حركة مجتمع السلم : بين سنة التدافع والساعة السياسية
بقلم فاروق أبو سراج الذهب
كنت اقرأ تعليقات الاخوان على البيان الختامي لمجلس الشورى الوطني المنعقد بمدينة بومرداس في دورة عادية يومي 15و16 جويلية 2011،وكانت هذه التعليقات متنوعة عكست التباين بين وجهات النظر حول موضوع التحالف الرئاسي ،وقلت في نفسي هل هذه التعليقات هي انعكاس للحملة الاعلامية التي قادتها بعض الصحف من الدفع الى مواقف حادة لحركة الوسطية والاعتدال في الجزائر ،ام هو تمايز طبيعي يعكس الغيرة الصادقة على الحركة وتنوع التقديرات لدى ابناء الحركة الاماجد ؟ وراحت ذاكرتي تقلب في صفحات التاريخ الناصع لحركة مجتمع السلم
وبدأت في طرح الاسئلة القديمة المتجددة :هل تدري لماذا تتعدد القراءات الإعلامية والنضالية لمواقف حركة مجتمع السلم منذ تأسيسها؟ هل يعود ذلك إلى غموضها وتعقيد خطابها ؟ أم يعود السبب الى تخبطها وترددها واعتلالها بأمراض مزمنة تتعلق بالرؤية السياسية ومحاور النضال الأساسية التي اختارتها الحركة وتحتاج اليوم الى مراجعات عميقة ؟ام ان هذه الاستراتيجية التي اعتنقتها الحركة في مؤتمراتها الاربع لاتملك امكانيات تجسيدها في الساحة السياسية الجزائرية المأزومة بديمقراطية ذات سقف محدود وانتخابات مزورة لا تعبر عن تمثيل حقيقي للاحزاب في المجتمع وادارة منحازة غير حيادية ؟ أم أنها مواقف مسؤولة وعاقلة تستحضر الماضي وتفحص الحاضر وتستشرف المستقبل وتقدر العواقب على قاعدة تقدير المصالح والمفاسد بل توازن بين المفاسد الصغرى والكبرى في اجواء سياسية موبوءة وفي ظل فقه الموازنات والمآلات التي تخضع له مختلف قضايا السياسة الشرعية ؟ ينضاف الى ذلك اعتمادها على منهجية القراءة الصحيحة للأحداث والتحليل الواقعي لها من خلال قواعد التحليل السياسي و علم التنبؤ والتوقع ، وحساب توقيت الإعلان عن المواقف بما يتناسب والتطورات الحاصلة في الساحة المحلية والإقليمية والدولية ؟؟؟؟؟
انها تساؤلات تطرح مع كل موقف تعلنه حركة مجتمع السلم منذ عهد المؤسس الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله ،وما تزال هذه الاسئلة تتكرر من السابقين الذين لم يهضموا كثيرا من المواقف السياسية في زمانها ومكانها ،ومن اللاحقين الذين لم يستوعبوا بعضا من محددات الموقف السياسي في مؤسسات حركة مجتمع السلم ،ولايكادون يفرقون بين الثابت والمتغير ,وما تعلق بالسياسات والاستراتيجيات ،او ما تعلق بفنون المناورة والاختيار المناسب للموقع التفاوضي ،و الإبداع في استثمار فرص الضعف والقوة لدى الغير وتقدير الأخطار المتعلقة بالمشروع ومعرفة الاستعدادات النضالية وتدقيق الامكانات المادية المكافئة لأي اختيار سياسي تتخذه القيادة ممثلة في مجلس الشورى الوطني .
