نشرت جريدة (الراية) القطرية دراسةً فقهيةً لفضيلة العلاَّمة الشيخ يوسف القرضاوي على حلقتَين بتاريخ 23/5/2005، و24/5/2005م عن موضوع دية المرأة ومساواتها لدية الرجل، ونشرتها أيضًا جريدة (الأسرة العربية) المصرية على حلقاتٍ ثلاثة في أعدادها: 2553، 2554، 2555 بتاريخ: 20/6، و27/6، و4/7/2005م بعنوان: (دية المرأة في الشريعة الإسلامية تعادل دية الرجل تمامًا) ونُشرت على موقعه الرسمي على هذا الرابط:
http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=4059&version=1&template_id=187&parent_id=18
وتُعتبر هذه الدراسة اجتهادًا جديدًا لم يُنشَر للشيخ من قبل، بالرغم من أنه تناول هذه القضية في كتابه عن الشيخ الغزالي الذي رفض تنصيف الدية، ودافع عنه الشيخ القرضاوي في كتابه المَاتِع عن الشيخ، غير أنه هنا أفرَدَ للمسألة مساحةً من البحث والنظر تليق بها.
وعلى الرغم من أن الشيخ- حفظه الله- مسبوق بهذا الرأي من علماء غيره مثل الشيخ أبي زهرة والشيخ شلتوت والشيخ الغزالي وغيرهم، فقد جاء اجتهادُه ورأيُه في هذه المسألة- كما عهدناه- مؤصلاً مستوعبًا جامعًا جديرًا بالتأمل والنظر فيه بما لا يمنع من التعقيب عليه، والنقد له، والتحليل فيه، والاستفادة منه؛ باعتباره صادرًا عن رجل في وزن الشيخ القرضاوي، والنقد لا يعني الرفض أو الهدم، وإنما هو تحليلٌ ونظراتٌ فقهية في اجتهاد الشيخ الجليل، والتي أذكرها فيما يلي:
أولاً: وضع المسألة في نطاقها قبل الحديث عنها
وأول ما يتميز به هذا الاجتهاد الجديد أن الشيخ حدَّد الموضعَ والنطاقَ الصحيحَ الذي تنتمي إليه المسألة (محل الاجتهاد)، مبيِّنًا أن في الفقه الإسلامي دائرتين: دائرة لا تقبل الاجتهاد ولا التجديد؛ لأنها دائرة مغلَّفة بما احتوت عليه من نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة معًا، وهي قليلةٌ جدًّا ومهمةٌ جدًّا؛ لأنها تحفظ على الأمة شخصيتَها ووحدتَها وقوتَها، والدائرة الثانية هي دائرة مفتوحة تقبل الاجتهاد لما احتوت عليه من نصوص ظنية الثبوت وظنية الدلالة، وتتغير الفتوى فيها بتغير الزمان والمكان والحال والعوائد، ووضَعَ الشيخُ قضيةَ دية المرأة في هذه الدائرة.
والذي دعا الشيخَ إلى ذلك هو ذلك الإجماع المدَّعَى على أن ديةَ المرأةِ نصفُ ديةِ الرجل، والذي نقلَه غيرُ واحد من فقهاء الأمة، على رأسهم ابن قدامة صاحب المُغني، ولا شكَّ أن الإجماعَ على مسألةٍ ما يوجِب الحذر والتدقيق؛ لأن الإجماعَ إذا نُقل في تراثنا الفقهي فمن العسير مخالفتُه إلا بأدلةٍ قطعيةٍ وواضحةٍ.
كما وضع الشيخُ المسألةَ في نوعها الصحيح من أنواع الأحكام قبل الإسلام التي جاء الإسلام وكان له موقفٌ منها، وتمثَّلت في ثلاثة أنواع: نوع يقرُّه، ونوع يرفضُه، ونوع يعدِّلُه يضيف إليه ويحذف منه، ووضع الشيخ المسألةَ في النوع الثالث؛ حيث أقرَّ الإسلام دية المرأة، لكنه أضاف إلى هذا النوع ضوابطَ تحدِّد نطاقَه وتحفظ حدوده.
والحق أن وضْعَ المسألة في نطاقها الصحيح في البداية له أهميةٌ خاصةٌ لدى الفقيه؛ إذ أنه يُعتبر الخطوةَ الأولى التي ينبني عليها غيرُها، فإن كانت صوابًا انطلق اجتهادُه في طريق الصواب، وإلا فما بُني على خطأ فهو خطأ، وهو أيضًا نوعٌ من وضع النقاط فوق الحروف؛ حتى يتجرَّد الاجتهادُ صحيحًا، وينطلق انطلاقًا واضحًا منضبطًا.
ثانيًا: تناول المسألة من أدلة الأصول تفصيلاً
ومن مَيزات هذا الاجتهاد الجديد أن الشيخَ تناول الأدلةَ الأصوليةَ بالترتيب والتفصيل المستوعب، المستقرئ للتاريخ، المتتبع لأعلامه بالترتيب والاستيعاب أيضًا، فبدأ بالقرآن (الدليل الأول) ولم يجد فيه إلا آية سورة النساء التي تتحدث عن الدية، وهي آيةٌ محكمةٌ بيِّنةٌ واضحةُ الدلالة؛ حيث لم تفرِّق بين رجل وامرأة في الدية، بل فرَّقت بين مَن يعيش في دار الإسلام من المسلمين ومن يعيش منهم في غير ديارهم.
