د/فتحي يكن
إن مشكلة ضعف العقلية التنظيمية أو التخلف التنظيمي أو ما شاكل ذلك من المشاكل الخطيرة التي لا يجوز أن تكون قائمة أساسا في ساحة العمل الإسلامي لتناقضها الكلي والكامل مع السنن الإلهية والتوجيهات القرآنية والنبوية ومع طبيعة الدين القيم، كما لا يصح أن تبقى مستمرة في عصر يعتمد التخطيط والتنظيم والبرمجة في كل جانب من جوانبه، الأساسية والفرعية، الكبيرة والصغيرة، الهامة والتافهة، فكيف في الدعوة إلى منهج الله ورسالته الخاتمة (العالمية-الشاملة-الدائمة)؟؟؟
إن رسالة الإسلام وهذه بعض مواصفاتها تفترض أن يكون حملتها ودعاتها وأصحابها على مستواها تخطيطا وتنظيما، كما على مستوى العصر آخذا بأسبابه ووسائله ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا الذي كان يؤكد على جوانب ثلاثة كشرط لنجاح العمل الإسلامي وهي: 1-الإيمان العميق 2- التنظيم الدقيق 3- العمل المتواصل
ليس البديل عن التنظيم إلا الفوضى:
إن الذي يرفض فكرة التنظيم في العمل الإسلامي كأنه بالتالي يدعو ويحرض على فوضوية العمل الإسلامي.. والفوضوية لم تكن يوماً مبدأً من مبادئ الإسلام أو شعارا من شعاراته وإنما هي أحد شعارات الحركة اليسارية، بل اسم فرقة من الفرق اليسارية المتطرفة التي عرفها تاريخ الحركة الشيوعية في الأربعينات والخمسينات (راجع كتاب اعرف مذهبك لمارتن دودج-باب الفوضوية).
رفض التنظيم يعني رفض التخطيط واعتماد العفوية:
ثم إن الدعوة إلى رفض فكرة تنظيم العمل الإسلامي هي بالتالي دعوة إلى رفض مبدأ التخطيط وبالتالي إلى العفوية والارتجال، وهو نهاية الارتكاس الذي يمكن أن يصل إليه المسلمون ويتلهف إليه أعداء الإسلام والمتربصون به والمكيدون له.
الفوضوية والعفوية نقيض القوة:
والدعوة إلى رفض فكرة التنظيم في العمل الإسلامي هي بالتالي دعوة إلى استمرار حالة الضعف لدى المسلمين، لأن القوة لم تكن ولا يمكن أن تكون إلا نتيجة التنظيم لا الفوضى ومحصلة التخطيط لا العفوية.
الفوضوية والعفوية نقيض الوحدة:
والدعوة إلى رفض فكرة التنظيم في العمل الإسلامي هي بالتالي دفع المسلمين إلى مزيد من التفكك والتشرذم والخلاف، وإجازة شرعية لتعددية الاتجاهات والمدارس والحركات الإسلامية، لأن وحدة المسلمين ووحدة العمل الإسلامي هما مطلبان شرعيان لا يمكن تحقيقهما إلا بالتنظيم فالوحدة وليدة التنظيم وليست وليدة الفوضى ووليدة التخطيط وليست وليدة العفوية.
الفوضى والعفوية نقيض النواميس الكونية:
إن كل شيء في هذا الكون قائمٌ بأمر الله تعالى على التنظيم والنظام، من الكواكب والمجرات السابحة في الفضاء، إلى تعاقب الليل والنهار وتتابع الفصول وعملية التلقيح والتناسل لدى الإنسان والحيوان، إلى سريان الحياة في جسم الكائن البشري عبر أجهزته المختلفة الدقيقة والمعقدة إلى ما لا نهاية له من النواميس الإلهية في الكون والإنسان والحياة، إنها جميعا تقوم على النظام، واختلال النظام فيها هو اختلال لعملها وتعطيل لأدوارها ووظائفها: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب"، "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون".
