ملف حول علاقة الفرد بالجماعة التي ينتمي لها
أولا- لستُ مقتنعًا برأي القيادة .. إنه اختيارك
لفضيلة الأخ فتحي يكن
نقلا عن موقع شبكة الأحرار
بسم الله الرحمن الرحيم؛
سؤالي إلى الشيخ الجليل الدكتور فتحي يكن؛
أنا أنتمي لإحدى الحركات الإسلامية منذ مُدَّة، ولكن القيادة تفرض في بعض الأحيان أمورًا لا أقتنع بها، وأعتبرها تضرُّ بالدعوة أكثر ممَّا تنفعها، وكمثالٍ على ذلك طلب توزيع أوراق للدعاية للمرشَّحين الإسلاميِّين في الانتخابات، ممَّا قد يترك انطباعًا لدى العوام أنَّ ما أقوم به هو من أجل الانتخابات وليس لوجه الله !!.
وسؤالي هو: هل رفضي القيام بمثل هذه الأمور فيه خروجٌ عن الطاعة والانضباط التي أُمرنا بالتزامها ؟.
وفقكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله
أخي الكريم عبد الله، رعاك الله؛
ما طرحته في رسالتك يتعلَّق بموضوع السمع والطاعة، كما يتعلَّق بالبيعة وحدودها الشرعيَّة، ودعنا من هنا ندخل إلى ما سألت عنه.
أوَّلاً: إنَّ انتماءك إلى إحدى الحركات الإسلاميَّة يعني أنَّك فكَّرتَ وقرَّرتَ واخترتَ هذه الحركة بالذات، وظنِّي أنَّك منحتَها ولاءك، وأدَّيْتَ لها البَّيْعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره ؟.
ثانيًا: البيعة في الإسلام هي العهد على الطاعة.. كأنَّ المبايع يعاهد أميره على أن يُسلم له النظر في نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيءٍ من ذلك، ويطيعه فيما يكلِّفه من الأمور أحبَّ أم كَرِه.
ثالثًا: البيعة هذه سنَّةٌ نبويَّةٌ أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بيعة العقبة الأولى، واستمرَّ عليها، وعمل بها المسلمون من بعده حتى يومنا هذا، وقد أخرج البخاريُّ عن جنادة بن أبي أميَّة، عن عبادة بن الصامت قال: "دعانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في مَنشطنا ومكرهنا، وعُسرنا ويُسرنا، وأَثَرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان" رواه البخاري.
رابعًا: الإمرة في الإسلام واجبة، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم" رواه الطبراني بإسناد حسن. ولكونها مبعث النظام والانتظام، ومن غيرها تحلُّ الفوضى، ويحلُّ مرض "إعجاب كلِّ ذي رأيٍ برأيه".
خامسًا: والطاعة في الإسلام هي بالمعروف، حيث لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبَّ وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة" رواه البخاري، وأنَّ رأي الأمير فيما لا نصَّ فيه - ولو احتمل وجوهًا عدَّة - معمولٌ به في المصالح المرسلة، ما لم يصطدم بقاعدةٍ شرعيَّة.
نخلص من كلِّ ما سبق إلى التقرير التالي فيما سألت عنه:
* ليس شرطًا أن تقتنع بما يُطلب إليك فعله، ما لم يكن لديك دليلٌ شرعيٌّ من الكتاب والسنَّة على وجود معصيةٍ أو مخالفةٍ شرعيَّة، وواجبك حينذاك أن تبسطه وتبيِّنه لأميرك وحركتك، حيث إنَّه لا يكفي أن تمتنع أنت عن الامتثال للأمر- في حال وجود المعصية - بل واجبك أن تمنعها عن غيرك كذلك، وإلا وقعت في محظورٍ شرعيٍّ أكبر ممَّا أنت هاربٌ منه ؟.
* ليس لك أن تفاضل بين ما تعتبره – أنت شخصيّا أو غيرك – ضارًّا أو نافعًا من شئون الدعوة، وإلا انفرط العقد وهَوَى الانتظام، وراح كلُّ عضوٍ يغنِّي علي ليلاه ؟.
* وإنَّني إذ أَعْجَب من أنك تعطي نفسك حقَّ الاجتهاد في شئونٍ وقضايا ثانويَّة، وأن تربط ولاءك وطاعتك لجماعتك بما تتصوَّره من انطباع الناس والعوامِّ فيما يُطلَب إليك فعله، فكيف لو أنَّ الأمر كان هامًّا ومصيريّا وخطيرًا ؟.
نعم.. إنَّ رفضك القيام بمثل هذه الأمور التي ذكرتها وحدَّدتها في رسالتك، هو خروجٌ على الطاعة؛ لأنَّه مبنيٌّ على غير دليلٍ شرعيّ، وهو محضُ ظنٍّ وتوهُّم، وإنَّ الظنَّ لا يغني من الحقِّ شيئًا.
فأقبل يرحمك الله، وانعتق من أسْر نفسك، إن كنتَ تؤثر العمل الجماعيَّ المنظَّم على الآخر الفردي، وعلى أمل أن تُعْلِمَني بقرارك، لك منِّي صادق الدعاء.
ويقول الأستاذ فتحي عبد الستار:
مع ما تفضل به أستاذنا الكريم الدكتور فتحي، نود أن نشير إلى أن البيعة التي تؤدَّى لأية هيئة أو حركة أو جماعة من الجماعات إنما هي بيعة على سبيل "العَقْد" المقصود منها الالتزام بالعمل الصالح الذي تم الاتفاق عليه بين الطرفين على الوجهة الإدارية على سبيل العقد المبرم بينهما، وتمس الوجهة الدينية والشرعية من ناحية أننا أُمِرْنا بالوفاء بالعقود والعهود والمواثيق.
بحيث لا يترتب على حل هذه البيعة أو فلنقل: "العقد" أية آثار كالتي تنتج من نقض البيعة الكبرى من خروج عن الملة وخلافه، حيث إن الأحاديث الواردة في لزوم الجماعة، والتحذير من مفارقتها ووجوب بيعتها، لا يقصد بها هذه الحركات أو الهيئات أو الجماعات؛ مهما أطلقت على نفسها من أسماء، وإنما المقصود من تلك الأحاديث هو الجماعة بالمعنى الشامل، أي الأمة كلها.
لذا فإنه عند التحلل من مثل هذه البيعات أو "العقود" لأي سبب كان، فربما يتكلم الفقهاء في قياس آثار ذلك على نقض اليمين مثلاً، ووجوب التكفير بنفس الكفارات المشروعة لهذا النقض.
مع مراعاة أن الأصل بالطبع هو الوفاء؛ وذلك حتى لا يُفهَم من هذا الكلام جواز الاستهانة بالالتزام، فنكث العهود والغدر شُعبة من شُعَب النفاق التي ذكرها الحديث المتفق على صحته.
ومن الضروري على من أراد فصم عُرى بيعته أو عَقده مع أية حركة أو هيئة، أن يراعي الآداب الإسلامية في ذلك، كما عليه أن يراعي الشروط والالتزامات التي وضعتها الهيئة في حالة الخروج وأعلمته بها عند أدائه للبيعة إن وُجِدَتْ، بحيث لا يؤثر خروجه تأثيرًا يوقع الضرر، فلا ضرر ولا ضرار.
--------------------------
ثانيا - يا ابن الدعوة.. لا تعزف منفردا العنوان
السلام عليكم ورحمة الله، أنا شاب نشأت في أحضان الحركة الإسلامية منذ طفولتي، وقد عشت مراحلها كافة، ودرست تاريخها، وصارت جزءاً من شخصيتي، إلا أنه وفي إحدى مراحل العمر، ثارت في نفسي أسئلةٌ عقائديةٌ وجودية، جعلتني أترك الحركة انسجاما مع ما كنت أعتقده في تلك الفترة، وحتى أكون أميناً مع عهدي مع الحركة، وبدأت رحلةً في البحث والتفكير، إلى أن هداني الله بفضله إلى الإيمان به من جديد، وبقناعةٍ تزيد عما تربيت عليه، وبإصرارٍ كاملٍ على توحيده سبحانه تعالى، والآن ورغم أن هناك من يدعوني للعودة إلى الحركة، إلا أنني أجد نفسي لا أنسجم مع أداء الحركة السياسي، وأشعر بأن ترهلها الإداري وعدم قدرتها على التطور والفشل النسبي الذي أصابها في تحقيق أهدافها التي نشأت لأجلها، يمنعني من العودة مرةً أخرى لها، مع إيماني الكبير بالأسس التي قامت عليها، وبنهجها الوسَطيّ، وبالدور الذي قدَّمته للأمة الإسلامية من تربيةٍ للشباب، وتعبيرٍ صادقٍ عن قضايا الأمة، والآن مشكلتي أنني أحب أن أعمل لله، وأشعر أنني أستطيع أن أقدِّم الكثير، ولدي طاقةً ومواهبَ لا باس بها، وطبيعة عملي يمكن أن تساعد في تقديم خدمةٍ للمسلمين، ولكنني لا أستطيع أن أعمل بمفردي، لأن نشأتي الحركية جعلتني أؤمن بالعمل الجماعيّ، وكذلك لا أستطيع أن أجد جماعةً تلبِّي طموحي في العمل، فهل يكون حلُّ مشكلتي بمحاولة تأسيس إطارٍ جديدٍ مع مجموعةٍ كبيرةٍ يمكن أن تتوافق معي في الرؤية، أم أن عليَّ أن أبقى وحيداً حتى لا تزيد فرقة المسلمين؟
يقول الشيخ فيصل مولوي:
"أبادر إلى القول بأن الانفراد والبناء وحيداً في هذا المجتمع الذي تعصف فيه المنكرات والشبهات بمساعدة الأعداء بغية إبعاد المسلمين عن دينهم للاستمرار في تمزيقهم وأكل ثرواتهم واستقلالهم، وأنت تستطيع أن تقوم بدورٍ في حماية مجتمعك الإسلاميِّ والنهوض به ليتبوأ مكانه الطبيعي بين المجتمعات الإنسانية، هذا الانفراد لا يصح، وهو خطأٌ أسأل الله تعالى أن يحميك منه، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله واجبٌ كما تعلم، خاصة وأنك تؤمن بالعمل الجماعي لتحقيق هذا الواجب.
أما الحل الذي اقترحتَه، وهو تشكيل إطارٍ جديدٍ تعمل من خلاله مع مجموعةٍ كبيرةٍ تتوافق معك في الرؤية، فهو مبنيٌّ على عدم رغبتك في الرجوع إلى الحركة الإسلامية التي نشأت فيها لأسبابٍ ذكرتَها.. وأحب أن أناقشها معك عسى أن نتبين الحل الصحيح:
1 - ذكرتَ أنك لم تعد تنسجم مع أداء الحركة السياسي، ثم ذكرتَ بعد ذلك أنك تؤمن بالدور الكبير الذي قدمته هذه الحركة للأمة الإسلامية، وبتعبيرها الصادق عن قضايا الأمة.
إذا كان الأمر كذلك فمعناه أنك لا تنسجم مع بعض الأداء السياسي لهذه الحركة، وتوافق على أكثره لأن الحركة -كما قلت- كان لها دورٌ كبيرٌ قدَّمته للأمة، وتعبيرٌ صادقٌ عن قضاياها، والأداء السياسي هو الذي مكّنها من ذلك.
وهنا لا بد أن تعلم أن العمل السياسي لفردٍ أو لجماعةٍ أو لدولة، هو اجتهادٌ معرّض للخطأ والصواب، ولكنه أمرٌ لابد منه، وهل تتخيل أنك إذا عملتَ مع إطارٍ جديد، سيكون كل من كان معك مقتنعين بكل الخطوات السياسية التي تُقْدِمون عليها؟ أم أنه سيوجد دائماً موافقٌ ومعارض، ولا يدري أحدٌ أيكون الصواب مع هذا الفريق أو ذاك؟ ولا تستطيع الحركة أن تتأكد من الصواب، ولكن قيادتها تُختار حسب نظامها وبمقتضى الشورى، ولا بد للجميع أن يمضي وفق اختيار القيادة، ولا يصحُّ للمسلم أن يترك جماعته بسبب خيارٍ سياسيٍّ معين، ولو اعتقد جازماً أنه خيارٌ خاطئ، إلا إذا كان كفراً بواحاً أو معصيةً واضحة، ولا أظن ذلك يكون في أية حركةٍ إسلامية.
2 - أما الترهُّل الإداري فهو يصيب كلَّ مؤسسةٍ جماعيةٍ خاصةً عندما تكبر، ولذلك فإننا نرى أكثر الدول تشكو من الترهُّل الإداري، وهو لا يجوز أن يكون سبباً لترك الحركة، بل هو سببٌ للبقاء فيها والتعاون على إنقاذها من هذا المرض، وهل يجوز للمسلم أن يترك مجتمعه الإسلامي إذا أصيب بمرض، أم يجب عليه أن يقوم بدوره مع إخوانه في مكافحة هذا المرض؟ ومثل ذلك يقال في الحركة الإسلامية.
3 - أما عدم القدرة على التطور فهو نوعٌ من أنواع الجمود الذي يؤدي إلى موت الحركة ولو بعد حين، هو ناتجٌ -إذا وجد- عن المجموعة القيادية التي تتولى الزمام، فإذا كان نظام هذه الحركة يتيح تجديد القيادات بالاختيار من القواعد في مدةٍ معينة، فمعنى ذلك أن باب التطور مفتوح، وأن خروجك من هذه الحركة لهذا السبب غير صحيح، أما إذا كان نظام الحركة يمنع تجدد القيادات، وكانت القيادة القائمة جامدةً لا تستطيع أن تتطور بفهمها وأدائها، فيكون الخروج من هذه الحركة لتأسيس إطارٍ جديدٍ جائزاً شرعا.
