أولاً: الحياة الاجتماعية
- اهتمامه بأولاده وأسرته
أشرف عمر بن عبد العزيز على تربية وتعليم أولاده بنفسه، ولم تشغله مسئولياته عن تنشئتهم التنشئة الصالحة، المستمَدة من تعاليم الدين الإسلامي، ونستشفُّ ذلك من خلال رسائله لهم، ولِمَن أوكل إليه تأديبهم.
1- ربطهم بالقرآن الكريم: ربط عمر بن عبد العزيز أولاده بالقرآن الكريم، وكان يأذن لهم يوم الجمعة بالدخول عليه قبل أن يأذن للناس ليتدارسَ معهم القرآن الكريم، فإذا قال إيهًا قرأ الأكبر منه، ثم إذ قال إيهًا، قرأ الذي يليه حتى يقرأ طائفةٌ منهم.
2 - تعهدهم بالنصيحة: فقد أرسل في العام الذي استخلف فيه إلى ابنه عبد الملك- وهو إذ ذاك في المدينة- يقول فيما قال فيها: ".. فمن كان راغبًا في الجنة وهاربًا من النار (يقصد عبد الملك وإخوته) فالآن التوبة مقبولة، والذنب مغفور، قبل نفاد الأجل، وانقضاء العمل، وفراغ من الله للمنقلبين ليدنيهم بأعمالهم في موضع لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تَبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يَرِدُه الناس بأعمالهم، ويصدرون عنه أشتاتًا إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويلٌ يومئذ لمن عصى الله.
وفي موضع آخر من هذه الوصية يحث ولده على ذكر الله وشكره عز وجل ومراقبته في القول والعمل، فيقول: فاذكر فضل الله عليك وعلى أبيك، وإن استطعت أن تُكثرَ تحريكَ لسانك بذكر الله.. تحميدًا، وتسبيحًا، وتهليلاً.. فافعل، فإنَّ أحسن ما وصلت به حديثًا حسنًا حمدُ الله وشكرُه، وإنَّ أحسن ما قطعت به حديثًا سيئًا حمد الله وذكره.
3- الحث على التسامح وحسن الظن: كان رحمه الله يحثهم على التسامح وحسن الظن في الناس؛ فإن بعض الظن إثم، فيروى أنه قال مرةً لابنه عبد العزيز: إذا سمعت كلمةً من امرئٍ مسلم فلا تحملها على شيء من الشرِّ.
4- الأسلوب اللين والمحاورة العاقلة: كان رحمه الله يتعامل معهم بالأسلوب اللين دون أن ينصرفَ إلى التدليلِ الذي يفسد الأبناء، ويحاورهم محاورة العقلاء، ويستخدم أسلوب الإقناع والمنطق في التفاهم معهم، وتلبية طلباتهم، فيروَى أن ابنه عبد الله استكساه ذات مرة وهو خليفة، فأرسله إلى الخيار بن رباح البصري، وقال له: خذ مما عنده لي من ثياب، فلم تعجبه، فعاد إلى أبيه، وقال: يا أبتاه استكسيتك فأرسلتني إلى الخيار بن رباح، فأخرج لي ثيابًا ليست من ثيابي ولا من ثياب قومي، فقال: ذاك ما لنا عند الرجل، فانصرف عبد الله، فما كان عمر- رضي الله عنه- (الأب المربي) إلا أن اتخذ موقفًا وسطًا مقنعًا، فجمع بين إجابة طلب ولده وأنه لا يتوفر كل مطلوب أو مرغوب دائمًا: فناداه قبل أن ينصرف، وقال له مخيِّرًا إياه: هل لك أن أسلفك من عطائك مائة درهم؟ قال: نعم يا أبتاه: فأسلفه مائة درهم فلما خرج عطاؤه حُوسب بها فأُخذت منه.
ومما يروَى أيضًا في حسن إجابته لأولاده وإقناعهم أن ابنةً له بعثت إليه بلؤلؤةٍ وقالت له: إن رأيت أن تبعث لي بأختٍ لها، حتى أجعلها في أذني فلم يردَّ عليها بالإجابةِ ولا بالرفض، وإنما الأمر مرتبطٌ بصبرها على الجمر؛ إذ أرسل لها بجمرتين، وقال لها: إن استطعتِ أن تجعلي هاتين الجمرتين في إذنيكِ بعثت إليك بأختٍ لها، فكان جوابًا مقنعًا لها.
5- حرصه على العدل بينهم: ومما يذكر من حسن معاملته- رحمه الله- لأولاده حرصه على العدل بينهم مع كثرتهم؛ حتى لا يحقدَ أحدهم على الآخر أو يبغضه، فقد تحرى رحمه الله العدلَ حتى إيثاره لابن الحارثية أن ينام معه، إذ تركه خشية أن يكون جورًا، وفي هذا الصدد يروَى عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قوله: كان عمر بن عبد العزيز له ابنٌ من امرأة من بلحارث بن كعب، وكان يحبه وينام في بيته، قال: فتعرضت له ذات ليلة، فقال: أَعَبد العزيز؟ قلت: نعم. قال: شرٌّ ما جاء بك!! ادخل، فجلست عند شاذكونته- الشاذكونة: بفتح الذال ثياب غلاظ مضرية، تعمل باليمن -، وهو يصلي.. فأتاني فقال: مالك؟ فقلت: ليس أحدٌ أعلم بولد الرجل منه، وإنك تصنع بابنِ الحارثيةِ ما لا تصنع بنا، فلست آمن أن يُقال ما هذا إلا من شيء تراه عنده ولا تراه عندنا، فقال: أعلمك هذا أحد؟ فقلت: لا، قال: فأعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: ارجع إلى بيتك، فرجعت، فكنت أنا وإبراهيم وعاصم وعبد الله- وهم من إخوانه- نبيت جميعًا، فإذا نحن بفراش يحمل وتبعه ابن الحارثية- وهو أخوهم- فقلنا: ما شأنك؟ قال: شأني ما صنعت بي، قال: كأنه خشي أن يكون جورًا.
6- تنمية الأخلاق الفاضلة عندهم: كان يحرص على تنمية الأخلاق الفاضلة عند أولاده، ويتحيَّن الفرص لتحقيق ذلك ما استطاع، ففي سياق رسالته رحمه الله إلى ولده عبد الملك وهو في المدينة ينهاه عن التفاخر والمباهاة في الكلام والإعجاب بالنفس والغرور والتعالي على الناس، فيقول له: وإياك أن تفخر بقولك، وأن تعجب بنفسك أو يخيل إليك أن ما رزقته لكرامةٍ لكَ على ربك، وفضيلةٍ على مَن لم يرزق مثل غناك.
7- تربية أولاده على الزهد والاقتصاد في المعيشة: تتجلَّى شخصية عمر رحمه الله التربوية بقدرته على جعل أولاده يتقبلون التحول من فترة النعيم إلى فترة الزهد والتقشف، وأن يقنعَهم بالعيش كعامة الناس، بدلاً من حياة الترف والرفاهية، فمن أول إجراءاته ما جاء في سياق رسالته التربوية لابنه عبد الملك وهو في المدينة والتي جاء فيها: ".. فإنْ ابتلاك الله بغنى اقتصد في غناك، وضَع لله نفسك، وأدِّ إلى الله فرائض حقه من مالك (يقصد الزكاة والصدقة وعدم الإسراف)، وقل كما قال العبد الصالح: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل: 40) وكانت هذه الرسالة عقب توليه الخلافة مباشرةً، في حين لا تزال فترة النعيم والرفاهية قائمة، إذ اتبع أسلوبًا تربويًّا رائعًا في ذلك؛ حيث أخذ الأمر بالتدرج، فأشعره بأن الغنى وكثرة المال ابتلاءٌ من الله عز وجل، ثم أمرَه بالاقتصاد فيما هو فيه من الغنى، ثم قرن الأمر بالتواضع لله، وأخيرًا أكد على ضرورة أداء حق الله، من زكاة الأموال والصدقات وامتثال أمر الله عز وجل.
