هذا أدب أمر به الرسول صلى الله أمته، والكلام على هذه الجملة المكونة من ثلاث كلمات، [فعل وفاعل ومفعولين ثانيهما مضاف إلى ضمير المفعول الأول] لا توفيها إلا رسالة مستقلة، وبخاصة في هذا العصر الذي اتسع فيه معنى الطريق ومن يسلكها وما يسير فيها في حالات الإقامة والسفر، في البر في الغابات والشواطئ والأنهار، والجبال، وفي المدن العامرة والقرى والديار، بل أمام مكاتب خدمات لا حصر لها، وفي البحر، والجو.
ويجتمع في تلك الطرق في كل عصر ما يناسبها، من الكثرة والقلة، والمراكب، فيجتمع اليوم في الطرق الأرضية أصناف من البشر كبارا وصغارا، رجالا ونساء، مثقفين وأميين، رجالا وركابا، على حيوانات، أو دراجات عادية أو نارية، أو سيارات، أو سفن صغيرة أو كبيرة، ولكل صنف أهدافه وأوطاره، ووسائله ونشاطاته، قد ترضي الآخرين وقد تسخطهم، قد تكون معروفا وقد تكون منكرا.
وفي الجو تملأ الطائرات على تنوعها كبارها وصغارها ومناطيدها، تملأ الجو ذاهبة وآيبة.
لقد ظهر اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر الطريق ليسلكه الناس في أمان، في قوله وفعله، فقوله واضح في الحديث المعنون له في هذا المقال: (أعطوا الطريق حقه) شامل لكل ما يحقق للناس الأمان فيه، وسيأتي ذكر نصه كاملا.
و الحديث متفق عليه، ونصه كما رواه أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله، عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ) فَقَالوا: "مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا." قَالَ: (فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا) قَالُوا: "وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟" قَالَ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ)
فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، أن الأصل في الطريق اختصاصه بمن يمر فيه، حيث قال: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ.)
فلما ذكر له أصحابه، إنهم يحتاجون إلى الجلوس بجانب الطريق، للتحدث فيما بينهم: " نَتَحَدَّثُ فِيهَا" ولم يكن لهم أماكن يجتمعون فيها فيما بينهم، كما نجده اليوم عندنا من البيوت الواسعة مرافقها.
رخص صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك، توسعة عليهم وعدم التضييق عليهم، ويظهر من صيغة ترخيصه لهم، أن بعدهم عن الجلوس في الطريق أولى لهم منه، لقوله: (فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا.) لما يعلم صلى الله عليه وسلم بما قد يحدث لهم من أمور لا تخلو من مأثم، إذا لم يتحرزوا منها.
ولهذا أمرهم بأن يلتزموا بالحق المشروع للطريق الذي إذا خالفوه أثموا، وهو ما أجمله في قوله: (فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا) ولما كان هذا الحق الذي أمرهم بإعطائه عاما لإضافته إلى المعرفة، وهو الضمير، غير واضح لهم ، سألوه أن يبينه لهم، فقالوا: "وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟"
أربع خصال:
أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم، على سؤالهم: "وما حق الطريق؟" بأربع خصال:
الخصلة الأولى:
غض البصر عما حرمه الله، وهذه الخصلة مما يبتلى بها الناس الذين يشتركون في الاجتماع في الطرق وفي غيرها، رجالا ونساء، في أي مناسبة تجمعهم، ساعين في طلب رزقهم في الأسواق، مسافرين أو مقيمين، مشاة على أقدامهم، أو مستقلين مراكب برية أو بحرية أو جوية، أو قائمين بعبادة ربهم، في الجوامع التي تقام فيها الصلوات الخمس والجمع والأعياد، أو حاجين ومعتمرين طائفين وساعين في المسجد الحرام، أو في غيره من المناسك في عرفات ومزدلفة ومنى، أو غير ذلك مما لا يستغنون فيه عن الاجتماع، وهذه الخصلة قد أمر الله بها في كتابه الرجال، كما أمر بها النساء فقال: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ...(31)﴾ [النور]
لأن تعمد إطلاق الرجال والنساء أبصار كل صنف منهم إلى الآخر، قد يترتب عليه الوقوع في الفحشاء والمنكر، فالنظر بريد الزنا، ولهذا قال تعالى بعد أمر الرجال بغض البصر: ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ وقال بعد أمر النساء بغض أبصارهن: ﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾
وقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته ما أمره ربه بتبليغهم، من غض أبصارهم في سورة النور، كما بلغهم ذلك في سنته، بقوله، كما في حديث جرير رضي الله عنه، عن جرير قال: "سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟" فقال: "اصرف بصرك" [أبو داود والترمذي]
وفي حديث بريدة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليِّ رضي الله عنه: (يا عليُّ لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لكَ الأُولَى، وليست لكَ الثانيةُ). [أبو داود والترمذي]
وأنكر صلى الله عليه وسلم، نظر الرجل إلى المرأة، ونظر المرأة إلى الرجل بفعله، كما في حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما، قال: "كان الفَضْلُ ابْنُ عبَّاسٍ رَديفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَجَاءتُه امرأَةُ من خَثْعمَ تَسْتفتيهِ، فَجعَلَ الفضلُ يَنْظُرُ إليها وتَنظُرُ إليه، فجعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يَصْرِفُ وَجهَ الفضلِ إلى الشَّقِّ الآخر... وذلك في حجَّة الوداع" [البخاري ومسلم]
إن على المسلم أن يتقي ربه ويطيع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يستسلم لوساوس الشيطان واتباع خطواته، التي نهاه الله تعالى عنها وبين له أن الشيطان عدو له بين العداوة، وأنه لا يأمره إلا بما يسوؤه عند ربه من الفحشاء، و المنكر، كما قال تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ... (169)﴾ [البقرة]
ولا يستسلم كذلك لهواه ويجعله إماما له، ولا لنفسه الأمارة بالسوء، قال تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾ [الكهف]
و قال تعالى عن امرأة العزيز التي اتبعت هواها، واتبعت خطوات الشيطان، واتبعت نفسها الأمارة بالسوء، وكانت سببا فيما أصاب يوسف الكريم بن الكريم ابن الكريم، من الابتلاء والسجن، وهو الذي قال الله عنه: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33)﴾ [يوسف]
قالت امرأة العزيز في قول بعض المفسرين: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)﴾ [يوسف]
وهي التي جعلت النسوة اللاتي أنكرن عليها مراودتها ليوسف، يفتتن بجماله لما نظرن إليه، وقطعن أيديهن بالسكاكين من حيث لا يشعرن، كما قال تعالى عنهن: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) ﴾ [يوسف]
هذه هي الخصلة الأولى التي أمر بها صلى الله عليه وسلم، من أصر على الجلوس في الطرقات لحاجة، وهي واجبة من خالفها أثم، فعلى المرء أن يقارن بين مصلحة جلوسه في الطريق، ومفسدة مخالفته لما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا فيما يتعلق بمن له حاجة إلى الجلوس في الطريق، فما بالك بمن لا يجلس من الرجال في الطريق أو يذهب للتجول فيها أو في والأسواق، إلا ليطلق نظره عمدا إلى وجوه النساء، ومن لا تجلس من النساء في الطريق أو تتجول فيها وفي الأسواق، وهي إلا لتعرض مفاتنها وزينتها للرجال، كما هو الحال في هذا الزمان؟!
