بقلم: الشيخ عاطف أبو زيتحار
جاءني صديقي العزيز في يوم متغير الوجه شاحب اللون قد تعددت قسمات وجهه وخيَّم عليه الحزن والكآبة فقلت له: ما بك؟ هل أنت مريض؟ قال لي: لا. قلت له: هل عندك شيء في البيت؟ هل أُصيب ولدك؟ عندك مشكلة أو ضائقة مالية؟ وأخذت أعدد له وفي كل مرةٍ يقول لي: لا، فقلتُ له: ما بك بالله عليك وأخذت ألحُّ عليه؟ وهو مصرٌّ على عدم الكلام.. حتى نطق ومع نطقه حرَّك نبض قلبي وزلزل كياني وكبر في عيني.
قال لي قد جعلتُ جزءًا من مالي في الدخل الشهري لله أنفقه بمجرد أن أتقاضى راتبي، هذا الجزء الذي أقتطعه صدقة لا تنقطع كالفريضة وهي عندي ضريبة جهادية.
قلتُ: هذا شيء طيب، وأسأل الله أن يتقبَّله منك، ولكن ما الذي غيَّرك؟.
قال لي: هذا الشهر تأخَّر دفع الجهاد الشهري عدة أيام.. تقاضيتُ راتبي وذهبتُ به إلى البيت فشغلتُ عن دفعه.. مرَّ عليَّ اليوم الأول زاد كسلي وكثُر فتوري ونقص راتبي.
قلت له: بإمكانك أن تدفعه بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وإذا كنت في ضائقةٍ طلبنا لك العون والمدد من إخوانك وأحبابك وأصدقائك.
قال لي أخي الكريم: لقد عوَّدني ربي عادةً منذ أن عقدتُ العزم والعهد على إخراج هذا الجزء من راتبي الشهري، وهو أنني إذا تأخرتُ عن دفعه أن يبعث الله إليَّ ببرقيةٍ مغلفة بالتذكير محفوفة بالسؤال، وهي أين حق الدعوة؟ أين جهادك؟ فتبدأ الآيات المحفوفة بالسؤال في الظهور على جسد الأولاد؛ هذا عنده دور برد والآخر قد ارتفعت درجة حرارة جسده، وتتعدد المصاريف وترتفع التكاليف.. وسبحان الله يُغيِّر الحالَ فبدلاً من أن أدفع جزءًا يسيرًا في الجهاد فإنني أدفع أجزاء في الدواء والمصاريف الأخرى، وهذا الشهر حدث نفس الفعل تأخرتُ وليس كثيرًا فجاءتني البرقية.. وها أنا أسرع الخطى لدفعه، وهذا ما غيَّرني أخي أنني تأخرتُ عن دفع جهادي المخصص للدعوة من دخلي الشهري.
شكرته على فهمه الراقي وجزيته خيرًا، وصوبتُ إليه النظر وصعدته لأرسل إليه برسالة احترام وتقدير بلغة العين مع اللسان، وقلتُ في نفسي: سبحان الله، أين أنت من صديقي الآخر الذي طلب منه أحد إخوانه نفقةً ماليةً لأنَّ الدعوةَ في حاجةٍ إليها فقال لهم بعد أن تغيَّرت معالم وجهه وكثُرت قسمات جبينه، وازداد بريق عينيه: والله أنا مدين، وقد اشتركتُ في جمعية.. ومعذرةً لن أدفع الآن لأني مشغول، وتعلل لهم بعلل كثيرة في نظري أنها علل عرجاء.
وساعتها وقفتُ بين الصديقين الكريمين:
* الأول: مَن علا فهمه وارتفع إيمانه ويقينه وأوفى ببيعته مع قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة)، يقرأ هذه الآية وفي خلده الأخرى ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)﴾ (النحل)، ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾ (الفتح).
وهو حذَّر وجل خائف من جوامع كلَّم النبي- صلى الله عليه وسلم-: عن عمران بن حصين رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"- قَالَ عِمْرَانُ: لا أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ- "ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ" (رواه البخاري).
