريكليز") لا ينجبون أبناءً يماثلونهم في المهارة والتفوق. وجادل "سقراط" بأن التفوق الأخلاقي يعد بمثابة شيء فطري وليس مرتبطًا بالرعاية التي يوفرها الوالدان لأبنائهم. وقد يكون هذا الاعتقاد هو الذي ساهم في عدم شعور "سقراط" بالقلق تجاه مستقبل أبنائه. كثيرًا ما ذكر "سقراط" أن أفكاره ليست من نسجه وإنما من نسج معلميه. ولقد ذكر "سقراط" عدة أشخاص كان قد تأثر بهم ومنهم "بروديكوس" مدرس علم البيان والعالم "أناكسوجوراس". وما قد يثير الدهشة هو أن "سقراط" ذكر أنه قد تأثر بشدة بسيدتين إلى جانب تأثره بوالدته، فقد قال إن "ديوتيما" الساحرة والكاهنة في مدينة "مانتيني" قد علمته كل ما يعرفه عن الحب (والمعروف باليونانية باسم eros)، كما علمته "آسبازيا" – وهي معلمة الجنرال العسكري "بريكليز" – علم البلاغة. Plato, وقد جادل "جون بيرنت" بأن المعلم الرئيسي لـ"سقراط" كان "أناكسوجوراين أرشيلوس" ولكن أفكاره كانت كما وصفها. وعلى الجانب الآخر، رأى "إيريك هافلوك" أن ارتباط "سقراط" بالمعلم "أناكسوجوراين" يعد دليلاً على اختلاف المعتقدات الفلسفية لـ "أفلاطون" عن تلك التي ينتهجها "سقراط
المبحث الثاني : نبذة عن السفسطائيون
المطلب الأول : تعريف السفسطائية
السفسطة عبارة عن محاجَجة تبدو وكأنها موافقة للمنطق، لكنها تصل في النهاية إلى استنتاج غير مقبول، سواء لتعذُّره، أو لاستعماله الإرادي المغلوط لقواعد الاستنتاج. وبالتالي فإنه يمكن اعتبارها قولاً مموَّهًا، أو قياسًا له شكل صحيح، لكن نتيجته باطلة، والقصد منه تضليل الآخرين – مشيرين هنا إلى أن ابن رشد كان يسمي السفسطة بالمغالطة والقياس السفسطائي بالقياس المغلوط.
هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كان يوجد تقليديًّا فرق يميز بين السفسطة وبين المغالطة: ألا وهو الرغبة الإرادية في التضليل (لدى السفسطة)، بينما تبقى المغالطة لاإرادية. كما أنه من المكن أن تُستعمَل السفسطة في النقاش بهدف إحداث صدمة لدى المستمع لدفعه إلى التعمق في حججه الفكرية.
خاصةً وأن تسمية "سفسطائي" كانت تُستعمَل في بداية الأمر للدلالة على صاحب مهنة الكلام، ولم تكن تُستعمَل البتة بمفهومها المنتقص الذي أضحى شائعًا فيما بعد – وقد ظلَّ هذا المفهوم شائعًا حتى جاء أفلاطون الذي دمغ السفسطائيين بتلك السمعة السيئة التي جعلتْهم مجرَّد مشعوذين، إن لم نقل مجرَّد سطحيين "أصدقاء للمظاهر"، غير مهتمين كثيرًا بالحقيقة؛ الأمر الذي يميِّزهم، بحسب أفلاطون، عن الفلاسفة.
وبالتالي، كان علينا انتظار مجيء مدارس النقد الحديثة لنتبيَّن بأن ما تركه هؤلاء لم يكن بالشيء المحتقَر إجمالاً، خاصةً حين يتعلق الأمر بقضايا اللغة: لأنهم كانوا في الحقيقة أول من اخترع علم اشتقاق الكلمات (الإيتيمولوجيا) ووضع القواعد اللغوية؛ كما أنهم كانوا أول من حاول دراسة مختلف أنواع الحجج وتحليل مختلف أنواع البراهين.