النظام والتخطيط أساس كل عمل ناجح:
إن أيَّ عمل مهما كان صغيراً ومتواضعاً لا يمكن أن يُكْتَب له النجاح ما لم يكن منظما، وكثيرٌ من الطاقات قد تُهدَر وتضيع في غياب التنظيم، بينما تفعل قلةٌ منظمةٌ فِعْلَ الأعاجيب. فإن كان مشروع بناء بيتٍ أو فتح دكانٍ أو زراعة بستانٍ أو إنشاء مدرسةٍ أو مستشفى أو ما شاكل ذلك من أعمالٍ بسيطة يحتاج إلى تنظيم (كوضع خرائط، وتنظيم حساب، وتحديد مسئوليات، واختيار منفذين ومشرفين، وإلى تسوق المواد،..الخ) أفلا يحتاج العمل الإسلامي ذو الآفاق المتعددة، والمجالات المختلفة، وذو الأهداف الكبيرة وحيال المؤامرات الكثيرة إلى التنظيم؟.
التنظيم أساس المنهج الإسلامي:
والمنهج الإسلامي نفسه يقوم على النظام والتنظيم على التكامل والتناسق، فهل يعقل أن تكون الدعوة إليه، والعمل لاستئناف الحياة على أساسه، وإيجاد المجتمع الذي يؤمن به، وإقامة الدولة التي تحتكم إلى شرعته من غير تنظيم؟.
إن النظام العبادي من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍّ قائمٌ في كل جزئياته وتفصيلاته على أصول قاعدةٍ تنظيميةٍ صارمة. إن النظام الاجتماعي، قانون الزواج، القوانين التي تحكم الأسرة المسلمة، وتنظيم العلاقات الاجتماعية إلخ، قائمٌ في كل جوانبه على أسس تنظيمية ثابتة. وهكذا دواليك تقوم سائر النظم التي يتشكل منها المنهج الإسلامي على قواعد تنظيمية دقيقة.
التنظيم عنوان الهدي القرآني:
والقرآن الكريم دستور المسلمين وحجة الله على الناس أجمعين يؤكد في كثير من آياته تصريحاً وتلميحاً على اعتماد التنظيم وملاحظته وعدم إغفاله.
ففي نطاق دعوة المسلمين إلى أن تكون لهم قيادة يحتكمون إليها وينزلون عند حكمها يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم"، وبديهي أن القيادة والطاعة شئونٌ تنظيميةٌ صميمة.
وفي معرض وصفة لعلاقة الجندية بالقيادة يقول الله تعالى: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم".
وفي معرض وصفه لتواثق المسلمين وتلاحمهم، وبخاصة في مواجهة أعدائهم يقول: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص" والبنيان المرصوص يكون نتيجة التنظيم والانضباط وليس العكس إطلاقا.
وهكذا تتكاثر الآيات وتتناثر في كل جانب من جوانب التوجيه والتشريع القرآنيين مؤكدة أهمية التنظيم ومكانته في كتاب الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد.
التنظيم أساس الهدي النبوي:
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المسلمين وإمامهم كان اهتمامه بالتنظيم اهتماماً بالغا.
وحِرْص رسول الله صلى الله عليه وسلم على التنظيم يبدو من خلال دعوته الصريحة إلى إقامة أميرٍ أو اختيار قائدٍ على رأس كل مجموعةٍ أو فريق عملٍ ولو كانوا ثلاثة، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فأَمِّروا أحدكم"رواه الطبرانيُّ بإسناد حسن.
هذا الحرص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على إناطة أمر المسلمين أي أميرٍ أو قائدٍ هو حرصٌ بالتالي على أن تكون أمور المسلمين وشئونهم منتظمة منضبطة، سواء كانوا في سلمٍ أو حرب، وفي تجارة أو على سفر، وسواء كانت هذه الشئون صغيرةً أو كبيرة.
فكيف يُحسَم خلافٌ إن وقع إن لم يكن في المجموعة من يُسْمَع له ويطاع. ثم من يحدد لكل إنسان عمله، ومن يتابع الأعمال كلها بالتوجيه والتسديد إن لم يكن في فريق العمل هذا جنديةٌ وقيادةٌ وطاعةٌ ونظام؟ هذا كله في نطاق أبسط الأمور وأيسرها، فكيف إذا كبرت وتضخمت وتشعبت؟
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابع توجيهه النبوي مؤكداً على ضرورة السمع والطاعة للقيادة كائناً من كانت ما دامت هي القيادة الشرعية، فيقول: "اسمعوا وأطيعوا وإن استُعْمِل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبة"رواه البخاري.