ويدور على لسانه ويتحرك بين شفتيه كلام الإمام البنا عليه رحمة الله تعالى، وهو يطرح سؤالاً يدور على ألسنة البعض: من أين المال؟
يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبون الذين يرمقون الإخوان المسلمين عن بعدٍ ويرقبونهم عن كثبٍ قائلين: من أين ينفقون؟ وأنى لهم المال اللازم لدعوة نجحت وازدهرت كدعوتهم والوقت عصيب والنفوس شحيحة؟
وإني أجيبُ هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال، والعقيدة قبل الأعراض الزائلة، وإذا وُجِدَ المؤمن الصحيح وُجدت معه وسائل النجاح جميعًا، وإنَّ في مالِ الإخوان المسلمين القليل الذي يقتطعونه من نفقاتهم ويقتصدونه من ضرورياتهم ومطالب بيوتهم وأولادهم، ويجودون به طيبة نفوسهم سخيةً به قلوبهم، يود أحدهم لو كان له أضعاف أضعاف فينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد بعضهم شيئًا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون.
في هدا المال القليل والإيمان الكبير ولله الحمد والعزة بلاغ لقوم عابدين، ونجاح للعاملين الصادقين, وإن الله الذي بيده كل شيء ليبارك في القرش الواحد من قروش الإخوان, و﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 276)، ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ (الروم: من الآية 39)" (الرسائل).
* والثاني: الذي غاب عنه فقه الأولويات وارتدى منظارًا واحدًا في هذه الحالة يرى به فقر الدنيا فقرًا ونسي فقر الآخرة، وغنى الدنيا غنًى ونسي غنى الآخرة، وربح الدنيا ربحًا ونسي ربح الآخرة، وبؤس الدنيا بؤسًا ونسي بؤس الآخرة.
وقفتُ بين الاثنين، وقد جاءتني المواقف الإيمانية من حياة الصحابة والتابعين تترى من كل مكانٍ لم أنتهي من قراءة موقف إلا ويزاحمه الآخر قبل الانتهاء!! وأخذت أقيس حال الدعوة بين الاثنين مَن الذي يستحق شرف الانتماء إليها والتضحية من أجلها؟ مَن فيهم الذي يستحق شرف حملها ومَن الذي تحمله هي؟ مَن الذي يعيش على هامش الدعوة ومَن الذي تعيش الدعوة فيه؟.
* عبد الله بن جعفر بن الشهيد الطيار رضي الله عنهما لامه بعض أصحابه على كثرةِ إنفاقه في سبيل الله قال له: أوكلما سألك سائل أعطيته أما تخشى تقلبات الزمان؟ فقال: إنَّ الله عوَّدني عادةً وعودتً عباده عادةً: عودني أن يعطيني كلما أعطيت عباده، وعودتُ عباده أنه كلما سألني سائل أعطيته، فأخاف إذا منعتُ عطيتي وعادتي عن عباده أن يمنع عطيته وعادته عني.
لقد سبق الرجل غيره بسبب نظرته البعيدة ورؤيته للأمور وقياسه لها بمنظار الآخرة ورضا ربه ومولاه عز وجل فكان خبيرًا بها، فهو كما قال الحسن البصري رحمه الله: للناس حال وله حال الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب.
يحضرني الآن كلام لابن الجوزي بين مَن يرى حق الدعوة في الدخل الشهري جبايةً، ومَن يراها جهادًا فالأول: لا يدفع إلا بالمطالبة كعبدِ السوء لا يأتي إلا بعد النداء، ولربما أبطأ ولم يجب بسرعة، وهو يحتاج إلى مَن يطرق بابه كثيرًا، ولربما أرسل إليه إنذارًا وأحاله بعد إلى القضاء والشرطة لينتهي الأمر إلى الحجز ثم الطرد.
والثاني: تحركت فيه الذاتية فرأى الأشياء على حقيقتها والأمور على طبيعتها، فهو يفهم بالإشارة وكل لبيب بالإشارة يفهم.. قال ابن الجوزي: ألم ترَ إلى أرباب الصنائع لو دخلوا إلى دار معمورة رأيت البناء ينظر إلى الباب والحوائط والنجار ينظر إلى الباب والحائك ينظر إلى النسيج فكذلك المؤمن اليقظان إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإذا شكا ألمًا ذكر العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا ذكر نفخة الصور، وإن رأى نيامًا ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة.