وبصرف النظر عن معرفتهم في هذا المضمار أو ذاك، كان السفسطائيون سادة فنِّ الكلام. وبالتالي، ومن هذا المنطلق، كانوا وقتذاك، على ما يبدو، قادرين على بيع خطبهم حول أيِّ موضوع بأثمان غالية، حتى وإن كانت تلك الخطب تتعلق بمواضيع متناقضة. من هنا يمكن اعتبارهم بحق مؤسِّسي فنِّ الخطابة أيضًا. فهم ما كانوا ليترددوا البتة في استعارة الحجج والأمثال من مفكرين سابقين أو حتى من الأساطير (التي كان بروذيكوس، المحبِّذ للنقد الديني، يعتقد أنها مجرد سِيَرٍ ذاتية مجمَّلة)، محوِّلين كلَّ شيء إلى مناسبات لإلقاء خطبهم الجميلة؛ الأمر الذي أدى، بسبب موقفهم النقدي، من جهة، وغير الامتثالي، من جهة أخرى، إلى تبنِّي السياسيين لهم وإلى استقطابهم عداء الأثينيين.
المطلب الثاني : الفلسفة السفسطائية
و مع أن السفسطائيون كانوا محنة للفلسفة لأنهم تلاعبوا بالمدارك الفلسفية واستخدموا تعليم الفلسفة في سبيل كسب المال لكنهم قد أفادوا المجتمع في أنهم أثاروا في نفوس الشبان شيئا من الرغبة في طلب العلم.
فمن أعلامهم مثلا بروثاغوراس والذي أول من فكر في قوانين النسبية ويعتبره البعض هو الملهم لأينشتاين. حيث قال من ضمن نظريته القديمة في النسبية (أن قيمة الأشياء نسبية فليس ثمة شيء خير من نفسه أو شر في نفسه وإنما هو خير أو شر وعدل وظلم.
من أهم السفسطائيين أيضا وربما على الإطلاق هو سقراط الذي شاركهم الاهتمام بالإنسان وحده وبالمجادلة عن الآراء ثم خالفهم في أنه جعل قيمة الأشياء مطلقة وقد جعل جداله محاذيا للمنطق فامتاز عنهم في الجدل بأنه جعل برد السؤال بسؤال من جنسه ليثير التفكير في السائل ثم مزج الجد في الجدال بشيء من التهكم وكان غاية العلم عند سقراط هو إدراك ماهيات الأمور والأشياء كإيجاد حدود تامة تساعد الإنسان على أن يتبين معاني الأشياء في أوضح صورها ودقائقها وذلك بأن يكون للكلمات مدلولاتها الدقيقة وللمعاني نطقها الخاص بها بخلاف البعض المغالطون الذين يقصدونه إلى استعمال الكلمات المتقاربة في اللفظ والمشتركة في المعنى والغامضة في الدلالة الذين أطلق عليهم المغالطين في ذلك الوقت والذين كانوا يميلون في جدالهم إلى الإبهام في الألفاظ والإيهام في المعاني.
ومن أهم ما تم نقله عن سقراط أو إمام السفسطائيون أنه جعل الأخلاق حيز من العقل لا من حيز الدين وقال إن المعرفة تنتج عن الفضيلة ومن عرف الحق لم يظلم ومن رأى وجه الخير لا يقرب الشر ولا يمكن للإنسان أن يسلك سلوكا يخالف رأيه الصائب.. وإن أتي نفر من المشهورين بالعلم شرا كان علمه على ظن وليس يقين.
كما لا يفوتنا أن الكثير من الفلاسفة المعاصرين تبنوا أو تأثروا بهذا المذهب ولعل أهمهم كان فردريك نيتشه وديكارت وغيرهم، طور السفسطائيون من أسلوبهم في التعامل بالمنطق فكانوا يميلون إلى المنطق الممزوج بالخيال أحيانا.
أهمل السفسطائيون الرياضيات والطبيعيات في التعليم إلا قليلا, وطبعا كانت ناتجة عن قلة معرفتهم بها ولقلة موافقتهم لغرضهم ثم ما لبثوا أن دخلوا على تعليم الفنون التي يجوز فيها الجدل ويقبل فيها الرأي الشخصي كالنحو والبلاغة والخطابة والتاريخ وكان هؤلاء يعلمون كل طالب معرفة ما يريده من الفنون ثم يزينون له تلك الفنون التي كان يميل إليها ويذمون أمامه الفنون التي لا يحبها أو التي لا يميل إليها.