فتعمد نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية، وتعمد نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي فتنة، لا يقي منها، إلا البعد عن النظر خوفا من الله تعالى وأليم عقابه، ومعرفة أنه تعالى مطلع على العين الخائنة التي يستطيع صاحبها أن يجعلها خافية على أقرب الخلق منه كخفاء ما يضمره عن الخلق في صدره، قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾ [غافر]
و لهذا بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم، بهذه الخصلة من الخصال الأربع التي هي من حق الطريق، لعظم خطرها.
الخصلة الثالثة: رد السلام. و السنة أن يسلم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، وردمن يلقى عليهم السلام التحية فرض كفاية عليهم، فإذا كانوا أكثر من واحد، سواء كانوا في الطريق أو في غيرها، ورد بعضهم السلام على من سلم عليهم، سقط الواجب عن البعض الآخر، وإن كان واحدا، تعين عليه رد السلام.
فقد روى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ) وذكر في أولها: (رد السلام) [متفق عليه]
و روى أَبِو هريرة أيضا، أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: (يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) [متفق عليه] وفي رواية في البخاري: (يسلَّم الصغير على الكبير).
وأقسم صلى الله عليه وسلم، أن أمته لا تدخل الجنة إلا بالإيمان، ونفى عتها الإيمان الواجب، بدون التحابب فيما بينها، ودلها على ما يمنحها الله به التحابب، وهو إفشاء السلام بينها، كما روى أبو هريرة أيضا، قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَ لا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوه تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بينَكم) [رواه مسلم.]
ومع ذلك ترى الكثير منا يمر بجماعة أو أفراد، فلا يسلم عليهم، وإذا سلم أحد على غيره، رد عليه بكلمة: "مرحبا" ونحوها، وقد سمعت ذلك من كثير من مذيعي الفضائيات، يقال لهم: السلام عليكم، فيجيبون بقولهم: "أهلا وسهلا" وكثير لا يحيون غيرهم إلا بمثل "صباح الخير، مساء الخير" تاركا تحية الإسلام إلى ما يشبه تحية الجاهلية: "عم صباحا، وعم مساء".
وبعضنا يسلم على صديقه أو قريبه، ولا يسلم على سائر المسلمين الذين لا يعرفهم، بل إنك ترى بعض الموظفين في بعض الإدارات الرسمية، يلقي عليه السلام بعض المراجعين، فلا تتحرك شفتاه، برد السلام، ولا يرفع رأسه إليه، وإذا التفت إليه قال له: نعم ماذا عندك؟ بوجه عبوس مكفهر، واستخفاف فلا يرد التحية بمثلها، ولا يستقبل الناس بوجه ذي الخلق الإداري ولو مجاملة، ولم يذكر أن ولاة الأمر عندما وظفوه، إنما أرادوا منه أن يكون خادما للمواطنين.
ولو جاءه في نفس اللحظة التي لا يحترم فيها المراجعين الذين لا يعرفهم، صديق له أو قريب، لترك مقعده الإداري وقام يستقبله ببشاشة ووجه طلق مبتسم ضاحك، و نادى خادم المكتب طالبا منه إحضار الإكرام بالشاي والقهوة أو غيرهما، والمراجع الذي لا يعرفه يتعجب من تفريقه بينه وبين غيره.
والرسول صلى الله عليه وسلم، قد أمرنا أن نسلم على من عرفنا ومن لم نعرف، كما في حديث عبد اللَّهِ بن عَمْرو بن العَاصِ رضي اللَّه عنهُما أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "أَيُّ الإِسلامِ خَيْرٌ؟" قال: (تُطْعِمْ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لم تَعْرِفْ) [متفقٌ عليه.]
الخصلة الرابعة من حق الطريق: (أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ونهي عن المنكر.)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قاعدة من قواعد الإسلام التي يحافظ بها المسلمون على صفاء دينهم ونقائه، ووقاية أمتهم من كبائر الذنوب بل و صغائرها، لتكون صفوفهم مرصوصة في الغالب بالطيبين والطيبات من المسلمين، خالية من الخبيثين والخبيثات منهم.
ومعلووم أن الله تعالى ما أنزل كتبه وأرسل رسله، إلا لدعوة خلقه إلى المعروف الذي شرعه لهم، وإلى النهي عن المنكر الذي، نهاهم تعالى عنه، وفي كتابه الذي أنزله على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي سنته المطهرة، أمر بكل معروف ونهي عن كل منكر، وهما – أي القرآن والسنة - مليئان بالنصوص التي أرست هذه القاعدة العظيمة.