وفي موقفٍ آخر، إذ بلغه رحمه الله أن ابنًا له اتخذ خاتمًا، واشترى لهذا الخاتم فصًّا بألف درهم، فكتب إليه عمر: أما بعد.. فقد بلغني أنك اشتريت فصًَّا بألف درهم، فبِعه، وأشبِع ألف جائع، واتخذ خاتمًا من حديد صيني، واكتب عليه: "رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه".
ونلاحظ أن عمر ربط أمره ببيع الفص بوجود جائعين وحاجتهم للإشباع، ليكون ذلك أجدى لإدراكِ مغزى الأمر، والتحرِّي في إنفاق الأموال مستقبلاً، وليكن أمر الفقراء والمساكين نُصب أعين أبنائه دائمًا، وذات يوم طلب أحد أبناء عمر بن عبد العزيز إلى أبيه أن يزوِّجه، وأن يُصدق عنه من بيت المال- وقد كان لابنه ذلك امرأة- فغضب رضي الله عنه لذلك، وكتب يقول: لقد أتاني كتابك تسألني أن أجمع لك بين الضرائر من بيت المال، وأبناء المسلمين لا يجد أحدهم امرأةً يستعفُّ بها، فلا أعرفن وما كتبت بمثل هذا.. ثم كتب إليه أن انظر إلى ما قِبَلك من نحاسنا ومتاعنا فبعه، واستعن بثمنه على ما بدا لك.
ولم يقتصر الأمر على الذكور من أولاده، بل شمل الذكور والإناث، ومن ذلك أن ابنةً لعمرَ بنِ عبد العزيز يقال لها (أمينة) مرَّت به يومًا، فدعاها عمر: يا أمينة، فلم تجبْه، فأمر بها، فقال: ما منعك أن تجيبي؟ فقالت إني عارية (أي ملابسها ليست حسنة) فقال: يا مزاحم: انظر إلى تلك الفرش التي فتقناها، فاقطع لها منها قميصًا، هذا عن كساء بنات عمر، أما عن طعامهن فيروي ابن عبد الحكم أن عمر كان يصلي العتمة ثم يدخل على بناته فيسلم عليهن، فدخل عليهن ذات ليلة فلما أحسنَّه وضعن أيديهن على أفواههن ثم تبادرن الباب، فقال للحاضنة: ما شأنهن؟ فقالت: إنه لم يكن عندهن شيءٌ يتعشينه إلا عدس وبصل، فكرهن أن تشمَّ ذلك من أفواههن فبكى عمر، ثم قال لهن: يا بناتي ما ينفعكن أن تعشين الألون، ويمر بأبيكن على النار، فبكين حتى علت أصواتهن ثم انصرفن وكان عمر بدأ الانتقال بأهل بيته من فترة الرفاه والتنعيم إلى فترة القناعة والزهد في الدنيا، بأن وضع حلي ومجوهرات زوجه فاطمة بنت عبد الملك في بيت المال، إذ قال لها: اختاري، إما أن تردي حليَّك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد. قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه إن كان لي.
8- اهتمامه بتعليم أولاده: أولى عمر رحمه الله تعليمَ وتأديبَ أولادِه جانبًا من الاهتمام؛ إذ اتبع إجراءاتٍ تعليميةً جعل منها منهجًا جديرًا يلبِّي حاجات الناشئ المسلم؛ ليكون موحد الذات والأهداف، غير منقسم على نفسه بين القول والعمل، أو بين الواقع والمثال؛ حيث تتضح معالم ذلك المنهج في رسالته- رضي الله عنه- إلى معلمهم ومؤدبهم مولاه سهل بن صدقة؛ إذ قرر اختياره وتكليفه بمهام تعليم وتأديب أولاده، ثم حدد الطريقة المثلى للتأديب، فقد قال: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سهل مولاه، أما بعد: فإني اخترتك على علمٍ منيِّ بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك من غيرك من مواليِّي وذوي الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء، فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك فإن كثرته تميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم، أن حضور المعازف واستماع الأغاني، واللهج بها يُنبت النفاق في القلب كما ينبت العشْبَ الماء، ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه، وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته، فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض حافيًا، فرمى سبعة أرشاق ثم انصرف إلى القائلة؛ فإن ابن مسعود- رضي الله عنه- كان يقول: يا بَنيَّ قيلوا؛ فإن الشياطين لا تقيل، ونلاحظ على هذه التوجيهات الأمور الآتية:
1- اختيار المعلم والمؤدب الصالح: فالمعلم أو المربي يُعدُّ حجر الزواية في عملية التعليم، فقد اختار معلمَ أولاده من خاصته ومواليه وعلى علم به وثقةٍ فيه، ولم يكتفِ عمر بمولاه سهل لتأديبهم وتعليمهم، بل عهد بتأديبهم أيضًا إلى أستاذه ومؤدبه الأول صالح بن كيسان، ولم يقف حرص عمر- رحمه الله- على تعليم أولاده وأدبهم عند هذا الحد، بل وجدناه يختار من كبار عصره مَن يختبر عقل أولاده وأدبهم، فقد كلَّف ميمون بن مهران أن يأتي ابنَه عبد الملك فيستشيره وينظر إلى عقله.. قال ميمون: فأتيناه- يعني عبد الملك بن عمر- فاستأذنت عليه فقعدت عنده ساعة فأعجبتُ به.
2- تحديد المنهج التعليمي: حدد عمر بن عبد العزيز المنهج التعليمي والمقررات الدراسية التي يريد لأولاده أن يتعلموها؛ حيث يتكون من القرآن الكريم وعلومه وبقية العلم من العلوم الأخرى، والتدريب على الجهاد والقتال والصبر عليه، وكذلك التمرين على الرماية ودقة الإصابة وممارسة الرياضة البدنية بالسير إلى الأهداف حفاةً ليعتادوا على ذلك، مع ما يحتويه المنهج من أوقات للراحة، أما حجم المقرر اليومي فجزءٌ واحد من القرآن الكريم بتثبت ووعي، بالإضافة إلى ما يتناسب مع ذلك الجزء من علوم الدين الأخرى وكذلك الرمي بسبعة أرشاق، مع ما يتطلبه ذلك من السير إلى أغراض والسير بينها، فكان منهجًا ذا أهداف سامية؛ إذ يجمع بين الدين والدنيا، ويراوح بين البدن والروح، والقول والعمل تلك أهداف ارتدت عنها خائبة جلُّ برامج التعليم والتربية الحديثة.