4 - وأما الفشل -خاصةً إذا كان نسبيًّا- فلا يمكن أن يكون سبباً لترك الحركة وتأسيس إطارٍ آخر، لأنه ليس بالضرورة أن يكون ناتجاً عن أخطاء القيادة وقصورها، بل قد يكون ابتلاءً من الله، ثم إنه من الذي يضمن أن أيَّ إطارٍ لن يتعرض لفشلٍ أكبر؟ وهل يستطيع أحدٌ أن يجزم أنه سيوافق الصواب دائماً وسيكون منتصراً دائما؟ لم يكن هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يكون لسواه، إنما الجماعة الحية هي التي تستطيع استكشاف أسباب الفشل وتحاول معالجتها.. ومشاركة كلِّ عضوٍ في هذا الأمر واجبٌ شرعيّ.
بناءً على ذلك، فإنني أنصح الأخ السائل بالعودة إلى الحركة الإسلامية التي نشأ فيها، ومتابعة العمل الجماعي لخدمة الإسلام من خلالها، ما دامت الأسباب التي ذكرها لا تبرر له إنشاء إطارٍ آخر، وإذا كان يمنعه من ذلك الخجلُ من إخوانه لأنه ترك الحركة في ظروفٍ غير مناسبة، فليحاول أن يتغلَّب على هذه الأعذار فـ "الجماعة رحمة والفرقة عذاب"، وإنشاء جماعةٍ أخرى –إذا لم يكن له مبررٌ شرعيّ- فهو تمزيقٌ للمسلمين، وزيادة تمكينٍ لأعدائهم في بلادهم، نسأل الله السلامة".
أخي الكريم، أمَا وقد أوضح لك الداعية اللبناني الشيخ فيصل مولوي حفظه الله تعالى ما يتعلق بالاستشارة من جوانب شرعيةٍ ودعوية، لم يبقَ إلا أن أؤكد على العمل الجماعيّ، فكل ما حولك يطلب منك العمل المشترك، ويتطلب تضافر الجهود والطاقات، إن كانت لك ملاحظاتٌ على الحركة التي سبق وانتميت إليها، اجلس إليهم وحدِّثهم فيها وناقشهم وافهم وجهة نظرهم، فإن لم تتفقوا، فعلى الأقل حافظ على الحدِّ الأدنى من التفاهم الذي يمكنك من خلاله العمل في ظلهم والانتماء إليهم، أمّا إذا لم تجد بغيتك عندهم -وهذا ما لا أفضِّله- فهناك الجماعات الإسلامية الموجودة، وأتمنى لو حاولت توسيع نظرتكَ قليلاً فيما يتعلَّق بالعمل الجماعيِّ لتضيف إليها مؤسسات المجتمع الأهلية الموجودة والعاملة في الساحة، فيمكنك البحث في المؤسسات الاجتماعية الموجودة، فقد تجد منها ما يناسبك ويتفق مع ميولك، فتنتمي إليها، وتكون عضواً فعالاً ومؤثراً ومفيدا.
لا تعزفْ منفرداًً يا أخي الكريم، فالمخاطر والصعاب أكبر من قدرة فرد، وننتظر رأيك وفعلك...
ثالثا- السمع والطاعة: مفهوم تربوي أم تنظيمي؟؟
بسم الله الرحمن الرحيم،
ما الطرق العمليَّة لتدريب الفتيان من أعمار الحادية والثانية والثالثة عشر على السمع والطاعة للأخ المسؤول؟ وهل موضوع السمع والطاعة للأخ المسؤول أمرٌ يجب التركيز عليه أم أنَّه ليس موضوعاً تربويًّا بل فقط تنظيمي؟ وهل يترتَّب عليه آثارٌ سلبيَّةٌ بالنسبة للفرد في حال لم يكن المسؤول أهلاً للسمع والطاعة؟
بارك الله بكم على جهودكم.
بالنسبة لموضوع تنسيق الجهود في موضوع الدعوة على الإنترنت، أقترح أن ينظَّم الأمر من قبلكم، على الأقل أن نبعث لكم ما نلقاه على الإنترنت في سبيل تنظيم ملفٍّ كاملٍ عن هذا الأمر ضمن الصفحة الموعودة (خدمات دعويَّة/ دعوة ودعاة) التي ننتظرها بفارغ الصبر. والسلام عليكم.
الشيخ عبد الحميد البلالي
بالنسبة لموضوع "السمع والطاعة"، دعني أحدِّد لك أمرين هامَّين قبل أن أنقل لك حديث فضيلة الشيخ عبد الحميد البلالي إليك:
الأمر الأوَّل: مفهوم السمع والطاعة.
الأمر الثاني: سياق السمع والطاعة "الجماعيّ".
الأمر الأوَّل: مفهوم السمع والطاعة:
هذا المفهوم في الأصل مفهومٌ تنظيميٌّ عسكريّ، وما ورد في الآيات والأحاديث النبويَّة حول هذا المفهوم، كان أحد نوعين:
النوع الأوَّل: السمع والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي في الواقع سمعٌ وطاعةٌ لأوامر الإسلام، لأنَّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أحد ركني هذا الدين.
النوع الثاني: ما ورد في السنَّة عن السمع والطاعة كان موجَّهاً لأولي الأمر، ونظرةٌ سريعةٌ على عناوين أبواب كتب الحديث التي فيها هذه الأحاديث تجد الأمر واضحا، فهي تراوحت بين: "السمع والطاعة للإمام - كيف يبايع الإمامَ الناسُ؟ - وجوب طاعة الأمراء في غير معصية - في حقِّ الراعي على الرعيَّة" وغير ذلك.
ولذلك يجب الانتباه إلى مفهوم "السمع والطاعة" بمعناه الدقيق هذا.
وهنا قد يقول قائل: "وهل معنى هذا ألا سمع ولا طاعة في الكيانات والتجمُّعات الموجودة الآن؟"، وبدعوةٍ منِّي للتمهُّل أقول لهؤلاء هذا ما سأتعرَّض له في الأمر الثاني.
الأمر الثاني: سياق السمع والطاعة "الجماعيّ":
ودعني أطلق عليه لفظاً آخر هو "التعاون على البرِّ والتقوى"، حيث هو يفيد معنى أكثر حبًّا وودّا، وأنسب للأهداف التي أنشئت لأجلها هذه التجمُّعات.
من البدهيِّ أن تحتاج هذه التجمُّعات إلى نظامٍ يحكمها ويديرها، ومن المنطقيِّ أنَّ من يقبل الانتماء لهذه التجمُّعات أن يقبل قوانينها ونظمها، وفي هذا السياق يصبح الالتزام هنا ليس التزام "سمعٍ وطاعةٍ" بقدر ما هو التزام نظامٍ وتعاون.
وبهذا المعنى يصبح للـ"سمع والطاعة" معنى تربويّا، وليس معنى تنظيميًّا بحتا.
وعموماً فمن فضلك أخي طارق أن تنتظر قليلا، حيث سننشر قريباً جدًّا حديثاً طويلاً عن الجماعات والتجمُّعات وتفصيلاتها، بإذنه تعالى.
والآن أنقل لك حديث الشيخ عبد الحميد البلالي حول "السمع والطاعة"، ثمَّ توجيهاته القيِّمة في كيفيَّة التعامل مع هؤلاء الشباب.
يقول فضيلته:
"الأخ الفاضل: طارق،
قضيَّة السمع والطاعة لأولي الأمر في الإسلام أمرٌ مهمٌّ وضروريّ، ولك أن تدرك نتيجة مخالفة الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، والمسؤول في الإسلام أكثر الناس حملا، وأثقلهم واجبا، أنيطت به التكاليف وأسندت إليه المهمَّات، فكان لزاماً على أتباعه أن يعاملوه بما هو أهله من الإعانة والتوقير والاحترام والسمع والطاعة.
فعلى أتباعه أن يعاملوه بما هو أهله من الإعانة والتوقير والاحترام والسمع والطاعة وإبداء النصيحة، إذ المسؤوليَّة في الإسلام وإن كانت فرديَّةً من جهة، فهي جماعيَّةٌ من جهةٍ أخرى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاريّ: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيِّته، فالإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته...".
هذا في مسألة السمع والطاعة لوليِّ الأمر.
أمَّا مع هؤلاء الشباب، فالأمر "تعاونٌ على البرِّ والتقوى"، ولذلك علينا أن نترفَّق مع مثل هذه الأعمار، ولا نشدِّد عليها، فما نطلبه من طاعةٍ والتزامٍ في مثل هذا العمر لا يتشابه مع ما نطلبه ممَّن هم في سنِّ البلوغ، بل ندعو هذه الأعمار إلى الطاعة التربويَّة، وذلك بأبسط العبادات، وقبل ذلك بالقدوة الحسنة، والتوازن في شخصيَّة المربِّي، فلا ينزل إليهم نزولاً يفقده هيبته كمربّ، ولا يتعالى عليهم إلى درجة فقدانه ثقتهم ومحبَّتهم، فالتوازن مطلوب، وإذا كان المربِّي ليس أهلاً للطاعة بمعناها التربويّ، فالأصل عدم تكليفه بهذه المهمة، حتى لا يسبِّب نتائج سلبيَّةً مع هؤلاء الصغار.
ولضبط العلاقة بين المسؤول وأتباعه ولتحقيق المصلحة العليا للأمَّة هناك جملةٌ من القواعد والآداب التي تحكم المسألة:
- الطاعة في غير معصيةٍ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
- معاونة المسؤول على الخير وتشجيعه على الأعمال الصالحة: "وتعاونوا على البرِّ والتقوى...".
- توقير المسؤول واحترامه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس من أمَّتي من لم يجلَّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالِمنا حقَّه" رواه أحمد والطبرانيّ، وإسناده حسن.
هذه المعاني يمكن أن تُغرَس في نفوس هؤلاء الصغار بطريقةٍ غير مباشرةٍ ومن خلال الاحتكاك الدوريّ… وفَّقكم الله وسدَّد خطاكم".
وبعد انتهاء حديث فضيلة الشيخ البلالي حفظه الله تعالى، أرجع لاقتراحك حول موضوع تنسيق الجهود في موضوع الدعوة على الإنترنت، فأعدك أوَّلاً أخي طارق أن أعرض الأمر على الإخوة المسؤولين في صفحة "دعوة ودعاة"، والتي أبشِّر الإخوة والأخوات بأنَّها أصبحت على وشك الظهور إن شاء الله تعالى.
ومع عرضي اقتراحك عليهم أتمنَّى لو تصدَّر للقيام بالأمر أحد إخواننا الكرام متابعي الصفحة، على وعدٍ منَّا جميعاً بأن نكون له العون والمدد بالأفكار والاقتراحات أوَّلا، وبإمكانيَّات موقعنا وقدراته ثانيا، وأعتقد أنَّ كلَّ إخواننا الكرام سيكونون اليد المعينة والعقل المفكِّر.
رابعا- في الجماعة: الالتزام.. الخروج.. البيعة.. وأشياء أخرى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
هل شرعاً لابدَّ أن أعمل من خلال جماعة ؟ ألا يكفي أن أكون صالحاً في نفسي، خاصَّةً وأنَّ الجماعات الموجودة على الساحة كلُّها يذمُّ بعضها بعضا؟
الرجاء أن يكون الردُّ بالأدلَّة الشرعيَّة.
وجزاكم الله خيرا.
الدكتور كمال المصري
أخي الكريم
حيَّاك الله ومرحباً بك، وشكراً على سؤالك الهامِّ والشائك في نفس الوقت.
ولا أكتمك سرًّا أنَّ سؤالك هذا حسَّاس، والخوض فيه يحتاج إلى حرصٍ وحذر، لأنَّ الداخل فيه شاء أم أبى سيغضب طرفاً من أطرافه الكثيرة المتنوِّعة المتشعِّبة، وما لم يكن المرء محصَّناً بالدليل والحجَّة الشرعيَّة فسيلقى العديد من المشكلات والالتباسات بل والاتِّهامات.
ولذلك تعمَّدت أن أستعدَّ قبل الخوض في الأمر، بالبحث والتنقيب والاستدلال، حتى يكون لكلامي معنى، ولحديثي وجه، ويهمُّني أن أشير إلى أنَّني لم أدخل هذا المجال وأنا مقتنعٌ برأيٍ ما وأخذت أبحث له عن دليل، ولكنِّي دخلت فيه وأنا "محايد"، حتى لا يكون لرأيي أثرٌ في استدلالي، بمعنى أنَّني لم أعتقد لأستدلّ، وإنَّما استدللت لأعتقد.
إخواني الكرام قارئي هذه الكلمات،
لقد حاولت أن أكون موضوعيًّا منصفاً في ما كتبت، وكلُّ ما أطلبه منكم هو أن تكونوا موضوعيِّين منصفين في ما تقرءون.
أعود إليك أخي صفوت لأضع لك خلاصة ما توصَّلت إليه من بحثي أوَّلا، وهو ما يخالف عادة الباحثين من تأخير الخلاصات إلى آخر البحث، وذلك لأنَّ البحث طويل، فأحببت أن أريحك وأريح الإخوة القرَّاء الكرام بوضع الخلاصة، ومن أراد الاستزادة، فليقرأ التفصيل الذي يلي الخلاصة، وستجد -أخي صفوت- في البحث الإجابة على كلِّ أسئلتك إن شاء الله تعالى.