وقد أمر الله هذه الأمة بالقيام بهذه القاعدة، ورتب على قيامها بها فلاحها، كما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ [آل عمران]
ورتب تعالى خيريتها، على دعامتين، هما: الإيمان، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... (110)﴾ [آل عمران] ومعنى ذلك أن الإيمان الصادق، لا بد أن يصحبه عند أهله أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
و يكفي أن نذكر هنا حديثا واحدا وضح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يترتب على تساهل أمته في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضاربا لها مثالا، محسوسا، يتبين لها به الدمار الذي يلحقها من جراء ذلك التساهل:
فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).[صحيح البخاري]
وكم ترى من المنكرات التي تُفْعَل في الطرقات والأسواق، ولا تجد لها منكرا، وكم ترى من المعروف – حتى الواجب منه يُترك، فلا تجد من يأمر به، فأين نحن مما كلفناه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أبينا إلا الجلوس في الطريق عندما قال: (فأعطوا الطريق حقه)
وإذا وجدت في بعض البلدان جماعة مكلفة من ولي الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقف لها محبو المنكر ومبغضو المعروف، بالمرصاد، ولصقوا لها التهم الباطلة، و وتجمعوا عليها ناقدين في غالب الأحيان، كما تتجمع النسور على الميتات!
الخصلة الثانية: كف الأذى.
وهو شامل لكل ما يؤذي سالك الطريق ويضايقه، من إلقاء حجر قد يجرحه أو قاذورات توسخه، أو توسخ ظل شجرة يستظل بها، أو ذات ثمر يأكل من ثمرها عند الحاجة إليه.
فقد روى أبوهريرة رضي الله عنه، قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (اتّقُوا اللَّعَّانَيْنِ: الذي يَتَخَلّى في طريق النّاسِ، أو في ظِلِّهم) [مسلم].
وقد ذكر العلماء أن المراد باللاعنين الأمرانالجالبان للعن الحاملين للناس عليه، والداعيين إليه، وذلك أن مَن فعلهما يلعنه الناس ويشتمونه، لتأذيهم مما صنع.
والأصل أن المؤمن يسعى في إزالة الأذى عن طريق الناس إذا وجده، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم، حث أمته على ذلك، وجعله من الإيمان، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق....).[مسلم]
وفي حديث آخر، جعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة، روى ذلك أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم، قال: (....وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) [البخاري ومسلم]
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل وجد غصن شوك في طريق كان يمشي فيه، فأخره عن الطريق، فنال بذلك شكر الله له ومغفرته، كما في حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضا، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ الله لَهُ، فَغَفَر لَهُ). [البخاري ومسلم]
وفي رواية لمسلم: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول : (لقد رأيت رجلاً يَتَقَلَّبُ في الجنة ، في شَجَرَة قَطَعَها مِنْ طريق المسلمين ، كانت تُؤذي الناس)
وروى أبو ذرٍّ، رضي الله عنه، قال : قال النبي، صلى الله عليه وسلم : (عُرِضَتْ عليّ أعمالُ أمَّتي : حَسَنُها وسَيِّئُها، فوجدتُ في مَحاسِنِ أعمالها : الأذى يُماطُ عن الطريق، ووجدتُ في مساوِئِ أعمالها: النُّخَامَةَ تكون في المسجد لا تُدْفَنُ). [أخرجه مسلم.]
ومن أمثلة اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم، بالطريق، قضاؤه بتحديد مساحته، إذا حصل فيها خلاف بين شخصين أو أكثر متجاورين في أرض، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (إذَا تَدَارأتُم - وفي رواية - تَشَاجَرْتم في الطَّريقِ ، فاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أذْرُع) [متفق عليه]
قال الإمام النووي رحمه الله، في شرحه على صحيح مسلم: " قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا اِخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيق جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَة أَذْرُع) وَأَمَّا قَدْر الطَّرِيق فَإِنْ جَعَلَ الرَّجُل بَعْض أَرْضه الْمَمْلُوك طَرِيقًا مُسَبَّلَة لِلْمَارِّينَ فَقَدْرهَا إِلَى خِيرَته, وَالْأَفْضَل تَوْسِيعهَا, وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَة مُرَادَة الْحَدِيث, وَإِنْ كَانَ الطَّرِيق بَيْن أَرْض لِقَوْمٍ وَأَرَادُوا إِحْيَاءَهَا, فَإِنْ اِتَّفَقُوا عَلَى شَيْء فَذَاكَ, وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي قَدْره جُعِلَ سَبْع أَذْرُع, وَهَذَا مُرَاد الْحَدِيث, أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا طَرِيقًا مَسْلُوكًا وَهُوَ أَكْثَر مِنْ سَبْعَة أَذْرُع, فَلَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْء مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ." انتهى.
وحرص صلى الله عليه وسلم، على مصلحة السائرين في الطريق ووسائل نقلهم من الدواب، فنهى المسافرين عن المبيت في الطريق، وعلل ذلك بأنها طرق الدواب، ومأوى الهوام بالليل، وأمرهم بالرفق بدوابهم، وإعطائها حظها من المرعى إذا كانت الأرض خصبة، وبالإسراع بها، إذا كانت الأرض مجدبة، ليتمكنوا من الوصول بها إلى أرض بها مرعى يحفظها من الضعف و الكلال.
روى أبو هريرة رضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (إذا سافَرْتُم في الخِصْبِ فَأعْطُوا الإِبِلَ حظَّهَا مِنَ الأَرْضِ، وإِذا سافَرْتُمْ في الجَدْبِ، فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ وَبادروا بِهَا نِقْيَهَا، وَإذا عرَّسْتُم، فَاجتَنِبُوا الطَّريقَ، فَإِنَّهَا طرُقُ الدَّوابِّ، وَمأْوى الهَوامِّ باللَّيْلِ) [رواه مسلم.] وفسر النووي رحمه الله كلمة "نِقْيَها" بمخها لأنها إذا ضعفت من الجوع يذهب مخها فتقف، فيكون في ذلك ضررا عليها وعلى أهلها.