وحتى لا تكون طاعة المسلمين للقيادة فيما أحبوا ووافق هواهم فحسب فينجم عن ذلك خللٌ كبيرٌ وشرٌّ مستطيرٌ وفوضى وضياع، يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيهه النبوي فيقول: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأَثَرٍة عليك"رواه مسلم.
وتحذيراً من الفتنة، وشق صف المسلمين، مما يوهنهم ويغري الأعداء بهم ويجرؤهم عليهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "من خلع يداً من طاعةٍ لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهلية"رواه مسلم.
أليس هذا كله من مقومات التنظيم ومن مبادئه وأصوله؟
التنظيم أساسُ عملِ الرسول صلى الله عليه وسلم:
وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم في مراحل النبوة كلها، في مكة والمدينة، في نطاق التربية أو نشر الدعوة أو الحرب أو غير ذلك إنما يقوم على نظرة أصيلة إلى التنظيم وعلى اهتمامٍِ بالغٍ به.
ففي بيعة العقبة الأولى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة عند العقبة اثنا عشر رجلا يقول ابن إسحاق: "فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يُقْرِئهم القرآن، ويُعَلِّمهم الإسلام، ويُفَقِّههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة".
وفي بيعة العقبة الثانية بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة عند العقبة، كذلك وسرًّا دون أن تعلم قريش، ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إليَّ منكم اثنى عشر نقيبا، تسعةً من الخزرج، وثلاثةً من الأوس، فأما نقباء الخزرج فهم أسعد بن زرارة، وسعد ابن الربيع، وعبد الله بن رواحه، ورابع بن مالك، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأما نقباء الأوس فهم: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن المنذر".
وفي هجرته صلى الله عليه وسلم تبدو طائفةٌ من اللفتات التنظيمية الجديرة بالدراسة والتأمل، والتي من شأنها أن تدحض مزاعم القائلين برفض المنطق التنظيمي في العمل الإسلاميِّ منها:
1- طلبه إلى على بن أبي طالب المبيت في سريره لتضليل المشركين ريثما يكون هو قد غادر مكة وبلغ غار ثور.
2- اختياره غار ثور الذي يقع في اتجاهٍ معاكسٍ لطريق المدينة زيادةً وإمعاناً في تضليل المشركين الذين كانوا يدركون أنه سيهاجر إلى المدينة لا محالة.
3- تكليفه عبد الله بن أبي بكر بنقل ما يجري في مكة من أخبار ليكون على اطلاعٍ على ما يجري حوله.
4- تكليفه أسماء بنت أبي بكر بتأمين ما يلزمهم من طعامٍ وشراب.
5- تكليفه عامر بن فهيرة أن يمر بغنمه مساء عليهما ليأخذا حظهما من اللبن، ولتطمس الأغنام بحوافرها آثار الأقدام التي تتردد على الغار، حتى لا ينكشف مخبؤه للمشركين وزيادةً في تضليلهم.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي المسدَّد بهدي العليم الخبير، قد اتخذ (جملة ترتيباتٍ ومجموعة إجراءات) في حادثة واحدة من عشرات الحوادث.
فما بال هؤلاء المعطلة الذين يزعمون الغيرة على الإسلام والمسلمين وقد انقطع الوحي، وأشكلت الأمور، وادلهمت الخطوب بكيد الأعداء، يَدْعون المسلمين للخروج على العمل الإسلامي المنظم، ولا يستنيرون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون لهم أعينٌ يبصرون بها، وآذانٌ يسمعون بها؟.
أهداف الإسلام الكبرى تفرض التنظيم:
ثم إن العمل الإسلامي يجب أن يكون هدفه تغييريا، أي تغيير الواقع بالإسلام وليس عملاً وعظيًّا يتعايش مع الواقع ويصبح جزءاً منه.
والتغيير الإسلامي للواقع، لأفكاره ومعتقداته لنظمه وتشريعاته، لسلوكه وعاداته، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التنظيم والتنظيم الدقيق.
فهو لا يتحقق من خلال موعظةٍ في مسجد أو حديث في منتدى، بل لابد له من تحضيرٍ على كل صعيد.
لابد له من تحضير الإنسان المؤمن بالتغيير الإسلامي، والمستعد لتقديم متطلبات التغيير الإسلامي المادية والمعنوية، ولابد له من تحضير برامج التغيير وخططه ومناهجه.