ثم عرَّج على السنة النبوية (الدليل الثاني) والذي جاء من خلاله استنباطُ الفقهاء لتنصيف دية المرأة قياسًا بالرجل، ومن هنا قال الشيخ: "ومن ثمَّ وجَب على الفقيه المعاصر الذي يريد تجديدَ اجتهادٍ في هذا الحكم الذي انتشر واشتهر العملُ به قرونًا طويلةً.. أن ينظر نظرةً مستوعبةً مستقلةً في هذه الأحاديث: هل هي صحيحة الثبوت، لا يُطعَن في سندها؟ وهل هي صريحة الدلالة لا احتمالَ في دلالتها على الحكم؟!".
وهو ما فعله الشيخ مع هذا الدليل؛ حيث استعرَض صحيحَي البخاري ومسلم فلم يجد فيهما نصًّا في هذه المسألة مرفوعًا ولا موقوفًا، لا مسندًا ولا معلَّقًا، لا من أحاديث الأصول ولا من التوابع، وعرَّج على السنن الأربعة (أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، والنسائي) فلم يجد فيها أيضًا نصًّا يميِّز في دية الرجل عن المرأة.
واستعرض الأئمة المحدثين من بعدهم، مثل أبي يعلى، وابن خزيمة، والطحاوي، وابن حبان، والطبراني، والدارقطني، والحاكم، وذكر أنه لم يروِ واحدٌ من هؤلاء حديثًا في هذه المسألة، ثم ذكر روايةً عند البيهقي في سننه الكبرى وهي رواية حديث معاذ- رضي الله عنه- التي تقضي بالتنصيف، لكنَّ الشيخَ بيَّن مِن ضعفِ الحديث (خاصةً السند ورجاله) ما لا تقوم به حجةٌ ولا تنبني عليه أحكام، ذلك أن الحديث إن لم يكن صحيحًا فلا يجوز أن يُستدلَّ به في الأحكام الشرعية.
وبعد ذلك تناول الدليل الثالث (الإجماع)، وذكر كلامًا أصوليًّا في حجيَّته وإمكانية وقوعه عن الإمام المجتهد الشوكاني في "إرشاده"، وابن حزم في "إحكامه"، وأكد أن الإجماع لا بد أن يكون مستنِدًا إلى دليل شرعي، وإلا فهو قابِلٌ للأخْذِ والرَّدِّ والمعارضة، إضافةً إلى أن هناك مَن رفَض التنصيف مثل ابن علية والأصمّ.
وتناول الشيخ الدليل الرابع (وهو القياس)، وأكد أنه لا وجْهَ لقياس بعض الفقهاء مسألةَ الدية على الميراث والشهادة؛ إذ إنه قياسٌ مع الفارق، ومع ذلك بيَّن السببَ والعلةَ في تنصيف المرأة في الشهادة والميراث.
وأخيرًا نظَر نظرةً في أقوال الصحابة وفي الحكمة والمصلَحة، وبيَّن أن الآثار التي ورَدَت عن الصحابة في هذا الصدد ضعيفةٌ لا يُحتجُّ بها في الأحكام لو كان مرفوعًا، فكيف والآثار موقوفةٌ ويعارض بعضها بعضًا؟! وإن أقربها إلى القبول رواية عثمان التي لم تَخْلُ من طَعْنٍ في سندها!!
وأكد الشيخ- عند حديثه عن المصلحة- أنه لا يصح أن نفسِّرَ التنصيفَ بأن فقْدَ المرأة أقلُّ خطبًا من فقد الرجل، والمنفعة التي تفوت بموت الرجل أعظم من المرأة؛ لأن الرجل هو الكادح والكاسب والعائل، وبيَّن الشيخ أن هذا كلامٌ غير مُسلَّم؛ لأن ديةَ الطفل الصغير مثل الكبير، ودية الرجل القادر على الكسب مثل العاجز، والكنَّاس الأمِّيِّ في الجامعة مثل الأستاذ فيها، وماذا لو كانت المرأة هي العائلة والعاملة؟! وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"، وهو استقراءٌ يدل على تمكن الشيخ من الأدلة الأصولية واستيعابه للمسألة استيعابًا قويًّا؛ مما يمكِّنه من الوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح من خلال استقراء هذه الأدلة بهذه الطريقة.
ثالثًا: الجرأة العلمية والشجاعة الأدبية
كثير من العلماء والباحثين يتهيَّبون القُرب من مواضع الإجماع حتى لو كان إجماعًا مدَّعًى، ويتعبَّدون بالمذاهب الفقهية وآراء الأئمة إلى درجة التقديس والتفريط، وكثيرٌ منهم أيضًا يتجرَّأ في سوء أدبٍ على الأئمة الأعلام ويتناولهم تناولاً لا علمَ فيه ولا أدبَ إلى درجة السخرية والإفراط.
وهذا مرفوضٌ كما أن ذاك مرفوضٌ أيضًا، والوسط دائمًا بين الإفراط والتفريط، نحترم العلماء ونقدِّر آراءَهم، ونضعُها موضعَ الاعتبار، في الوقت الذي لا نضعهم فيه مواضعَ العصمة، وهم الذين لم يدَّعوا لأنفسهم ذلك، بل خالَفوا أئمةً قبلهم بكل أدبٍ وتقديرٍ، فليس بمستنكَرٍ أن يخالفَهم مَنْ بعدَهم، في تقديرٍ لا تقديسَ معه، وشتَّان ما بين التقدير والتقديس.
بيد أن في مسألتنا هذه أمرًا له خطرُه، وهو ذلك الإجماع الذي نقله العلماء عبْر القرون، مما يفرض على الفقيه المجدِّد ضغوطًا نفسيةً في محاولة البحث من جديد في هذه المسألة التي انعقد عليها الإجماع، وهو يوجب بلا شك الحيطةَ والحذرَ، كما يُحجِّم جرأته في النظر إليها من جديد.