3- تحديد طريقة التأديب والتعليم: لم يقف عمر بن عبد العزيز عند اختيار معلم أولاده، وتحديد مواد المنهج التعليمي، بل امتد الأمر إلى رسم الطريقة التي ينبغي لمؤدب أولاده اتباعَها، وكيفية التنفيذ ودقة الأداء وإتقان العمل، ففي سياق رسالته رحمه الله طلب إلى سهل أن يلتزم الجدَّ في قوله لهم، فذلك أمعن لإقدامهم وأحرز لانتباههم، وطلب إليه كمؤدبٍ لهم أن يترك صحبتهم فإن عادتها تكسب الغفلة، ولا تُبقي مكانتُه عندهم، فليس للمعلم أن يتخذ من تلاميذه أصدقاء وأصحابًا له يودعهم أسراره، ويشاركهم وقته وحياته، فقد لا تُعجبهم مواقفه، فيكون ذلك أدعى للاستهانة به، وعدم الاستجابة لما يُطلب منهم وربما يؤدي ذلك إلى عدم الاكتراثِ بالمعلم، والغفلة عمَّا يقوله من العلم.
كما طلب عمر إلى مؤدب أولاده أن يكون في أدبه لهم ما يصرفهم عن الملاهي وحضور المعازف وسماع الغناء؛ لما لها من الأثر السيئ في حياة المسلم، ويلاحظ أن عمر لا يصدر أمرًا، أو يحدد طريقةً أو أسلوبًا حتى يوضح ما دفعه لذلك، وما فائدته وجدواه.
4- تحديد أوقات وأولويات التعليم: ومما اشتمل عليه المنهج الذي حدَّده عمر بن عبد العزيز في رسالته لمؤدب أولاده ما يُسمَّى بإدارة الوقت؛ إذ حدد برنامجًا يوميًّا يبدأ الأولاد ومؤدبهم في تنفيذه من الصباح الباكر بجزءٍ من القرآن الكريم، فكان البدء بالقرآن في الفترة الصباحية؛ لما فيها من صفاء ذهن التلميذ، بعد أخْذِ قسطٍ من الراحة في ليلته، فجعل أولوية القرآن الكريم في وقت صفاء الذهن والاستعداد الجيد للمتعلم، كما ربط الانتقال إلى المادة الأخرى من البرنامج اليومي بالتثبت والإتقان، ثم جاء توقيت الخروج بين الأغراض وممارسة متطلبات الرماية، ويكون الخروج للرمي بعد العلم، وهم في شَوْقٍ إليه، فيتحقق لهم بذلك أعلى درجات الكفاءة والإتقان، ويأتي في ختام البرنامج اليومي فترة القيلولة.. تلك الفترة الضرورية لراحة البدن والنفس والعقل.
5- مراعاة المؤثرات التعليمية: راعَى عمر بن عبد العزيز كلَّ ما له ارتباطٌ بالعلم، وما له تأثيرٌ على الفهم وحسن التلقي، وما يزيد من إدراك العقل من قريب أو بعيد، فكان أول أمرٍ اهتم به وبتأثيره على علم أولاده وأخلاقهم وأدبهم هو معلمهم وجدوى علمه، واقتداؤهم بأدبه وخلقه، والأمر الثاني مراعاة ما قد يسببه اللين وعدم التزام الجد في القول، وإكثار الضحك، والهزل واللعب أحيانًا، من التباطؤ في أداء متطلبات التعليم، من إقدامٍ وعلوِّ همة، وفهم وإدراك بالكفاءة المطلوبة، والثالث: ما ينجم عن تيار المجون والملاهي والغناء وحضور المعازف، من ضياع وقت أولى أن يكون للعلم، وتبلد الإحساس العلمي، ورابعها: مراعاة النواحي النفسية للناشئين، وما قد يُصيبهم من الملل، وتأثير ذلك على المستوى المطلوب من الفهم، وضرورة الترويح عن النفس ساعةً بعد ساعة، وجعل وقتٍ للراحة بين الحين والآخر، وأخيرًا الاهتمام بالمردود الإيجابي للرياضة، وممارسة الرماية، والسير بين الأغراض على الجسم وصحته والعقل وسلامته والذهن وصفائه.
- من نتائج منهج عمر بن عبد العزيز في تربية أولاده (ابنه عبد الملك): من نتائج منهج عمر في تربية أولاده ذلك النموذج الرباني المتمثل في ابنه عبد الملك، ويُعتبر عبد الملك نموذجًا للشاب الذي عاش في رغد العيش وسعة الرزق ورفاهية الحياة، فحياته مثالٌ لكثير من أبناء المسلمين الذين كانوا على شاكلته وإليك شيء من مواقفه:
1- عبادته وبكاؤه: عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وهو ابن أخي عمر بن عبد العزيز، قال: وفدت إلى سليمان بن عبد الملك، ومعنا عمر بن عبد العزيز، فنزلت على ابنه عبد الملك وهو عزب، فكنت معه في بيت فصلينا العشاء، وآوى كل رجل منا إلى فراشه، ثم قام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه، ثم قام يصلِّي حتى ذهب بي النوم، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ..﴾ (الشعراء: 205- 207) فبكى، ثم يرجع إليها، فإذا فرغ منها فعل مثل ذلك، حتى قلت: سيقتله البُكاءُ، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله، كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عليه، فلما سمعني سكت فلم أسمع له حِسَّا رحمه الله.
2- علمه وفقهه وفهمه: جمع عمر بن عبد العزيز الناس واستشارهم في ردِّ مظالم الحجَّاج، فكان كلما استشار رجلاً قال له: يا أمير المؤمنين، ذاك أمرٌ كان في غير سلطانك ولا ولايتك، فكان كلما قال له رجلٌ ذلك أقامه، حتى خلص بابنه عبد الملك، فقال له ابنه عبد الملك: يا أَبَهْ، ما من رجل استطاع أن يردَّ مظالم الحجَّاج إن لم يردها أن يشركه فيها، فقال عمر: لولا أنك ابني لقلت إنك أفقه الناس، وهذا الذي قاله عبد الملك ومدحه عليه أبوه، وهو الصواب؛ فإن الإمام إذا قدر على رد مظالم من قبله من الولاة وجب عليه وهو ذلك بحسب الاستطاعة.
وقد كان عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك من العلماء الذين جمعوا بين العلم بالله الذي يقتضي خشيته ومحبته والتبتل إليه، وبين العلم بالله الذي يقتضي معرفة الحلال والحرام والفتاوى والأحكام.
3- تذكيره والده بالموت: مات ابنٌ لعمر بن عبد العزيز، فجاء عمر فقعد عند رأسه، وكشف الثوب عن وجهه فجعل ينظر إليه ويستدمع، فجاء عبد الملك ابنه فقال: أشغلك يا أمير ما أقبل من الموت إليك؟ بل هو في شغل عما حل لديك، فكأن قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك، فبكى عمر ثم قال: رحمك الله يا بني، فوالله إنك لعظيم البركة، ما علمتك على أبيك نافع الموعظة لمن وعظت، وأيمُ الله إن كان الذي رأيت من جزعي على أخيك، ولكن لما علمت أن ملك الموت دخل داري فراعني دخوله، فكان الذي رأيت ثم أمر بجهازه.
4- صلابته في الدين وقوته في تنفيذ الحق: قال ميمون بن مهران قال: بعث إليَّ عمر بن عبد العزيز وإلى مكحول وإلى أبي قلابة فقال: ما ترَون في هذه الأموال التي أُخذت من الناس ظلمًا؟ فقال مكحول يومئذٍ قولاً ضعيفًا، فكرهه فقال: أرى أن تستأنف فنظر إليَّ عمر كالمستغيث بي، فقلت: يا أمير المؤمنين، ابعث إلى عبد الملك، فأحضِره؛ فإنه ليس بدون من رأيت، فلما دخل عليه قال: يا عبد الملك، ما ترى في هذه الأموال التي أُخذت من الناس ظلمًا، وقد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها؟! قال: أرى "أن تردَّها"؛ فإن لم تفعل كنت شريكًا لمن أخذها.