ولعل القراءة الموضوعية للمواقف المتجددة لحركة مجتمع السلم من مختلف قضايا الساحة السياسية الجزائرية والعربية والدولية ،تدل دلالات واضحة على عقلانية هذه المواقف والوعي بطبيعة المرحلة ...وعندما ارتفع سقف مطالب الحركة في مرحلة ما بعد حالة الطوارئ{الندوة الوطنية للاستشراف } في المطالبة بإصلاحات عميقة وشاملة وسلسة ،كانت تقف على قاعدة صلبة متينة يدعمها في ذلك قراءة الواقع السياسي كما هو ،دون تجميل ،وتحملت المسؤولية التاريخية في تمثيل الضمير الجمعي للمجتمع في ابراز قضاياه ولاسيما تلك المتعلقة بالثوابت {قانون الأسرة حكم الإعدام ،الخمار ،جواز السفر البيومتري ،حالة الطوارئ ،قانون استعمال اللغة العربية ،التطبيع مع اسرائيل ، اسطول الحرية ،كسر الحصار على غزة ،المواقف من الثورات في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن ....}.
ان استعراض هذا المسار الحافل بالمواقف الثابتة والصريحة ،نذكره في سياق تدقيق القراءة للساحة الوطنية لاسيما بخصوص موقف الحركة الأخير من التحالف الرئاسي الذي لايخرج عن سياق المحددات التي ذكرتها في السابق .
ونحب هنا ان نؤكد على قيمة تربوية ومحددين أساسيين في اتخاذ القرارات والمواقف وهما :
قانون التدافع
والتوقيت المناسب
وحتى ننظر الى هاذين المحددين بعين العقل الواعي وليس العقل اللاواعي فإنني أشير إلى جملة تعريفات وقواعد لترسيخ وإدراك أهمية هاذين المحددين .
فالموقف بشكل عام يُعرِّفه يونج قائلاً بأنه "استعداد الروح للتفاعل بشكل معين" (يونج، 1921 و1971: الجزء 687). وعادةً ما يأتى الموقف بشكل مزدوج، أحدهم نابع من الوعي والآخر نابع من اللاوعي. وقام يونج بتعريف مواقف متعددة من خلال هذا التعريف العريض {1}.
وفيما يلي تعريفات يونج الرئيسية للمواقف المُزْدَوَجَة.
• الوعي واللاَّوعي. يَتَكَرَّر "وجود موقفين، أحدُهما من الوعي والثاني من اللاوعي. وهذا يعني أن الوعي يحتوى على مجموعة من المكونات التي تختلف عن اللاوعي. وتظهر هذه الازدواجية في الاضطراب العصبي الوظيفي (يونج، 1921، 1971: الجزء 687).
• الانبساطية والانطوائية. يُعَد هذا الزَّوْج عُنصر رئيسي لنظرية يونج التي أسماها "أنواع المواقف".
• المواقف العقلانية وغير العقلانية. "أن أتصور العقل بأنه تعبير عن الموقف" (يونغ، [1921] 1971: الجزء 785).
• يَنقَسم الموقف العقلاني إلى التفكير والشعور بالوظائف النفسية، ولكل منها الموقف الخاص بها.
• ينقسم الموقف غير العقلاني إلى الإحساس والتنبؤ بالوظائف النفسية، ولكل منها الموقف الخاص بها. "وبالتالي، يصبح لدينا موقف فكري، وشعوري، وحساسي، وحدسي" (يونج، 1921، 1971: الجزء 691).
• المواقف الفردية والاجتماعية. تُعد كثير من المواقف الاجتماعية "مذاهب".
وهذا الموقف يُمكِن تغييره عبر الإقناع فقد ساعد العمل الشهير لكارل هوفلاند، بين الخمسينيات والستينيات بجامعة يالي، في تقدم معرفة الإقناع حيث يُعتبر تغيير الموقف استجابة للتواصل، حيث قام هو وزملائه بإجراء أبحاث تجريبية حول العوامل التي قد تُؤَثِّر على القدرة على الإقناع {2}:
1. خصائص الهدف: هي الخصائص التي تُشِير إلى الشخص الذي يَستقبل ويُعالج الرسالة، ويُعَد الذكاء أحد تلك الخصائص - يَصعب إِقناع الأذكياء من خلال رسالة ذات جانب واحد، كما شملت هذه الدراسة خاصية الكبرياء أو الغرور، فهناك اعتقاد سائد بصعوبة إقناع من هم على درجة كبيرة من الكبرياء، ومع ذلك، هناك علاقة انحنائية بين الكبرياء والاقتناع. حيث يسهل إقناع من هم على درجة متوسطة من الكبرياء أكثر ممن هم على درجة كبيرة أو قليلة من الكبرياء (رودز & وودز، 1992). كما يَلعب إِطار العقل والحالة المزاجية للهدف دوراً هاماً في هذه العملية.