فكان الجدل هو أسلوب التعليم الذي خطه السفسطائيون إذ تكلموا في الخطابة والبلاغة وأثرها في الفرد والمجتمع وقد جادلوا في طبيعة الإنسان وجادلوا في اللغة أهي وضعية أم طبيعية وكذلك جادلوا في الأخلاق أهي وراثة اجتماعية أم مولودة اى مغروزة في الإنسان منذ الولادة. كان مأخذ سقراط على السفسطائيين هو تقاضيهم مالا لقاء تعليمهم ولكن برتراند راسل يوضح عن حق في أن السفسطائيين الذين يحترفون الكلام هم أيضا بحاجة إلى الطعام. ولقد كان المواطنون العاديون في أثينا يعتبرون سقراط نفسه سفسطائييا وليس فيلسوفا، بسبب الجهل طبعا.
مثال على السفسطة قام أحد السفسطائيين بتعليم أحد التلاميذ أصول السفسطة من أجل أن يحترفها التلميذ فيما بعد. لكن التلميذ ترك السفسطة وإمتهن عملا آخر فاشتكاه المعلم لدى المحكمة وطالب بمال لقاء تعليمه إياه السفسطة وكانت حجته أن على التلميذ أن يدافع عن نفسة إذا خسر القضية بسبب حكم المحكمة فإنه لم يتعلم أما إذا كسبها فمعنى ذلك أنه تعلم السفسطة منه وعليه أن يدفع أيضا في هذه الحالة. كان ردّ التمليذ بليغا إذ أنه طالب المحكمة في أن تعفيه من الدفع في حالة كسبه القضية وذلك استنادا على حكم المحكمة إما إن خسرها فمعنى ذلك أنه لم يتعلم السفسطة وبالتالي لن يدفع شيئا أيضا.
المبحث الثالث : سقراط والسفسطائيون
المطلب الأول : خلفية تاريخية للصراع الفكري
في هذا الجو المضطرم نشأ سقراط ونما وترعرع بين أب يشتغل بفن النحت وأم تعمل قابلة.
وروى أنه قد امتهن مهنة أبيه، غير أنه لم يطق هذه المهنة طويلاً، ولم يصطبر عليها إلا ردهاً قليلاً من الزمن، فانصرف إلى الفلسفة، وعنى بآراء الفلاسفة السابقين عليه، كما كَلِفَ بآراء السوفسطائيين المعاصرين له .
ورأى هذا التضارب المستمر في تفسير الفلاسفة للكون، فعلم أن هذا المجال قليل الغناء، وعطاءه ليس مجزياً في عالم الفكر لمن كان له قلب يريد أن يقتنع بالوقوف على مشارف الحقيقة ، فانصرف عن الطبيعة إلى الإنسان، ونزل بنظره وفكره من السماء إلى الأرض، واختط لنفسه طريقاً محدداً محكوماً ومتميزاً.
فلقد ابتدأ خطه الفكري مؤسساً على قاعدة صلبة لفته إليها عبارة كتب على معبد "دلف" وهذه العبارة هي (اعرف نفسك بنفسك).
ولقد شكلت هذه العبارة نفسية سقراط كما شكلت خطه الفكري.
لقد اعتقد سقراط أن الخطأ الذي وقع فيه القدماء من الفلاسفة هو أنهم لم يتجهوا الاتجاه السليم من الناحية المنهجية، كما أنهم بدأوا في بحوثهم بداية خاطئة.
لقد كان المنهج يقضي بأن يتجه هؤلاء في أبحاثهم إلى النفس الإنسانية، يتعرفون عليها ويتفهمون حدودها وما انطوت عليه من المعارف وما يتلاءم معها من السلوك والآداب، إلا أنهم لم يتجهوا هذه الوجهة، وبدلا من أن يحللوا النفس الإنسانية انصرفوا إلى الكون وعناصر الطبيعة فلم يوفقوا، وجانبهم الصواب فيما راموا الوصول إليه بسبب الخطأ في المنهج والحيدة عن الخط السليم.
ولم يشأ سقراط أن يقع فيما وقع فيه القدماء من المثالب والأخطاء، فقعّد لنفسه هذه القاعدة، وهي أن الفلسفة تبدأ منذ اللحظة الأولى بتحليل النفس الإنسانية، ولذا فإنه يعتقد أنه من لم يعرف نفسه فلن يتأتى له أن يحصل شيئاً من المعرفة، ومن لم يحلل شخصيته لن يستطيع التقدم خطوة مهما أوتي من أسباب العلم ووسائل الدرس والبحث.