أقول وبالله التوفيق:
* الخلاصة:
- جماعة المسلمين هي الأمَّة، أو السواد الأعظم من الأمَّة حسب اصطلاح الفقهاء.
- الجماعات الموجودة لا تستند في تأسيسها إلى نصوص السنَّة المطهَّرة الواردة في لزوم الجماعة ووجوب البيعة إلا على سبيل الاستئناس، وإنَّما استنادها إلى النصوص العامَّة التي تحضُّ على التعاون على البرِّ والتقوى، وتنهى عن الفشل والتنازع، وفي هذا السياق عليها أن تسعى بكلِّ طاقتها للتعاون والتكامل والتعاضد، والابتعاد كلَّ الابتعاد عن التقاتل والتنازع والتخاصم.
- البيعة المعقودة لهذه التجمُّعات بمثابة العقد، والطاعة لها تكون في حدود ما اتُّفِق عليه في هذا العقد، ويكون التحلُّل منها عند الاقتضاء بإنهاء هذا التعاقد.
- مفهوم الجماعة أو التجمُّع أشمل من مجرَّد ما تعورف عليه اليوم بـ"الجماعات الإسلاميَّة" بل يشمل كلَّ هيئةٍ أو مؤسَّسةٍ أو جمعيَّةٍ من هيئات ومؤسَّسات وجمعيَّات المجتمع يمكن خدمة الإسلام من خلالها، إذ خدمة الإسلام هو الغاية، والكيانات هي الوسيلة، فبأيِّ شكلٍ كانت تبقى وسيلة، مجرَّد وسيلة.
- إذا لم تكن هذه التجمُّعات هي جماعة المسلمين، فلا مانع من عمل المسلم في جماعةٍ أو في أكثر من تجمُّعٍ منها، والتزامه بها طالما حقَّق ذلك مصلحةً للأمَّة، وانتفى التعارض بينها أو أمكن الجمع بينها.
- اقتضت الضرورة الشرعيَّة الاجتماع لأداء بعض الفرائض التي لا يمكن أداؤها إلا بالاجتماع، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
- إذا كان الأصل هو السعي من خلال تجمُّعٍ من هذه التجمُّعات القائمة إلى إيجاد جماعة المسلمين بالمعنى السياسيّ، فإنَّ بعض الناس لا يتسنَّى له أداء الدور إلا خارج هذه الأطر، أو تكون مصلحة العمل الإسلاميِّ في مكانة خارجها أغلب من المصلحة في لزومه لها، فهؤلاء يترجَّح في حقِّهم ما يحقِّق أكمل المصلحتين، وإذا عُرِف مقصود الشارع سُلِك في حصوله أوصل الطرق إليه.
تفصيل البحث:
* معنى الجماعة لغة:
الجماعة مأخوذةٌ من الاجتماع وهو ضدُّ التفرق، يقال جمع الشيء عن تفرِّقه فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من ههنا وههنا.
وهذا الاجتماع قد يكون حسيًّا كاجتماع الناس في مكانٍ ما، وقد يكون معنويًّا كاجتماع الأمَّة على الإيمان بالله ورسوله مثلا.
* مفهوم الجماعة في النصوص الشرعيَّة:
لم يرد لفظ الجماعة في القرآن الكريم وإن كان معنى "الجماعة" قد ورد عدَّة مرَّاتٍ مرتبطاً بالترغيب في الالتزام بها، والنهي عن التفرُّق والتنازع والفشل.
ولكنَّ لفظ "الجماعة" قد كثر وروده في السنَّة المطهَّرة: والمتتبِّع لمواضع ورود هذه الكلمة في السنَّة يجد أنَّها تأتي دائماً في مقابلة التفرُّق المذموم، وذلك في مثل:
- قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة وإيَّاكم والفرقة"رواه أحمد الترمذيّ، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
- وورد في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "...فعليك بالجماعة، فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية"رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم، وقال: هذا حديثٌ صدوقٌ رواتُه.
- وكما في حديث حذيفة بن اليمان الشهير في الصحيحين، ومطلعه: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني"، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، وقد عنون الإمام مسلم باب الحديث بـ: "باب وجوب ملازمة الإمام عند ظهور الفتن، وفي كلِّ حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة".
وانصبَّ مفهوم الجماعة في نصوص السنَّة المطهَّرة على مفهومين: الأوَّل: مفهومٍ اعتقاديّ، ويشير إلى الدعوة أو المنهج الذي تحمله هذه الجماعة، والثاني: مفهومٍ سياسيّ، ويشير إلى الدولة أو النظام السياسيِّ الذي ينشأ لحماية هذا المنهج والتمكين له في واقع الحياة، فإذا جُمِع بينهما تحقَّق المدلول المتكامل والنهائيُّ لمعنى الجماعة، وتفصيل ذلك التالي:
أوَّلا: المفهوم الاعتقاديّ:
وفيما يلي بعض النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع على الأصول الثابتة بالكتاب والسنَّة والإجماع، واتِّباع ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الحقِّ واتباع السنَّة:
1- ما رواه أبو داود وابن ماجه عن معاوية رضي الله عنه النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنَّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنَّة، وهي الجماعة"وروى الترمذيُّ نحوه، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
2- ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
والجماعة بهذا المعنى لا يشترط لها كثرةٌ ولا قلَّة، بل هي موافقة الحقِّ وإن خالفه أكثر أهل الأرض، أو هي: ما وافق الحق ولو كنت وحدك، وقال نعيم بن حماد رحمه الله: "إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك حينئذ".
ثانيا: المفهوم السياسيّ:
وفيما يلي بعض النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع بالأمَّة، وطاعة الإمام، وعدم الخروج على الجماعة والنظام العامِّ للدولة:
1- ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات مِيتةً جاهليَّة" (لاحظ هنا دقَّة النصّ، رؤية الخطأ من الأمير، والخروج على الجماعة وليس على الإمام، وهذا يؤيِّد فكرة أنَّ المراد هو الأمَّة وليس الإمام، والإمام لا يأخذ طاعته إلا من خلال الصلاحيَّات التي تعطيها الأمَّة له).
2- ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات مِيتةً جاهليَّة".
والجماعة بهذا المعنى تقع في مقابلة البغي والتفرُّق في الراية.
* مفهوم الجماعة عند أهل العلم:
انقسم أهل العلم في مفهوم الجماعة إلى قسمين:
الأوَّل: أنَّ الجماعة هي جميع العلماء من أهل السنَّة، أي الاجتماع على الحقِّ الذي تمثِّله القرون الثلاثة الفاضلة، ويحمل لواءه في كلِّ عصرٍ الثقاتُ العدولُ من أئمَّة أهل السنَّة، وهم يمثِّلون السواد العامَّ من المسلمين، لأنَّ العامَّة بالفطرة تبعٌ لهم.
الثاني: أنَّ الجماعة هي الأمَّة في اجتماعها على الإمام ما دام -في الجملة- مقيماً لأحكام الإسلام، أو هي السواد الأعظم من أهل الإسلام.
والملاحظ أنَّ أصحاب الرأي الأوَّل قد خلطوا بين "جماعة المسلمين" و"أهل الشورى أو الحلِّ والعقد"، حيث اعتبروا من تعتبرهم الأمَّة ممثِّليها هم "الجماعة"، بينما هم مجرَّد ممثِّلين للجماعة لا أكثر، بل هم لم يأخذوا هذه الشرعيَّة في التمثيل إلا من خلال الأمَّة، فكيف تصبح الأمَّة بعد ذلك هي التابع، ويصبح الممثِّلون هم المتبوع؟؟
وعلى ذلك فالرأي الراجح في هذا –والله أعلم- هو أنَّ الجماعة هي "السواد الأعظم من أمَّة الإسلام" حسب اصطلاح الفقهاء.
وهكذا تتَّفق دلالات النصوص، ومآلات أقوال أهل العلم في بيان المقصود بمعنى الجماعة وأنَّها تتضمَّن كلا المعنيين السابقين "الاعتقاديِّ والسياسيّ".
ويتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها الاعتقاديِّ بالالتزام المجمل بالإسلام وذلك بالبقاء على الولاء للإسلام والرضا بشريعته وموالاة دعاته، سواء وجدت الجماعة ككيانٍ سياسيٍّ أم لم توجد.
كما يتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها السياسيِّ بالانتظام في النظام السياسيِّ العامِّ الذي ارتضته الجماعة، أيًّا كان شكل هذا النظام أو نوعه أو من يقوم عليه، وما يقتضي ذلك الانتظام من الولاء والتزام الطاعة.
* معنى لزوم الجماعة:
لا معنى إذن للزوم الجماعة إلا التزام ما هم عليه من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، جاء في الرسالة للإمام الشافعيِّ قال: "فما معنى أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد، قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرِّقةً في البلدان فلا يقدر أحد أن يَلزَم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرِّقين، وإن وجدت الأبدان تكون مجتمعةً من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى لأنَّه لا يمكن، ولأنَّ اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها".
وتطبيق هذا الأمر على مفهوم الجماعة يعني:
الأول: المفهوم الاعتقاديّ: ويعني ضرورة اتِّباع أهل السنَّة والجماعة فيما كانوا عليه من الاعتقاد والتحليل والتحريم ونحو ذلك.
الثاني: الجانب السياسيّ: ويعني اتِّباعهم فيما اتَّفقوا عليه من شكل النظام الذي حدَّدته الجماعة، والطاعة لهذا النظام في غير معصية، وعدم الخروج عليه إلا بالكفر البواح.
فكلُّ مسلم:
- ليس له أن يخرج عن منهج أهل السنَّة والجماعة في اعتقاده وتحليله وتحريمه.
- ليس له أن يخرج عن طاعة نظام الجماعة في غير معصية، سواء أكان المسلمون ذوي شوكةٍ وسلطانٍ أم لم يكونوا، كما في أوقات الفتن.
* مراتب الخروج على الجماعة:
الخروج على الجماعة بأيٍّ من مفهومَيْها الاعتقاديِّ والسياسيِّ يحتمل مراتب ثلاث: 1- الخروج تأويلاً للنصوص:
فمن كان له في خروجه وجه تعلُّقٍ بالنصوص ونوع تأويل لها، مع الإيمان بها في الظاهر والباطن، والالتزام بها جملة، فإنَّ فساد تأويله لا يخرجه من الملَّة، بل يبقى في دائرة الابتداع الذي تتفاوت درجاته غلظاً وخِفَّةً بحسب الأحوال، وفي هذه الحالة يكون الحوار والنقاش هو الطريق لمحاولة إرجاعهم إلى الحقِّ طالما لم يتحوَّل خروجهم هذا إلى خروجٍ السلاح والقتال، وأبرز مثالٍ على ذلك ما حدث مع الخوارج، حيث حاول الإمام عليٌّ رضي الله عنه حوارهم بالنصِّ والعقل والمنطق، ومجادلات ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما معهم خير دليل، ولم يقاتلهم الإمام عليٌّ إلا عندما بدءوا هم بالقتال.
2- الخروج طلباً للملك أو قطعاً للسبيل: وهو نوعان:
- أن يخرجوا طلباً للملك بتأويل، وهؤلاء هم البغاة، وقد أشار القرآن الكريم إلى كيفيَّة التصدِّي لفتنتهم في قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنَّ الله يحبُّ المقسطين".
- أن يخرجوا لقطع السبيل وأخذ المال والإفساد في الأرض وهؤلاء هم المحاربون، وقد أشار القرآن الكريم إلى جزائهم في قوله تعالى: "إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنَّ الله غفورٌ رحيم".
3- الكفر: وهو أيضاً نوعان:
- الخروج ردًّا للنصوص بغير تأويل، أو تأويلاً يترتَّب عليه إنكارٌ لما عُلِم من الدين بالضرورة، أو استجازةً لما أجمع على تحريمه المسلمون، أو تحريماً لما أجمعوا على حلِّه، فلا شكَّ أنَّ إعلان ذلك ردَّة، وأنَّ الإسرار به نفاقٌ أكبر، وهؤلاء يخرجون بذلك من الدين ويفارقون به جماعة المسلمين، وإلى أمثالهم يشير الحديث السابق: "التارك لدينه المفارق للجماعة"، فلا شكَّ أنَّ كلَّ تارك لدينه فهو مفارقٌ للجماعة، لأنَّه قد فارقها فيما أجمعت عليه من الدين، فصار بذلك عضواً مفصولاً عن جماعة المسلمين.
- الخروج كفراً بالإسلام ومعاداةً له وموالاةً لأعدائه، وحرباً عليه، وهؤلاء هم المرتدُّون الذين خلعوا بذلك رِبقة الإسلام من أعناقهم، وذلك كما كان من المرتدِّين في أيَّام أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه من مفارقةٍ للدين، ومظاهرةٍ على حرب المسلمين، وكالذين قتلوا القرَّاء الذين أرسلهم معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمُّوهم القرآن والدين فيما عُرِف بحادثة "الرجيع".
* مفهوم الجماعة اليوم:
استمرَّ مفهوم الجماعة يحمل نفس معناه الاعتقاديِّ دون لبسٍ أو خلاف، أمَّا المعنى السياسيُّ فقد مرَّ بمراحل عديدةٍ حفلت بالوضوح حينا، وبالالتباس أحياناً كثيرة، ووصل المفهوم اليوم في أذهان العديد من الناس إلى مسلكَين خاطئَين:
1- إفراط:
فمنهم من نازع في شرعيَّة الانضواء في تجمُّعٍ من هذه التجمُّعات ابتداء، ذهاباً منه إلى أنَّ المقصود بالجماعة هو جماعة المسلمين، وهذه التجمُّعات ليست من الجماعة في شيء، وهم على صنفين: صنفٍ يعتقد ألا جماعة ولا بيعة إلا بعد التمكين ونصب الإمام، وصنفٍ آخر يرى أنَّ الجماعة موجودةٌ بالفعل، وبالتالي فلا حاجة لوجود مثل هذه التجمُّعات .