2. خصائص المصدر: تشمل الخصائص الرئيسية للمصدر الخبرة، والثقة، والانجذاب. تُعد مصداقية الرسالة المُستَلَمة من الخصائص المُهمة (هوفلاند & وايس، 1951)؛ إذا قَرأ شخص تقريراً طبياً واعتقد بأنه تابع لصحيفة طبية متخصصة، سيقتنع بما فيه بسهولة، بينما إذا كان يعتقد بأن مصدر هذا التقرير هو مجرد صحيفة مشهورة، فَلن يَقتنع بما فيه بسهولة. تجادل بعض علماء النفس حول ما إذا كان هذا التأثير يستمر لفترة طويلة أم لا، بينما وجد هوفلاند ووايس (1951) أنه إذا عرف الفرد بأن مصدر هذه الرسالة هو مصدر موثوق منه، يَختَفي هذا التأثير بعد عدة أسابيع (وهو ما يسمى بـ"تأثير النوم")، إن الحكمة المستلمة هي أن تُخبِر الفرد بمصدر الرسالة قبل أن يتلقاها، فتقل احتمالية حدوث "تأثير النوم" عما إذا عَرِفَ الشخص مصدر الرسالة بعد أن يتلقَّاها.
3. خصائص الرسالة: تلعب طبيعة الرسالة دوراً هاماً في الإقناع، قد يكون تقديم جميع جوانب القصة مفيدا في تغيير المواقف في بعض الأحيان.
ومن جهة أخرى فالموقف المناسب لا يكون مناسبا إلا إذا جاء في وقته، أو على الأقل لم يفت أوانه، واختيار التوقيت المناسب في السياسة يقتضي امتلاك أجهزة استشعار عن بعد يسمونها لدى السياسيين «الحدس السياسي»، الذي يمكن من خلاله استشراف المشاكل والتنبؤ بالأزمات مبكرًا قبل وقوعها، ثم ابتكار الحلول لمعالجة أسبابها، ثم التدخل في الوقت المناسب تماما- مبكرًا كلما أمكن- لإعلان تلك الحلول (السياسات والقرارت)، ثم- وهذا هو عنصر المصداقية- وضع تلك الحلول موضع التطبيق الفعلي دون زيادة أو نقصان{3}.
ولهذا يحتاج السياسي صاحب الحدس القوي إلى ساعة سياسية صارمة الانضباط، لضبط مواقيت الفعل السياسي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى مطابقة ما يقول لما يفعل، لتعزيز الثقة وتأكيد المصداقية.
دون هذين العنصرين لا تحقق قرارت الساسة تأثيرها، ولا تؤتي أكلها، بل إن غياب هذين العنصرين قد يقود في النهاية إلى تغييب نظام سياسي تجاهل قائده أهمية التوقيت، أو لم يقرن القول بالفعل، ففقد مصداقيته بين الناس، وهذا ما حدث في الحالتين التونسية والمصرية بوضوح، فقد أهمل الرئيس السابق بن علي عنصر التوقيت، ولم يتحدث إلى جماهيره في الوقت المناسب، ولم يفهم شعبه سوى متأخراً، حتى أنه قالها في آخر خطاب قبل رحيله» الآن فهمتكم»!!
نفس الخطأ وقع فيه النظام السابق في مصر، فقد وصل إلى عتبة الحدث متأخرا جدا، واضطر كلما رفع المتظاهرون سقف المطالب، إلى تعميق قاع التنازلات، وبدا أن وعوده لم تعد مقنعة لشعبه، بعدما فقد مصداقيته إثر عملية تزييف واسعة لأصوات الناخبين ونتائج الانتخابات، وهكذا قاد سوء التوقيت وغياب المصداقية إلى انهيار النظام السياسي بأكمله{4}.