ويعتقد سقراط أنه جاهل حتى يتعرف على أسرار النفس والتعرف على أسرار النفس مجال رحب فسيح قد لا يقصد الإنسان منه الوتر حتى ولو أفنى فيه عمره وأنفق فيه حياته.
وقد استقر لدى سقراط أن الإله قد خلق النفس وخلق فيها سائر المعارف ومختلف العلوم.
وهذه النفس الإنسانية تتطلب من الإنسان أن يقف على حدودها ويتعرف على ما يلائمها.
فالتحليل الواعي والبحث الدقيق يتضح منهما ما للنفس من متطلبات تلائمها وتنسجم معها، كالعدالة والفضيلة والاطمئنان إلى الحق والبحث عنه، وعلى الجملة كل ما يحقق للإنسان السعادة الروحية والمتعة الدائمة.
ومن هنا تجد أن سقراط يوافق السوفسطائيين أشد الموافقة، ويخالفهم أعظم الخلاف.
فهو يوافق السوفسطائيين في السخرية من طرائق القدماء الذين بحثوا الفلسفة بحثاً نظرياً، واتجهوا بها إلى عناصر الكون بعيداً عن تحليل النفس الإنساني.
وهو يخالفهم حيث أنهم كانوا يبغون من وراء دراستهم في الفلسفة منفعة مادية سريعة، لا يعبأون بالروح ومتطلبات النفس، كما أنهم يبتغون الشهرة وذيوع الصيت وحسن السيرة الاجتماعية.
أما هو فكان نفعياً لكن من منظور يختلف، وكان يبتغي المتعة ولكن بمفهوم جديد.
إنه كان يبتغي منفعة النفس حيث يحقق لها ما يوافقها ، ويبتغي لها ما يحقق سعادتها ويربأ بها عن منغصاتها وأسباب شقوتها.
وكان يبتغي كذلك متعة الروح وسعادة الوجدان، فهو لم يشأ أن يقتحم مجالات القلق وميادين التعاسة التي لا تكاد تنتهي.
ولا يتأتى للمرء أن يحقق هذه السعادة الأبدية دون أن يشرف بذاته على ميادين المعرفة بما يوافق النفس وما يخالفها، وكيف يستطيع المرء أن يأتي أو يدع من الأفعال التي توافق النفس أو تخالفها بغير معرفة واقعية بكل هذا وذاك.
وإذا تعرف الإنسان بشكل واضح على ما يوافق النفس ويحقق سعادتها، حمله ذلك قطعاً على أن يقوم به وأن يتجنب سواه.
وهكذا يربط سقراط بين المعرفة بما يوافق النفس وبين مباشرته فعله، وعلى الطرف الآخر فإن سقراط لا يجيز أن يقع ما يخالف النفس سلباً أو إيجاباً من إنسان يعرف أن ما يأتيه أو ما يدعه من الأفعال موافقاً أو مخالفاً لطبيعة النفس، وإنما يستجيز أن يقع ما يخالف النفس من جاهل بطبيعتها وبطبيعة ما ينسجم معها.
وإذا كان ما ينسجم مع النفس فضيلة وما لا ينسجم معها رذيلة.
فإنك تستطيع أن تفهم أن الإنسان لا يمكن أن يأتي بالفضيلة وهو جاهل بها إلا عفواً، كما أنه لا يستطيع أن يأتي بالرذيلة إلا إذا كان جاهلاً بالأثر السيئ الذي تطبعه على النفس.
ومن هنا فقد اشتهر في الأوساط العلمية أن سقراط يعرف الفضيلة بالعلم والرذيلة بالجهل.
يقول الأستاذ يوسف كرم وهو يتحدث عن فيلسوف الأخلاق سقراط (والإنسان يريد فعل الخير دائماً، ويهرب من الشر بالضرورة فمن تبين ماهيته وعرف خيره بما هو إنسان أراده حتماً.
أما الشهواني فرجل جهل نفسه وخيره، ولا يعقل أنه يرتكب الشر عمداً، وعلى ذلك فالفضيلة علم، والرذيلة جهل .. وهذا قول مشهور عن سقراط يدل على مبلغ إيمانه بالعقل وحبه للخير (1).