وبالرغم من كل هذه القيود فإن الشيخ القرضاوي لم يتهيَّب الخوضَ فيها مع تقديره واحترامه للعلماء الذين تناولوا هذه المسألة، ولم يمنعْه الإجماع عليها من النظر فيها ما توفَّرَت له الأدلة الشرعية التي تقضي بتغيير الحكم في مثل هذه المسألة، وقد قال الشيخ في مقدمةِ بحثه- في إشارةٍ إلى أن مخالفته للإجماع ليس تنقُّصًا من شأن الفقهاء- قال: "وليس من مسلكي الفكري قط في أي فترة من حياتي التنقص من جهود أسلافنا, أو التقليل من قيمة تراثنا, فهذا أبعد شيء عن منهجي الفكري, ومسلكي الخلقي، فأنا أقدِّر كلَّ القدر وأكنُّ كلَّ الاحترام للعلماء في سائر عصورها, وأتتلمذ عليهم, وأقتبس منهم, وأثني عليهم, وأدعو لهم بحسن المثوبة من الله تعالى, ولكنني لا أضفي عليهم العصمة فيما انتهوا إليه من آراء, فإنما هم بشر مجتهدون, يصيبون ويخطئون وإن كان الخطأ هو الأقل, والصواب هو الأكثر, ولهم الحجة, وبحسب المجتهد أن يكون خطأه مغمورًا في بحر صوابه". أ.هـ.
ومخالفة الإجماع بدليل معتبر- كما هو معروف- ليست مسألةً جديدةً، فقد حدثت في تاريخنا الفقهي كثيرًا، ومنها ما قام به الإمام ابن تيمية ومدرسته فيما يخص قضايا الأسرة.
رابعًا: الجمع بين الفقه والحديث
وفي الواقع هناك أزمةٌ في واقعنا الفقهي المعاصر نعاني منها، وهي القطيعة الموجودة والسدُّ الحاجز بين الفقه والحديث، فالفقيه لا روايةَ له في الحديث، والمحدِّث لا درايةَ له بالفقه، ومن هنا يبني الفقيه أحكامَه على الأحاديث الضعيفة في كثير من الأحيان، ولا يستطيع المحدِّث أن يقيم حكمًا شرعيًّا لضعفه في الفقه والنظر في أدلته التفصيلية، وهذه مشكلةٌ موجودةٌ منذ القدم، ولا زالت تطل برأسها في واقعنا.
والشيخ القرضاوي في اجتهاده هنا استطاع أن يُزيل هذه الفجوة ويحطِّم هذا السدَّ القائم بين عمل الفقيه وعمل المحدث، فجانب الفقه عنده أبرز من أن يُشارَ إليه، وجانب الحديث هنا واضحٌ، خاصةً عند حديثه عن دليل السنة وأقوال الصحابة؛ حيث يُظهر بوضوح تَمكُّنَه من مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل، الذي أثبت به ضعف الأحاديث والآثار الواردة في المسألة، خاصةً عند حديثه عن ابن علية أهو الابن أم الأب، على الرغم من أن إمامًا ومحدثًا كبيرًا مثل النووي قال إنه الابن، والصحيح أنه الأب، ومن ثم لا يقوم بالأحاديث والآثار الضعيفة حكم شرعي في دين الله.
والحق أننا بحاجة إلى دراسة هذه المسألة- مسألة الوصل بين مدرسة أهل الرأي والنظر ومدرسة أهل الحديث والأثر- حتى تزولَ السدودُ والفواصلُ بينها؛ لكي يبنيَ الفقيهُ حكمَه بناءً صحيحًا، وينظر المحدث في الأدلة نظرًا صائبًا.
خامسًا: المزج بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية
وهي مشكلة ثانية نعاني منها في واقعنا الفقهي المعاصر؛ ذلك أن هناك مدرسةً كليلةَ النظر إلى فقه الواقع وفقه الأولويات، ومراعاة مقاصد الشريعة ومصالح الناس، وهي المدرسة التي أسماها الشيخ في بعض كتبه بـ(الظاهرية الجدد)، في إشارةٍ إلى مدرسة ابن حزم القديمة والتي تلتزم حرفيًّا بظاهر النص حتى لو خالف ذلك مقصدًا من مقاصد الشريعة.
والشيخ القرضاوي من فقهاء العصر الذين لا يتكلَّمون في مسألة فقهية أو فتوى شرعية إلا مع ذكر المقاصد بجوار النصوص، وبيان العلة التي يقوم عليها الحكم وتوضيح الحِكَم من وراء هذا الحُكْم.
وقد طرَق الشيخ القرضاوي على هذه المسألة الساخنة بالأدلة والنصوص حتى لانَت في يده، وبيَّن مقاصد الشرع في تنصيف الشهادة والميراث، كما بيَّن المقصد من عدم تنصيفها في مسألتنا هنا، والشريعة- في مجملها- معللةٌ واضحةُ المقاصد جليةُ الحِكَم حتى في كثير من أحكامها الفرعية العملية، وهذا أمرٌ له أهميته، خاصةً في هذا العصر الذي بات الاقتناع فيه والانقياد للحكم الشرعي متوقفًا- في كثير من الأحيان- على إبراز الحِكمة والمَقصد من الحكم الشرعي.