2- تفريط:
ومنهم من غلا فقصر جماعة المسلمين على تجمُّعه الخاصّ، ولم ير لغيره شرعيَّة الانتساب إلى الإسلام أو الجماعة، فجعل لزوم جماعته جزءاً من أصل الدين لا تثبت صفة الإسلام ابتداءً إلا باستيفائه، واعتبر من لم يكن في جماعته كافرا، ومن كان في جماعته فخرج منها فقد خرج من رِبقة الإسلام، ورفض التقارب أو التعاون مع غيره من التجمُّعات والجماعات الأخرى.
ولا يسع المجال هنا للردِّ التفصيليِّ على هؤلاء ولا أولئك، وسأكتفي بردٍّ مختصرٍ يفي بالغرض:
- إنَّ الاستدلال على عدم شرعيَّة التجمُّعات القائمة في واقع العمل الإسلاميِّ المعاصر موضع نظر، وذلك لأنَّ الفِرَق التي جاء الأمر في الحديث باعتزالها هي ذلك الشرُّ الذي أشار إليه النبيُّ عليه الصلاة والسلام في الحديث قبل ذلك بقوله: "دعاةٌ على أبواب جهنَّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"متَّفقٌ عليه، والذي أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنده بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأذن بغير ذلك ولو كان البديل هو الاعتزال حتى الموت.
قال الإمام النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعةٍ أو ضلال، كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة".
وقال الإمام الشاطبيُّ رحمه الله: "إنَّ هذه الفِرَق إنَّما تصير فِرَقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلِّيٍّ في الدين وقاعدةٍ من قواعد الشريعة، لا في جزئيٍّ من الجزئيَّات، إذ الجزئيُّ والفرع الشاذُّ لا ينشأ عنه مخالفةٌ يقع بسببها التفرُّق شِيَعا، وإنَّما ينشأ التفرُّق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلِّيَّة".
وليست الجماعات الإسلاميَّة المعاصرة من هذا القبيل لاتِّفاقها في الجملة على الالتزام المجمل بأصول أهل السنَّة والجماعة، ولسعيها جميعاً إلى غايةٍ واحدةٍ تتمثَّل في إقامة الدين والتمكين لشريعة الله في الأرض، أمَّا ما يقع بينها من اختلافٍ فهو اختلاف خططٍ ووسائل، وليس اختلاف غاياتٍ أو عقائد.
- وكذلك قصر مفهوم "جماعة المسلمين" على تجمُّعٍ بعينه، هو خطأٌ وزعمٌ لا دليل عليه، فجماعة المسلمين –كما ذكرت آنفا- هي السواد الأعظم من أمَّة الإسلام، وهذه التجمُّعات أيًّا كان شكلها ليست الأمَّة ولا هي سوادها الأعظم، فمن أين أتى زعمهم هذا؟؟
وتبرز خطورة هذا الفهم القاصر حين تكرَّس الخصومة بين فصائل العمل الإسلاميّ، ويصبح التكفير قُرْبةً إلى الله تعالى، فكلٌّ منهم يتقرَّب إلى الله بإخراج الآخر من الملَّة، ويتعبَّد الله بقطع ما بينه وبين أخيه، وتزداد الفتنة عندما تنتقل هذه الخصومة إلى دائرة المنابر العامَّة، ويندلع لهيبها في أوساط الأمَّة، وأدنى ما يمكن أن يترتَّب على ذلك هو الزهد في العمل الإسلاميِّ كلِّه الذي يفقد احترامه بسبب هذه المهاترات، ويبدو في صورة الفِرَق المتناحرة والشِّيع المتلاعنة، وبدلاً من أن توجَّه هذه الجهود وهذه الطاقات إلى دعوة العالَمين إلى الله تعالى، تحوَّل إلى التكفير والتفسيق بل والضرب والقتل في أحايين كثيرة.
هذه الجماعات أو التجمُّعات ليست أيٌّ منها هي جماعة المسلمين، ولهذا فإنَّها ليست نهاية المطاف، ولا يمثِّل أحدها على انفرادٍ جماعة المسلمين، ولا كلُّها مجتمعة، وبالتالي فليس هناك من زعمٍ في اعتبار هذه أو تلك هي الأصل وغيرها ليس كذلك، وليست هناك من مشكلةٌ في وجود جماعةٍ واثنتين وثلاث، طالما لم يتعدَّ الأمر كونها مجرَّد خطواتٍ مرحليَّةٍ في الطريق إلى جماعة المسلمين، لا أكثر من ذلك ولا أقلّ.
علماً بأنَّ هذه التجمُّعات الموجودة قد نشأت لمواجهة تحدِّياتٍ معيَّنةٍ واجهت الأمَّة في القرن العشرين، وإطلالةٌ سريعةٌ على أسباب تكوين هذه التجمُّعات تنبئ بذلك، وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ هذه التجمُّعات تصبح تكامليَّة لا تصادميَّة، بمعنى أنَّها كلَّها في صفٍّ واحد، وكلَّ واحدةٍ تقف في مواجهة تحدٍّ مختلفٍ عمَّا تواجهه الأخرى، فيكون الجمع هو الصحيح لا المواجهة.
وعلى هذا يكون السؤال: ماذا على المسلمين اليوم؟ هل عليهم الالتزام في جماعةٍ بعينها؟ أم الأَوْلى الابتعاد عنها كلِّها؟؟
لست هنا بصدد الإجابة بالنفي أو الإثبات، بقدر ما أنا معنيٌّ بإبراز وتوضيح المسألة، وترك كلَّ إنسانٍ يجيب عن السؤال كما يختار ويرغب.
وقبل التوضيح أشير إلى أنَّ هذه الجماعات هي وسائل لا غايات، فإنَّنا حين نرغب في الوصول إلى مكانٍ ما مثلاً نختار أفضل وسائل المواصلات التي تؤدِّي الغرض وتصل بنا للغاية، وكذلك الأمر حين نرغب في الانتماء لكيانٍ ما، فإنَّنا نختار من هذه الاتجاهات ما كان أرجى للمسلمين، وأبصر باعتبار المآلات والموازنة بين المصالح والمفاسد، وأنسب لاستيعاب قدراتنا وملكاتنا والاستفادة من طاقتنا ومواهبنا لصالح العمل الإسلاميِّ الشامل، والأولويَّات التي قد تتغيَّر وتتبدَّل حسب الاحتياجات والتحدِّيات.
إذا كان الأمر كذلك يصبح تحديد انتماء أحدنا مرتبطٌ بقدرته على تقديم أقصى جهدٍ في هذا السياق، بعيداً عن الأسماء والمسمَّيات، والأشخاص والهيئات، فمن كان أداؤه الأَوفى والأعلى حين يعمل منفرداً فليعمل، ومن كان يعطي كلَّ طاقته حين ينتمي لجماعات إسلاميَّةٍ فلينتمِ، ومن كان يجد نفسه وطاقته من خلال جمعيَّات المجتمع ومؤسَّساته فليسارع إلى الاشتراك فيها، دون إنكارٍ من أحدٍ على أحد، ولا لوم أحدٍ لأحد.
إنَّنا كلُّنا قد فعلنا ذلك رغبةً منَّا في القرب من الله تعالى، وحرصاً على خدمة دينه ورسالته، وخوفاً على الأمَّة من الضياع، فعلامَ الخلاف والنزاع واللوم والتلاوم؟؟
علينا أن نقبل بعضنا أيًّا كان موقعنا إن كنَّا اتَّفقنا على الغاية واختلفنا في الوسيلة، بل علينا أن نقبل فكرة انتماء الشخص لأكثر من كيانٍ أو هيئة، ما المانع أن يكون المسلم عضواً في جمعيَّةٍ وجماعةٍ في آنٍ واحد؟ بل ما المانع من أن يلتزم في جماعتين طالما يحقِّق ذلك الخير للفرد وللأمَّة؟ فإن حدث تعارضٌ ما يُترَك تقدير الأمر للفرد حسب ما يرى من خدمة دينه وأمَّته، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بنظم وقواعد التجمُّع الذي انتمى إليه طالما رضيه وارتضى الانتماء إليه، إذ الالتزام هنا ليس التزاماً شرعيًّا باعتباره جماعة المسلمين، ولكنَّه التزامٌ إداريٌّ تنظيميٌّ لتسيير العمل وانتظامه.
هذه النقطة – في ظنِّي- جديرةٌ بالتفكير والتدبُّر، وحريٌّ بنا أن نعيد النظر من خلالها في العديد من "الثوابت الحركيَّة" إن صحَّ التعبير.
وبعد هذه المقدمة، جاء دور التوضيح: أرى أنَّ المسلم أمام أمرين:
الأوَّل: الالتزام باتِّجاهٍ من الاتِّجاهات القائمة باعتبار ذلك خطوةً مرحليَّةً في الطريق إلى جماعة المسلمين، والسعي من خلاله إلى إيجاد هذه الجماعة بمفهومها العامِّ والشامل.
وفي هذا ينبغي التنويه إلى أنَّ المقصود بالالتزام هنا الالتزام بتجمُّعٍ ما بمفهومه العامِّ الذي يشمل: الجماعات الإسلاميَّة- الخيريَّة- جمعيَّات ومؤسَّسات المجتمع.. إلخ.
على أن لا يعتبر انتسابه لهذه الجماعة هو نهاية المطاف، فهذه التجمُّعات وسائل لغايةٍ واحدةٍ تتمثَّل في جمع الكلمة وتنسيق الجهود في سبيل خدمة الأمَّة، فهي خطوةٌ مرحليَّةٌ على الطريق.
وأؤكِّد على أنَّ هذه الجماعات والتجمُّعات لا يمثِّل أحدها على انفرادٍ جماعة المسلمين، وإنَّما هي خطواتٌ مرحليَّةٌ في الطريق إليها، وأنَّ التزام المسلم بـ"جماعة المسلمين" بمفهومها العامِّ والشامل أسبق من التزامه بهذه التجمُّعات الجزئيَّة، لأنَّ الأوَّل واجبٌ بأصل الشرع، فهو الذي دلَّت عليه النصوص، وانعقد عليه الإجماع، أمَّا الثاني فمستَنَد وجوبه هو المصلحة الراجحة، وكونه ذريعةً لإقامة بعض الواجبات الشرعيَّة التي قد لا يتسنَّى أداؤها إلا من خلال هذه الأطر.
فلا ينبغي إذن أن تنقلب الأمور، ويصبح الولاء لهذا التجمُّع أو ذاك ذريعةً لقطع الولاء عن بقيَّة العاملين، أو مشوِّشًا على المفهوم العامِّ لجماعة المسلمين، فيتحوَّل إلى غايةٍ وقد كان وسيلة، ويصبح منتهى السعي وقد كان شوطاً من أشواطه، ويتمزَّق به ولاء الأمَّة بدلاً من أن تجتمع به وتتوحَّد من خلاله!!
ويوم أن تصبح هذه التجمُّعات مفرِّقةً للكلمة، أو مشوِّشةً على الولاء العامِّ للإسلام والجماعة، فإنَّ شرعيتَّها من الأساس تكون موضع نظر، لما تقرَّر من أنَّ الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلاًّ وحرمة.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "لمَّا كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها، فوسائل المحرَّمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبَّتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعةٌ للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنَّه مقصودٌ قصد الغايات، وهي مقصودةٌ قصد الوسائل، فإذا حرَّم الربُّ تعالى شيئاً وله طرقٌ ووسائل تفضي إليه، فإنَّه يحرِّمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمها، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل، والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كلَّ الإباء".
وإذا كان مفهوم "جماعة المسلمين" لا ينطبق على التجمُّعات الموجودة، ففي هذا الإطار ماذا تكون "البيعة" التي يعطيها المسلم لبعض هذه التجمُّعات حين التزامه بها؟ وما إلزاميَّتها؟
أمَّا البيعة التي تُعطَى لأيِّ تجمُّعٍ فهي ابتداءً بيعةٌ على عملٍ صالحٍ يتَّفق مع مقرَّرات الشرع؛ كفعل الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البرِّ والتقوى، والمقصد منها الالتزام بالعمل الذي تمَّ الاتفاق عليه بين الطرفين، بصرف النظر عن الأوصاف والمسمَّيات.
وأمَّا إلزاميَّتها فهي لا تأخذ حكم التعاقد الملزم بين أطراف العلاقة التعاقديَّة، ولا يترتَّب عليها التزامٌ بين المتعاقدين إلا بقدر ما تسبِّبه من ضرر، فالبيعة التي تُعطَى لهذه التجمُّعات لا تخوِّل لأمرائها الحقَّ في السمع والطاعة المطلقة، وإنَّما هي بمثابة العهد أو العقد، وقد جاء في فتاوى المذهب الحنفيِّ ما نصُّه: "رجلٌ أعطى العهد لشيخ، ثمَّ أعطاه لآخر، أيُّ العهدين يلزمه؟ قالوا: لا هذا ولا ذاك!".