وإذا كانت وسائل السفر الأرضية اليوم هي – في الغالب السيارات – فإنها تحتاج من العناية في وقودها وزيوتها و تفقد آلاتها كالعجلات والكابحات [الفرامل] والماء الذي يقيها من حرارتها، وغير ذلك ما يضمن – لصاحبها بعد الله تعالى – السلامة في سفره.
وقد ذكر العلماء، أن الذي يتسبب في هلاك غيره، بحفر بئر في طريق آخر، ونحو ذلك يكون ضامنا بما فعل، كما يضمن مباشر الهلاك.
قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني: "ويجب الضمان بالسبب, كما يجب بالمباشرة، فإذا حفر بئرا في طريق لغير مصلحة المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه, أو وضع في ذلك حجرا أو حديدة، أوصب فيه ماء، أو وضع فيه قشر بطيخ أو نحوه, وهلك فيه إنسان أو دابة ضمنه، لأنه تلفبعدوانه فضمنه، كما لو جنى عليه ... "
نماذج من إيذاء سالكي الطرق:
من ذلك أن الشوارع العامة في كثير من البلدان تجد من العناية والصيانة أكثر من الشوارع في داخل الأحياء والحارات، التي يكثر في بعضها الخراب، بسبب إهمال صيانتها، وهذا يؤثر على السيارات ويعرضها للتفكك في فترة أقصر، لهذا ينبغي أن يهتم المسئولون بهذه الشوارع في الأحياء والحارات.
ومن ذلك أن بعض السائقين يسرعون في الشوارع في داخل الحارات التي غالبا لا توجد فيها إشارات مرور ولا أحدا من رجال المرور يراقبون السرعة الجنونية فتحصل بسبب ذلك حوادث متعددة، والمفروض أن يتتبع المسئولون مثل هذه الشوارع ويصنعون بها ما يسمى بـالحواجز (المطبات) لتجبر المتهورين على السير المتمهل.
ومنها ما يحصل من المضايقات للمواطنين من صيانة الشوارع العامة في المدن، هذه المضايقة تحصل بسبب القيام بأعمال الصيانة في الأوقات التي تزدحم فيها السيارات، إما في أول الدوام الرسمي للموظفين الذين يحرصون على الوصول إلى مكاتبهم في الأوقات المحددة، وإما في أوقات خروجهم من مكاتبهم مرهقين، كل منهم يود الوصول إلى منزله لينال قسطا من الراحة، وكذلك وقت خروج المدرسين وطلابهم من مدارسهم ومعاهدهم، فيجدون آلات الإصلاح قد سدت الطرق، فتقف السيارات وقتا طويلا تنتظر فرصة رحمة القائمين بالعمل في هذا الوقت الحرج، وفي هذا تضييع لأوقات الناس التي هي حق من حقوقهم التي لا يجوز لأحد إهدارها.
وكذلك الحريصون على أداء الصلوات في جماعة، المساجد، وبخاصة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، تؤخره هذه الأعمال عن إدراك الصلاة صلاة الجمعة أو الجماعة كاملة وقد يفوته بعضها.
والمفروض أن صيانة الشوارع أو تنظيفها عن طريق السيارات في المدن تكون في الليل عندما تخلو الشوارع من السيارات، وهذا ما يفعله المسئولون في دول الغرب التي لا تهدر أوقات مواطنيها، فيصحو الناس وقد رأوا الشوارع أمامهم جاهزة للسير بدون ازدحام محرج.
لهذا ينبغي للمسئولين أن يراعوا مصالح المواطنين، والاهتمام بالشوارع الداخلية في الأحياء، والقيام بالصيانة للشوارع العامة في غير الأوقات التي يضطر الناس للحركة فيها، إلا إذا كان العمل لإنشاء جسور أو أنفاق، فذاك أمر مقبول، لأن الطريق سيقفل رأسا حتى ينتهي الجسر أو النفق.
وتجد ببعض الناس يسدون على غيرهم الطرق بوقوفهم فيها في أوقات الزحمة، مثل الممرات في داخل المساجد أو المؤدية إليها، وفي أبوابها، وفي وممرات دورات المياه، فكثيرا ما ترى مجموعة من الناس يقفون في هذه الأماكن في الأوقات التي يزدحم فيها الناس قبل الصلاة وبعدها، وهذه مناظر مؤذية لا تحصل إلا ممن ثقلت ظلالهم، وهي تخالف حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الطريق حقه) و كثير من الناس، لا يتأدبون بهذا الأدب النبوي العظيم، فيلحقون الأذى بغيرهم في طريقهم.
من ذلك: إلقاء القاذورات في طريق المارة، حتى لكأن الطرق عندهم مزابل، بل تجد في بعض البلدان من يبول و يتغوط على جنبات الطرق، ولقد كنت مع أحد الأصدقاء نسير في سيارة في بعض الطرق في مدينة من المدن العربية، فرأينا لوحة على جدار كتب عليه: "ممنوع التبول ههنا!" وإذا رجل تحت تلك اللوحة يتغوط!
ومن ذلك ما يفعله كثير من الشباب من التسابق بينهم بسياراتهم في الشوارع العامة في داخل المدن أو في الشوارع التي تصل مدينة بأخر أو قرية بمثيلتها، فإن في ذلك من الأخطار عليهم وعلى غيرهم من الذين يسيرون في تلك الشوارع، فهم يجلبون الأذى على أنفسهم وعلى غيرهم، لأنهم قد يتسببون في حصول حوادث قاتله، وخسائر في الممتلكات.
وكذلك تجد بعضهم يقفون سياراتهم في نصف الشارع للتحدث فيما بينهم فيضيقون بذلك على غيرهم.
وتجد بعضهم يؤذون الناس بدراجاتهم النارية، بكثرة التواءاتهم في الشوارع يمنة ويسرة، حتى يكاد بعض سائقي السيارات الارتطام بهم وقد يرتطمون بالفعل، فيحدث ما لا يسر الجميع.