فالموقف من التحالف الرئاسي مثلا ،خضع لمثل هذه التقديرات ،ولاسيما ان الظاهرة الإعلامية في الجزائر وضعت تصريحات قيادات الحركة المتنوعة في زوايا حادة ،بين طرفي النقيض اما البقاء او الانسحاب ،وهو سياق إعلامي معروف بدأ مع بداية الثورات العربية بتعميق هامش الخوف من الثورة في الجزائر وراحت بعض وسائل الإعلام تحمل هذا الفضاء السياسي عن قصد مسؤولية كل الاخفاقات وكانت تقول بصريح العبارة الشعب يريد اسقاط التحالف في حين كانت نفس الابواق تفصل بين شيئ يسمى تحالف رئاسي ملتف حول برنامج الرئيس والرئيس نفسه ولذلك اتجهت كل الاحتجاجات الى الرئاسة ولم تذهب الى الحكومة لانها كانت مطلوبة للاسقاط في الصحافة والملاعب والمقاهي والشارع ايضا ،فكان موقف الحركة انذاك نحن تحالفنا مع الرئيس وليس مع الاحزاب ،وقالها رئيس الحركة بوضوح في حصة حوار الساعة ،وهي رسالة واضحة لمن يهمه الامر ،ومن جهة اخرى وفي سياق التفاعل مع مرحلة جديدة وغامضة في المواقف {وما أصعب القيادة في الغموض } دشنت الحركة خطاب التجدد او التبدد بعد تقييم سابق لاداء التحالف الرئاسي ودعت سنة 2005 الى التجديد ،وجاءت مناسبة رئاسيات 2009 لتدعوا بوضوح الى الشراكة السياسية وبعدها خرج رئيس الحركة من الحكومة بطلب منه قبله الرئيس باريحية ،وحتى في دورة مجلس الشورى الوطني اجمع الاخوان على أن حصيلة التحالف كانت متواضعة وهي في اتجاه نفاذ الصلاحية ،وقال الاخوان في تحليلهم للوضع ان مركز دائرة الفعل السياسي اليوم ليست في اعلان الخروج او البقاء في التحالف ،لانه سيصبح لاحدث في ساحة تتطلع الى نتائج الاصلاحات والانشغال بالتحضير للاستحقاقات القادمة هو المثابة التي يجب ان يتطلع اليها الجميع ،ولما توافق ذلك مع الشروع في اصلاحات سياسية يقال عنها انها عميقة وشاملة يرعاها رئيس الجمهورية ،كانت الحكمة السياسية والحصافة العقلية والرزانة الدعوية تقتضي انتظار انتفاء المانع و رفع سقف المطالبة بالاصلاحات من موقع الشريك في التحالف انطلاقا من قانون التدافع الذي نعتبره في حركة مجتمع السلم سنة كونية وضرورة لانجاز عملية الاصلاح والتغيير،كما ان تقدير الخروج في هذه اللحظة التاريخية هو بمثابة اعلان ثورة مسبقة لم يعلنها الشعب كما حدث في الثورات العربية الحديثة التي فاجأت الجميع .
ذلك أن عملية التغيير والاصلاح لا تتطلب فقط مواقف وتصريحات بقدر ما تقتضي ادراك أهمية فقه السنن وفهم طبائع الأشياء ،فحالة الفقر والتصحر التي نراها ونكتشفها في ردود الفعل على مواقف الحركة هو الذي أدى إلى عدم القيام بدراسات جيدة وموسعة في هذه القضايا الكبرى، ومنها مسألة العلاقات بين الأشياء بكل أنواعها: علاقات التعاون والتآزر، وعلاقات التصادم والتدافع، العلاقات الوثيقة والمصيرية، والعلاقات الهامشية والثانوية؛ وقد آن الأوان، أو على الأصح لم يفت الأوان للاهتمام بذلك.