ثم لابد له من تهيئة أدوات التغيير وأسبابه ووسائله البشرية والمادية والتقنية.
إن كل هذه المتطلبات وغيرها لا يمكن توفرها وتوافرها بغير التنظيم، وعدم توفر التنظيم يجعل العمل الإسلامي عملاً وعظيًّا أو ثقافيًّا على هامش حياة الناس يدغدغ بعض أحلامهم، ويحرك بعض مشاعرهم ثم لا يلبث أن يخبو ويخمد دون أن يخلِّف وراءه أي أثرٍ أو نتيجة.
ضخامة التحدي للإسلام تفرض التنظيم:
وإذا أضيف إلى ما سبق ضخامة التحدي الذي يواجهه الإسلام من قبل أعدائه على الصعيدين المحلي والعالمي، لأصبح التنظيم في العالم الإسلامي واجباً بالضرورة إن لم يكن واجباً شرعا.
فأعداء الإسلام لهم عشرات التنظيمات والحركات والواجهات التي يتآمرون من خلالها على الإسلام وأهله، وأعداء الإسلام يملكون من الأسباب المادية ما لا يحصَى كما ونوعا، وأعداء الإسلام يسخرون كل التقنيات الحديثة في حربهم على الإسلام تخطيطاً وتنفيذا، وأعداء الإسلام فوق كل هذا كله يتحركون ويتآمرون ويخططون من مواقع عالمية ومن معسكرات دولية.
فهل بعد هذا كله يعقل أن تكون المواجهة الإسلامية قاصرة عاجزة غير منظمة وغير مخططة؟.
وبعد هذا كله يبرز سؤالٌ كبيرٌ ومهم: أين يصب شعار الدعوة إلى عدم التنظيم في العمل الإسلامي؟ ومن هو المستفيد منه والخاسر؟.
إننا في ختام كلامنا هذا، ندعو المتقوِّلين على الإسلام بغير حق إلى أمرين اثنين:
1- أن يفهموا الإسلام حقَّ فهمه قبل أن يتصدَّروا الدعوة إليه.
2- وأن يتقوا الله حق تقاته، متذكرين دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب"رواه البخاري ومسلم.
"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد".
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
________________
دعوة نت
إن مشكلة ضعف العقلية التنظيمية أو التخلف التنظيمي أو ما شاكل ذلك من المشاكل الخطيرة التي لا يجوز أن تكون قائمة أساسا في ساحة العمل الإسلامي لتناقضها الكلي والكامل مع السنن الإلهية والتوجيهات القرآنية والنبوية ومع طبيعة الدين القيم، كما لا يصح أن تبقى مستمرة في عصر يعتمد التخطيط والتنظيم والبرمجة في كل جانب من جوانبه، الأساسية والفرعية، الكبيرة والصغيرة، الهامة والتافهة، فكيف في الدعوة إلى منهج الله ورسالته الخاتمة (العالمية-الشاملة-الدائمة)؟؟؟
إن رسالة الإسلام وهذه بعض مواصفاتها تفترض أن يكون حملتها ودعاتها وأصحابها على مستواها تخطيطا وتنظيما، كما على مستوى العصر آخذا بأسبابه ووسائله ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا الذي كان يؤكد على جوانب ثلاثة كشرط لنجاح العمل الإسلامي وهي: 1-الإيمان العميق 2- التنظيم الدقيق 3- العمل المتواصل
ليس البديل عن التنظيم إلا الفوضى:
إن الذي يرفض فكرة التنظيم في العمل الإسلامي كأنه بالتالي يدعو ويحرض على فوضوية العمل الإسلامي.. والفوضوية لم تكن يوماً مبدأً من مبادئ الإسلام أو شعارا من شعاراته وإنما هي أحد شعارات الحركة اليسارية، بل اسم فرقة من الفرق اليسارية المتطرفة التي عرفها تاريخ الحركة الشيوعية في الأربعينات والخمسينات (راجع كتاب اعرف مذهبك لمارتن دودج-باب الفوضوية).
رفض التنظيم يعني رفض التخطيط واعتماد العفوية:
ثم إن الدعوة إلى رفض فكرة تنظيم العمل الإسلامي هي بالتالي دعوة إلى رفض مبدأ التخطيط وبالتالي إلى العفوية والارتجال، وهو نهاية الارتكاس الذي يمكن أن يصل إليه المسلمون ويتلهف إليه أعداء الإسلام والمتربصون به والمكيدون له.