ويقول الأستاذ أندريه كرسون عن سقراط أيضاً :
( قال سقراط : 1ـ لا يعمل الإنسان الشر باختياره 2ـ الفضيلة ثمرة العلم لقد رأينا، فيما سبق أن السلوك الخير، حسب رأى سقراط، هو "أن الإنسان يسلك السبل المؤدية إلى السعاد بعد معرفة طبيعتها معرفة واضحة. أما الشر فهو الحيدة عن ذلك).
وإذا شرحنا في ضوء ما سبق، الجملة (لا يعمل الإنسان الشر باختياره) فإن معناها لا يتعدى أن يكون : (لا ينصرف الإنسان عن سعادته باختياره). وبذلك تزول غرابتها بل تصبح بدهية. كذلك يفهم الإنسان في سهولة كيف تكون الفضيلة ثمرة العلم، فإن من يجهل طبيعة السعادة الحقيقية ويجهل السبل والطرق الموصلة إليها لا يمكنه إلا أن يخطئ ما يبحث عنه. ولكنه إذا عرف السعادة، وعلم السبل الموصلة إليها. فكيف يتصور انصرافه عن الخير الذي يتطلع إليه بطبيعته والذي يعمل محقاً على نيله أليس ذلك هو عين ما ينقله "أكرنوفون" من كلام سقراط ؟ " إن من يميز من بين كل الأعمال الممكنة، العمل الذي يتلاءم مع مصلحته، فإنه لا يتردد في الاختيار، وحينما يعمل الإنسان الشر فإنه يكون جاهلاً بمقدار ما هو آثم ) (1).
ويستحسن الأستاذ يوسف كرم هذا الموقف من سقراط يستحسن منه أن يربط الفضيلة بالعلم، وأن يربط الرذيلة بالجهل، ويعترف أن ذلك فيه شئ من المبالغة إلا أنه برغم ذلك يستحسن منه هذه المبالغة، ويلخص موقفه من سقراط في الأخلاق في عبارة مختصرة. قال: ( وإن كان فيه إسراف فما أجمله من إسراف ) (2).
وقد استطاع سقراط إذن أن يعتمد على تحليل النفس في الوصول إلى هاتين النتيجتين.
تحقيق السعادة بمباشرة ما يلائم النفس من الأفعال وجوداً وعدماً.
وربط الفضيلة والرذيلة بالعلم والجهل. وليست هذه هي النقطة المنهجية الوحيدة التي اعتمد عليها سقراط في شرح فلسفته الخلقية ولكن هناك جانب آخر هام وخطير في المنهج السقراطي وهو أن سقراط كلف في معظم وقته بتحديد معاني الألفاظ ودلالاتها تحديداً تاماً بحيث لا يترك في أبحاثه النظرية مجالاً للاشتراك اللفظي، وبذلك يكون قد سد ثغرة هامة كان يستغلها السوفسطائيون في جدلهم أسوأ استغلال فيما يقصدون إليه من دعم التشكيك وتعميقه في النفوس، ومن جهة أخرى فإن سقراط كان يعتمد كل الاعتماد ويعني بالغ العناية بالمركبات الفكرية فيحللها إلى أبسط عناصرها كي ما يصل إلى البدهي منها فيعتمد عليه في إعادة تركيب البناء الخلقي واستنباط الأحكام النظرية.
ومن هنا فإن المرء لا يجد من نفسه قلقاً حين يقرر أن سقراط بهذه النظرة المنهجية يعتبر علامة بارزة بين عهدين من عهود اليونان الفكرية بحيث يمكن أن نقول ونحن بصدد تأريخ الفلسفة الخلقية : أن هناك عصرين متمايزين يكون سقراط هو الحد الفاصل بينهما وتعليل ذلك هو أن سقراط بتحديده لمعاني الألفاظ وإعلانه بأن لكل شئ ماهية وحقيقة يتميز بها عن سائر الأشياء ويمكن حده حداً تاماً منفرداً عما سواه إذا نحن أدركنا طبيعته وماهيته.