وفي كل ذلك مخالفات صريحة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وكف الأذى)، فهل يعي المسلم ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه في هذا الحديث، وما أشبههما، فيمتثل أمر الله ويكف أذاه عن إخوانه المسلمين، ويأتي ما فيه خير له ولهم؟
د/عبدالله قادري الاهدل
ويجتمع في تلك الطرق في كل عصر ما يناسبها، من الكثرة والقلة، والمراكب، فيجتمع اليوم في الطرق الأرضية أصناف من البشر كبارا وصغارا، رجالا ونساء، مثقفين وأميين، رجالا وركابا، على حيوانات، أو دراجات عادية أو نارية، أو سيارات، أو سفن صغيرة أو كبيرة، ولكل صنف أهدافه وأوطاره، ووسائله ونشاطاته، قد ترضي الآخرين وقد تسخطهم، قد تكون معروفا وقد تكون منكرا.
وفي الجو تملأ الطائرات على تنوعها كبارها وصغارها ومناطيدها، تملأ الجو ذاهبة وآيبة.
لقد ظهر اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر الطريق ليسلكه الناس في أمان، في قوله وفعله، فقوله واضح في الحديث المعنون له في هذا المقال: (أعطوا الطريق حقه) شامل لكل ما يحقق للناس الأمان فيه، وسيأتي ذكر نصه كاملا.
و الحديث متفق عليه، ونصه كما رواه أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله، عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ) فَقَالوا: "مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا." قَالَ: (فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا) قَالُوا: "وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟" قَالَ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ)
فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، أن الأصل في الطريق اختصاصه بمن يمر فيه، حيث قال: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ.)
فلما ذكر له أصحابه، إنهم يحتاجون إلى الجلوس بجانب الطريق، للتحدث فيما بينهم: " نَتَحَدَّثُ فِيهَا" ولم يكن لهم أماكن يجتمعون فيها فيما بينهم، كما نجده اليوم عندنا من البيوت الواسعة مرافقها.
رخص صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك، توسعة عليهم وعدم التضييق عليهم، ويظهر من صيغة ترخيصه لهم، أن بعدهم عن الجلوس في الطريق أولى لهم منه، لقوله: (فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا.) لما يعلم صلى الله عليه وسلم بما قد يحدث لهم من أمور لا تخلو من مأثم، إذا لم يتحرزوا منها.
ولهذا أمرهم بأن يلتزموا بالحق المشروع للطريق الذي إذا خالفوه أثموا، وهو ما أجمله في قوله: (فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا) ولما كان هذا الحق الذي أمرهم بإعطائه عاما لإضافته إلى المعرفة، وهو الضمير، غير واضح لهم ، سألوه أن يبينه لهم، فقالوا: "وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟"
أربع خصال:
أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم، على سؤالهم: "وما حق الطريق؟" بأربع خصال:
الخصلة الأولى:
غض البصر عما حرمه الله، وهذه الخصلة مما يبتلى بها الناس الذين يشتركون في الاجتماع في الطرق وفي غيرها، رجالا ونساء، في أي مناسبة تجمعهم، ساعين في طلب رزقهم في الأسواق، مسافرين أو مقيمين، مشاة على أقدامهم، أو مستقلين مراكب برية أو بحرية أو جوية، أو قائمين بعبادة ربهم، في الجوامع التي تقام فيها الصلوات الخمس والجمع والأعياد، أو حاجين ومعتمرين طائفين وساعين في المسجد الحرام، أو في غيره من المناسك في عرفات ومزدلفة ومنى، أو غير ذلك مما لا يستغنون فيه عن الاجتماع، وهذه الخصلة قد أمر الله بها في كتابه الرجال، كما أمر بها النساء فقال: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ...(31)﴾ [النور]
لأن تعمد إطلاق الرجال والنساء أبصار كل صنف منهم إلى الآخر، قد يترتب عليه الوقوع في الفحشاء والمنكر، فالنظر بريد الزنا، ولهذا قال تعالى بعد أمر الرجال بغض البصر: ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ وقال بعد أمر النساء بغض أبصارهن: ﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾
وقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته ما أمره ربه بتبليغهم، من غض أبصارهم في سورة النور، كما بلغهم ذلك في سنته، بقوله، كما في حديث جرير رضي الله عنه، عن جرير قال: "سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟" فقال: "اصرف بصرك" [أبو داود والترمذي]
وفي حديث بريدة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليِّ رضي الله عنه: (يا عليُّ لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لكَ الأُولَى، وليست لكَ الثانيةُ). [أبو داود والترمذي]
وأنكر صلى الله عليه وسلم، نظر الرجل إلى المرأة، ونظر المرأة إلى الرجل بفعله، كما في حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما، قال: "كان الفَضْلُ ابْنُ عبَّاسٍ رَديفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَجَاءتُه امرأَةُ من خَثْعمَ تَسْتفتيهِ، فَجعَلَ الفضلُ يَنْظُرُ إليها وتَنظُرُ إليه، فجعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يَصْرِفُ وَجهَ الفضلِ إلى الشَّقِّ الآخر... وذلك في حجَّة الوداع" [البخاري ومسلم]
إن على المسلم أن يتقي ربه ويطيع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يستسلم لوساوس الشيطان واتباع خطواته، التي نهاه الله تعالى عنها وبين له أن الشيطان عدو له بين العداوة، وأنه لا يأمره إلا بما يسوؤه عند ربه من الفحشاء، و المنكر، كما قال تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ... (169)﴾ [البقرة]
ولا يستسلم كذلك لهواه ويجعله إماما له، ولا لنفسه الأمارة بالسوء، قال تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾ [الكهف]
و قال تعالى عن امرأة العزيز التي اتبعت هواها، واتبعت خطوات الشيطان، واتبعت نفسها الأمارة بالسوء، وكانت سببا فيما أصاب يوسف الكريم بن الكريم ابن الكريم، من الابتلاء والسجن، وهو الذي قال الله عنه: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33)﴾ [يوسف]
قالت امرأة العزيز في قول بعض المفسرين: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)﴾ [يوسف]
وهي التي جعلت النسوة اللاتي أنكرن عليها مراودتها ليوسف، يفتتن بجماله لما نظرن إليه، وقطعن أيديهن بالسكاكين من حيث لا يشعرن، كما قال تعالى عنهن: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) ﴾ [يوسف]
هذه هي الخصلة الأولى التي أمر بها صلى الله عليه وسلم، من أصر على الجلوس في الطرقات لحاجة، وهي واجبة من خالفها أثم، فعلى المرء أن يقارن بين مصلحة جلوسه في الطريق، ومفسدة مخالفته لما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا فيما يتعلق بمن له حاجة إلى الجلوس في الطريق، فما بالك بمن لا يجلس من الرجال في الطريق أو يذهب للتجول فيها أو في والأسواق، إلا ليطلق نظره عمدا إلى وجوه النساء، ومن لا تجلس من النساء في الطريق أو تتجول فيها وفي الأسواق، وهي إلا لتعرض مفاتنها وزينتها للرجال، كما هو الحال في هذا الزمان؟!