الفوضوية والعفوية نقيض القوة:
والدعوة إلى رفض فكرة التنظيم في العمل الإسلامي هي بالتالي دعوة إلى استمرار حالة الضعف لدى المسلمين، لأن القوة لم تكن ولا يمكن أن تكون إلا نتيجة التنظيم لا الفوضى ومحصلة التخطيط لا العفوية.
الفوضوية والعفوية نقيض الوحدة:
والدعوة إلى رفض فكرة التنظيم في العمل الإسلامي هي بالتالي دفع المسلمين إلى مزيد من التفكك والتشرذم والخلاف، وإجازة شرعية لتعددية الاتجاهات والمدارس والحركات الإسلامية، لأن وحدة المسلمين ووحدة العمل الإسلامي هما مطلبان شرعيان لا يمكن تحقيقهما إلا بالتنظيم فالوحدة وليدة التنظيم وليست وليدة الفوضى ووليدة التخطيط وليست وليدة العفوية.
الفوضى والعفوية نقيض النواميس الكونية:
إن كل شيء في هذا الكون قائمٌ بأمر الله تعالى على التنظيم والنظام، من الكواكب والمجرات السابحة في الفضاء، إلى تعاقب الليل والنهار وتتابع الفصول وعملية التلقيح والتناسل لدى الإنسان والحيوان، إلى سريان الحياة في جسم الكائن البشري عبر أجهزته المختلفة الدقيقة والمعقدة إلى ما لا نهاية له من النواميس الإلهية في الكون والإنسان والحياة، إنها جميعا تقوم على النظام، واختلال النظام فيها هو اختلال لعملها وتعطيل لأدوارها ووظائفها: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب"، "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون".
النظام والتخطيط أساس كل عمل ناجح:
إن أيَّ عمل مهما كان صغيراً ومتواضعاً لا يمكن أن يُكْتَب له النجاح ما لم يكن منظما، وكثيرٌ من الطاقات قد تُهدَر وتضيع في غياب التنظيم، بينما تفعل قلةٌ منظمةٌ فِعْلَ الأعاجيب. فإن كان مشروع بناء بيتٍ أو فتح دكانٍ أو زراعة بستانٍ أو إنشاء مدرسةٍ أو مستشفى أو ما شاكل ذلك من أعمالٍ بسيطة يحتاج إلى تنظيم (كوضع خرائط، وتنظيم حساب، وتحديد مسئوليات، واختيار منفذين ومشرفين، وإلى تسوق المواد،..الخ) أفلا يحتاج العمل الإسلامي ذو الآفاق المتعددة، والمجالات المختلفة، وذو الأهداف الكبيرة وحيال المؤامرات الكثيرة إلى التنظيم؟.
التنظيم أساس المنهج الإسلامي:
والمنهج الإسلامي نفسه يقوم على النظام والتنظيم على التكامل والتناسق، فهل يعقل أن تكون الدعوة إليه، والعمل لاستئناف الحياة على أساسه، وإيجاد المجتمع الذي يؤمن به، وإقامة الدولة التي تحتكم إلى شرعته من غير تنظيم؟.
إن النظام العبادي من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍّ قائمٌ في كل جزئياته وتفصيلاته على أصول قاعدةٍ تنظيميةٍ صارمة. إن النظام الاجتماعي، قانون الزواج، القوانين التي تحكم الأسرة المسلمة، وتنظيم العلاقات الاجتماعية إلخ، قائمٌ في كل جوانبه على أسس تنظيمية ثابتة. وهكذا دواليك تقوم سائر النظم التي يتشكل منها المنهج الإسلامي على قواعد تنظيمية دقيقة.
التنظيم عنوان الهدي القرآني:
والقرآن الكريم دستور المسلمين وحجة الله على الناس أجمعين يؤكد في كثير من آياته تصريحاً وتلميحاً على اعتماد التنظيم وملاحظته وعدم إغفاله.
ففي نطاق دعوة المسلمين إلى أن تكون لهم قيادة يحتكمون إليها وينزلون عند حكمها يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم"، وبديهي أن القيادة والطاعة شئونٌ تنظيميةٌ صميمة.
وفي معرض وصفة لعلاقة الجندية بالقيادة يقول الله تعالى: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم".