ويقول ابن رجب- رحمه الله- في نور الاقتباس: فمَن قام بحقوق الله عليه فإن الله يتكفل بجميع مصالحه في الدنيا والآخرة، ومَن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليرعَ حقوق الله عليه، ومَن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره فلا يأتِ شيئًا مما يكرهه الله.
ويقول في مجموعة رسائله: ومن لطائف أسراره اقتران الفرج باشتداد الكرب أن الكرب إذا اشتدَّ وعظم، وتناهى وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق، ومَن انقطع عن التعلق بالخلائق وتعلق بالخالق استجاب الله له.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاءِ الدُّعَاءَ" (الطبراني).
أين أصحاب البصائر ليقرءوا هذا الكلام حتى يؤمنوا بأن حقَّ الدعوة في الدخل الشهري جهاد وليس جباية، وإذا ما أدوه على أكمل وجه، وأوفوا بعهد معه تكفل الله بحفظهم ورعايتهم، واستجابَ لهم وقضى لهم حوائجهم.
يقول الله عز وجل:﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا" (رواه أحمد والنسائي).
قال الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: "الحرص من شرِّ أداة الفتى، لا خيرَ في الحرص على حال مَن بات محتاجًا إلى أهله هان على ابن العم والخال".
روى البخاري بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"
ماذا لو تعلَّقت دعوة الله يوم القيامة بكل مَن حملها وبخل بماله عنها، وقالت: يا رب هذا عبدك حملني ومنع معروفه، وبخل بماله عني؟ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "كم من جارٍ متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب هذا أغلق بابه دوني ومنع معروفه".
هذا فرد تعلَّق يوم القيامة بمَن شحَّ بماله وبخل به عنه، فما بالنا بدعوة الله التي تحمل الخيرَ لكل الناس، وتأخذ بحجزهم عن النار؟ وبأيديهم إلى كل فضيلة؟ تخاطب كل الشرائح وتصل إلى كل الفئات؟.
كيف بنا إذا تعلَّقت بنا يوم القيامة لها لسان ينطق وأذن تسمع وعين تبصر تصرخ وتشكونا إلى الله بأننا قطعنا رجاءها ولم نُضح بمالنا من أجلها؟ إن لم يجاهد الدعاة بأموالهم فمَن يجاهد؟ وإذا بخلوا عليها فمَن يجود؟ وإذا لم يرفعوا راية الجهاد بالمال فمَن يرفعها؟.
إن الجهاد بالمال في هذا الميدان الرحب الواسع المتعدد المنافع الكثير الأغراض ثوابه كبير وأجره وفير وثوابه عميم، فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ" (متفق عليه).
شرف كبير أن تكون من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن شريطة أن تكون كالأشعريين في تكافلهم عند نزول الشدائد والمحن، وهذا ليس بالصعب ولا بالعسير، فالشدائد التي تنزل بين الحين والحين على إخوانك الذين يحملون همًّا كهمك وهمةً كهمتك كثيرة، وأنت بجهادك تخفف عنهم، وتشارك في نشر النور وتبدد جزءًا من ظلام الفاسدين والمفسدين.
إنك بجهادك أخي الكريم ترفع راية يراد لها أن تنكس ومصحفًا يراد له أن يدنس وشريعة يراد لها أن تحرف وتقصى وتنسف.
إنك بجهادك أخي تشارك في كفالة طالب علم، وسد رمق أرملة، وتخفف عن مريض آهةً.
إنك بجهادك أخي تنشر دعوةً فتأخذ بيد العاصي إلى النور، وترشد الضال إلى الطريق، وتشارك في وضع لبناتِ التمكين لدين الله في الأرض.
إن ما يدعونا إلى الغيرة على دعوة الله ما نراه من تضحيةٍ بالمال والوقت والجهد من أهل الباطل من أجل نشر باطلهم والدفاع عنه.
لقد سجَّل القرآن على أهل الكفر تضحيتهم بأموالهم من أجل نصرةِ باطلهم: ﴿إن الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال).