5- مرضه وموته رحمه الله: دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه- من الطاعون- فقال: يا بني، كيف تجد؟! قال: أجدني في الحق، قال: يا بني، إن تكن في ميزاني أحبُّ إليَّ من أن أكون في ميزانك، فقال ابنه: وأنا يا أبه لأَن أكون ما تحب أحبّ إليّ من أن يكون ما أُحب، وحين دفن ابنه خطب على قبره فقال: رحمك الله يا بني، فلقد كنت برًّا بأبيك، وما زلت منذ وهبك الله لي مسرورًا، ولا والله ما كنت أشدَّ سرورًا ولا أرجى لحظِّي من الله فيك، منذ وضعتك في الموضع الذي صيَّرك الله إليه، فرحمك الله وغفر ذنبك وجزاك الله بأحسن عملك وتجاوَز عن مسيئه، ورَحِم كلَّ شافع يشفع لك بخير من شاهدٍ وغائبٍ، رضينا بقضاء الله وسلَّمنا لأمره، والحمد الله رب العالمين، ثم انصرف.
ثم كتب إلى نائبه على الكوفة كتابًا يَنهى أن يُناح على ابنه كما كانت عادةُ الناس حينئذٍ في الناحية على الملوك وأولادهم، وفي ذلك الكتاب كان فيه: أن عبد الملك ابن أمير المؤمنين كان عبدًا من عباد الله، أحسن الله إليه في نفسه وأحسن إلى أبيه فيه، أعاشه الله ما أحبَّ أن يُعيشه، ثم قبضه إليه حين أحب أن يَقبضه، وهو فيما علمت بالموت مرتبطٌ، نرجو فيه من الله رجاءً حسنًا، فأعوذ بالله أن تكون لي محبةٌ في شيء من الأمور تخالف محبة الله؛ فإن خلاف ذلك لا يصح في بلائه عندي وإحسانه إلي ونعمته علي، ثم قال: أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمكه من قضاء الله، فلا أعلم مَن ينوح عليه في شيء من قبلك، ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس، ولا رخَّصت فيه لقريب ولا بعيد، واكفني في ذلك بكفاية الله ولا ألومنَّك فيه- إن شاء الله- والسلام عليك.
وجاء في رواية: لما هلَك عبد الملك بن عمر قال أبوه: يا بني، لقد كنت كما قال الله عز وجل: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف: 146)، وإني لأرجو أن تكون اليوم من الباقيات الصالحات التي هي خيرٌ ثوابًا وخيرٌ أملاً، والله ما يسرني أني دعوتك فأجبتني، وقد تُوفي عبد الملك بن عمر وكان عمرُه تسع عشرة سنة، وكان عمر بن عبد العزيز يُثني على ولده، وقال لابنه ذات يوم: يا عبد الملك، إني أخبرك خبرًا.. لا والله ما رأيت فتى ماشيًا قط أنسك منك نسكًا ولا أفقه فقهًا ولا أقرأ منك ولا أبعد في صبوة في صغير ولا كبير، وقال عمر بن عبد العزيز، والله لولا أن يكون بي زينة من أمر عبد الملك ما يُزين في عين الوالد من ولده لرأيت أنه أهلٌ للخلافة، وجاء في رواية: إن عبد الملك لما توفِّي جعل أبوه يُثني عليه عند قبره، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، لو بقي كنت تعهد إليه؟! قال: لا، قال: لم وأنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زُيِّن في عيني منه ما يُزيَّن في عين الوالد من ولده، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثةً في بيت خيرًا من عمر بن العزيز، وابنه عبد الملك، ومولاهم مزاحم.. هذا من نتائج المنهج التربوي والعلمي الذي سار عليه عمر في تربية أولاده.
- حياته مع الناس
1- اهتمامه بإصلاح المجتمع: كان اهتمامه بإصلاح المجتمع كبيرًا، وعمل على إزالة ما يتفشَّى فيه من المنكرات، وقد كتب في ذلك إلى أحد ولاته كتابًا طويلاً بليغًا، فورد بعض فقراته للأهمية وعظيم الفائدة، وفيه يقول: أما بعد فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهلُ الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي مَن يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنِّقمات ما قمع فيهم أهل الباطل، واستخفي فيهم بالمحارم، فلا يظهر من أحد منهم محرَّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوباتُ من السماء إلى الأرض على أهل المعاصي والمداهنين لهم، ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم؛ فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزَّل من كتابه عند مَثُلَة أهلك بها أحدًا نجَّى أحدًا من أولئك، إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يُصبهم من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنِّقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين، أو أن يجعلنا مداهنين للظالمين، وإنه قد بلغني أنه قد كثُر الفجور فيكم وأمن الفسَّاق في مدائنكم وجاهَروا من المحارم بأمرٍ لا يحب الله تعالى مَن فعله، ولا يرضى المداهنة فيه، كان لا يُظهرِ مثلَه علانية قوم يرجون لله وقارًا ويخافون منه غيرًا، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم، ولا بذلك تمَّت نعمة الله تعالى عليهم، بل كانوا كما قال تعالى ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: من الآية 19) ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ (المائدة: من الآية 24)، ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله تعالى بالأيدي والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الآباء، وإنما سبيل الله طاعته، ولقد بلغني أنه بطَّأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلفُّ، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحسانكم أخلاقًا، بل أولئك أسوأكم أخلاقًا، وما أقبل على نفسه من كان كذلك، بل أدبر عنها، ولا سلم من الكلفة لها بل وقع فيها؛ إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمر الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ففي هذا الكتاب المهم يبين عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى- سنة الله جل وعلا التي لا تتخلَّف، وهي أن أيَّ مجتمع يجاهر فيه أهل الفساد بمعاصيهم، ثم لا ينهاهم أهل الصلاح ولا ينكرون عليهم فلا بد أن يصيبهم الله تعالى بإحدى ثلاث: أن يصيبهم الله بعذاب من عنده، أو أن يصيبهم بعذاب على أيدي من يشاء من عباده، وقد يكون هؤلاء من الظلمة الجبارين فينتقم الله بهم من العصاة الفجار، أو يصيبهم الله بالخوف والجوع والذل وأنواع النِّقم والمصائب.