ولو نظرنا إلى التربية التي سادت على مدار عشرة قرون خلت كما يقول الدكتور عبد الكريم بكار في مقالات التدافع {5}، لوجدنا أنها كانت تركز على الامتثال و الخضوع، أي على إيجاد نوع من التشابه بين الجيل القديم والجيل الجديد، وكلما كان الأولاد أكثر انصياعاً لرغبات الوالدين، وأشد موافقة لهما في كل شيء كان ذلك دليلاً على نجاح المربي وصلاح الولد، ولم يقتصر ذلك على التربية الأسرية، وإنما عم ذلك كل مجالات الحياة: المدرسة، والحلقات العلمية، والعلاقة بالأقرباء، والعلاقة بكبار السن وكبار الموظفين.... ونحن لا شك نؤيد التوافق، ونؤيد احترام من يستحق الاحترام، كما نؤيد التعامل بخلق ولطف مع من لا يستحق الاحترام، لكن بشرط ألاّ يخل ذلك بالتوازن الاجتماعي. إن كثيراً من الملاحم والثورات والصراعات كان بسبب غياب ما يمكن أن أسميه (هندسة المدافعة) أي الأساليب والأدوار والنظم التي تمكّن الناس من تصحيح الأخطاء والأخذ على يد المفسدين، والتعبير عن التطلعات المشروعة... من غير إراقة دماء، ومن المؤسف أن هذه الوضعية لم تلق من البحث والاهتمام ما يكفي. المدافعة في الشأن العام تتطلب تهيئة المناخ لأن يراقب الكلُّ الجميع، ولأن يعبر كل من يريد التعبير بصدق ومسؤولية عن موقفه من أشكال الخلل التي يراها. المسألة لم تعد تتعلق بالاستقامة الشخصية للإنسان، ولا بالأخلاق التي يتمتع بها بمقدار تعلقها بنوعية الأسلوب الذي يمارس به السلطة، وطبيعة الصلاحيات الممنوحة له، وكيفية محاسبته على الإخلال بها. وأعتقد أن أي إصلاح تربوي وسياسي واجتماعي لا يأخذ هذه القضية من الاعتبار سيكون مجوَّفاً، أو ناقصاً.
ويواصل حديثه {6}: اننا نهدف من وراء فهم السنن أو فهم قدر جيد منها إلى أن نبني العقلية المنهجية التي تحول المعلومات والمعطيات والظواهر والإشارات المشتتة والمبعثرة إلى أصول ونماذج، وذلك من خلال التحليل المنطقي وإدراك الروابط الدقيقة التي تربط بينها. إن العقلية التي نسعى إلى بنائها تحاول أن تستخرج من الوقائع اليومية ما هو مضمر فيها من دلالات ورمزيات في سبيل إضاءة الطريق للتعامل معها بوعي ورشد، وفي سبيل توعية الناس بها أيضاً.
فالتدافع إذا تم التعامل معه بوعي وموضوعية، فإنه يشكل عاملاً مهماً في تنمية الحياة وترشيد مسارها، وفي التخلص من الأخطاء والانحرافات، وهذا شديد الوضوح. نحن نكره الاختلاف، ونذكره في معرض الذم والخوف من سوء العاقبة، وهذا كله صحيح إذا كان اختلافنا وتدافعنا على مستوى الكليات والأصول والأسس الكبرى؛ لأن هذا سيعني الحرب والسعي إلى التدمير المتبادل، لكن حين يكون تدافعنا واختلافنا على مستوى الفروع والجزئيات والأفكار الصغيرة.. فإن ذلك سوف يعني الخصوبة والتنوع والنماء .
إن المدافعة لها وظيفة مهمة هي – كما أشرنا- التوازن، وإيقاف الأشياء عند حدودها الطبيعية، ومنها من التجاوز والطغيان .
ويقول الدكتور بكار في موضع آخر {7}،إن آية " الدفع" هذه تنتقل بنا من الخاص إلى العام، لتقرر سنة الله الكونية والحياتية التي تنْظم العلاقات بين مكونات الحياة والكون. هذه العلاقات قائمة على المدافعة والمغالبة، وهي تسكن طرفي المعادلة التي نلخصها عادة بمعادلة (الخير والشر) . وجوهرها يقول : إنْ تخلّفت المدافعة بسبب سكون الخير وأهله، عمّ الفساد والإفساد، و مَلَكَ وحكم واستغلظ واستعصى، وربما تألّه ونادى لنفسه بالربوبية.