إن سقراط بتأسيسه هذه القواعد المنهجية يكون قد وجه الفلسفة وجهة تختلف اختلافاً شديداً عما كان لها في القديم من اتجاه ومقصد ، ويأتي تلاميذه فيما بعد لكي يعتنقوا ثم يطوروا هذه المبادئ المنهجية وتكتسب مقولة الكيف على يديهم وعلى يدي أستاذهم مكانتها اللائقة بها في الأخلاق والفلسفة.
المطلب الثاني : الأخلاق عند سقراط والسفسطائيون
وهذه الشخصية الممتازة هي شخصية ( سُقراط ) الشهير في الفلسفة اليونانية وفي الفكر الإنساني على العموم.
ويعتبر التفكير السقراطي في منهجه وطريقته رد فعل قوي لما كان عليه العصر اليوناني في مظاهره الاجتماعية والثقافية، وغيرهما من طرق معاملة الناس وعلاقاتهم على المستويات الخاصة والعامة.
إن هذه المظاهر على اختلافها وتشعبها يمكن إجمالها تحت مجموعتين من المظاهر :
إحداهما : كانت تتعلق بالنظام السياسي الذي كان يحكم بيئة اليونان آنذاك، وهو النظام الديمقراطي الذي كان يؤكد حرية الفرد إلى حد يمكنه من الانتصار على الدولة في معظم الأحيان وأخذ حقه منها.
وهذا النظام الديمقراطي قد أتاح أمام الفرد انطلاقة واسعة في التفكير، وأسلوب المعيشة وتحقيق مطالبه وتلبية رغباته.
أما الطائفة الثانية فكانت لها كل الصلة بالاتصال المستمر بين الشعوب، هذا الاتصال الذي كان يبعث دائماً على الحياة العقلية المضطرمة وتبادل الثقافات على اختلافها وتنوعها .
أضف إلى هذا تلك المصالح المتشعبة والمتضاربة في ذات الوقت، واحتياجات الناس التي يترتب على تلبيتها وسدها اختلاف كبير وتنازع بين الأفراد والجماعات.
ولقد أدت هذه الظواهر الاجتماعية كلها إلى سيطرة عامل الشك على نفوس الجماعات والأفراد.
هذا الشك الذي اتسع مجاله وامتد حتى غطى كل شئ.
فأنت تستطيع أن تجد الشك في الفلسفات القديمة التي عجزت عن أن تقدم تفسيراً مقنعاً للكون في بدايته ومنتهاه.
وتستطيع أن تجد الشك في الدين الذي فقد قداسته في النفوس، بحيث عجز عن تسيير الحياة الاجتماعية في اتجاهها الصحيح.
وتستطيع أن تجد الشك في النظام السياسي حين فقد مِعْقِد السيادة ماله من جلال وهيبة.
الشك إذاً قد عم كل شئ وامتد إلى الحياة الاجتماعية بأثرها، بحيث قد أصبح هو الصفة السائدة التي تسيطر على الأفراد والجماعات.
السوفسطائيون وتعميق الشك : ـ
والذي يلفت الأنظار في هذه الفترة إلى هذا الشك الممتد أن المسألة لم تقتصر على حدود الشك في كل شئ، ولكن هذا الشك قد وجد لنفسه فرقة من المتخصصين للدفاع عنه، وتأكيد معناه في النفوس.
وهذه الفرقة التي تحملت مسئولية تأكيد الشك وتعميق معناه، هي فرقة السوفسطائيين الذين استغلوا ظروف المجتمع لتحقيق غايتين قد جلبتا عليها الازدراء على مدى العصور المختلفة.
الغاية الأولى : تحقيق الشهرة والسير وراءها مهما كانت الوسيلة التي يسلكونها لتحقيق تلك الغاية.
ولذا فإنك تجد السوفسطائيين قد تناولوا الحياة العقلية بالجدل والنقاش، والفلسفات القديمة بنصب العداء فيما بينها وتفنيدها الواحدة تلو الأخرى.
وكانوا في سبيل ذلك يركزون على نقطتين .
إنهم كانوا يؤكدون على البيان وصقل الألفاظ ، في نفس الوقت الذي كانوا يحرصون فيه على نفي أن يكون للأشياء مهايا أو حقائق ذاتية.