ويبين عمر في هذا الكتاب أن السكوت عن أهل المعاصي المجاهرين ليس من عمل الصحابة- رضي الله عنهم- بل قد وصفهم الله تعالى بالشدة والغلظة على المخالفين المجاهرين بالمعاصي، ويذكر أن من الجهاد في سبيل الله تعالى الغلظة على منتهكي محارم الله والإنكار عليهم بالأيدي والألسن وإن كانوا من أقرب الأقارب، وهذا التوسع في معنى الجهاد له أدلته الشرعية مثل قول الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِير﴾ (التحريم: 9)، وإنما يكون جهاد المنافقين بالإنكار عليهم والشدة في معاملتهم، ويصحِّح عمر في هذا الكتاب مفهومًا خاطئًا عند بعض الناس، وهو وصفهم القاعد عن إنكار المنكر بأنه حسن الخلق قليل التكلف مقبل على نفسه؛ حيث يبين أن هذا سيئ الخلق؛ حيث يتعامل مع المخالفين بالسلبية وعدم المبالاة، مع أنهم بحاجة إلى الشفقة والرحمة، وإنما يظهر ذلك بمحاولة إصلاحهم، ويرد على قولهم بأنه قليل التكلف مقبل على نفسه بأنه لم يُقبل على نفسه بمحاولة إنقاذها من النار ورفع درجتها في الجنة بل أقبل على هلكتها؛ حيث إن السكوت عن الإنكار معصيةٌ يحاسَب عليها مرتكبُها وقد تورده إلى النار، وإذا كان في مفهوم الناس أن الساكت قليل التكلف فإنه قد تكلَّف أمرًا عظيمًا؛ حيث خالف أمر الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم- بما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت كُتُب عمر بن عبد العزيز كلها في إصلاح المجتمع كما جاء في خبر إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: ما كان يقدم على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتابٌ من عمر إلا فيه ردُّ مظلمةٍ أو إحياءُ سنةٍ أو إطفاءُ بدعةٍ أو قَسْم أو تقدير عطاء أو خير، حتى خرج من الدنيا.
2- تذكيره الناس بالآخرة: خطب عمر بن عبد العزيز ذات يومٍ فقال: إني لم أجمعكم لأمرٍ أحدثته، ولكني نظرتُ في أمر معادكم وما أنتم إليه صائرون فوجدت المصدِّق به أحمقَ، والمكذب به هالكًا ثم نزل، وهذه خطبةٌ بليغةٌ على قصرها، فإنها تذكرة حية بمصير الإنسان بعد الموت، فالذي يؤمن بالبعث بعد الموت وما قبله من عذاب القبر ونعيمه وما بعد ذلك من الحساب والمصير إلى النعيم الدائم أو إلى الشقاء الدائم، ثم لا يعد العدة الكافية لذلك اليوم يُعتبر حقًّا أحمق؛ حيث لم يستعمل عقله في الإعداد لمستقبله بعد الموت مع إيمانه بما سيكون فيه، ومن خطبه في تذكير الناس بالموت والآخرة، ما بينَّه عمر في بعض خطبه بأن الإنسان خُلق للأبد ولكنه من دارٍ إلى دارٍ.. قال عمر: إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون.
وقال في إحدى خطبه: يا أيها الناس.. لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها، فعن قليل عنها تُنقلون وإلى غيرها ترحلون، فاللهَ اللهَ عباد الله في أنفسكم، فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت، ولا يطُل بكم الأمد، فتقسوا قلوبكم فتكونوا كقومٍ دعوا إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة، فندموا على ما قصروا عند الآخرة، وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن الموت والآخرة والاستعداد للقاء الله كثيرًا في خطبه ومواعظه رحمه الله.
3- تصحيح المفاهيم الخاطئة: قال عمر في إحدى خطبه: أما بعد.. أيها الناس، فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عليكم يوم القيامة، فإن من وافته منيته فقد قامت قيامته، لا يستعتب من شيء ولا يزيد في حسن، ألا لا سلامةَ لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيًا، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره، ثم قال: إنه لحبيبٌ عليَّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله.
ففي هذه الخطبة يُذكِّر عمر بن عبد العزيز المسلمين بقربِ يوم القيامة، فإن من وافته منيته قامت قيامته، فلينظر إلى الموت الذي قد يفاجئه في أية لحظة، وحينها لا يستطيع أن يعتذر من أعماله السيئة التي سوَّد بها صحيفته، ولا يستطيع أن يستزيد من عمل صالح بيَّض به صحيفته، ويندم حينما لا ينفع الندم على ما فاته في حياته يوم أن كان قادرًا على التوبة النصوح والتزوُّد بالعمل الصالح، ثم يبين أن السلامة كل السلامة في اتباع سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهذا بيانٌ لأحد عنصري العمل الصالح، وهما الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة، وهو بهذا يعالج واقعًا لا ينقص العمل فيه الإخلاص وإنما ينقصه اتباع السنة؛ حيث فشت البدع بعد انقراض عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفساد بعض الولاة الذين يحاربون بعض السنن التي لا تتفق مع أهوائهم، ثم بيَّن أحد العواصم التي تعصم من انتشار البدع وفساد أمور الأمة؛ حيث قال: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، فإذا كان بعض الولاة قد تسوِّل لهم نفوسهم الأمَّارة بالسوء أو مجاملة الآخرين بأن يأمروا الناس بمعصية الله، أو يمهِّدوا السبل لذلك، فإنه لا طاعة لهم، وبهذا ينقطع سببٌ مهمٌّ من أسباب سريان تلك المخالفات وهو ما لِوُلاة الأمر من طاعة على الأمة، فإذا تحددت هذه الطاعة بطاعة الله تعالى لم يكن لهوى النفوس تأثيرٌ على انتشار الفساد في المجتمع وتصبح الكلمة لأهل الإصلاح.
ثم يبين أن ما جرى عليه العرف من اعتبار الهارب من إمامه الظالم عاصيًا ليس له اعتبارٌ في النظر الشرعي؛ لأن تصرفه هذا هو أحد الأسباب التي يتخذها للخلاص من الظلم، وأولى مَن يوصف بالمعصية مَن وقع منه الظلم، وكون عمر يبين هذا- وهو في أعلى موقع من المسئولية كخليفة- لدليلٌ على تجرده من حظ النفس ومن العصبية للقرابة، وإخلاصه لله تعالى.
ثم يصف الواقع الاجتماعي الذي اختلطت فيه العادات بالدين والبدع بالسنن، ونشأ عليه أفراد المجتمع، وتربَّى على توجيهه مَن أسلم من العجم، ومَن هاجر من الأعراب حتى حسِبوه هو الدين، وحينما يختلط العُرف الاجتماعي فيتسرب إلى العرف الإسلامي بعض الأعراف الجاهلية فإن ذلك يؤثر على تربية أفراد المجتمع وتتشربه قلوبهم؛ لأن الأعراف الجاهلية تميل إلى تلبية أهواء النفوس وإن كانت منحرفةً جائرةً، فيصعب بعد ذلك على المُصلحين أن يخلِّصوا العرف الاجتماعي الإسلامي من تلك الأخلاط المتسرِّبة المتراكمة على مر الزمن؛، لأن كل انحراف له أنصاره ومؤيدوه، وليس كل أفراد المجتمع يفهمون الأمور على حقيقتها، وحينما يقوم المصلحون بمحاولة التنقية يقوم دعاةُ السوء بتشويه إصلاحهم ودعوة الناس إلى البقاء على الموروثات؛ لأن كونها موروثات يعطيها في نظر بعض الناس شيئًا من القداسة، ولكن حينما ينبع الإصلاح من أعلى قمة في المسئولية كما هو الحال في عهد عمر بن عبد العزيز فإن نتائج الإصلاح تكون كبيرةً وسريعةَ المفعول؛ لأن معه ما خوَّله الله تعالى من طاعة الرعية ما دام في طاعة الله تعالى إلى جانب قوة السلطان المعهودة.