إن توقف" المدافعة" بمفهومها الرسالي في عصرنا كشف عن تناقض خطير مع سنن الله الكونية والحياتية، وكان من نتائجه إفساد دين الأمة وفساد حياتها، وتسلط جالوت وأمثاله من اليهود والصليبين عليها ، فاغتصب اليهود فلسطين، وتحكم الأمريكان والغرب بالمنطقة العربية والأمة الإسلامية، من خلال سيطرتهم على حكامها وقادتها، فنزعوا من بين يديها دينها ومصادر عزتها وكرامتها .
ويمكن للمدافعة أن تكون عامل نماء وارتقاء، وذلك حين نعتقد أن الكمال الخلقي والروحي والعقلي لا حدود له، فهو شيء نناهزه ولا نبلغه، لكن الذي يحدث هو أننا كثيراً ما نسكن ونطمئن إلى ما نحققه من خير ونجاح مقبول، ونتوقف عن متابعة التقدم، وذلك حين نستنفذ الطاقة الروحية المطلوبة لذلك، أو حين نتوهم أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. نحن في حاجة إلى الاعتقاد بأن الجيد هو عدو الأجود، والفاضل هو عدو الأفضل، وعلينا أن ننحاز في التدافع بينهما إلى الأجود والأفضل، أي ندفع الجيد والفاضل بهما، وهذا يتحقق عن طريق الاستعانة بالله – تعالى- في كل الأحوال، والتصميم على مراكمة الإنجازات الصغيرة{8}.
ومن خلال هذا العرض يتبين لنا أننا نمارس عملية المدافعة في داخل الحركة وخارجها كما نمارسها من مواقع متقدمة ،تتطلب تقييما شاملا ،واختيار التوقيت المناسب لاتخاذ المواقف السياسية سواء تعلق الامر بالتحالف الرئاسي او غيره ،وهو ما نسميه الساعة السياسية التي تضبط توقيت الفعل السياسي ،والساعة طبيعتها انها صارمة وضابطة وليست متهاونة غافلة ،وهي ساعة تنفرد بها حركة مجتمع السلم في الاداء السياسي في الجزائر ولذلك ليس مهما موقف اطراف التحالف الاخرى منه ولكن موقف حركة مجتمع السلم يكتسي اهمية كبيرة في مسار تأمين الانتقال الديمقراطي في الجزائر ،ويثير لعاب وحبر الكثيرين من الوافقين امام في طابور الانتظار{المشاركة في أي حكومة مهما كان طيفها} او في رصيف الحياة السياسية {المعارضة من اجل المعارضة } ،ويوم يصبح موقف حركة مجتمع السلم لا حدث سواء عند المناضلين او الاعلاميين او السياسيين ،ذلك اليوم تكتب شهادة وفاتها لا قدر الله .
ومن جهة أخرى فان على التحالف أن يتجدد او يتبدد سواء تعلق الامر بقراءة حصيلته المتواضعة وتقييمه الاولي الذي يمكن حصره في :
1. لم يتحقق من تجسيد مبادئ التحالف الإحدى عشر (11) إلا ست(06) مبادئ تمثل إجماع كل الجزائريين .
2. لم تنجز أهداف التحالف الإحدى عشر (11) إلا أربعة(04) فقط .
3. لم يتحقق من المحاور التسعة(09)المتضمنة في وثيقة التحالف إلا ثلاثة محاور (03) فقط .
4. لم يتم تجسيد الآليات الكفيلة بانجاز وثيقة التحالف إلا واحدة (01) فقط مع أداء ضعيف وبطيء للباقي .
5. كما لم تنفذ البنود الأربعة والعشرين للنظام الداخلي للتحالف ولاسيما تنصيب المجلس الوطني للتحالف الذي يضم أعضاء الهيئآت التنفيذية الوطنية لأحزاب التحالف ( حسب المادة 06)،واستحداث آلية تنسيق مجلس لتفعيل الأنشطة المشتركة محلياً (حسب المادة 22).