وفي معرض وصفه لتواثق المسلمين وتلاحمهم، وبخاصة في مواجهة أعدائهم يقول: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص" والبنيان المرصوص يكون نتيجة التنظيم والانضباط وليس العكس إطلاقا.
وهكذا تتكاثر الآيات وتتناثر في كل جانب من جوانب التوجيه والتشريع القرآنيين مؤكدة أهمية التنظيم ومكانته في كتاب الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد.
التنظيم أساس الهدي النبوي:
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المسلمين وإمامهم كان اهتمامه بالتنظيم اهتماماً بالغا.
وحِرْص رسول الله صلى الله عليه وسلم على التنظيم يبدو من خلال دعوته الصريحة إلى إقامة أميرٍ أو اختيار قائدٍ على رأس كل مجموعةٍ أو فريق عملٍ ولو كانوا ثلاثة، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فأَمِّروا أحدكم"رواه الطبرانيُّ بإسناد حسن.
هذا الحرص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على إناطة أمر المسلمين أي أميرٍ أو قائدٍ هو حرصٌ بالتالي على أن تكون أمور المسلمين وشئونهم منتظمة منضبطة، سواء كانوا في سلمٍ أو حرب، وفي تجارة أو على سفر، وسواء كانت هذه الشئون صغيرةً أو كبيرة.
فكيف يُحسَم خلافٌ إن وقع إن لم يكن في المجموعة من يُسْمَع له ويطاع. ثم من يحدد لكل إنسان عمله، ومن يتابع الأعمال كلها بالتوجيه والتسديد إن لم يكن في فريق العمل هذا جنديةٌ وقيادةٌ وطاعةٌ ونظام؟ هذا كله في نطاق أبسط الأمور وأيسرها، فكيف إذا كبرت وتضخمت وتشعبت؟
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابع توجيهه النبوي مؤكداً على ضرورة السمع والطاعة للقيادة كائناً من كانت ما دامت هي القيادة الشرعية، فيقول: "اسمعوا وأطيعوا وإن استُعْمِل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبة"رواه البخاري.
وحتى لا تكون طاعة المسلمين للقيادة فيما أحبوا ووافق هواهم فحسب فينجم عن ذلك خللٌ كبيرٌ وشرٌّ مستطيرٌ وفوضى وضياع، يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيهه النبوي فيقول: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأَثَرٍة عليك"رواه مسلم.
وتحذيراً من الفتنة، وشق صف المسلمين، مما يوهنهم ويغري الأعداء بهم ويجرؤهم عليهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "من خلع يداً من طاعةٍ لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهلية"رواه مسلم.
أليس هذا كله من مقومات التنظيم ومن مبادئه وأصوله؟
التنظيم أساسُ عملِ الرسول صلى الله عليه وسلم:
وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم في مراحل النبوة كلها، في مكة والمدينة، في نطاق التربية أو نشر الدعوة أو الحرب أو غير ذلك إنما يقوم على نظرة أصيلة إلى التنظيم وعلى اهتمامٍِ بالغٍ به.
ففي بيعة العقبة الأولى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة عند العقبة اثنا عشر رجلا يقول ابن إسحاق: "فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يُقْرِئهم القرآن، ويُعَلِّمهم الإسلام، ويُفَقِّههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة".
وفي بيعة العقبة الثانية بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة عند العقبة، كذلك وسرًّا دون أن تعلم قريش، ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إليَّ منكم اثنى عشر نقيبا، تسعةً من الخزرج، وثلاثةً من الأوس، فأما نقباء الخزرج فهم أسعد بن زرارة، وسعد ابن الربيع، وعبد الله بن رواحه، ورابع بن مالك، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأما نقباء الأوس فهم: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن المنذر".
وفي هجرته صلى الله عليه وسلم تبدو طائفةٌ من اللفتات التنظيمية الجديرة بالدراسة والتأمل، والتي من شأنها أن تدحض مزاعم القائلين برفض المنطق التنظيمي في العمل الإسلاميِّ منها:
1- طلبه إلى على بن أبي طالب المبيت في سريره لتضليل المشركين ريثما يكون هو قد غادر مكة وبلغ غار ثور.
2- اختياره غار ثور الذي يقع في اتجاهٍ معاكسٍ لطريق المدينة زيادةً وإمعاناً في تضليل المشركين الذين كانوا يدركون أنه سيهاجر إلى المدينة لا محالة.