هذا أخي ما يدعونا إلى التضحية من أجل نشر دعوة الله بين الناس بالليل والنهار بكل ما أُوتينا من وقتٍ ومالٍ وفكرٍ نبتغي من وراء ذلك رضا الله عز وجل.
سَأَلَ رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَعِظَهُ فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِالرِّزْقِ فَاهْتِمَامُك بِالرِّزْقِ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْسُومًا فَالْحِرْصُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الْخَلَفُ عَلَى اللَّهِ حَقًّا فَالْبُخْلُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ الْجَنَّةُ حَقًّا فَالرَّاحَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ حَقًّا فَالْمَعْصِيَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَقًّا فَالْأُنْسُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ الدُّنْيَا فَانِيَةً فَالطُّمَأْنِينَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ حَقًّا فَالْجَمْعُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَالْحُزْنُ لِمَاذَا؟.
وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ لِرَجُلٍ رَأَتْهُ مَهْمُومًا: إنْ كَانَ هَمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَزَادَكَ اللَّهُ هَمًّا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَفَرَّجَ اللَّهُ هَمَّكَ. (المدخل للعبدري).
نحن في حاجةٍ إلى أن نُضحي من أجلها أكثر من حاجتها إلى تضحيتنا، مَن آمن بذلك سعى إليها بماله مجاهدًا، ومَن لم يؤمن انتظر مَن يجبي منه المال بطرق بابه مرةً ومطالبته أخرى والإسرار إليه مرةً والجهر أخرى.
حُكي أن إبراهيم بن أدهم أراد أن يدخل الحمام فمنعه الحمامي أن يدخله بدون الأجرة فبكى إبراهيم وقال إذا لم يؤذن لي أن أدخل بيت الشيطان مجانًا؟ فكيف بالدخول في بيت النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بلا زادٍ ولا عمل؟
فادفع الأجرة وأوفِ بعهدك وتاجر مع ربك يهدك إلى سواء الصراط ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت).
واحمد الله الذي فتح لك باب الجهاد بالمال طوال حياتك، في حين أغلق في وجوه الكثيرين من أبناء أمتك، واحذر أخي أن يحجبَ الله عنك أنواره ﴿كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)﴾ (التوبة).
جاءني صديقي العزيز في يوم متغير الوجه شاحب اللون قد تعددت قسمات وجهه وخيَّم عليه الحزن والكآبة فقلت له: ما بك؟ هل أنت مريض؟ قال لي: لا. قلت له: هل عندك شيء في البيت؟ هل أُصيب ولدك؟ عندك مشكلة أو ضائقة مالية؟ وأخذت أعدد له وفي كل مرةٍ يقول لي: لا، فقلتُ له: ما بك بالله عليك وأخذت ألحُّ عليه؟ وهو مصرٌّ على عدم الكلام.. حتى نطق ومع نطقه حرَّك نبض قلبي وزلزل كياني وكبر في عيني.
قال لي قد جعلتُ جزءًا من مالي في الدخل الشهري لله أنفقه بمجرد أن أتقاضى راتبي، هذا الجزء الذي أقتطعه صدقة لا تنقطع كالفريضة وهي عندي ضريبة جهادية.
قلتُ: هذا شيء طيب، وأسأل الله أن يتقبَّله منك، ولكن ما الذي غيَّرك؟.
قال لي: هذا الشهر تأخَّر دفع الجهاد الشهري عدة أيام.. تقاضيتُ راتبي وذهبتُ به إلى البيت فشغلتُ عن دفعه.. مرَّ عليَّ اليوم الأول زاد كسلي وكثُر فتوري ونقص راتبي.
قلت له: بإمكانك أن تدفعه بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وإذا كنت في ضائقةٍ طلبنا لك العون والمدد من إخوانك وأحبابك وأصدقائك.