فإن فارق الشخص تجمُّعه، وقد التزم معه بعمل، فلا شيء عليه، بشرط ألا يُخلَّ فراقه بالتزامٍ تَعهَّد به وترتَّب عليه ضرر على الطرف الآخر، شأنه تماماً كشأن المتعاقد ال
أولا- لستُ مقتنعًا برأي القيادة .. إنه اختيارك
لفضيلة الأخ فتحي يكن
نقلا عن موقع شبكة الأحرار
بسم الله الرحمن الرحيم؛
سؤالي إلى الشيخ الجليل الدكتور فتحي يكن؛
أنا أنتمي لإحدى الحركات الإسلامية منذ مُدَّة، ولكن القيادة تفرض في بعض الأحيان أمورًا لا أقتنع بها، وأعتبرها تضرُّ بالدعوة أكثر ممَّا تنفعها، وكمثالٍ على ذلك طلب توزيع أوراق للدعاية للمرشَّحين الإسلاميِّين في الانتخابات، ممَّا قد يترك انطباعًا لدى العوام أنَّ ما أقوم به هو من أجل الانتخابات وليس لوجه الله !!.
وسؤالي هو: هل رفضي القيام بمثل هذه الأمور فيه خروجٌ عن الطاعة والانضباط التي أُمرنا بالتزامها ؟.
وفقكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله
أخي الكريم عبد الله، رعاك الله؛
ما طرحته في رسالتك يتعلَّق بموضوع السمع والطاعة، كما يتعلَّق بالبيعة وحدودها الشرعيَّة، ودعنا من هنا ندخل إلى ما سألت عنه.
أوَّلاً: إنَّ انتماءك إلى إحدى الحركات الإسلاميَّة يعني أنَّك فكَّرتَ وقرَّرتَ واخترتَ هذه الحركة بالذات، وظنِّي أنَّك منحتَها ولاءك، وأدَّيْتَ لها البَّيْعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره ؟.
ثانيًا: البيعة في الإسلام هي العهد على الطاعة.. كأنَّ المبايع يعاهد أميره على أن يُسلم له النظر في نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيءٍ من ذلك، ويطيعه فيما يكلِّفه من الأمور أحبَّ أم كَرِه.
ثالثًا: البيعة هذه سنَّةٌ نبويَّةٌ أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بيعة العقبة الأولى، واستمرَّ عليها، وعمل بها المسلمون من بعده حتى يومنا هذا، وقد أخرج البخاريُّ عن جنادة بن أبي أميَّة، عن عبادة بن الصامت قال: "دعانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في مَنشطنا ومكرهنا، وعُسرنا ويُسرنا، وأَثَرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان" رواه البخاري.
رابعًا: الإمرة في الإسلام واجبة، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم" رواه الطبراني بإسناد حسن. ولكونها مبعث النظام والانتظام، ومن غيرها تحلُّ الفوضى، ويحلُّ مرض "إعجاب كلِّ ذي رأيٍ برأيه".
خامسًا: والطاعة في الإسلام هي بالمعروف، حيث لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبَّ وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة" رواه البخاري، وأنَّ رأي الأمير فيما لا نصَّ فيه - ولو احتمل وجوهًا عدَّة - معمولٌ به في المصالح المرسلة، ما لم يصطدم بقاعدةٍ شرعيَّة.
نخلص من كلِّ ما سبق إلى التقرير التالي فيما سألت عنه:
* ليس شرطًا أن تقتنع بما يُطلب إليك فعله، ما لم يكن لديك دليلٌ شرعيٌّ من الكتاب والسنَّة على وجود معصيةٍ أو مخالفةٍ شرعيَّة، وواجبك حينذاك أن تبسطه وتبيِّنه لأميرك وحركتك، حيث إنَّه لا يكفي أن تمتنع أنت عن الامتثال للأمر- في حال وجود المعصية - بل واجبك أن تمنعها عن غيرك كذلك، وإلا وقعت في محظورٍ شرعيٍّ أكبر ممَّا أنت هاربٌ منه ؟.
* ليس لك أن تفاضل بين ما تعتبره – أنت شخصيّا أو غيرك – ضارًّا أو نافعًا من شئون الدعوة، وإلا انفرط العقد وهَوَى الانتظام، وراح كلُّ عضوٍ يغنِّي علي ليلاه ؟.
* وإنَّني إذ أَعْجَب من أنك تعطي نفسك حقَّ الاجتهاد في شئونٍ وقضايا ثانويَّة، وأن تربط ولاءك وطاعتك لجماعتك بما تتصوَّره من انطباع الناس والعوامِّ فيما يُطلَب إليك فعله، فكيف لو أنَّ الأمر كان هامًّا ومصيريّا وخطيرًا ؟.
نعم.. إنَّ رفضك القيام بمثل هذه الأمور التي ذكرتها وحدَّدتها في رسالتك، هو خروجٌ على الطاعة؛ لأنَّه مبنيٌّ على غير دليلٍ شرعيّ، وهو محضُ ظنٍّ وتوهُّم، وإنَّ الظنَّ لا يغني من الحقِّ شيئًا.
فأقبل يرحمك الله، وانعتق من أسْر نفسك، إن كنتَ تؤثر العمل الجماعيَّ المنظَّم على الآخر الفردي، وعلى أمل أن تُعْلِمَني بقرارك، لك منِّي صادق الدعاء.
ويقول الأستاذ فتحي عبد الستار:
مع ما تفضل به أستاذنا الكريم الدكتور فتحي، نود أن نشير إلى أن البيعة التي تؤدَّى لأية هيئة أو حركة أو جماعة من الجماعات إنما هي بيعة على سبيل "العَقْد" المقصود منها الالتزام بالعمل الصالح الذي تم الاتفاق عليه بين الطرفين على الوجهة الإدارية على سبيل العقد المبرم بينهما، وتمس الوجهة الدينية والشرعية من ناحية أننا أُمِرْنا بالوفاء بالعقود والعهود والمواثيق.
بحيث لا يترتب على حل هذه البيعة أو فلنقل: "العقد" أية آثار كالتي تنتج من نقض البيعة الكبرى من خروج عن الملة وخلافه، حيث إن الأحاديث الواردة في لزوم الجماعة، والتحذير من مفارقتها ووجوب بيعتها، لا يقصد بها هذه الحركات أو الهيئات أو الجماعات؛ مهما أطلقت على نفسها من أسماء، وإنما المقصود من تلك الأحاديث هو الجماعة بالمعنى الشامل، أي الأمة كلها.
لذا فإنه عند التحلل من مثل هذه البيعات أو "العقود" لأي سبب كان، فربما يتكلم الفقهاء في قياس آثار ذلك على نقض اليمين مثلاً، ووجوب التكفير بنفس الكفارات المشروعة لهذا النقض.
مع مراعاة أن الأصل بالطبع هو الوفاء؛ وذلك حتى لا يُفهَم من هذا الكلام جواز الاستهانة بالالتزام، فنكث العهود والغدر شُعبة من شُعَب النفاق التي ذكرها الحديث المتفق على صحته.
ومن الضروري على من أراد فصم عُرى بيعته أو عَقده مع أية حركة أو هيئة، أن يراعي الآداب الإسلامية في ذلك، كما عليه أن يراعي الشروط والالتزامات التي وضعتها الهيئة في حالة الخروج وأعلمته بها عند أدائه للبيعة إن وُجِدَتْ، بحيث لا يؤثر خروجه تأثيرًا يوقع الضرر، فلا ضرر ولا ضرار.
--------------------------
ثانيا - يا ابن الدعوة.. لا تعزف منفردا العنوان
السلام عليكم ورحمة الله، أنا شاب نشأت في أحضان الحركة الإسلامية منذ طفولتي، وقد عشت مراحلها كافة، ودرست تاريخها، وصارت جزءاً من شخصيتي، إلا أنه وفي إحدى مراحل العمر، ثارت في نفسي أسئلةٌ عقائديةٌ وجودية، جعلتني أترك الحركة انسجاما مع ما كنت أعتقده في تلك الفترة، وحتى أكون أميناً مع عهدي مع الحركة، وبدأت رحلةً في البحث والتفكير، إلى أن هداني الله بفضله إلى الإيمان به من جديد، وبقناعةٍ تزيد عما تربيت عليه، وبإصرارٍ كاملٍ على توحيده سبحانه تعالى، والآن ورغم أن هناك من يدعوني للعودة إلى الحركة، إلا أنني أجد نفسي لا أنسجم مع أداء الحركة السياسي، وأشعر بأن ترهلها الإداري وعدم قدرتها على التطور والفشل النسبي الذي أصابها في تحقيق أهدافها التي نشأت لأجلها، يمنعني من العودة مرةً أخرى لها، مع إيماني الكبير بالأسس التي قامت عليها، وبنهجها الوسَطيّ، وبالدور الذي قدَّمته للأمة الإسلامية من تربيةٍ للشباب، وتعبيرٍ صادقٍ عن قضايا الأمة، والآن مشكلتي أنني أحب أن أعمل لله، وأشعر أنني أستطيع أن أقدِّم الكثير، ولدي طاقةً ومواهبَ لا باس بها، وطبيعة عملي يمكن أن تساعد في تقديم خدمةٍ للمسلمين، ولكنني لا أستطيع أن أعمل بمفردي، لأن نشأتي الحركية جعلتني أؤمن بالعمل الجماعيّ، وكذلك لا أستطيع أن أجد جماعةً تلبِّي طموحي في العمل، فهل يكون حلُّ مشكلتي بمحاولة تأسيس إطارٍ جديدٍ مع مجموعةٍ كبيرةٍ يمكن أن تتوافق معي في الرؤية، أم أن عليَّ أن أبقى وحيداً حتى لا تزيد فرقة المسلمين؟
يقول الشيخ فيصل مولوي:
"أبادر إلى القول بأن الانفراد والبناء وحيداً في هذا المجتمع الذي تعصف فيه المنكرات والشبهات بمساعدة الأعداء بغية إبعاد المسلمين عن دينهم للاستمرار في تمزيقهم وأكل ثرواتهم واستقلالهم، وأنت تستطيع أن تقوم بدورٍ في حماية مجتمعك الإسلاميِّ والنهوض به ليتبوأ مكانه الطبيعي بين المجتمعات الإنسانية، هذا الانفراد لا يصح، وهو خطأٌ أسأل الله تعالى أن يحميك منه، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله واجبٌ كما تعلم، خاصة وأنك تؤمن بالعمل الجماعي لتحقيق هذا الواجب.
أما الحل الذي اقترحتَه، وهو تشكيل إطارٍ جديدٍ تعمل من خلاله مع مجموعةٍ كبيرةٍ تتوافق معك في الرؤية، فهو مبنيٌّ على عدم رغبتك في الرجوع إلى الحركة الإسلامية التي نشأت فيها لأسبابٍ ذكرتَها.. وأحب أن أناقشها معك عسى أن نتبين الحل الصحيح:
1 - ذكرتَ أنك لم تعد تنسجم مع أداء الحركة السياسي، ثم ذكرتَ بعد ذلك أنك تؤمن بالدور الكبير الذي قدمته هذه الحركة للأمة الإسلامية، وبتعبيرها الصادق عن قضايا الأمة.
إذا كان الأمر كذلك فمعناه أنك لا تنسجم مع بعض الأداء السياسي لهذه الحركة، وتوافق على أكثره لأن الحركة -كما قلت- كان لها دورٌ كبيرٌ قدَّمته للأمة، وتعبيرٌ صادقٌ عن قضاياها، والأداء السياسي هو الذي مكّنها من ذلك.
وهنا لا بد أن تعلم أن العمل السياسي لفردٍ أو لجماعةٍ أو لدولة، هو اجتهادٌ معرّض للخطأ والصواب، ولكنه أمرٌ لابد منه، وهل تتخيل أنك إذا عملتَ مع إطارٍ جديد، سيكون كل من كان معك مقتنعين بكل الخطوات السياسية التي تُقْدِمون عليها؟ أم أنه سيوجد دائماً موافقٌ ومعارض، ولا يدري أحدٌ أيكون الصواب مع هذا الفريق أو ذاك؟ ولا تستطيع الحركة أن تتأكد من الصواب، ولكن قيادتها تُختار حسب نظامها وبمقتضى الشورى، ولا بد للجميع أن يمضي وفق اختيار القيادة، ولا يصحُّ للمسلم أن يترك جماعته بسبب خيارٍ سياسيٍّ معين، ولو اعتقد جازماً أنه خيارٌ خاطئ، إلا إذا كان كفراً بواحاً أو معصيةً واضحة، ولا أظن ذلك يكون في أية حركةٍ إسلامية.
2 - أما الترهُّل الإداري فهو يصيب كلَّ مؤسسةٍ جماعيةٍ خاصةً عندما تكبر، ولذلك فإننا نرى أكثر الدول تشكو من الترهُّل الإداري، وهو لا يجوز أن يكون سبباً لترك الحركة، بل هو سببٌ للبقاء فيها والتعاون على إنقاذها من هذا المرض، وهل يجوز للمسلم أن يترك مجتمعه الإسلامي إذا أصيب بمرض، أم يجب عليه أن يقوم بدوره مع إخوانه في مكافحة هذا المرض؟ ومثل ذلك يقال في الحركة الإسلامية.
3 - أما عدم القدرة على التطور فهو نوعٌ من أنواع الجمود الذي يؤدي إلى موت الحركة ولو بعد حين، هو ناتجٌ -إذا وجد- عن المجموعة القيادية التي تتولى الزمام، فإذا كان نظام هذه الحركة يتيح تجديد القيادات بالاختيار من القواعد في مدةٍ معينة، فمعنى ذلك أن باب التطور مفتوح، وأن خروجك من هذه الحركة لهذا السبب غير صحيح، أما إذا كان نظام الحركة يمنع تجدد القيادات، وكانت القيادة القائمة جامدةً لا تستطيع أن تتطور بفهمها وأدائها، فيكون الخروج من هذه الحركة لتأسيس إطارٍ جديدٍ جائزاً شرعا.