سادسًا: ذكر آراء العلماء المعاصرين
وهو نوعٌ من الأمانة العلمية التي يجب أن يتميز بها الباحث والعالم، فمِن بركة العلم نسبتُه إلى أهله، فذكر أن هذا هو رأي المشايخ: رشيد رضا في تفسيره، ومحمود شلتوت في "الإسلام عقيدة وشريعة"، وأبي زهرة في "العقوبة في الفقه الإسلامي"، والغزالي في: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" غير أنهم لم يتناولوها كما تناولها هو بالتفصيل.
وبالإضافة إلى أنه من الأمانة العلمية فإن له بُعدًا آخر له أهميته في هذا الصدد، وهو أن الشيخ بعدما ذكر أن المسألة جديرةٌ بإعادة النظر، وأكد أن القلب يطمئن إلى هذا الحكم من خلال استعراضه المستوعب والعميق للأدلة الشرعية التي تناولها.. أراد أن يؤكدَ كلامَه ويؤيدَه بكلام علماء لهم شأنهم ووزنهم، أمثال أبي زهرة وشلتوت والغزالي، وهو بذلك يريد أن يُطَمْئِنَ القلب إلى هذا الحكم تمام الاطمئنان، والحق لا يُعرف بالرجال، غير أن ذلك يزيد المؤمن يقينًا بهذا الحكم ويُطمئِن قلبه من الشكِّ إن كان قد بقي شكٌّ بعد الحديث عن الأدلة الأصولية كما تناولها الشيخ.
سابعًا: تسويغه لاجتهاده الجديد
وهي مسألة مهمة وتساؤل في محله عندما قال الشيخ: لماذا لم يظهر اجتهاد جديد خلال القرون الماضية حول دية المرأة؟! خاصةً أنه لا يوجد نص من قرآن أو سنة أو قياس صحيح أو مصلحة معتبرة تقضي بالتنصيف، وهو تساؤل مهم تُسوِّغ الإجابةُ عليه الاجتهادَ الجديد وخاصة إن كان هناك إجماع.
وقد رأى الشيخ أن السبب في ذلك هو اختلاف العصر؛ ذلك أن الدية تجب في حالتين: حالة القتل الخطأ، وهي مجمَعٌ عليها، وحالة مختلفٌ فيها وهي شبه العمد، وحالة القتل الخطأ بالنسبة للمرأة قديمًا كانت نادرةَ الوقوع، فربما تمرُّ السنون ولا تُقتل امرأةٌ خطأ لعدم وجود ظروف وأسباب تُعرِّضها لذلك، بخلاف عصرنا الذي كثرت فيه الحوادث، وإنما يحفِّز المجتهدَ على الاجتهاد كثرةُ وقوع الأمر، كما حدث مع الإمام ابن تيمية في كثرة وقوع الطلاق الذي حفزه على عدم إيقاع الطلقات الثلاثة إلا طلقة واحدة.
ثامنًا: دراسة مهمة لم يتنبه لها الشيخ
وبالرغم من أن الشيخ ذكر آراء الفقهاء المعاصرين له من باب الأمانة العلمية، فقد فاته أن يشير إلى دراسة قيمة منشورة منذ أكثر من خمسة عشر عامًا حول هذا الموضوع، وهي لأستاذنا الجليل الدكتور عبد اللطيف محمد عامر (أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة الزقازيق) بعنوان: "أحكام المرأة في القصاص والدية"، ضمن منشورات مكتبة وهبة بالقاهرة، تناول فيها مسألة تنصيف دية المرأة في الإسلام، وناقشها مناقشةً هادئةً، وأورد كل الأدلة والدعاوَى المثارَة في هذا الصدد من قياسها على الشهادة أو الميراث وغير ذلك، كما أفرَدَ حديثًا لكتاب عمرو بن حزم الذي ورد فيه التنصيف، وذكر أمورًا أخرى يحسن الرجوع إليها في هذا الكتاب القيم.
وبقدر ما أسعدني الاجتهاد الجديد للشيخ القرضاوي في مسألة دية المرأة، واطمأن قلبي إلى ما وصل إليه، فقد اشتدَّ تعجبي من عدم تنبهه لهذه الدراسة المهمة، بالرغم من قِدَمها، وعلوِّ شأن صاحبها الدكتور عبد اللطيف عامر في الدراسات الشرعية، فهو بحق ليس فقيهًا فحسب بل من فلاسفة الفقه المتحرِّرين، لا يقف عند النصوص بل يغوص في أعماقها ويستكنه أسرارَها، ويبيِّن الحكم من ورائها، ولا يقف عند الظاهر بل ينفُذ إلى المقصد والمبتغَى من الحكم الشرعي، وهو وإن لم يكن مشهورًا إعلاميًّا فإنه معروف بين أهل العلم بفقهه الواسع وتواضعه الجمّ وخلقه الكريم، وهو لمن لا يعرفه من مواليد محافظة الشرقية عام 1931م، تخرج في دار العلوم بالقاهرة، وحصل على الدكتوراه منها، وتولَّى عمادة كلية الشريعة (الجامعة الإسلامية العالمية إسلام أباد باكستان) ويعمل الآن أستاذًا للشريعة بحقوق الزقازيق.
وعُذر الشيخ هنا في عدم تنبهه لهذه الدراسة الذي لا يجوز أن نذهب إلى غيره هو أنه لم يطلع عليها أو يسمع بها، وهذا ليس عذرًا علميًّا للشيخ، فالباحث فضلاً عن العالم الفقيه مطالَب بالبحث عمن سبقه والاطِّلاع على ما قيل فيما يتحدث بشأنه، وأرجو أن يستدركَ ذلك بالاطلاع عليها والنظر فيها.