قال لي أخي الكريم: لقد عوَّدني ربي عادةً منذ أن عقدتُ العزم والعهد على إخراج هذا الجزء من راتبي الشهري، وهو أنني إذا تأخرتُ عن دفعه أن يبعث الله إليَّ ببرقيةٍ مغلفة بالتذكير محفوفة بالسؤال، وهي أين حق الدعوة؟ أين جهادك؟ فتبدأ الآيات المحفوفة بالسؤال في الظهور على جسد الأولاد؛ هذا عنده دور برد والآخر قد ارتفعت درجة حرارة جسده، وتتعدد المصاريف وترتفع التكاليف.. وسبحان الله يُغيِّر الحالَ فبدلاً من أن أدفع جزءًا يسيرًا في الجهاد فإنني أدفع أجزاء في الدواء والمصاريف الأخرى، وهذا الشهر حدث نفس الفعل تأخرتُ وليس كثيرًا فجاءتني البرقية.. وها أنا أسرع الخطى لدفعه، وهذا ما غيَّرني أخي أنني تأخرتُ عن دفع جهادي المخصص للدعوة من دخلي الشهري.
شكرته على فهمه الراقي وجزيته خيرًا، وصوبتُ إليه النظر وصعدته لأرسل إليه برسالة احترام وتقدير بلغة العين مع اللسان، وقلتُ في نفسي: سبحان الله، أين أنت من صديقي الآخر الذي طلب منه أحد إخوانه نفقةً ماليةً لأنَّ الدعوةَ في حاجةٍ إليها فقال لهم بعد أن تغيَّرت معالم وجهه وكثُرت قسمات جبينه، وازداد بريق عينيه: والله أنا مدين، وقد اشتركتُ في جمعية.. ومعذرةً لن أدفع الآن لأني مشغول، وتعلل لهم بعلل كثيرة في نظري أنها علل عرجاء.
وساعتها وقفتُ بين الصديقين الكريمين:
* الأول: مَن علا فهمه وارتفع إيمانه ويقينه وأوفى ببيعته مع قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة)، يقرأ هذه الآية وفي خلده الأخرى ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)﴾ (النحل)، ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾ (الفتح).
وهو حذَّر وجل خائف من جوامع كلَّم النبي- صلى الله عليه وسلم-: عن عمران بن حصين رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"- قَالَ عِمْرَانُ: لا أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ- "ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ" (رواه البخاري).
ويدور على لسانه ويتحرك بين شفتيه كلام الإمام البنا عليه رحمة الله تعالى، وهو يطرح سؤالاً يدور على ألسنة البعض: من أين المال؟
يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبون الذين يرمقون الإخوان المسلمين عن بعدٍ ويرقبونهم عن كثبٍ قائلين: من أين ينفقون؟ وأنى لهم المال اللازم لدعوة نجحت وازدهرت كدعوتهم والوقت عصيب والنفوس شحيحة؟
وإني أجيبُ هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال، والعقيدة قبل الأعراض الزائلة، وإذا وُجِدَ المؤمن الصحيح وُجدت معه وسائل النجاح جميعًا، وإنَّ في مالِ الإخوان المسلمين القليل الذي يقتطعونه من نفقاتهم ويقتصدونه من ضرورياتهم ومطالب بيوتهم وأولادهم، ويجودون به طيبة نفوسهم سخيةً به قلوبهم، يود أحدهم لو كان له أضعاف أضعاف فينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد بعضهم شيئًا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون.
في هدا المال القليل والإيمان الكبير ولله الحمد والعزة بلاغ لقوم عابدين، ونجاح للعاملين الصادقين, وإن الله الذي بيده كل شيء ليبارك في القرش الواحد من قروش الإخوان, و﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 276)، ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ (الروم: من الآية 39)" (الرسائل).
* والثاني: الذي غاب عنه فقه الأولويات وارتدى منظارًا واحدًا في هذه الحالة يرى به فقر الدنيا فقرًا ونسي فقر الآخرة، وغنى الدنيا غنًى ونسي غنى الآخرة، وربح الدنيا ربحًا ونسي ربح الآخرة، وبؤس الدنيا بؤسًا ونسي بؤس الآخرة.
وقفتُ بين الاثنين، وقد جاءتني المواقف الإيمانية من حياة الصحابة والتابعين تترى من كل مكانٍ لم أنتهي من قراءة موقف إلا ويزاحمه الآخر قبل الانتهاء!! وأخذت أقيس حال الدعوة بين الاثنين مَن الذي يستحق شرف الانتماء إليها والتضحية من أجلها؟ مَن فيهم الذي يستحق شرف حملها ومَن الذي تحمله هي؟ مَن الذي يعيش على هامش الدعوة ومَن الذي تعيش الدعوة فيه؟.