4 - وأما الفشل -خاصةً إذا كان نسبيًّا- فلا يمكن أن يكون سبباً لترك الحركة وتأسيس إطارٍ آخر، لأنه ليس بالضرورة أن يكون ناتجاً عن أخطاء القيادة وقصورها، بل قد يكون ابتلاءً من الله، ثم إنه من الذي يضمن أن أيَّ إطارٍ لن يتعرض لفشلٍ أكبر؟ وهل يستطيع أحدٌ أن يجزم أنه سيوافق الصواب دائماً وسيكون منتصراً دائما؟ لم يكن هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يكون لسواه، إنما الجماعة الحية هي التي تستطيع استكشاف أسباب الفشل وتحاول معالجتها.. ومشاركة كلِّ عضوٍ في هذا الأمر واجبٌ شرعيّ.
بناءً على ذلك، فإنني أنصح الأخ السائل بالعودة إلى الحركة الإسلامية التي نشأ فيها، ومتابعة العمل الجماعي لخدمة الإسلام من خلالها، ما دامت الأسباب التي ذكرها لا تبرر له إنشاء إطارٍ آخر، وإذا كان يمنعه من ذلك الخجلُ من إخوانه لأنه ترك الحركة في ظروفٍ غير مناسبة، فليحاول أن يتغلَّب على هذه الأعذار فـ "الجماعة رحمة والفرقة عذاب"، وإنشاء جماعةٍ أخرى –إذا لم يكن له مبررٌ شرعيّ- فهو تمزيقٌ للمسلمين، وزيادة تمكينٍ لأعدائهم في بلادهم، نسأل الله السلامة".
أخي الكريم، أمَا وقد أوضح لك الداعية اللبناني الشيخ فيصل مولوي حفظه الله تعالى ما يتعلق بالاستشارة من جوانب شرعيةٍ ودعوية، لم يبقَ إلا أن أؤكد على العمل الجماعيّ، فكل ما حولك يطلب منك العمل المشترك، ويتطلب تضافر الجهود والطاقات، إن كانت لك ملاحظاتٌ على الحركة التي سبق وانتميت إليها، اجلس إليهم وحدِّثهم فيها وناقشهم وافهم وجهة نظرهم، فإن لم تتفقوا، فعلى الأقل حافظ على الحدِّ الأدنى من التفاهم الذي يمكنك من خلاله العمل في ظلهم والانتماء إليهم، أمّا إذا لم تجد بغيتك عندهم -وهذا ما لا أفضِّله- فهناك الجماعات الإسلامية الموجودة، وأتمنى لو حاولت توسيع نظرتكَ قليلاً فيما يتعلَّق بالعمل الجماعيِّ لتضيف إليها مؤسسات المجتمع الأهلية الموجودة والعاملة في الساحة، فيمكنك البحث في المؤسسات الاجتماعية الموجودة، فقد تجد منها ما يناسبك ويتفق مع ميولك، فتنتمي إليها، وتكون عضواً فعالاً ومؤثراً ومفيدا.
لا تعزفْ منفرداًً يا أخي الكريم، فالمخاطر والصعاب أكبر من قدرة فرد، وننتظر رأيك وفعلك...
ثالثا- السمع والطاعة: مفهوم تربوي أم تنظيمي؟؟
بسم الله الرحمن الرحيم،
ما الطرق العمليَّة لتدريب الفتيان من أعمار الحادية والثانية والثالثة عشر على السمع والطاعة للأخ المسؤول؟ وهل موضوع السمع والطاعة للأخ المسؤول أمرٌ يجب التركيز عليه أم أنَّه ليس موضوعاً تربويًّا بل فقط تنظيمي؟ وهل يترتَّب عليه آثارٌ سلبيَّةٌ بالنسبة للفرد في حال لم يكن المسؤول أهلاً للسمع والطاعة؟
بارك الله بكم على جهودكم.
بالنسبة لموضوع تنسيق الجهود في موضوع الدعوة على الإنترنت، أقترح أن ينظَّم الأمر من قبلكم، على الأقل أن نبعث لكم ما نلقاه على الإنترنت في سبيل تنظيم ملفٍّ كاملٍ عن هذا الأمر ضمن الصفحة الموعودة (خدمات دعويَّة/ دعوة ودعاة) التي ننتظرها بفارغ الصبر. والسلام عليكم.
الشيخ عبد الحميد البلالي
بالنسبة لموضوع "السمع والطاعة"، دعني أحدِّد لك أمرين هامَّين قبل أن أنقل لك حديث فضيلة الشيخ عبد الحميد البلالي إليك:
الأمر الأوَّل: مفهوم السمع والطاعة.
الأمر الثاني: سياق السمع والطاعة "الجماعيّ".
الأمر الأوَّل: مفهوم السمع والطاعة:
هذا المفهوم في الأصل مفهومٌ تنظيميٌّ عسكريّ، وما ورد في الآيات والأحاديث النبويَّة حول هذا المفهوم، كان أحد نوعين:
النوع الأوَّل: السمع والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي في الواقع سمعٌ وطاعةٌ لأوامر الإسلام، لأنَّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أحد ركني هذا الدين.
النوع الثاني: ما ورد في السنَّة عن السمع والطاعة كان موجَّهاً لأولي الأمر، ونظرةٌ سريعةٌ على عناوين أبواب كتب الحديث التي فيها هذه الأحاديث تجد الأمر واضحا، فهي تراوحت بين: "السمع والطاعة للإمام - كيف يبايع الإمامَ الناسُ؟ - وجوب طاعة الأمراء في غير معصية - في حقِّ الراعي على الرعيَّة" وغير ذلك.
ولذلك يجب الانتباه إلى مفهوم "السمع والطاعة" بمعناه الدقيق هذا.
وهنا قد يقول قائل: "وهل معنى هذا ألا سمع ولا طاعة في الكيانات والتجمُّعات الموجودة الآن؟"، وبدعوةٍ منِّي للتمهُّل أقول لهؤلاء هذا ما سأتعرَّض له في الأمر الثاني.
الأمر الثاني: سياق السمع والطاعة "الجماعيّ":
ودعني أطلق عليه لفظاً آخر هو "التعاون على البرِّ والتقوى"، حيث هو يفيد معنى أكثر حبًّا وودّا، وأنسب للأهداف التي أنشئت لأجلها هذه التجمُّعات.
من البدهيِّ أن تحتاج هذه التجمُّعات إلى نظامٍ يحكمها ويديرها، ومن المنطقيِّ أنَّ من يقبل الانتماء لهذه التجمُّعات أن يقبل قوانينها ونظمها، وفي هذا السياق يصبح الالتزام هنا ليس التزام "سمعٍ وطاعةٍ" بقدر ما هو التزام نظامٍ وتعاون.
وبهذا المعنى يصبح للـ"سمع والطاعة" معنى تربويّا، وليس معنى تنظيميًّا بحتا.
وعموماً فمن فضلك أخي طارق أن تنتظر قليلا، حيث سننشر قريباً جدًّا حديثاً طويلاً عن الجماعات والتجمُّعات وتفصيلاتها، بإذنه تعالى.
والآن أنقل لك حديث الشيخ عبد الحميد البلالي حول "السمع والطاعة"، ثمَّ توجيهاته القيِّمة في كيفيَّة التعامل مع هؤلاء الشباب.
يقول فضيلته:
"الأخ الفاضل: طارق،
قضيَّة السمع والطاعة لأولي الأمر في الإسلام أمرٌ مهمٌّ وضروريّ، ولك أن تدرك نتيجة مخالفة الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، والمسؤول في الإسلام أكثر الناس حملا، وأثقلهم واجبا، أنيطت به التكاليف وأسندت إليه المهمَّات، فكان لزاماً على أتباعه أن يعاملوه بما هو أهله من الإعانة والتوقير والاحترام والسمع والطاعة.
فعلى أتباعه أن يعاملوه بما هو أهله من الإعانة والتوقير والاحترام والسمع والطاعة وإبداء النصيحة، إذ المسؤوليَّة في الإسلام وإن كانت فرديَّةً من جهة، فهي جماعيَّةٌ من جهةٍ أخرى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاريّ: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيِّته، فالإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته...".
هذا في مسألة السمع والطاعة لوليِّ الأمر.
أمَّا مع هؤلاء الشباب، فالأمر "تعاونٌ على البرِّ والتقوى"، ولذلك علينا أن نترفَّق مع مثل هذه الأعمار، ولا نشدِّد عليها، فما نطلبه من طاعةٍ والتزامٍ في مثل هذا العمر لا يتشابه مع ما نطلبه ممَّن هم في سنِّ البلوغ، بل ندعو هذه الأعمار إلى الطاعة التربويَّة، وذلك بأبسط العبادات، وقبل ذلك بالقدوة الحسنة، والتوازن في شخصيَّة المربِّي، فلا ينزل إليهم نزولاً يفقده هيبته كمربّ، ولا يتعالى عليهم إلى درجة فقدانه ثقتهم ومحبَّتهم، فالتوازن مطلوب، وإذا كان المربِّي ليس أهلاً للطاعة بمعناها التربويّ، فالأصل عدم تكليفه بهذه المهمة، حتى لا يسبِّب نتائج سلبيَّةً مع هؤلاء الصغار.
ولضبط العلاقة بين المسؤول وأتباعه ولتحقيق المصلحة العليا للأمَّة هناك جملةٌ من القواعد والآداب التي تحكم المسألة:
- الطاعة في غير معصيةٍ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
- معاونة المسؤول على الخير وتشجيعه على الأعمال الصالحة: "وتعاونوا على البرِّ والتقوى...".
- توقير المسؤول واحترامه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس من أمَّتي من لم يجلَّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالِمنا حقَّه" رواه أحمد والطبرانيّ، وإسناده حسن.
هذه المعاني يمكن أن تُغرَس في نفوس هؤلاء الصغار بطريقةٍ غير مباشرةٍ ومن خلال الاحتكاك الدوريّ… وفَّقكم الله وسدَّد خطاكم".
وبعد انتهاء حديث فضيلة الشيخ البلالي حفظه الله تعالى، أرجع لاقتراحك حول موضوع تنسيق الجهود في موضوع الدعوة على الإنترنت، فأعدك أوَّلاً أخي طارق أن أعرض الأمر على الإخوة المسؤولين في صفحة "دعوة ودعاة"، والتي أبشِّر الإخوة والأخوات بأنَّها أصبحت على وشك الظهور إن شاء الله تعالى.
ومع عرضي اقتراحك عليهم أتمنَّى لو تصدَّر للقيام بالأمر أحد إخواننا الكرام متابعي الصفحة، على وعدٍ منَّا جميعاً بأن نكون له العون والمدد بالأفكار والاقتراحات أوَّلا، وبإمكانيَّات موقعنا وقدراته ثانيا، وأعتقد أنَّ كلَّ إخواننا الكرام سيكونون اليد المعينة والعقل المفكِّر.
رابعا- في الجماعة: الالتزام.. الخروج.. البيعة.. وأشياء أخرى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
هل شرعاً لابدَّ أن أعمل من خلال جماعة ؟ ألا يكفي أن أكون صالحاً في نفسي، خاصَّةً وأنَّ الجماعات الموجودة على الساحة كلُّها يذمُّ بعضها بعضا؟
الرجاء أن يكون الردُّ بالأدلَّة الشرعيَّة.
وجزاكم الله خيرا.
الدكتور كمال المصري
أخي الكريم
حيَّاك الله ومرحباً بك، وشكراً على سؤالك الهامِّ والشائك في نفس الوقت.
ولا أكتمك سرًّا أنَّ سؤالك هذا حسَّاس، والخوض فيه يحتاج إلى حرصٍ وحذر، لأنَّ الداخل فيه شاء أم أبى سيغضب طرفاً من أطرافه الكثيرة المتنوِّعة المتشعِّبة، وما لم يكن المرء محصَّناً بالدليل والحجَّة الشرعيَّة فسيلقى العديد من المشكلات والالتباسات بل والاتِّهامات.
ولذلك تعمَّدت أن أستعدَّ قبل الخوض في الأمر، بالبحث والتنقيب والاستدلال، حتى يكون لكلامي معنى، ولحديثي وجه، ويهمُّني أن أشير إلى أنَّني لم أدخل هذا المجال وأنا مقتنعٌ برأيٍ ما وأخذت أبحث له عن دليل، ولكنِّي دخلت فيه وأنا "محايد"، حتى لا يكون لرأيي أثرٌ في استدلالي، بمعنى أنَّني لم أعتقد لأستدلّ، وإنَّما استدللت لأعتقد.
إخواني الكرام قارئي هذه الكلمات،
لقد حاولت أن أكون موضوعيًّا منصفاً في ما كتبت، وكلُّ ما أطلبه منكم هو أن تكونوا موضوعيِّين منصفين في ما تقرءون.
أعود إليك أخي صفوت لأضع لك خلاصة ما توصَّلت إليه من بحثي أوَّلا، وهو ما يخالف عادة الباحثين من تأخير الخلاصات إلى آخر البحث، وذلك لأنَّ البحث طويل، فأحببت أن أريحك وأريح الإخوة القرَّاء الكرام بوضع الخلاصة، ومن أراد الاستزادة، فليقرأ التفصيل الذي يلي الخلاصة، وستجد -أخي صفوت- في البحث الإجابة على كلِّ أسئلتك إن شاء الله تعالى.