وهذه الدراسة التي مثَّلت اجتهادًا جديدًا للشيخ جديرةٌ بالتأمل أكثر من هذا، وبأن نضعَها بين يدَي الباحثين والعلماء للنظر فيها والإفادة منها ومن منهجها، بارك الله في عمر الشيخ وعمله، ومتعه بالصحة والعافية.
-------
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
* باحث شرعي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة wasfy75@hotmail.com
http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=4059&version=1&template_id=187&parent_id=18
وتُعتبر هذه الدراسة اجتهادًا جديدًا لم يُنشَر للشيخ من قبل، بالرغم من أنه تناول هذه القضية في كتابه عن الشيخ الغزالي الذي رفض تنصيف الدية، ودافع عنه الشيخ القرضاوي في كتابه المَاتِع عن الشيخ، غير أنه هنا أفرَدَ للمسألة مساحةً من البحث والنظر تليق بها.
وعلى الرغم من أن الشيخ- حفظه الله- مسبوق بهذا الرأي من علماء غيره مثل الشيخ أبي زهرة والشيخ شلتوت والشيخ الغزالي وغيرهم، فقد جاء اجتهادُه ورأيُه في هذه المسألة- كما عهدناه- مؤصلاً مستوعبًا جامعًا جديرًا بالتأمل والنظر فيه بما لا يمنع من التعقيب عليه، والنقد له، والتحليل فيه، والاستفادة منه؛ باعتباره صادرًا عن رجل في وزن الشيخ القرضاوي، والنقد لا يعني الرفض أو الهدم، وإنما هو تحليلٌ ونظراتٌ فقهية في اجتهاد الشيخ الجليل، والتي أذكرها فيما يلي:
أولاً: وضع المسألة في نطاقها قبل الحديث عنها
وأول ما يتميز به هذا الاجتهاد الجديد أن الشيخ حدَّد الموضعَ والنطاقَ الصحيحَ الذي تنتمي إليه المسألة (محل الاجتهاد)، مبيِّنًا أن في الفقه الإسلامي دائرتين: دائرة لا تقبل الاجتهاد ولا التجديد؛ لأنها دائرة مغلَّفة بما احتوت عليه من نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة معًا، وهي قليلةٌ جدًّا ومهمةٌ جدًّا؛ لأنها تحفظ على الأمة شخصيتَها ووحدتَها وقوتَها، والدائرة الثانية هي دائرة مفتوحة تقبل الاجتهاد لما احتوت عليه من نصوص ظنية الثبوت وظنية الدلالة، وتتغير الفتوى فيها بتغير الزمان والمكان والحال والعوائد، ووضَعَ الشيخُ قضيةَ دية المرأة في هذه الدائرة.
والذي دعا الشيخَ إلى ذلك هو ذلك الإجماع المدَّعَى على أن ديةَ المرأةِ نصفُ ديةِ الرجل، والذي نقلَه غيرُ واحد من فقهاء الأمة، على رأسهم ابن قدامة صاحب المُغني، ولا شكَّ أن الإجماعَ على مسألةٍ ما يوجِب الحذر والتدقيق؛ لأن الإجماعَ إذا نُقل في تراثنا الفقهي فمن العسير مخالفتُه إلا بأدلةٍ قطعيةٍ وواضحةٍ.
كما وضع الشيخُ المسألةَ في نوعها الصحيح من أنواع الأحكام قبل الإسلام التي جاء الإسلام وكان له موقفٌ منها، وتمثَّلت في ثلاثة أنواع: نوع يقرُّه، ونوع يرفضُه، ونوع يعدِّلُه يضيف إليه ويحذف منه، ووضع الشيخ المسألةَ في النوع الثالث؛ حيث أقرَّ الإسلام دية المرأة، لكنه أضاف إلى هذا النوع ضوابطَ تحدِّد نطاقَه وتحفظ حدوده.
والحق أن وضْعَ المسألة في نطاقها الصحيح في البداية له أهميةٌ خاصةٌ لدى الفقيه؛ إذ أنه يُعتبر الخطوةَ الأولى التي ينبني عليها غيرُها، فإن كانت صوابًا انطلق اجتهادُه في طريق الصواب، وإلا فما بُني على خطأ فهو خطأ، وهو أيضًا نوعٌ من وضع النقاط فوق الحروف؛ حتى يتجرَّد الاجتهادُ صحيحًا، وينطلق انطلاقًا واضحًا منضبطًا.
ثانيًا: تناول المسألة من أدلة الأصول تفصيلاً
ومن مَيزات هذا الاجتهاد الجديد أن الشيخَ تناول الأدلةَ الأصوليةَ بالترتيب والتفصيل المستوعب، المستقرئ للتاريخ، المتتبع لأعلامه بالترتيب والاستيعاب أيضًا، فبدأ بالقرآن (الدليل الأول) ولم يجد فيه إلا آية سورة النساء التي تتحدث عن الدية، وهي آيةٌ محكمةٌ بيِّنةٌ واضحةُ الدلالة؛ حيث لم تفرِّق بين رجل وامرأة في الدية، بل فرَّقت بين مَن يعيش في دار الإسلام من المسلمين ومن يعيش منهم في غير ديارهم.
ثم عرَّج على السنة النبوية (الدليل الثاني) والذي جاء من خلاله استنباطُ الفقهاء لتنصيف دية المرأة قياسًا بالرجل، ومن هنا قال الشيخ: "ومن ثمَّ وجَب على الفقيه المعاصر الذي يريد تجديدَ اجتهادٍ في هذا الحكم الذي انتشر واشتهر العملُ به قرونًا طويلةً.. أن ينظر نظرةً مستوعبةً مستقلةً في هذه الأحاديث: هل هي صحيحة الثبوت، لا يُطعَن في سندها؟ وهل هي صريحة الدلالة لا احتمالَ في دلالتها على الحكم؟!".