فتعمد نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية، وتعمد نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي فتنة، لا يقي منها، إلا البعد عن النظر خوفا من الله تعالى وأليم عقابه، ومعرفة أنه تعالى مطلع على العين الخائنة التي يستطيع صاحبها أن يجعلها خافية على أقرب الخلق منه كخفاء ما يضمره عن الخلق في صدره، قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾ [غافر]
و لهذا بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم، بهذه الخصلة من الخصال الأربع التي هي من حق الطريق، لعظم خطرها.
الخصلة الثالثة: رد السلام. و السنة أن يسلم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، وردمن يلقى عليهم السلام التحية فرض كفاية عليهم، فإذا كانوا أكثر من واحد، سواء كانوا في الطريق أو في غيرها، ورد بعضهم السلام على من سلم عليهم، سقط الواجب عن البعض الآخر، وإن كان واحدا، تعين عليه رد السلام.
فقد روى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ) وذكر في أولها: (رد السلام) [متفق عليه]
و روى أَبِو هريرة أيضا، أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: (يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) [متفق عليه] وفي رواية في البخاري: (يسلَّم الصغير على الكبير).
وأقسم صلى الله عليه وسلم، أن أمته لا تدخل الجنة إلا بالإيمان، ونفى عتها الإيمان الواجب، بدون التحابب فيما بينها، ودلها على ما يمنحها الله به التحابب، وهو إفشاء السلام بينها، كما روى أبو هريرة أيضا، قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَ لا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوه تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بينَكم) [رواه مسلم.]
ومع ذلك ترى الكثير منا يمر بجماعة أو أفراد، فلا يسلم عليهم، وإذا سلم أحد على غيره، رد عليه بكلمة: "مرحبا" ونحوها، وقد سمعت ذلك من كثير من مذيعي الفضائيات، يقال لهم: السلام عليكم، فيجيبون بقولهم: "أهلا وسهلا" وكثير لا يحيون غيرهم إلا بمثل "صباح الخير، مساء الخير" تاركا تحية الإسلام إلى ما يشبه تحية الجاهلية: "عم صباحا، وعم مساء".
وبعضنا يسلم على صديقه أو قريبه، ولا يسلم على سائر المسلمين الذين لا يعرفهم، بل إنك ترى بعض الموظفين في بعض الإدارات الرسمية، يلقي عليه السلام بعض المراجعين، فلا تتحرك شفتاه، برد السلام، ولا يرفع رأسه إليه، وإذا التفت إليه قال له: نعم ماذا عندك؟ بوجه عبوس مكفهر، واستخفاف فلا يرد التحية بمثلها، ولا يستقبل الناس بوجه ذي الخلق الإداري ولو مجاملة، ولم يذكر أن ولاة الأمر عندما وظفوه، إنما أرادوا منه أن يكون خادما للمواطنين.
ولو جاءه في نفس اللحظة التي لا يحترم فيها المراجعين الذين لا يعرفهم، صديق له أو قريب، لترك مقعده الإداري وقام يستقبله ببشاشة ووجه طلق مبتسم ضاحك، و نادى خادم المكتب طالبا منه إحضار الإكرام بالشاي والقهوة أو غيرهما، والمراجع الذي لا يعرفه يتعجب من تفريقه بينه وبين غيره.
والرسول صلى الله عليه وسلم، قد أمرنا أن نسلم على من عرفنا ومن لم نعرف، كما في حديث عبد اللَّهِ بن عَمْرو بن العَاصِ رضي اللَّه عنهُما أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "أَيُّ الإِسلامِ خَيْرٌ؟" قال: (تُطْعِمْ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لم تَعْرِفْ) [متفقٌ عليه.]
الخصلة الرابعة من حق الطريق: (أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ونهي عن المنكر.)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قاعدة من قواعد الإسلام التي يحافظ بها المسلمون على صفاء دينهم ونقائه، ووقاية أمتهم من كبائر الذنوب بل و صغائرها، لتكون صفوفهم مرصوصة في الغالب بالطيبين والطيبات من المسلمين، خالية من الخبيثين والخبيثات منهم.
ومعلووم أن الله تعالى ما أنزل كتبه وأرسل رسله، إلا لدعوة خلقه إلى المعروف الذي شرعه لهم، وإلى النهي عن المنكر الذي، نهاهم تعالى عنه، وفي كتابه الذي أنزله على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي سنته المطهرة، أمر بكل معروف ونهي عن كل منكر، وهما – أي القرآن والسنة - مليئان بالنصوص التي أرست هذه القاعدة العظيمة.