4- إنكاره العصبية القبلية: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عبد الرحمن، وكان مما جاء في كتابه: إن ما هاجني على كتابي هذا أمرٌ ذُكِر لي عن رجال من أهل البادية، ورجال أمروا حديثًا، ظاهرٌ جفاؤهم قليلٌ علمهم بأمر الله، اغتروا فيه بالله غرةً عظيمة، ونسوا فيه بلاءَه نسيانًا عظيمًا، وغيَّروا فيه نِعَمَه تغييرًا لم يكن يصلح لهم أن يبلغوه، وذكر لي أن رجالاً من أولئك يتحاربون إلى مُضر وإلى اليمن، يزعمون أنهم ولايةٌ على مَن سواهم، وسبحان الله وبحمده ما أبعدهم من شكر نعمة، وأقربهم من كل مهلكة ومذلة وصغار، قاتلهم الله أية منزلة نزلوا، ومن أي أمان خرجوا، أو بأي أمر لصقوا ولكن قد عرفت أن الشقي بنيته يشقى، وأن النار لم تخلف باطلاً، أو لم يسمعوا إلى قول الله في كتابه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10)، وقوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: من الآية 3)، وقد ذكر لي مع ذلك أن رجالاً يتداعون إلى الحلف، لا حلفَ في الإسلام قال: وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدةً فكان يرجو أحد من الفريقين حفظ حلفه الفاجر الآثم الذي فيه معصية الله ومعصية رسوله، وقد ترك الإسلام حين انخلع منه وأنا أحذِّر كلَّ من سمع كتابي هذا ومَن بلغه أن يتخذ غير الإسلام حصنًا أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجةً؛ تحذيرًا بعد تحذير، وأذكرهم تذكيرًا بعد تذكير وأشهد عليهم الذي آخذ بناصية كل دابَّة، والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد، وإني لم آلُكم بالذي كتبت به إليكم نصحًا مع أني لو أعلم أن أحدًا من الناس يحرِّك شيئًا ليُخذله به أو ليدفع عنه- أحرص والله المستعان على مذلته من كان: رجلاً أو عشيرةً أو قبيلةً أو أكثر من ذلك، فادعُ إلى نصيحتي وما تقدمت إليكم به، فإنه هو الرشد ليس له خفاء، ثم ليكن أهل البر وأهل الإيمان عونًا بألسنتهم، وإن كثيرًا من الناس لا يعلمون.. نسأل الله أن يخلف فيما بيننا بخير خلافة في ديننا وأُلفتنا وذات بيننا والسلام.
في هذا الكتاب يعالج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز انحرافًا خطيرًا طرأ على المجتمع الإسلامي آنذاك، وهو أن طائفة من المسلمين الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولم تعمر أفكارهم بالعلم الشرعي، فقد اتخذوا لأنفسهم علاقات من روابط الجاهلية التي تقوم على القبائل والعشائر، فيعطي الواحد منهم ولاءه لقبيلته سواء بالحق أو بالباطل وسواء بالعدل أو بالظلم، ويجعل من قبيلته قضية يهتم لها ويدافع عنها ويدعو لها، حتى أصبحوا بها إخوة في الله متحابين بعد أن كانوا أعداء متحاربين، وسادوا بجماعتهم العالم وقد استفحلت هذه القضية حتى أصبح بعض المجاهدين يتحاربون بينهم بدعوى قبلِّية، مما سبب تأخرًا في تقدم الجهاد، وجرأ أصحاب البلاد المفتوحة على الانتقاض على المسلمين مرةً بعد مرة، ووصلت الحال في بعض البلاد إلى أنه كلما تولى رجل له قبيلة في تلك البلاد قرب أفراد قبيلته وقواهم وتقوى بهم، فتحدث الفتنة وتثور القبائل الأخرى، وما ذاك إلا بسبب طرح رابطة الإسلام التي هي نعمة كبرى على المسلمين، واتخاذ الروابط الجاهلية بديلاً عنها.
5- رفضه للقيام بين يديه:
لما ولي عمر بن عبد العزيز قام الناس بين يديه، فقال: يا معشر المسلمين إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وإن الله فرض فرائض وسن سننًا، من أخذ بها لحق ومن تركها مُحِق. أراد عمر أن يقضي على العادات الموروثة التي أشبه بها الولاة آنذاك الأكاسرة والقياصرة، وعزم صارم على العودة بالأمة إلى منهج الخلفاء الراشدين، وعمر هنا يحجِّم دافعين قويين يدفعانه إلى مجاراة عشيرته في مظاهرهم.. أولهما طموح النفس نحو الظهور وفرض السلطة والهيبة في قلوب الناس، وثانيهما رغبة عشيرته الملحة في الإبقاء على هذه المظاهر، وتشنيعهم عليه في مخالفة ما كان عليه أسلافه ولكنه تغلب على هذين الدافعين بحزمٍ وإيمانٍ قوي، وكان الدافع الذي يدفعه إلى التواضع ورفض المظاهر الدنيوية هو خوفه من الله تعالى ورغبته فيما عنده، وطموح فكره نحو الآخرة وتجاوز المستقبل الدنيوي، وكان هذا الدافع أقوى بكثير من الجواذب الأرضية، فنجح في إلجام نفسه عن هواها وإسكات أصحاب المظاهر الخادعة، وتصحيح مفاهيم المجتمع فيما يجب أن تكون عليه الولاة والعلاقة بينهم وبين الرعية. وفي قوله: إن الله فرض فرائض. بيان لأسباب السعادة والشقاوة الحقيقية في الدنيا والآخرة، فمن طبقها لحق بركب المتقين في الدنيا، وأكرم به من رفقة صالحة، وسيق يوم القيامة إلى رضوان الله تعالى والجنة وأكرم به من مآل وعاقبة.
6- تقديره أهل الفضل:
ذكر الحافظ ابن كثير أن ولد قتادة بن النعمان وفد على عمر بن عبد العزيز فقال له: مَن أنت؟ فقال مرتجلاً:
أنا ابن الذي سالت على الخدِّ عينه فرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرَّدِّ
فعادت كما كانت لأول أمرها فيا حُسْنَها عينًا ويـا حُسْنَ ما رَدِّ
قال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبًا بمـاء فعادا بعـد أبـوالا
ثم وصله وأحسن جائزته رضي الله عنه. ففي هذا الخبر موقف لأمير عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في إكرام ولد قتادة بن النعمان لما وفد عليه حينما عرَّف نفسه بما حدث لأبيه رضي الله عنه في هذا الخبر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على تفوق عمر بن عبد العزيز في المجال الأخلاقي، وذلك بتقدير أهل الفضل، والتقدم في خدمة الإسلام والمسلمين، فإن ما حدث لقتادة رضي الله عنه من اقتلاع عينه بتلك الصورة شاهد على إيغاله في القتال وتعرضه للمهالك، كما أنه شرف له أن تمثلت فيه تلك المعجزة النبوية.