وهو ما فعله الشيخ مع هذا الدليل؛ حيث استعرَض صحيحَي البخاري ومسلم فلم يجد فيهما نصًّا في هذه المسألة مرفوعًا ولا موقوفًا، لا مسندًا ولا معلَّقًا، لا من أحاديث الأصول ولا من التوابع، وعرَّج على السنن الأربعة (أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، والنسائي) فلم يجد فيها أيضًا نصًّا يميِّز في دية الرجل عن المرأة.
واستعرض الأئمة المحدثين من بعدهم، مثل أبي يعلى، وابن خزيمة، والطحاوي، وابن حبان، والطبراني، والدارقطني، والحاكم، وذكر أنه لم يروِ واحدٌ من هؤلاء حديثًا في هذه المسألة، ثم ذكر روايةً عند البيهقي في سننه الكبرى وهي رواية حديث معاذ- رضي الله عنه- التي تقضي بالتنصيف، لكنَّ الشيخَ بيَّن مِن ضعفِ الحديث (خاصةً السند ورجاله) ما لا تقوم به حجةٌ ولا تنبني عليه أحكام، ذلك أن الحديث إن لم يكن صحيحًا فلا يجوز أن يُستدلَّ به في الأحكام الشرعية.
وبعد ذلك تناول الدليل الثالث (الإجماع)، وذكر كلامًا أصوليًّا في حجيَّته وإمكانية وقوعه عن الإمام المجتهد الشوكاني في "إرشاده"، وابن حزم في "إحكامه"، وأكد أن الإجماع لا بد أن يكون مستنِدًا إلى دليل شرعي، وإلا فهو قابِلٌ للأخْذِ والرَّدِّ والمعارضة، إضافةً إلى أن هناك مَن رفَض التنصيف مثل ابن علية والأصمّ.
وتناول الشيخ الدليل الرابع (وهو القياس)، وأكد أنه لا وجْهَ لقياس بعض الفقهاء مسألةَ الدية على الميراث والشهادة؛ إذ إنه قياسٌ مع الفارق، ومع ذلك بيَّن السببَ والعلةَ في تنصيف المرأة في الشهادة والميراث.
وأخيرًا نظَر نظرةً في أقوال الصحابة وفي الحكمة والمصلَحة، وبيَّن أن الآثار التي ورَدَت عن الصحابة في هذا الصدد ضعيفةٌ لا يُحتجُّ بها في الأحكام لو كان مرفوعًا، فكيف والآثار موقوفةٌ ويعارض بعضها بعضًا؟! وإن أقربها إلى القبول رواية عثمان التي لم تَخْلُ من طَعْنٍ في سندها!!
وأكد الشيخ- عند حديثه عن المصلحة- أنه لا يصح أن نفسِّرَ التنصيفَ بأن فقْدَ المرأة أقلُّ خطبًا من فقد الرجل، والمنفعة التي تفوت بموت الرجل أعظم من المرأة؛ لأن الرجل هو الكادح والكاسب والعائل، وبيَّن الشيخ أن هذا كلامٌ غير مُسلَّم؛ لأن ديةَ الطفل الصغير مثل الكبير، ودية الرجل القادر على الكسب مثل العاجز، والكنَّاس الأمِّيِّ في الجامعة مثل الأستاذ فيها، وماذا لو كانت المرأة هي العائلة والعاملة؟! وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"، وهو استقراءٌ يدل على تمكن الشيخ من الأدلة الأصولية واستيعابه للمسألة استيعابًا قويًّا؛ مما يمكِّنه من الوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح من خلال استقراء هذه الأدلة بهذه الطريقة.
ثالثًا: الجرأة العلمية والشجاعة الأدبية
كثير من العلماء والباحثين يتهيَّبون القُرب من مواضع الإجماع حتى لو كان إجماعًا مدَّعًى، ويتعبَّدون بالمذاهب الفقهية وآراء الأئمة إلى درجة التقديس والتفريط، وكثيرٌ منهم أيضًا يتجرَّأ في سوء أدبٍ على الأئمة الأعلام ويتناولهم تناولاً لا علمَ فيه ولا أدبَ إلى درجة السخرية والإفراط.
وهذا مرفوضٌ كما أن ذاك مرفوضٌ أيضًا، والوسط دائمًا بين الإفراط والتفريط، نحترم العلماء ونقدِّر آراءَهم، ونضعُها موضعَ الاعتبار، في الوقت الذي لا نضعهم فيه مواضعَ العصمة، وهم الذين لم يدَّعوا لأنفسهم ذلك، بل خالَفوا أئمةً قبلهم بكل أدبٍ وتقديرٍ، فليس بمستنكَرٍ أن يخالفَهم مَنْ بعدَهم، في تقديرٍ لا تقديسَ معه، وشتَّان ما بين التقدير والتقديس.
بيد أن في مسألتنا هذه أمرًا له خطرُه، وهو ذلك الإجماع الذي نقله العلماء عبْر القرون، مما يفرض على الفقيه المجدِّد ضغوطًا نفسيةً في محاولة البحث من جديد في هذه المسألة التي انعقد عليها الإجماع، وهو يوجب بلا شك الحيطةَ والحذرَ، كما يُحجِّم جرأته في النظر إليها من جديد.