وقد أمر الله هذه الأمة بالقيام بهذه القاعدة، ورتب على قيامها بها فلاحها، كما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ [آل عمران]
ورتب تعالى خيريتها، على دعامتين، هما: الإيمان، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... (110)﴾ [آل عمران] ومعنى ذلك أن الإيمان الصادق، لا بد أن يصحبه عند أهله أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
و يكفي أن نذكر هنا حديثا واحدا وضح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يترتب على تساهل أمته في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضاربا لها مثالا، محسوسا، يتبين لها به الدمار الذي يلحقها من جراء ذلك التساهل:
فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).[صحيح البخاري]
وكم ترى من المنكرات التي تُفْعَل في الطرقات والأسواق، ولا تجد لها منكرا، وكم ترى من المعروف – حتى الواجب منه يُترك، فلا تجد من يأمر به، فأين نحن مما كلفناه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أبينا إلا الجلوس في الطريق عندما قال: (فأعطوا الطريق حقه)
وإذا وجدت في بعض البلدان جماعة مكلفة من ولي الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقف لها محبو المنكر ومبغضو المعروف، بالمرصاد، ولصقوا لها التهم الباطلة، و وتجمعوا عليها ناقدين في غالب الأحيان، كما تتجمع النسور على الميتات!
الخصلة الثانية: كف الأذى.
وهو شامل لكل ما يؤذي سالك الطريق ويضايقه، من إلقاء حجر قد يجرحه أو قاذورات توسخه، أو توسخ ظل شجرة يستظل بها، أو ذات ثمر يأكل من ثمرها عند الحاجة إليه.
فقد روى أبوهريرة رضي الله عنه، قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (اتّقُوا اللَّعَّانَيْنِ: الذي يَتَخَلّى في طريق النّاسِ، أو في ظِلِّهم) [مسلم].
وقد ذكر العلماء أن المراد باللاعنين الأمرانالجالبان للعن الحاملين للناس عليه، والداعيين إليه، وذلك أن مَن فعلهما يلعنه الناس ويشتمونه، لتأذيهم مما صنع.
والأصل أن المؤمن يسعى في إزالة الأذى عن طريق الناس إذا وجده، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم، حث أمته على ذلك، وجعله من الإيمان، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق....).[مسلم]
وفي حديث آخر، جعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة، روى ذلك أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم، قال: (....وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) [البخاري ومسلم]
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل وجد غصن شوك في طريق كان يمشي فيه، فأخره عن الطريق، فنال بذلك شكر الله له ومغفرته، كما في حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضا، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ الله لَهُ، فَغَفَر لَهُ). [البخاري ومسلم]
وفي رواية لمسلم: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول : (لقد رأيت رجلاً يَتَقَلَّبُ في الجنة ، في شَجَرَة قَطَعَها مِنْ طريق المسلمين ، كانت تُؤذي الناس)
وروى أبو ذرٍّ، رضي الله عنه، قال : قال النبي، صلى الله عليه وسلم : (عُرِضَتْ عليّ أعمالُ أمَّتي : حَسَنُها وسَيِّئُها، فوجدتُ في مَحاسِنِ أعمالها : الأذى يُماطُ عن الطريق، ووجدتُ في مساوِئِ أعمالها: النُّخَامَةَ تكون في المسجد لا تُدْفَنُ). [أخرجه مسلم.]
ومن أمثلة اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم، بالطريق، قضاؤه بتحديد مساحته، إذا حصل فيها خلاف بين شخصين أو أكثر متجاورين في أرض، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (إذَا تَدَارأتُم - وفي رواية - تَشَاجَرْتم في الطَّريقِ ، فاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أذْرُع) [متفق عليه]
قال الإمام النووي رحمه الله، في شرحه على صحيح مسلم: " قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا اِخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيق جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَة أَذْرُع) وَأَمَّا قَدْر الطَّرِيق فَإِنْ جَعَلَ الرَّجُل بَعْض أَرْضه الْمَمْلُوك طَرِيقًا مُسَبَّلَة لِلْمَارِّينَ فَقَدْرهَا إِلَى خِيرَته, وَالْأَفْضَل تَوْسِيعهَا, وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَة مُرَادَة الْحَدِيث, وَإِنْ كَانَ الطَّرِيق بَيْن أَرْض لِقَوْمٍ وَأَرَادُوا إِحْيَاءَهَا, فَإِنْ اِتَّفَقُوا عَلَى شَيْء فَذَاكَ, وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي قَدْره جُعِلَ سَبْع أَذْرُع, وَهَذَا مُرَاد الْحَدِيث, أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا طَرِيقًا مَسْلُوكًا وَهُوَ أَكْثَر مِنْ سَبْعَة أَذْرُع, فَلَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْء مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ." انتهى.
وحرص صلى الله عليه وسلم، على مصلحة السائرين في الطريق ووسائل نقلهم من الدواب، فنهى المسافرين عن المبيت في الطريق، وعلل ذلك بأنها طرق الدواب، ومأوى الهوام بالليل، وأمرهم بالرفق بدوابهم، وإعطائها حظها من المرعى إذا كانت الأرض خصبة، وبالإسراع بها، إذا كانت الأرض مجدبة، ليتمكنوا من الوصول بها إلى أرض بها مرعى يحفظها من الضعف و الكلال.
روى أبو هريرة رضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (إذا سافَرْتُم في الخِصْبِ فَأعْطُوا الإِبِلَ حظَّهَا مِنَ الأَرْضِ، وإِذا سافَرْتُمْ في الجَدْبِ، فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ وَبادروا بِهَا نِقْيَهَا، وَإذا عرَّسْتُم، فَاجتَنِبُوا الطَّريقَ، فَإِنَّهَا طرُقُ الدَّوابِّ، وَمأْوى الهَوامِّ باللَّيْلِ) [رواه مسلم.] وفسر النووي رحمه الله كلمة "نِقْيَها" بمخها لأنها إذا ضعفت من الجوع يذهب مخها فتقف، فيكون في ذلك ضررا عليها وعلى أهلها.
وإذا كانت وسائل السفر الأرضية اليوم هي – في الغالب السيارات – فإنها تحتاج من العناية في وقودها وزيوتها و تفقد آلاتها كالعجلات والكابحات [الفرامل] والماء الذي يقيها من حرارتها، وغير ذلك ما يضمن – لصاحبها بعد الله تعالى – السلامة في سفره.