أقول وبالله التوفيق:
* الخلاصة:
- جماعة المسلمين هي الأمَّة، أو السواد الأعظم من الأمَّة حسب اصطلاح الفقهاء.
- الجماعات الموجودة لا تستند في تأسيسها إلى نصوص السنَّة المطهَّرة الواردة في لزوم الجماعة ووجوب البيعة إلا على سبيل الاستئناس، وإنَّما استنادها إلى النصوص العامَّة التي تحضُّ على التعاون على البرِّ والتقوى، وتنهى عن الفشل والتنازع، وفي هذا السياق عليها أن تسعى بكلِّ طاقتها للتعاون والتكامل والتعاضد، والابتعاد كلَّ الابتعاد عن التقاتل والتنازع والتخاصم.
- البيعة المعقودة لهذه التجمُّعات بمثابة العقد، والطاعة لها تكون في حدود ما اتُّفِق عليه في هذا العقد، ويكون التحلُّل منها عند الاقتضاء بإنهاء هذا التعاقد.
- مفهوم الجماعة أو التجمُّع أشمل من مجرَّد ما تعورف عليه اليوم بـ"الجماعات الإسلاميَّة" بل يشمل كلَّ هيئةٍ أو مؤسَّسةٍ أو جمعيَّةٍ من هيئات ومؤسَّسات وجمعيَّات المجتمع يمكن خدمة الإسلام من خلالها، إذ خدمة الإسلام هو الغاية، والكيانات هي الوسيلة، فبأيِّ شكلٍ كانت تبقى وسيلة، مجرَّد وسيلة.
- إذا لم تكن هذه التجمُّعات هي جماعة المسلمين، فلا مانع من عمل المسلم في جماعةٍ أو في أكثر من تجمُّعٍ منها، والتزامه بها طالما حقَّق ذلك مصلحةً للأمَّة، وانتفى التعارض بينها أو أمكن الجمع بينها.
- اقتضت الضرورة الشرعيَّة الاجتماع لأداء بعض الفرائض التي لا يمكن أداؤها إلا بالاجتماع، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
- إذا كان الأصل هو السعي من خلال تجمُّعٍ من هذه التجمُّعات القائمة إلى إيجاد جماعة المسلمين بالمعنى السياسيّ، فإنَّ بعض الناس لا يتسنَّى له أداء الدور إلا خارج هذه الأطر، أو تكون مصلحة العمل الإسلاميِّ في مكانة خارجها أغلب من المصلحة في لزومه لها، فهؤلاء يترجَّح في حقِّهم ما يحقِّق أكمل المصلحتين، وإذا عُرِف مقصود الشارع سُلِك في حصوله أوصل الطرق إليه.
تفصيل البحث:
* معنى الجماعة لغة:
الجماعة مأخوذةٌ من الاجتماع وهو ضدُّ التفرق، يقال جمع الشيء عن تفرِّقه فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من ههنا وههنا.
وهذا الاجتماع قد يكون حسيًّا كاجتماع الناس في مكانٍ ما، وقد يكون معنويًّا كاجتماع الأمَّة على الإيمان بالله ورسوله مثلا.
* مفهوم الجماعة في النصوص الشرعيَّة:
لم يرد لفظ الجماعة في القرآن الكريم وإن كان معنى "الجماعة" قد ورد عدَّة مرَّاتٍ مرتبطاً بالترغيب في الالتزام بها، والنهي عن التفرُّق والتنازع والفشل.
ولكنَّ لفظ "الجماعة" قد كثر وروده في السنَّة المطهَّرة: والمتتبِّع لمواضع ورود هذه الكلمة في السنَّة يجد أنَّها تأتي دائماً في مقابلة التفرُّق المذموم، وذلك في مثل:
- قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة وإيَّاكم والفرقة"رواه أحمد الترمذيّ، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
- وورد في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "...فعليك بالجماعة، فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية"رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم، وقال: هذا حديثٌ صدوقٌ رواتُه.
- وكما في حديث حذيفة بن اليمان الشهير في الصحيحين، ومطلعه: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني"، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، وقد عنون الإمام مسلم باب الحديث بـ: "باب وجوب ملازمة الإمام عند ظهور الفتن، وفي كلِّ حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة".
وانصبَّ مفهوم الجماعة في نصوص السنَّة المطهَّرة على مفهومين: الأوَّل: مفهومٍ اعتقاديّ، ويشير إلى الدعوة أو المنهج الذي تحمله هذه الجماعة، والثاني: مفهومٍ سياسيّ، ويشير إلى الدولة أو النظام السياسيِّ الذي ينشأ لحماية هذا المنهج والتمكين له في واقع الحياة، فإذا جُمِع بينهما تحقَّق المدلول المتكامل والنهائيُّ لمعنى الجماعة، وتفصيل ذلك التالي:
أوَّلا: المفهوم الاعتقاديّ:
وفيما يلي بعض النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع على الأصول الثابتة بالكتاب والسنَّة والإجماع، واتِّباع ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الحقِّ واتباع السنَّة:
1- ما رواه أبو داود وابن ماجه عن معاوية رضي الله عنه النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنَّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنَّة، وهي الجماعة"وروى الترمذيُّ نحوه، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
2- ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
والجماعة بهذا المعنى لا يشترط لها كثرةٌ ولا قلَّة، بل هي موافقة الحقِّ وإن خالفه أكثر أهل الأرض، أو هي: ما وافق الحق ولو كنت وحدك، وقال نعيم بن حماد رحمه الله: "إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك حينئذ".
ثانيا: المفهوم السياسيّ:
وفيما يلي بعض النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع بالأمَّة، وطاعة الإمام، وعدم الخروج على الجماعة والنظام العامِّ للدولة:
1- ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات مِيتةً جاهليَّة" (لاحظ هنا دقَّة النصّ، رؤية الخطأ من الأمير، والخروج على الجماعة وليس على الإمام، وهذا يؤيِّد فكرة أنَّ المراد هو الأمَّة وليس الإمام، والإمام لا يأخذ طاعته إلا من خلال الصلاحيَّات التي تعطيها الأمَّة له).
2- ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات مِيتةً جاهليَّة".
والجماعة بهذا المعنى تقع في مقابلة البغي والتفرُّق في الراية.
* مفهوم الجماعة عند أهل العلم:
انقسم أهل العلم في مفهوم الجماعة إلى قسمين:
الأوَّل: أنَّ الجماعة هي جميع العلماء من أهل السنَّة، أي الاجتماع على الحقِّ الذي تمثِّله القرون الثلاثة الفاضلة، ويحمل لواءه في كلِّ عصرٍ الثقاتُ العدولُ من أئمَّة أهل السنَّة، وهم يمثِّلون السواد العامَّ من المسلمين، لأنَّ العامَّة بالفطرة تبعٌ لهم.
الثاني: أنَّ الجماعة هي الأمَّة في اجتماعها على الإمام ما دام -في الجملة- مقيماً لأحكام الإسلام، أو هي السواد الأعظم من أهل الإسلام.
والملاحظ أنَّ أصحاب الرأي الأوَّل قد خلطوا بين "جماعة المسلمين" و"أهل الشورى أو الحلِّ والعقد"، حيث اعتبروا من تعتبرهم الأمَّة ممثِّليها هم "الجماعة"، بينما هم مجرَّد ممثِّلين للجماعة لا أكثر، بل هم لم يأخذوا هذه الشرعيَّة في التمثيل إلا من خلال الأمَّة، فكيف تصبح الأمَّة بعد ذلك هي التابع، ويصبح الممثِّلون هم المتبوع؟؟
وعلى ذلك فالرأي الراجح في هذا –والله أعلم- هو أنَّ الجماعة هي "السواد الأعظم من أمَّة الإسلام" حسب اصطلاح الفقهاء.
وهكذا تتَّفق دلالات النصوص، ومآلات أقوال أهل العلم في بيان المقصود بمعنى الجماعة وأنَّها تتضمَّن كلا المعنيين السابقين "الاعتقاديِّ والسياسيّ".
ويتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها الاعتقاديِّ بالالتزام المجمل بالإسلام وذلك بالبقاء على الولاء للإسلام والرضا بشريعته وموالاة دعاته، سواء وجدت الجماعة ككيانٍ سياسيٍّ أم لم توجد.
كما يتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها السياسيِّ بالانتظام في النظام السياسيِّ العامِّ الذي ارتضته الجماعة، أيًّا كان شكل هذا النظام أو نوعه أو من يقوم عليه، وما يقتضي ذلك الانتظام من الولاء والتزام الطاعة.
* معنى لزوم الجماعة:
لا معنى إذن للزوم الجماعة إلا التزام ما هم عليه من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، جاء في الرسالة للإمام الشافعيِّ قال: "فما معنى أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد، قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرِّقةً في البلدان فلا يقدر أحد أن يَلزَم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرِّقين، وإن وجدت الأبدان تكون مجتمعةً من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى لأنَّه لا يمكن، ولأنَّ اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها".
وتطبيق هذا الأمر على مفهوم الجماعة يعني:
الأول: المفهوم الاعتقاديّ: ويعني ضرورة اتِّباع أهل السنَّة والجماعة فيما كانوا عليه من الاعتقاد والتحليل والتحريم ونحو ذلك.
الثاني: الجانب السياسيّ: ويعني اتِّباعهم فيما اتَّفقوا عليه من شكل النظام الذي حدَّدته الجماعة، والطاعة لهذا النظام في غير معصية، وعدم الخروج عليه إلا بالكفر البواح.
فكلُّ مسلم:
- ليس له أن يخرج عن منهج أهل السنَّة والجماعة في اعتقاده وتحليله وتحريمه.
- ليس له أن يخرج عن طاعة نظام الجماعة في غير معصية، سواء أكان المسلمون ذوي شوكةٍ وسلطانٍ أم لم يكونوا، كما في أوقات الفتن.
* مراتب الخروج على الجماعة:
الخروج على الجماعة بأيٍّ من مفهومَيْها الاعتقاديِّ والسياسيِّ يحتمل مراتب ثلاث: 1- الخروج تأويلاً للنصوص:
فمن كان له في خروجه وجه تعلُّقٍ بالنصوص ونوع تأويل لها، مع الإيمان بها في الظاهر والباطن، والالتزام بها جملة، فإنَّ فساد تأويله لا يخرجه من الملَّة، بل يبقى في دائرة الابتداع الذي تتفاوت درجاته غلظاً وخِفَّةً بحسب الأحوال، وفي هذه الحالة يكون الحوار والنقاش هو الطريق لمحاولة إرجاعهم إلى الحقِّ طالما لم يتحوَّل خروجهم هذا إلى خروجٍ السلاح والقتال، وأبرز مثالٍ على ذلك ما حدث مع الخوارج، حيث حاول الإمام عليٌّ رضي الله عنه حوارهم بالنصِّ والعقل والمنطق، ومجادلات ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما معهم خير دليل، ولم يقاتلهم الإمام عليٌّ إلا عندما بدءوا هم بالقتال.
2- الخروج طلباً للملك أو قطعاً للسبيل: وهو نوعان:
- أن يخرجوا طلباً للملك بتأويل، وهؤلاء هم البغاة، وقد أشار القرآن الكريم إلى كيفيَّة التصدِّي لفتنتهم في قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنَّ الله يحبُّ المقسطين".
- أن يخرجوا لقطع السبيل وأخذ المال والإفساد في الأرض وهؤلاء هم المحاربون، وقد أشار القرآن الكريم إلى جزائهم في قوله تعالى: "إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنَّ الله غفورٌ رحيم".
3- الكفر: وهو أيضاً نوعان:
- الخروج ردًّا للنصوص بغير تأويل، أو تأويلاً يترتَّب عليه إنكارٌ لما عُلِم من الدين بالضرورة، أو استجازةً لما أجمع على تحريمه المسلمون، أو تحريماً لما أجمعوا على حلِّه، فلا شكَّ أنَّ إعلان ذلك ردَّة، وأنَّ الإسرار به نفاقٌ أكبر، وهؤلاء يخرجون بذلك من الدين ويفارقون به جماعة المسلمين، وإلى أمثالهم يشير الحديث السابق: "التارك لدينه المفارق للجماعة"، فلا شكَّ أنَّ كلَّ تارك لدينه فهو مفارقٌ للجماعة، لأنَّه قد فارقها فيما أجمعت عليه من الدين، فصار بذلك عضواً مفصولاً عن جماعة المسلمين.
- الخروج كفراً بالإسلام ومعاداةً له وموالاةً لأعدائه، وحرباً عليه، وهؤلاء هم المرتدُّون الذين خلعوا بذلك رِبقة الإسلام من أعناقهم، وذلك كما كان من المرتدِّين في أيَّام أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه من مفارقةٍ للدين، ومظاهرةٍ على حرب المسلمين، وكالذين قتلوا القرَّاء الذين أرسلهم معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمُّوهم القرآن والدين فيما عُرِف بحادثة "الرجيع".
* مفهوم الجماعة اليوم:
استمرَّ مفهوم الجماعة يحمل نفس معناه الاعتقاديِّ دون لبسٍ أو خلاف، أمَّا المعنى السياسيُّ فقد مرَّ بمراحل عديدةٍ حفلت بالوضوح حينا، وبالالتباس أحياناً كثيرة، ووصل المفهوم اليوم في أذهان العديد من الناس إلى مسلكَين خاطئَين:
1- إفراط:
فمنهم من نازع في شرعيَّة الانضواء في تجمُّعٍ من هذه التجمُّعات ابتداء، ذهاباً منه إلى أنَّ المقصود بالجماعة هو جماعة المسلمين، وهذه التجمُّعات ليست من الجماعة في شيء، وهم على صنفين: صنفٍ يعتقد ألا جماعة ولا بيعة إلا بعد التمكين ونصب الإمام، وصنفٍ آخر يرى أنَّ الجماعة موجودةٌ بالفعل، وبالتالي فلا حاجة لوجود مثل هذه التجمُّعات .