وبالرغم من كل هذه القيود فإن الشيخ القرضاوي لم يتهيَّب الخوضَ فيها مع تقديره واحترامه للعلماء الذين تناولوا هذه المسألة، ولم يمنعْه الإجماع عليها من النظر فيها ما توفَّرَت له الأدلة الشرعية التي تقضي بتغيير الحكم في مثل هذه المسألة، وقد قال الشيخ في مقدمةِ بحثه- في إشارةٍ إلى أن مخالفته للإجماع ليس تنقُّصًا من شأن الفقهاء- قال: "وليس من مسلكي الفكري قط في أي فترة من حياتي التنقص من جهود أسلافنا, أو التقليل من قيمة تراثنا, فهذا أبعد شيء عن منهجي الفكري, ومسلكي الخلقي، فأنا أقدِّر كلَّ القدر وأكنُّ كلَّ الاحترام للعلماء في سائر عصورها, وأتتلمذ عليهم, وأقتبس منهم, وأثني عليهم, وأدعو لهم بحسن المثوبة من الله تعالى, ولكنني لا أضفي عليهم العصمة فيما انتهوا إليه من آراء, فإنما هم بشر مجتهدون, يصيبون ويخطئون وإن كان الخطأ هو الأقل, والصواب هو الأكثر, ولهم الحجة, وبحسب المجتهد أن يكون خطأه مغمورًا في بحر صوابه". أ.هـ.
ومخالفة الإجماع بدليل معتبر- كما هو معروف- ليست مسألةً جديدةً، فقد حدثت في تاريخنا الفقهي كثيرًا، ومنها ما قام به الإمام ابن تيمية ومدرسته فيما يخص قضايا الأسرة.
رابعًا: الجمع بين الفقه والحديث
وفي الواقع هناك أزمةٌ في واقعنا الفقهي المعاصر نعاني منها، وهي القطيعة الموجودة والسدُّ الحاجز بين الفقه والحديث، فالفقيه لا روايةَ له في الحديث، والمحدِّث لا درايةَ له بالفقه، ومن هنا يبني الفقيه أحكامَه على الأحاديث الضعيفة في كثير من الأحيان، ولا يستطيع المحدِّث أن يقيم حكمًا شرعيًّا لضعفه في الفقه والنظر في أدلته التفصيلية، وهذه مشكلةٌ موجودةٌ منذ القدم، ولا زالت تطل برأسها في واقعنا.
والشيخ القرضاوي في اجتهاده هنا استطاع أن يُزيل هذه الفجوة ويحطِّم هذا السدَّ القائم بين عمل الفقيه وعمل المحدث، فجانب الفقه عنده أبرز من أن يُشارَ إليه، وجانب الحديث هنا واضحٌ، خاصةً عند حديثه عن دليل السنة وأقوال الصحابة؛ حيث يُظهر بوضوح تَمكُّنَه من مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل، الذي أثبت به ضعف الأحاديث والآثار الواردة في المسألة، خاصةً عند حديثه عن ابن علية أهو الابن أم الأب، على الرغم من أن إمامًا ومحدثًا كبيرًا مثل النووي قال إنه الابن، والصحيح أنه الأب، ومن ثم لا يقوم بالأحاديث والآثار الضعيفة حكم شرعي في دين الله.
والحق أننا بحاجة إلى دراسة هذه المسألة- مسألة الوصل بين مدرسة أهل الرأي والنظر ومدرسة أهل الحديث والأثر- حتى تزولَ السدودُ والفواصلُ بينها؛ لكي يبنيَ الفقيهُ حكمَه بناءً صحيحًا، وينظر المحدث في الأدلة نظرًا صائبًا.
خامسًا: المزج بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية
وهي مشكلة ثانية نعاني منها في واقعنا الفقهي المعاصر؛ ذلك أن هناك مدرسةً كليلةَ النظر إلى فقه الواقع وفقه الأولويات، ومراعاة مقاصد الشريعة ومصالح الناس، وهي المدرسة التي أسماها الشيخ في بعض كتبه بـ(الظاهرية الجدد)، في إشارةٍ إلى مدرسة ابن حزم القديمة والتي تلتزم حرفيًّا بظاهر النص حتى لو خالف ذلك مقصدًا من مقاصد الشريعة.
والشيخ القرضاوي من فقهاء العصر الذين لا يتكلَّمون في مسألة فقهية أو فتوى شرعية إلا مع ذكر المقاصد بجوار النصوص، وبيان العلة التي يقوم عليها الحكم وتوضيح الحِكَم من وراء هذا الحُكْم.
وقد طرَق الشيخ القرضاوي على هذه المسألة الساخنة بالأدلة والنصوص حتى لانَت في يده، وبيَّن مقاصد الشرع في تنصيف الشهادة والميراث، كما بيَّن المقصد من عدم تنصيفها في مسألتنا هنا، والشريعة- في مجملها- معللةٌ واضحةُ المقاصد جليةُ الحِكَم حتى في كثير من أحكامها الفرعية العملية، وهذا أمرٌ له أهميته، خاصةً في هذا العصر الذي بات الاقتناع فيه والانقياد للحكم الشرعي متوقفًا- في كثير من الأحيان- على إبراز الحِكمة والمَقصد من الحكم الشرعي.
سادسًا: ذكر آراء العلماء المعاصرين
وهو نوعٌ من الأمانة العلمية التي يجب أن يتميز بها الباحث والعالم، فمِن بركة العلم نسبتُه إلى أهله، فذكر أن هذا هو رأي المشايخ: رشيد رضا في تفسيره، ومحمود شلتوت في "الإسلام عقيدة وشريعة"، وأبي زهرة في "العقوبة في الفقه الإسلامي"، والغزالي في: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" غير أنهم لم يتناولوها كما تناولها هو بالتفصيل.