من تقديره لأهل الفضل ما قام به لزياد مولى ابن عياش، فقد قدم عليه زياد مولى ابن عياش، وأصحاب له، فأتى الباب وبه جماعة من الناس فأذن له دونهم، فدخل عليه فنسي أن يسلم عليه بالخلافة، ثم ذكر فقال: السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين، فقال له عمر: والأُولى لم تضرني، ثم نزل عمر عن موضع كان عليه إلى الأرض وقال: إني أعظم أن أكون في موضع أعلو فيه على زياد، فلما قضي زياد ما يريد خرج، فأمر عمر خازن بيت المال أن يفتحه لزياد ومن معه يأخذون منه حاجتهم، فنظر إليه خازن بيت المال فاقتحمته عينه أن يكون يُفتح لمثله بيت المال ويسلَّطُ عليه- وهو به غير عارف- ففعل الخازن ما أمر به، فدخل زياد فأخذ لنفسه ولأصحابه بضعًا وثمانين درهمًا أو بضعًا وتسعين درهمًا، فلما رأى ذلك الخازن قال: أمير المؤمنين أعلم بمَن يسلط على بيت المال. ففي هذا الخبر صور من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله وتقديره للعلماء الربانيين فهو أولاً لم يبالِ بلقب الخلافة وهو أعلى لقب عند المسلمين، والمناصب لها فتنة يقع في حبائلها مَن اغتروا بالجاه والمنزلة الدنيوية، أما أقوياء الإيمان فإن شخصيتهم لا تتغير بعد المنصب بل يظلون على ما هم عليه من التواضع، وربما زادوا تواضعًا في مقابلة احترام الناس لهم. ثم هو ثانيًا نزل من مكانه حتى لا يعلو على ذلك العالم الرباني زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وكون ذلك العالم من الموالي لا ينزل من قدره ابن عمر، فإن العبرة بالعلم والتقوى لا بشرف النسب، وموقف كريم لهذا العالم الرباني حيث لم يأخذ من بيت المال إلا ذلك القدر الزهيد مع أنه قد مُكِّن منه، وهذا مثال رفيع من أمثلة الزهد والورع، وحين ما تكون النفوس كبيرة والعقول راجحة فإنها تعف عن متاع الدنيا الذي يتنافس عليه الصغار، وتطمح ببصرها نحو نعيم الآخرة الخالد الذي يتنافس فيه الكبار.
7- المرء بأصغريه قلبه ولسانه:
كان بين وفد المهنئين لعمر بالخلافة من أهل الحجاز غلامٌ صغيرٌ وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم، فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام ليتكلم مَن هو أسن منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانًا لافظًا وقلبًا حافظًا، فقد استجاد له الحلية، يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمةِ مَن هو أسن منك- أي أحق بمجلسك هذا ممن هو أكبر منك سنًا-. فقال عمر: تحدث يا غلام، قال: "نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي منَّ بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلى بلدنا، وأما الرهبة فقد أمّننا الله بعدلك من جورك".. فأُعجب عمر بفصاحة الغلام وعلمه، وسداد رأيه، فما كان من عمر إلا أن شجَّعه على ذلك، وزاده ثقةً بنفسه وجراءةً ليكون هذا الحادث موقفًا تربويًّا يتعلم فيه الغلام في حضرة خليفة المسلمين، فطلب منه الموعظة فقال: عظنا يا غلام وأوجز، فقال: "نعم يا أمير المؤمنين، إن أناسًا من الناس غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك".. ثم نظرَ عمر في سنِّ الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة، فأنشأ يقول:
تعلم فليس المـرء يولد عالمًا وليس أخو علم كمن بات جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفـت عليـه المحافل
8- امرأة مصرية مسكينة تشتكي لعمر:
كان عمر يتابع أمور المسلمين ويفتح الأبواب على مصرعيها لسماع أخبارهم: فقد كان بريد عمر بن عبد العزيز لا يعطيه أحدًا من الناس إذا خرج كتابًا إلا حمله، فخرج بريد من مصر فدفعت إليه فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح كتابًا تذكر فيه أنَّ لها حائطًا قصيرًا، وأنه يُقتحم عليها فيُسرق دجاجها، فكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرتي من قصر حائطك وأنه يُدخل عليك فيُسرق دجاجك، فقد كتبت كتابًا إلى أيوب بن شرحبيل- وكان أيوب عامله على صلاة مصر وحربها- آمره بأن يبني لك ذلك يُحصنه لك مما تخافين إن شاء الله"، وكتب إلى أيوب بن شرحبيل: "من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يُسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تُحصنه لها، فلمَّا جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصَّنه لها".
9- اهتمامه بفداء الأسرى:
كتب إلى الأسارى بالقسطنطينية: أما بعد: فإنكم تعدون أنفسكم أسارى، معاذ الله بل أنتم الحبساء في سبيل الله، واعلموا أنني لست أقسم شيئًا بين رعيتي إلا خصصت أهليكم بأوفر نصيب وأطيبه وأني قد بعثت إليكم خمسة دنانير ولولا إني خشيت إن زدتكم أن يحبسه طاغية الروم عنكم لزدتكم، وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يُفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما سُئل به، فأبشروا ثم أبشروا والسلام عليكم. وفي هذا الكتاب يتجلى سمو أخلاق عمر وعظم شعوره بالمسئولية كنموذجٍ راقٍ لحاكمٍ مسلم الذي يخاف الله فيراعيه، ويتقي الله في حقوق رعيته بمنتهى الإخلاص والأمانة حيث واسى أسرى المسلمين لدى الروم، حيث شبههم بالمرابطين الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله تعالى، فهم بهذا ينالون أجر المرابطين وإلى جانب هذه المواساة المعنوية فإنه قد واساهم بالمال الذي أمدهم به، وأزاح الهمَّ عنهم وبما أخبرهم به من كفالة أسرهم في حال غيبتهم، كما أنه وعدهم جميعًا بمفاداتهم لفك أسرهم، وهذه معاملة كريمة يستحقها هؤلاء الأسرى الذين خرجوا بأنفسهم لحماية الإسلام ونصره.
10- قضاء ديون الغارمين:
كتب إلى عماله: أن اقضوا عن الغارمين فكتب إليه: إن نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته، فكتب عمر: لا بد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين، ففي هذا الخبر يأمر أمير المؤمنين عمر بقضاء الديون عن الغارمين وإن كانوا يملكون المسكن والأثاث والخادم والفرس، وهو مظهر عظيم من مظاهر الرحمة والمواساة، والاهتمام بشئون الرعية، وهكذا يتصرف الأئمة العادلون بأموال الأمة، حيث يغنون بها فقيرها ويجبرون به كسيرها، ويفكون بها أسيرها، ويقضون به عن معسرها، ويسدون به خلة معوزها.
11- خبر الأسير الأعمى عند الروم:
أرسل عمر بن عبد العزيز إلى صاحب الروم رسولاً، فأتاه وخرج من عنده يدور، فمر بموضع فسمع فيه رجلاً يقرأ القرآن ويطحن، فأتاه فسلَّم عليه فلم يرد عليه السلام- مرتين أو ثلاث- ثم سلَّم عليه فقال له: وأنَّى بالسلام في هذا البلد، فاعلمه أنه رسول عمر إلى صاحب الروم، قال له: ما شأنك؟ فقال: وإني أسرت في موضع كذا وكذا، فأُتي بي إلى صاحب الروم، فعرض عليَّ النصرانية فأبيتُ، وقال لي: إن لم تفعل سملت عينيك، فاخترت ديني على بصري، فسمل عيني وصيرني إلى هذا الموضع، يُرسل إليَّ كل يومٍ بحنطةٍ أطحنها وبخبزةٍ آكلها، فسار الرسول إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره، خبر الرجل، قال: فما فرغت من الخبر حتى رأيتُ دموع عمر قد بلَّت ما بين يديه ثم أمر، فكتب إلى صاحب الروم: أما بعد: فقد بلغني خبر فلان بن فلان فوصف
- اهتمامه بأولاده وأسرته
أشرف عمر بن عبد العزيز على تربية وتعليم أولاده بنفسه، ولم تشغله مسئولياته عن تنشئتهم التنشئة الصالحة، المستمَدة من تعاليم الدين الإسلامي، ونستشفُّ ذلك من خلال رسائله لهم، ولِمَن أوكل إليه تأديبهم.