وقد ذكر العلماء، أن الذي يتسبب في هلاك غيره، بحفر بئر في طريق آخر، ونحو ذلك يكون ضامنا بما فعل، كما يضمن مباشر الهلاك.
قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني: "ويجب الضمان بالسبب, كما يجب بالمباشرة، فإذا حفر بئرا في طريق لغير مصلحة المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه, أو وضع في ذلك حجرا أو حديدة، أوصب فيه ماء، أو وضع فيه قشر بطيخ أو نحوه, وهلك فيه إنسان أو دابة ضمنه، لأنه تلفبعدوانه فضمنه، كما لو جنى عليه ... "
نماذج من إيذاء سالكي الطرق:
من ذلك أن الشوارع العامة في كثير من البلدان تجد من العناية والصيانة أكثر من الشوارع في داخل الأحياء والحارات، التي يكثر في بعضها الخراب، بسبب إهمال صيانتها، وهذا يؤثر على السيارات ويعرضها للتفكك في فترة أقصر، لهذا ينبغي أن يهتم المسئولون بهذه الشوارع في الأحياء والحارات.
ومن ذلك أن بعض السائقين يسرعون في الشوارع في داخل الحارات التي غالبا لا توجد فيها إشارات مرور ولا أحدا من رجال المرور يراقبون السرعة الجنونية فتحصل بسبب ذلك حوادث متعددة، والمفروض أن يتتبع المسئولون مثل هذه الشوارع ويصنعون بها ما يسمى بـالحواجز (المطبات) لتجبر المتهورين على السير المتمهل.
ومنها ما يحصل من المضايقات للمواطنين من صيانة الشوارع العامة في المدن، هذه المضايقة تحصل بسبب القيام بأعمال الصيانة في الأوقات التي تزدحم فيها السيارات، إما في أول الدوام الرسمي للموظفين الذين يحرصون على الوصول إلى مكاتبهم في الأوقات المحددة، وإما في أوقات خروجهم من مكاتبهم مرهقين، كل منهم يود الوصول إلى منزله لينال قسطا من الراحة، وكذلك وقت خروج المدرسين وطلابهم من مدارسهم ومعاهدهم، فيجدون آلات الإصلاح قد سدت الطرق، فتقف السيارات وقتا طويلا تنتظر فرصة رحمة القائمين بالعمل في هذا الوقت الحرج، وفي هذا تضييع لأوقات الناس التي هي حق من حقوقهم التي لا يجوز لأحد إهدارها.
وكذلك الحريصون على أداء الصلوات في جماعة، المساجد، وبخاصة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، تؤخره هذه الأعمال عن إدراك الصلاة صلاة الجمعة أو الجماعة كاملة وقد يفوته بعضها.
والمفروض أن صيانة الشوارع أو تنظيفها عن طريق السيارات في المدن تكون في الليل عندما تخلو الشوارع من السيارات، وهذا ما يفعله المسئولون في دول الغرب التي لا تهدر أوقات مواطنيها، فيصحو الناس وقد رأوا الشوارع أمامهم جاهزة للسير بدون ازدحام محرج.
لهذا ينبغي للمسئولين أن يراعوا مصالح المواطنين، والاهتمام بالشوارع الداخلية في الأحياء، والقيام بالصيانة للشوارع العامة في غير الأوقات التي يضطر الناس للحركة فيها، إلا إذا كان العمل لإنشاء جسور أو أنفاق، فذاك أمر مقبول، لأن الطريق سيقفل رأسا حتى ينتهي الجسر أو النفق.
وتجد ببعض الناس يسدون على غيرهم الطرق بوقوفهم فيها في أوقات الزحمة، مثل الممرات في داخل المساجد أو المؤدية إليها، وفي أبوابها، وفي وممرات دورات المياه، فكثيرا ما ترى مجموعة من الناس يقفون في هذه الأماكن في الأوقات التي يزدحم فيها الناس قبل الصلاة وبعدها، وهذه مناظر مؤذية لا تحصل إلا ممن ثقلت ظلالهم، وهي تخالف حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الطريق حقه) و كثير من الناس، لا يتأدبون بهذا الأدب النبوي العظيم، فيلحقون الأذى بغيرهم في طريقهم.
من ذلك: إلقاء القاذورات في طريق المارة، حتى لكأن الطرق عندهم مزابل، بل تجد في بعض البلدان من يبول و يتغوط على جنبات الطرق، ولقد كنت مع أحد الأصدقاء نسير في سيارة في بعض الطرق في مدينة من المدن العربية، فرأينا لوحة على جدار كتب عليه: "ممنوع التبول ههنا!" وإذا رجل تحت تلك اللوحة يتغوط!
ومن ذلك ما يفعله كثير من الشباب من التسابق بينهم بسياراتهم في الشوارع العامة في داخل المدن أو في الشوارع التي تصل مدينة بأخر أو قرية بمثيلتها، فإن في ذلك من الأخطار عليهم وعلى غيرهم من الذين يسيرون في تلك الشوارع، فهم يجلبون الأذى على أنفسهم وعلى غيرهم، لأنهم قد يتسببون في حصول حوادث قاتله، وخسائر في الممتلكات.
وكذلك تجد بعضهم يقفون سياراتهم في نصف الشارع للتحدث فيما بينهم فيضيقون بذلك على غيرهم.
وتجد بعضهم يؤذون الناس بدراجاتهم النارية، بكثرة التواءاتهم في الشوارع يمنة ويسرة، حتى يكاد بعض سائقي السيارات الارتطام بهم وقد يرتطمون بالفعل، فيحدث ما لا يسر الجميع.
وفي كل ذلك مخالفات صريحة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وكف الأذى)، فهل يعي المسلم ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه في هذا الحديث، وما أشبههما، فيمتثل أمر الله ويكف أذاه عن إخوانه المسلمين، ويأتي ما فيه خير له ولهم؟
د/عبدالله قادري الاهدل