2- تفريط:
ومنهم من غلا فقصر جماعة المسلمين على تجمُّعه الخاصّ، ولم ير لغيره شرعيَّة الانتساب إلى الإسلام أو الجماعة، فجعل لزوم جماعته جزءاً من أصل الدين لا تثبت صفة الإسلام ابتداءً إلا باستيفائه، واعتبر من لم يكن في جماعته كافرا، ومن كان في جماعته فخرج منها فقد خرج من رِبقة الإسلام، ورفض التقارب أو التعاون مع غيره من التجمُّعات والجماعات الأخرى.
ولا يسع المجال هنا للردِّ التفصيليِّ على هؤلاء ولا أولئك، وسأكتفي بردٍّ مختصرٍ يفي بالغرض:
- إنَّ الاستدلال على عدم شرعيَّة التجمُّعات القائمة في واقع العمل الإسلاميِّ المعاصر موضع نظر، وذلك لأنَّ الفِرَق التي جاء الأمر في الحديث باعتزالها هي ذلك الشرُّ الذي أشار إليه النبيُّ عليه الصلاة والسلام في الحديث قبل ذلك بقوله: "دعاةٌ على أبواب جهنَّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"متَّفقٌ عليه، والذي أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنده بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأذن بغير ذلك ولو كان البديل هو الاعتزال حتى الموت.
قال الإمام النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعةٍ أو ضلال، كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة".
وقال الإمام الشاطبيُّ رحمه الله: "إنَّ هذه الفِرَق إنَّما تصير فِرَقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلِّيٍّ في الدين وقاعدةٍ من قواعد الشريعة، لا في جزئيٍّ من الجزئيَّات، إذ الجزئيُّ والفرع الشاذُّ لا ينشأ عنه مخالفةٌ يقع بسببها التفرُّق شِيَعا، وإنَّما ينشأ التفرُّق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلِّيَّة".
وليست الجماعات الإسلاميَّة المعاصرة من هذا القبيل لاتِّفاقها في الجملة على الالتزام المجمل بأصول أهل السنَّة والجماعة، ولسعيها جميعاً إلى غايةٍ واحدةٍ تتمثَّل في إقامة الدين والتمكين لشريعة الله في الأرض، أمَّا ما يقع بينها من اختلافٍ فهو اختلاف خططٍ ووسائل، وليس اختلاف غاياتٍ أو عقائد.
- وكذلك قصر مفهوم "جماعة المسلمين" على تجمُّعٍ بعينه، هو خطأٌ وزعمٌ لا دليل عليه، فجماعة المسلمين –كما ذكرت آنفا- هي السواد الأعظم من أمَّة الإسلام، وهذه التجمُّعات أيًّا كان شكلها ليست الأمَّة ولا هي سوادها الأعظم، فمن أين أتى زعمهم هذا؟؟
وتبرز خطورة هذا الفهم القاصر حين تكرَّس الخصومة بين فصائل العمل الإسلاميّ، ويصبح التكفير قُرْبةً إلى الله تعالى، فكلٌّ منهم يتقرَّب إلى الله بإخراج الآخر من الملَّة، ويتعبَّد الله بقطع ما بينه وبين أخيه، وتزداد الفتنة عندما تنتقل هذه الخصومة إلى دائرة المنابر العامَّة، ويندلع لهيبها في أوساط الأمَّة، وأدنى ما يمكن أن يترتَّب على ذلك هو الزهد في العمل الإسلاميِّ كلِّه الذي يفقد احترامه بسبب هذه المهاترات، ويبدو في صورة الفِرَق المتناحرة والشِّيع المتلاعنة، وبدلاً من أن توجَّه هذه الجهود وهذه الطاقات إلى دعوة العالَمين إلى الله تعالى، تحوَّل إلى التكفير والتفسيق بل والضرب والقتل في أحايين كثيرة.
هذه الجماعات أو التجمُّعات ليست أيٌّ منها هي جماعة المسلمين، ولهذا فإنَّها ليست نهاية المطاف، ولا يمثِّل أحدها على انفرادٍ جماعة المسلمين، ولا كلُّها مجتمعة، وبالتالي فليس هناك من زعمٍ في اعتبار هذه أو تلك هي الأصل وغيرها ليس كذلك، وليست هناك من مشكلةٌ في وجود جماعةٍ واثنتين وثلاث، طالما لم يتعدَّ الأمر كونها مجرَّد خطواتٍ مرحليَّةٍ في الطريق إلى جماعة المسلمين، لا أكثر من ذلك ولا أقلّ.
علماً بأنَّ هذه التجمُّعات الموجودة قد نشأت لمواجهة تحدِّياتٍ معيَّنةٍ واجهت الأمَّة في القرن العشرين، وإطلالةٌ سريعةٌ على أسباب تكوين هذه التجمُّعات تنبئ بذلك، وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ هذه التجمُّعات تصبح تكامليَّة لا تصادميَّة، بمعنى أنَّها كلَّها في صفٍّ واحد، وكلَّ واحدةٍ تقف في مواجهة تحدٍّ مختلفٍ عمَّا تواجهه الأخرى، فيكون الجمع هو الصحيح لا المواجهة.
وعلى هذا يكون السؤال: ماذا على المسلمين اليوم؟ هل عليهم الالتزام في جماعةٍ بعينها؟ أم الأَوْلى الابتعاد عنها كلِّها؟؟
لست هنا بصدد الإجابة بالنفي أو الإثبات، بقدر ما أنا معنيٌّ بإبراز وتوضيح المسألة، وترك كلَّ إنسانٍ يجيب عن السؤال كما يختار ويرغب.
وقبل التوضيح أشير إلى أنَّ هذه الجماعات هي وسائل لا غايات، فإنَّنا حين نرغب في الوصول إلى مكانٍ ما مثلاً نختار أفضل وسائل المواصلات التي تؤدِّي الغرض وتصل بنا للغاية، وكذلك الأمر حين نرغب في الانتماء لكيانٍ ما، فإنَّنا نختار من هذه الاتجاهات ما كان أرجى للمسلمين، وأبصر باعتبار المآلات والموازنة بين المصالح والمفاسد، وأنسب لاستيعاب قدراتنا وملكاتنا والاستفادة من طاقتنا ومواهبنا لصالح العمل الإسلاميِّ الشامل، والأولويَّات التي قد تتغيَّر وتتبدَّل حسب الاحتياجات والتحدِّيات.
إذا كان الأمر كذلك يصبح تحديد انتماء أحدنا مرتبطٌ بقدرته على تقديم أقصى جهدٍ في هذا السياق، بعيداً عن الأسماء والمسمَّيات، والأشخاص والهيئات، فمن كان أداؤه الأَوفى والأعلى حين يعمل منفرداً فليعمل، ومن كان يعطي كلَّ طاقته حين ينتمي لجماعات إسلاميَّةٍ فلينتمِ، ومن كان يجد نفسه وطاقته من خلال جمعيَّات المجتمع ومؤسَّساته فليسارع إلى الاشتراك فيها، دون إنكارٍ من أحدٍ على أحد، ولا لوم أحدٍ لأحد.
إنَّنا كلُّنا قد فعلنا ذلك رغبةً منَّا في القرب من الله تعالى، وحرصاً على خدمة دينه ورسالته، وخوفاً على الأمَّة من الضياع، فعلامَ الخلاف والنزاع واللوم والتلاوم؟؟
علينا أن نقبل بعضنا أيًّا كان موقعنا إن كنَّا اتَّفقنا على الغاية واختلفنا في الوسيلة، بل علينا أن نقبل فكرة انتماء الشخص لأكثر من كيانٍ أو هيئة، ما المانع أن يكون المسلم عضواً في جمعيَّةٍ وجماعةٍ في آنٍ واحد؟ بل ما المانع من أن يلتزم في جماعتين طالما يحقِّق ذلك الخير للفرد وللأمَّة؟ فإن حدث تعارضٌ ما يُترَك تقدير الأمر للفرد حسب ما يرى من خدمة دينه وأمَّته، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بنظم وقواعد التجمُّع الذي انتمى إليه طالما رضيه وارتضى الانتماء إليه، إذ الالتزام هنا ليس التزاماً شرعيًّا باعتباره جماعة المسلمين، ولكنَّه التزامٌ إداريٌّ تنظيميٌّ لتسيير العمل وانتظامه.
هذه النقطة – في ظنِّي- جديرةٌ بالتفكير والتدبُّر، وحريٌّ بنا أن نعيد النظر من خلالها في العديد من "الثوابت الحركيَّة" إن صحَّ التعبير.
وبعد هذه المقدمة، جاء دور التوضيح: أرى أنَّ المسلم أمام أمرين:
الأوَّل: الالتزام باتِّجاهٍ من الاتِّجاهات القائمة باعتبار ذلك خطوةً مرحليَّةً في الطريق إلى جماعة المسلمين، والسعي من خلاله إلى إيجاد هذه الجماعة بمفهومها العامِّ والشامل.
وفي هذا ينبغي التنويه إلى أنَّ المقصود بالالتزام هنا الالتزام بتجمُّعٍ ما بمفهومه العامِّ الذي يشمل: الجماعات الإسلاميَّة- الخيريَّة- جمعيَّات ومؤسَّسات المجتمع.. إلخ.
على أن لا يعتبر انتسابه لهذه الجماعة هو نهاية المطاف، فهذه التجمُّعات وسائل لغايةٍ واحدةٍ تتمثَّل في جمع الكلمة وتنسيق الجهود في سبيل خدمة الأمَّة، فهي خطوةٌ مرحليَّةٌ على الطريق.
وأؤكِّد على أنَّ هذه الجماعات والتجمُّعات لا يمثِّل أحدها على انفرادٍ جماعة المسلمين، وإنَّما هي خطواتٌ مرحليَّةٌ في الطريق إليها، وأنَّ التزام المسلم بـ"جماعة المسلمين" بمفهومها العامِّ والشامل أسبق من التزامه بهذه التجمُّعات الجزئيَّة، لأنَّ الأوَّل واجبٌ بأصل الشرع، فهو الذي دلَّت عليه النصوص، وانعقد عليه الإجماع، أمَّا الثاني فمستَنَد وجوبه هو المصلحة الراجحة، وكونه ذريعةً لإقامة بعض الواجبات الشرعيَّة التي قد لا يتسنَّى أداؤها إلا من خلال هذه الأطر.
فلا ينبغي إذن أن تنقلب الأمور، ويصبح الولاء لهذا التجمُّع أو ذاك ذريعةً لقطع الولاء عن بقيَّة العاملين، أو مشوِّشًا على المفهوم العامِّ لجماعة المسلمين، فيتحوَّل إلى غايةٍ وقد كان وسيلة، ويصبح منتهى السعي وقد كان شوطاً من أشواطه، ويتمزَّق به ولاء الأمَّة بدلاً من أن تجتمع به وتتوحَّد من خلاله!!
ويوم أن تصبح هذه التجمُّعات مفرِّقةً للكلمة، أو مشوِّشةً على الولاء العامِّ للإسلام والجماعة، فإنَّ شرعيتَّها من الأساس تكون موضع نظر، لما تقرَّر من أنَّ الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلاًّ وحرمة.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "لمَّا كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها، فوسائل المحرَّمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبَّتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعةٌ للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنَّه مقصودٌ قصد الغايات، وهي مقصودةٌ قصد الوسائل، فإذا حرَّم الربُّ تعالى شيئاً وله طرقٌ ووسائل تفضي إليه، فإنَّه يحرِّمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمها، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل، والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كلَّ الإباء".
وإذا كان مفهوم "جماعة المسلمين" لا ينطبق على التجمُّعات الموجودة، ففي هذا الإطار ماذا تكون "البيعة" التي يعطيها المسلم لبعض هذه التجمُّعات حين التزامه بها؟ وما إلزاميَّتها؟
أمَّا البيعة التي تُعطَى لأيِّ تجمُّعٍ فهي ابتداءً بيعةٌ على عملٍ صالحٍ يتَّفق مع مقرَّرات الشرع؛ كفعل الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البرِّ والتقوى، والمقصد منها الالتزام بالعمل الذي تمَّ الاتفاق عليه بين الطرفين، بصرف النظر عن الأوصاف والمسمَّيات.
وأمَّا إلزاميَّتها فهي لا تأخذ حكم التعاقد الملزم بين أطراف العلاقة التعاقديَّة، ولا يترتَّب عليها التزامٌ بين المتعاقدين إلا بقدر ما تسبِّبه من ضرر، فالبيعة التي تُعطَى لهذه التجمُّعات لا تخوِّل لأمرائها الحقَّ في السمع والطاعة المطلقة، وإنَّما هي بمثابة العهد أو العقد، وقد جاء في فتاوى المذهب الحنفيِّ ما نصُّه: "رجلٌ أعطى العهد لشيخ، ثمَّ أعطاه لآخر، أيُّ العهدين يلزمه؟ قالوا: لا هذا ولا ذاك!".
فإن فارق الشخص تجمُّعه، وقد التزم معه بعمل، فلا شيء عليه، بشرط ألا يُخلَّ فراقه بالتزامٍ تَعهَّد به وترتَّب عليه ضرر على الطرف الآخر، شأنه تماماً كشأن المتعاقد ال