ومن هنا فإن السوفسطائيين كانوا يفاخرون كلما أتيحت الفرصة لهم، بأنهم قادرون على إقناع الأفراد عمليا بالشئ ونقيضه، وأنهم لا يعجزون عن تأكيد وإثبات الشئ بالحجة، ثم ينفونه بحجة وأدلة لا تقل إقناعاً عما ساقوه من حجج الإثبات.
وهناك غاية أخرى كان يقصد إليها السوفسطائيون، حيث كانوا يقصدون إلى الكسب المادي وتحقيق المنفعة الشخصية.
ومن هنا فإنهم كانوا يختارون تلامذتهم الذين يعلمونهم فنون الجدل، وصقل الألفاظ ، وإقامة الحجج المتضاربة، من الوجهاء وأصحاب الثروة والقادرين على الإنفاق والبذل.
ولما كان العلم اليوناني يُمنح بدون مقابل قبل السوفطائيين، فقد أصبح السوفسطائيون بمسلكهم الغريب موضع الذراية والاحتقار من أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه.
ولما كان هؤلاء السوفسطائيون قد نصبوا أنفسهم حراسّاً على الشك، وتأكيد معناه في النفوس، ورفع ما للأشياء من قيمة ذاتية وحدود ومعان تمتاز بسببها، قد استحقوا من العلماء وقفة تأمل بغيض ومن المفكرين الاحتقار الذي لا حدود له.
ولقد اشتهر من هؤلاء المفكرين الذين حملوا لواء السفسطة والجدل بروتاغوراس (480 ـ 410 ق.م ) وغورغياس (480 ـ 375 ق.م ) (1).
سقراط في مجال الإصلاح : ـ
في هذا الجو المضطرم نشأ سقراط ونما وترعرع بين أب يشتغل بفن النحت وأم تعمل قابلة.
وروى أنه قد امتهن مهنة أبيه، غير أنه لم يطق هذه المهنة طويلاً، ولم يصطبر عليها إلا ردهاً قليلاً من الزمن، فانصرف إلى الفلسفة، وعنى بآراء الفلاسفة السابقين عليه، كما كَلِفَ بآراء السوفسطائيين المعاصرين له .
ورأى هذا التضارب المستمر في تفسير الفلاسفة للكون، فعلم أن هذا المجال قليل الغناء، وعطاءه ليس مجزياً في عالم الفكر لمن كان له قلب يريد أن يقتنع بالوقوف على مشارف الحقيقة ، فانصرف عن الطبيعة إلى الإنسان، ونزل بنظره وفكره من السماء إلى الأرض، واختط لنفسه طريقاً محدداً محكوماً ومتميزاً.
فلقد ابتدأ خطه الفكري مؤسساً على قاعدة صلبة لفته إليها عبارة كتب على معبد "دلف" وهذه العبارة هي (اعرف نفسك بنفسك).
ولقد شكلت هذه العبارة نفسية سقراط كما شكلت خطه الفكري.
لقد اعتقد سقراط أن الخطأ الذي وقع فيه القدماء من الفلاسفة هو أنهم لم يتجهوا الاتجاه السليم من الناحية المنهجية، كما أنهم بدأوا في بحوثهم بداية خاطئة.
لقد كان المنهج يقضي بأن يتجه هؤلاء في أبحاثهم إلى النفس الإنسانية، يتعرفون عليها ويتفهمون حدودها وما انطوت عليه من المعارف وما يتلاءم معها من السلوك والآداب، إلا أنهم لم يتجهوا هذه الوجهة، وبدلا من أن يحللوا النفس الإنسانية انصرفوا إلى الكون وعناصر الطبيعة فلم يوفقوا، وجانبهم الصواب فيما راموا الوصول إليه بسبب الخطأ في المنهج والحيدة عن الخط السليم.
قائمة المصادر والمراجع
1) سارة كوفتمان , سقراط ,
2) تاريخ الفلسفة اليونانية ـ يوسف كرم.
3) المشكلة الأخلاقية والفلاسفة ـ تأليف أندريه كرسون ترجمة د/ عبد الحليم محمود والأستاذ / أبو بكر ذكري
4) انظر تاريخ الفلسفة اليونانية وقادة الفكر ـ د/ طه حسين.
5) الموسوعة الحرة , ويكيبيديا :
www.wikipidia.org6) الأخلاق في إطار النظرة التطورية , طه حبيشي , جامعة الازهر