* عبد الله بن جعفر بن الشهيد الطيار رضي الله عنهما لامه بعض أصحابه على كثرةِ إنفاقه في سبيل الله قال له: أوكلما سألك سائل أعطيته أما تخشى تقلبات الزمان؟ فقال: إنَّ الله عوَّدني عادةً وعودتً عباده عادةً: عودني أن يعطيني كلما أعطيت عباده، وعودتُ عباده أنه كلما سألني سائل أعطيته، فأخاف إذا منعتُ عطيتي وعادتي عن عباده أن يمنع عطيته وعادته عني.
لقد سبق الرجل غيره بسبب نظرته البعيدة ورؤيته للأمور وقياسه لها بمنظار الآخرة ورضا ربه ومولاه عز وجل فكان خبيرًا بها، فهو كما قال الحسن البصري رحمه الله: للناس حال وله حال الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب.
يحضرني الآن كلام لابن الجوزي بين مَن يرى حق الدعوة في الدخل الشهري جبايةً، ومَن يراها جهادًا فالأول: لا يدفع إلا بالمطالبة كعبدِ السوء لا يأتي إلا بعد النداء، ولربما أبطأ ولم يجب بسرعة، وهو يحتاج إلى مَن يطرق بابه كثيرًا، ولربما أرسل إليه إنذارًا وأحاله بعد إلى القضاء والشرطة لينتهي الأمر إلى الحجز ثم الطرد.
والثاني: تحركت فيه الذاتية فرأى الأشياء على حقيقتها والأمور على طبيعتها، فهو يفهم بالإشارة وكل لبيب بالإشارة يفهم.. قال ابن الجوزي: ألم ترَ إلى أرباب الصنائع لو دخلوا إلى دار معمورة رأيت البناء ينظر إلى الباب والحوائط والنجار ينظر إلى الباب والحائك ينظر إلى النسيج فكذلك المؤمن اليقظان إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإذا شكا ألمًا ذكر العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا ذكر نفخة الصور، وإن رأى نيامًا ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة.
ويقول ابن رجب- رحمه الله- في نور الاقتباس: فمَن قام بحقوق الله عليه فإن الله يتكفل بجميع مصالحه في الدنيا والآخرة، ومَن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليرعَ حقوق الله عليه، ومَن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره فلا يأتِ شيئًا مما يكرهه الله.
ويقول في مجموعة رسائله: ومن لطائف أسراره اقتران الفرج باشتداد الكرب أن الكرب إذا اشتدَّ وعظم، وتناهى وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق، ومَن انقطع عن التعلق بالخلائق وتعلق بالخالق استجاب الله له.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاءِ الدُّعَاءَ" (الطبراني).
أين أصحاب البصائر ليقرءوا هذا الكلام حتى يؤمنوا بأن حقَّ الدعوة في الدخل الشهري جهاد وليس جباية، وإذا ما أدوه على أكمل وجه، وأوفوا بعهد معه تكفل الله بحفظهم ورعايتهم، واستجابَ لهم وقضى لهم حوائجهم.
يقول الله عز وجل:﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا" (رواه أحمد والنسائي).
قال الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: "الحرص من شرِّ أداة الفتى، لا خيرَ في الحرص على حال مَن بات محتاجًا إلى أهله هان على ابن العم والخال".
روى البخاري بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"
ماذا لو تعلَّقت دعوة الله يوم القيامة بكل مَن حملها وبخل بماله عنها، وقالت: يا رب هذا عبدك حملني ومنع معروفه، وبخل بماله عني؟ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "كم من جارٍ متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب هذا أغلق بابه دوني ومنع معروفه".
هذا فرد تعلَّق يوم القيامة بمَن شحَّ بماله وبخل به عنه، فما بالنا بدعوة الله التي تحمل الخيرَ لكل الناس، وتأخذ بحجزهم عن النار؟ وبأيديهم إلى كل فضيلة؟ تخاطب كل الشرائح وتصل إلى كل الفئات؟.