إن قانون التدافع الذي تحدثنا عنه يقتضي اليوم صياغة مشروع التجدد واقتراحه على اطراف التحالف تبرئة للذمة السياسية والشهادة على الناس وايفاءا بالعهود والعقود ،فكل شيئ يجب ان يتجدد في الجزائر انطلاقا من المبررات التالية :
التحالف الرئاسي عقد لدعم برنامج رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة ،الذي أعلن في خطاب للأمة في ابريل 2011 عن إصلاحات عميقة شاملة لمختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية ،بما يتطلب تعديلات في برنامجه الانتخابي، فمسار مراجعة ميثاق التحالف ينسجم مع تيار الإصلاح السياسي القائم في الجزائر .
كل القوانين الناظمة للحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية قيد التعديل والإصلاح .
رفع حالة الطوارئ وفتح المجال السياسي والإعلامي يقتضي تعديل ميثاق التحالف الرئاسي .
الجزائر ما تزال في حاجة إلى التوافق من خلال ميلاد تيار سياسي سائد يضمن تجسيد الإصلاحات ويكفل الحريات ويعمق الديمقراطية ويتحمل مسؤولياته السياسية والحكومية و يجنب البلاد العودة إلى نقطة الصفر .
فشل التحالف الرئاسي بصيغته الحالية في صياغة رؤية مشتركة للإصلاحات السياسية الجارية وتباين وجهات النظر في قضايا إستراتيجية كطبيعة النظام السياسي .
حاجة أطراف التحالف الرئاسي إلى تعميق الحوار والتنسيق والتعاون في الميدان وتجسيد بنود أرضية التحالف بوثيقة إجرائية جديدة تواكب المرحلة الجديدة ،وتنفتح على الطبقة السياسية الراغبة في الانضمام إليه .
الظرف الذي تمر به الأمة العربية مناسب لإحداث الإصلاح المطلوب ويشكل فرصة لتعميق الديمقراطية والشفافية والانتخابات الحرة والنزيهة وضمان التداول السلمي على السلطة .
ان توفير مساحة بينية واضحة ومحددة في البرنامج والزمن بين التجدد والتبدد هو موقف عملي يتطلب جدية ومواصلة لرفع السقف وتنويع اساليب المشاركة والانفتاح وتوسيع دائرة المقتنعين باولوية مراجعة الدستور اولا والنظام البرلماني ،وهي مفازة وجب الارتقاء اليها ببرامج واعية ومساعي شاملة وحضور سياسي مستمر .
بقي أن نشير الى قيمة تربوية ودعوية ونظامية تربينا عليها في حركة مجتمع السلم ،وتوارثناها كابرا عن كابر ،وهي قيمة كلما روعيت في مسار الحركة من قبل مناضليها حفظت الصف ووفرت فرص عمل جديدة وفتحت الافاق نحو عدم الانحباس في لحظات مؤقتة {كان لبعضنا فيها رأي او موقف او خيار لم تأخذ به المؤسسات } وهو امر طبيعي لانه يعبر عن الشخصية الفاعلة ،فنحن لسنا نسخة واحدة ،واذا كان الله ميزنا بالبنان والقرنية والقزحية من اجل ادراك التمايز والفرق ،فمن باب اولى ان نتمايز بالعقل والتقدير ،وعلماء الاعلام السياسي يقولون ان الفرد له رأي ذاتي شخصي يميزه عن غيره ولكنه يتناغم مع الاجماع ،حتى لا ينعزل وينحبس ثم ينسحب .
فالرأي قبل الشورى واجب يسديه الفرد للجماعة ،والرأي اثناء الشورى حتمية وفعالية ومشاركة ضرورية لتقليب وجهات النظر والبحث عن الصواب طلبا للاصوب ،اما الرأي بعد الشورى ان خرج عن اطار التقييم والمراجعة والمراقبة في المؤسسات الشرعية فهو نجوى ،والنجوى طريق البطالة كما قال الشيخ الراشد في كتابه العوائق .