3- تكليفه عبد الله بن أبي بكر بنقل ما يجري في مكة من أخبار ليكون على اطلاعٍ على ما يجري حوله.
4- تكليفه أسماء بنت أبي بكر بتأمين ما يلزمهم من طعامٍ وشراب.
5- تكليفه عامر بن فهيرة أن يمر بغنمه مساء عليهما ليأخذا حظهما من اللبن، ولتطمس الأغنام بحوافرها آثار الأقدام التي تتردد على الغار، حتى لا ينكشف مخبؤه للمشركين وزيادةً في تضليلهم.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي المسدَّد بهدي العليم الخبير، قد اتخذ (جملة ترتيباتٍ ومجموعة إجراءات) في حادثة واحدة من عشرات الحوادث.
فما بال هؤلاء المعطلة الذين يزعمون الغيرة على الإسلام والمسلمين وقد انقطع الوحي، وأشكلت الأمور، وادلهمت الخطوب بكيد الأعداء، يَدْعون المسلمين للخروج على العمل الإسلامي المنظم، ولا يستنيرون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون لهم أعينٌ يبصرون بها، وآذانٌ يسمعون بها؟.
أهداف الإسلام الكبرى تفرض التنظيم:
ثم إن العمل الإسلامي يجب أن يكون هدفه تغييريا، أي تغيير الواقع بالإسلام وليس عملاً وعظيًّا يتعايش مع الواقع ويصبح جزءاً منه.
والتغيير الإسلامي للواقع، لأفكاره ومعتقداته لنظمه وتشريعاته، لسلوكه وعاداته، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التنظيم والتنظيم الدقيق.
فهو لا يتحقق من خلال موعظةٍ في مسجد أو حديث في منتدى، بل لابد له من تحضيرٍ على كل صعيد.
لابد له من تحضير الإنسان المؤمن بالتغيير الإسلامي، والمستعد لتقديم متطلبات التغيير الإسلامي المادية والمعنوية، ولابد له من تحضير برامج التغيير وخططه ومناهجه.
ثم لابد له من تهيئة أدوات التغيير وأسبابه ووسائله البشرية والمادية والتقنية.
إن كل هذه المتطلبات وغيرها لا يمكن توفرها وتوافرها بغير التنظيم، وعدم توفر التنظيم يجعل العمل الإسلامي عملاً وعظيًّا أو ثقافيًّا على هامش حياة الناس يدغدغ بعض أحلامهم، ويحرك بعض مشاعرهم ثم لا يلبث أن يخبو ويخمد دون أن يخلِّف وراءه أي أثرٍ أو نتيجة.
ضخامة التحدي للإسلام تفرض التنظيم:
وإذا أضيف إلى ما سبق ضخامة التحدي الذي يواجهه الإسلام من قبل أعدائه على الصعيدين المحلي والعالمي، لأصبح التنظيم في العالم الإسلامي واجباً بالضرورة إن لم يكن واجباً شرعا.
فأعداء الإسلام لهم عشرات التنظيمات والحركات والواجهات التي يتآمرون من خلالها على الإسلام وأهله، وأعداء الإسلام يملكون من الأسباب المادية ما لا يحصَى كما ونوعا، وأعداء الإسلام يسخرون كل التقنيات الحديثة في حربهم على الإسلام تخطيطاً وتنفيذا، وأعداء الإسلام فوق كل هذا كله يتحركون ويتآمرون ويخططون من مواقع عالمية ومن معسكرات دولية.
فهل بعد هذا كله يعقل أن تكون المواجهة الإسلامية قاصرة عاجزة غير منظمة وغير مخططة؟.
وبعد هذا كله يبرز سؤالٌ كبيرٌ ومهم: أين يصب شعار الدعوة إلى عدم التنظيم في العمل الإسلامي؟ ومن هو المستفيد منه والخاسر؟.
إننا في ختام كلامنا هذا، ندعو المتقوِّلين على الإسلام بغير حق إلى أمرين اثنين:
1- أن يفهموا الإسلام حقَّ فهمه قبل أن يتصدَّروا الدعوة إليه.
2- وأن يتقوا الله حق تقاته، متذكرين دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب"رواه البخاري ومسلم.
"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد".
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
________________
دعوة نت