كيف بنا إذا تعلَّقت بنا يوم القيامة لها لسان ينطق وأذن تسمع وعين تبصر تصرخ وتشكونا إلى الله بأننا قطعنا رجاءها ولم نُضح بمالنا من أجلها؟ إن لم يجاهد الدعاة بأموالهم فمَن يجاهد؟ وإذا بخلوا عليها فمَن يجود؟ وإذا لم يرفعوا راية الجهاد بالمال فمَن يرفعها؟.
إن الجهاد بالمال في هذا الميدان الرحب الواسع المتعدد المنافع الكثير الأغراض ثوابه كبير وأجره وفير وثوابه عميم، فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ" (متفق عليه).
شرف كبير أن تكون من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن شريطة أن تكون كالأشعريين في تكافلهم عند نزول الشدائد والمحن، وهذا ليس بالصعب ولا بالعسير، فالشدائد التي تنزل بين الحين والحين على إخوانك الذين يحملون همًّا كهمك وهمةً كهمتك كثيرة، وأنت بجهادك تخفف عنهم، وتشارك في نشر النور وتبدد جزءًا من ظلام الفاسدين والمفسدين.
إنك بجهادك أخي الكريم ترفع راية يراد لها أن تنكس ومصحفًا يراد له أن يدنس وشريعة يراد لها أن تحرف وتقصى وتنسف.
إنك بجهادك أخي تشارك في كفالة طالب علم، وسد رمق أرملة، وتخفف عن مريض آهةً.
إنك بجهادك أخي تنشر دعوةً فتأخذ بيد العاصي إلى النور، وترشد الضال إلى الطريق، وتشارك في وضع لبناتِ التمكين لدين الله في الأرض.
إن ما يدعونا إلى الغيرة على دعوة الله ما نراه من تضحيةٍ بالمال والوقت والجهد من أهل الباطل من أجل نشر باطلهم والدفاع عنه.
لقد سجَّل القرآن على أهل الكفر تضحيتهم بأموالهم من أجل نصرةِ باطلهم: ﴿إن الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال).
هذا أخي ما يدعونا إلى التضحية من أجل نشر دعوة الله بين الناس بالليل والنهار بكل ما أُوتينا من وقتٍ ومالٍ وفكرٍ نبتغي من وراء ذلك رضا الله عز وجل.
سَأَلَ رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَعِظَهُ فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِالرِّزْقِ فَاهْتِمَامُك بِالرِّزْقِ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْسُومًا فَالْحِرْصُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الْخَلَفُ عَلَى اللَّهِ حَقًّا فَالْبُخْلُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ الْجَنَّةُ حَقًّا فَالرَّاحَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ حَقًّا فَالْمَعْصِيَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَقًّا فَالْأُنْسُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ الدُّنْيَا فَانِيَةً فَالطُّمَأْنِينَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ حَقًّا فَالْجَمْعُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَالْحُزْنُ لِمَاذَا؟.
وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ لِرَجُلٍ رَأَتْهُ مَهْمُومًا: إنْ كَانَ هَمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَزَادَكَ اللَّهُ هَمًّا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَفَرَّجَ اللَّهُ هَمَّكَ. (المدخل للعبدري).
نحن في حاجةٍ إلى أن نُضحي من أجلها أكثر من حاجتها إلى تضحيتنا، مَن آمن بذلك سعى إليها بماله مجاهدًا، ومَن لم يؤمن انتظر مَن يجبي منه المال بطرق بابه مرةً ومطالبته أخرى والإسرار إليه مرةً والجهر أخرى.
حُكي أن إبراهيم بن أدهم أراد أن يدخل الحمام فمنعه الحمامي أن يدخله بدون الأجرة فبكى إبراهيم وقال إذا لم يؤذن لي أن أدخل بيت الشيطان مجانًا؟ فكيف بالدخول في بيت النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بلا زادٍ ولا عمل؟
فادفع الأجرة وأوفِ بعهدك وتاجر مع ربك يهدك إلى سواء الصراط ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت).
واحمد الله الذي فتح لك باب الجهاد بالمال طوال حياتك، في حين أغلق في وجوه الكثيرين من أبناء أمتك، واحذر أخي أن يحجبَ الله عنك أنواره ﴿كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)﴾ (التوبة).