وبالإضافة إلى أنه من الأمانة العلمية فإن له بُعدًا آخر له أهميته في هذا الصدد، وهو أن الشيخ بعدما ذكر أن المسألة جديرةٌ بإعادة النظر، وأكد أن القلب يطمئن إلى هذا الحكم من خلال استعراضه المستوعب والعميق للأدلة الشرعية التي تناولها.. أراد أن يؤكدَ كلامَه ويؤيدَه بكلام علماء لهم شأنهم ووزنهم، أمثال أبي زهرة وشلتوت والغزالي، وهو بذلك يريد أن يُطَمْئِنَ القلب إلى هذا الحكم تمام الاطمئنان، والحق لا يُعرف بالرجال، غير أن ذلك يزيد المؤمن يقينًا بهذا الحكم ويُطمئِن قلبه من الشكِّ إن كان قد بقي شكٌّ بعد الحديث عن الأدلة الأصولية كما تناولها الشيخ.
سابعًا: تسويغه لاجتهاده الجديد
وهي مسألة مهمة وتساؤل في محله عندما قال الشيخ: لماذا لم يظهر اجتهاد جديد خلال القرون الماضية حول دية المرأة؟! خاصةً أنه لا يوجد نص من قرآن أو سنة أو قياس صحيح أو مصلحة معتبرة تقضي بالتنصيف، وهو تساؤل مهم تُسوِّغ الإجابةُ عليه الاجتهادَ الجديد وخاصة إن كان هناك إجماع.
وقد رأى الشيخ أن السبب في ذلك هو اختلاف العصر؛ ذلك أن الدية تجب في حالتين: حالة القتل الخطأ، وهي مجمَعٌ عليها، وحالة مختلفٌ فيها وهي شبه العمد، وحالة القتل الخطأ بالنسبة للمرأة قديمًا كانت نادرةَ الوقوع، فربما تمرُّ السنون ولا تُقتل امرأةٌ خطأ لعدم وجود ظروف وأسباب تُعرِّضها لذلك، بخلاف عصرنا الذي كثرت فيه الحوادث، وإنما يحفِّز المجتهدَ على الاجتهاد كثرةُ وقوع الأمر، كما حدث مع الإمام ابن تيمية في كثرة وقوع الطلاق الذي حفزه على عدم إيقاع الطلقات الثلاثة إلا طلقة واحدة.
ثامنًا: دراسة مهمة لم يتنبه لها الشيخ
وبالرغم من أن الشيخ ذكر آراء الفقهاء المعاصرين له من باب الأمانة العلمية، فقد فاته أن يشير إلى دراسة قيمة منشورة منذ أكثر من خمسة عشر عامًا حول هذا الموضوع، وهي لأستاذنا الجليل الدكتور عبد اللطيف محمد عامر (أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة الزقازيق) بعنوان: "أحكام المرأة في القصاص والدية"، ضمن منشورات مكتبة وهبة بالقاهرة، تناول فيها مسألة تنصيف دية المرأة في الإسلام، وناقشها مناقشةً هادئةً، وأورد كل الأدلة والدعاوَى المثارَة في هذا الصدد من قياسها على الشهادة أو الميراث وغير ذلك، كما أفرَدَ حديثًا لكتاب عمرو بن حزم الذي ورد فيه التنصيف، وذكر أمورًا أخرى يحسن الرجوع إليها في هذا الكتاب القيم.
وبقدر ما أسعدني الاجتهاد الجديد للشيخ القرضاوي في مسألة دية المرأة، واطمأن قلبي إلى ما وصل إليه، فقد اشتدَّ تعجبي من عدم تنبهه لهذه الدراسة المهمة، بالرغم من قِدَمها، وعلوِّ شأن صاحبها الدكتور عبد اللطيف عامر في الدراسات الشرعية، فهو بحق ليس فقيهًا فحسب بل من فلاسفة الفقه المتحرِّرين، لا يقف عند النصوص بل يغوص في أعماقها ويستكنه أسرارَها، ويبيِّن الحكم من ورائها، ولا يقف عند الظاهر بل ينفُذ إلى المقصد والمبتغَى من الحكم الشرعي، وهو وإن لم يكن مشهورًا إعلاميًّا فإنه معروف بين أهل العلم بفقهه الواسع وتواضعه الجمّ وخلقه الكريم، وهو لمن لا يعرفه من مواليد محافظة الشرقية عام 1931م، تخرج في دار العلوم بالقاهرة، وحصل على الدكتوراه منها، وتولَّى عمادة كلية الشريعة (الجامعة الإسلامية العالمية إسلام أباد باكستان) ويعمل الآن أستاذًا للشريعة بحقوق الزقازيق.
وعُذر الشيخ هنا في عدم تنبهه لهذه الدراسة الذي لا يجوز أن نذهب إلى غيره هو أنه لم يطلع عليها أو يسمع بها، وهذا ليس عذرًا علميًّا للشيخ، فالباحث فضلاً عن العالم الفقيه مطالَب بالبحث عمن سبقه والاطِّلاع على ما قيل فيما يتحدث بشأنه، وأرجو أن يستدركَ ذلك بالاطلاع عليها والنظر فيها.
وهذه الدراسة التي مثَّلت اجتهادًا جديدًا للشيخ جديرةٌ بالتأمل أكثر من هذا، وبأن نضعَها بين يدَي الباحثين والعلماء للنظر فيها والإفادة منها ومن منهجها، بارك الله في عمر الشيخ وعمله، ومتعه بالصحة والعافية.
-------
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
* باحث شرعي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة wasfy75@hotmail.com