1- ربطهم بالقرآن الكريم: ربط عمر بن عبد العزيز أولاده بالقرآن الكريم، وكان يأذن لهم يوم الجمعة بالدخول عليه قبل أن يأذن للناس ليتدارسَ معهم القرآن الكريم، فإذا قال إيهًا قرأ الأكبر منه، ثم إذ قال إيهًا، قرأ الذي يليه حتى يقرأ طائفةٌ منهم.
2 - تعهدهم بالنصيحة: فقد أرسل في العام الذي استخلف فيه إلى ابنه عبد الملك- وهو إذ ذاك في المدينة- يقول فيما قال فيها: ".. فمن كان راغبًا في الجنة وهاربًا من النار (يقصد عبد الملك وإخوته) فالآن التوبة مقبولة، والذنب مغفور، قبل نفاد الأجل، وانقضاء العمل، وفراغ من الله للمنقلبين ليدنيهم بأعمالهم في موضع لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تَبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يَرِدُه الناس بأعمالهم، ويصدرون عنه أشتاتًا إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويلٌ يومئذ لمن عصى الله.
وفي موضع آخر من هذه الوصية يحث ولده على ذكر الله وشكره عز وجل ومراقبته في القول والعمل، فيقول: فاذكر فضل الله عليك وعلى أبيك، وإن استطعت أن تُكثرَ تحريكَ لسانك بذكر الله.. تحميدًا، وتسبيحًا، وتهليلاً.. فافعل، فإنَّ أحسن ما وصلت به حديثًا حسنًا حمدُ الله وشكرُه، وإنَّ أحسن ما قطعت به حديثًا سيئًا حمد الله وذكره.
3- الحث على التسامح وحسن الظن: كان رحمه الله يحثهم على التسامح وحسن الظن في الناس؛ فإن بعض الظن إثم، فيروى أنه قال مرةً لابنه عبد العزيز: إذا سمعت كلمةً من امرئٍ مسلم فلا تحملها على شيء من الشرِّ.
4- الأسلوب اللين والمحاورة العاقلة: كان رحمه الله يتعامل معهم بالأسلوب اللين دون أن ينصرفَ إلى التدليلِ الذي يفسد الأبناء، ويحاورهم محاورة العقلاء، ويستخدم أسلوب الإقناع والمنطق في التفاهم معهم، وتلبية طلباتهم، فيروَى أن ابنه عبد الله استكساه ذات مرة وهو خليفة، فأرسله إلى الخيار بن رباح البصري، وقال له: خذ مما عنده لي من ثياب، فلم تعجبه، فعاد إلى أبيه، وقال: يا أبتاه استكسيتك فأرسلتني إلى الخيار بن رباح، فأخرج لي ثيابًا ليست من ثيابي ولا من ثياب قومي، فقال: ذاك ما لنا عند الرجل، فانصرف عبد الله، فما كان عمر- رضي الله عنه- (الأب المربي) إلا أن اتخذ موقفًا وسطًا مقنعًا، فجمع بين إجابة طلب ولده وأنه لا يتوفر كل مطلوب أو مرغوب دائمًا: فناداه قبل أن ينصرف، وقال له مخيِّرًا إياه: هل لك أن أسلفك من عطائك مائة درهم؟ قال: نعم يا أبتاه: فأسلفه مائة درهم فلما خرج عطاؤه حُوسب بها فأُخذت منه.
ومما يروَى أيضًا في حسن إجابته لأولاده وإقناعهم أن ابنةً له بعثت إليه بلؤلؤةٍ وقالت له: إن رأيت أن تبعث لي بأختٍ لها، حتى أجعلها في أذني فلم يردَّ عليها بالإجابةِ ولا بالرفض، وإنما الأمر مرتبطٌ بصبرها على الجمر؛ إذ أرسل لها بجمرتين، وقال لها: إن استطعتِ أن تجعلي هاتين الجمرتين في إذنيكِ بعثت إليك بأختٍ لها، فكان جوابًا مقنعًا لها.
5- حرصه على العدل بينهم: ومما يذكر من حسن معاملته- رحمه الله- لأولاده حرصه على العدل بينهم مع كثرتهم؛ حتى لا يحقدَ أحدهم على الآخر أو يبغضه، فقد تحرى رحمه الله العدلَ حتى إيثاره لابن الحارثية أن ينام معه، إذ تركه خشية أن يكون جورًا، وفي هذا الصدد يروَى عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قوله: كان عمر بن عبد العزيز له ابنٌ من امرأة من بلحارث بن كعب، وكان يحبه وينام في بيته، قال: فتعرضت له ذات ليلة، فقال: أَعَبد العزيز؟ قلت: نعم. قال: شرٌّ ما جاء بك!! ادخل، فجلست عند شاذكونته- الشاذكونة: بفتح الذال ثياب غلاظ مضرية، تعمل باليمن -، وهو يصلي.. فأتاني فقال: مالك؟ فقلت: ليس أحدٌ أعلم بولد الرجل منه، وإنك تصنع بابنِ الحارثيةِ ما لا تصنع بنا، فلست آمن أن يُقال ما هذا إلا من شيء تراه عنده ولا تراه عندنا، فقال: أعلمك هذا أحد؟ فقلت: لا، قال: فأعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: ارجع إلى بيتك، فرجعت، فكنت أنا وإبراهيم وعاصم وعبد الله- وهم من إخوانه- نبيت جميعًا، فإذا نحن بفراش يحمل وتبعه ابن الحارثية- وهو أخوهم- فقلنا: ما شأنك؟ قال: شأني ما صنعت بي، قال: كأنه خشي أن يكون جورًا.
6- تنمية الأخلاق الفاضلة عندهم: كان يحرص على تنمية الأخلاق الفاضلة عند أولاده، ويتحيَّن الفرص لتحقيق ذلك ما استطاع، ففي سياق رسالته رحمه الله إلى ولده عبد الملك وهو في المدينة ينهاه عن التفاخر والمباهاة في الكلام والإعجاب بالنفس والغرور والتعالي على الناس، فيقول له: وإياك أن تفخر بقولك، وأن تعجب بنفسك أو يخيل إليك أن ما رزقته لكرامةٍ لكَ على ربك، وفضيلةٍ على مَن لم يرزق مثل غناك.
7- تربية أولاده على الزهد والاقتصاد في المعيشة: تتجلَّى شخصية عمر رحمه الله التربوية بقدرته على جعل أولاده يتقبلون التحول من فترة النعيم إلى فترة الزهد والتقشف، وأن يقنعَهم بالعيش كعامة الناس، بدلاً من حياة الترف والرفاهية، فمن أول إجراءاته ما جاء في سياق رسالته التربوية لابنه عبد الملك وهو في المدينة والتي جاء فيها: ".. فإنْ ابتلاك الله بغنى اقتصد في غناك، وضَع لله نفسك، وأدِّ إلى الله فرائض حقه من مالك (يقصد الزكاة والصدقة وعدم الإسراف)، وقل كما قال العبد الصالح: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل: 40) وكانت هذه الرسالة عقب توليه الخلافة مباشرةً، في حين لا تزال فترة النعيم والرفاهية قائمة، إذ اتبع أسلوبًا تربويًّا رائعًا في ذلك؛ حيث أخذ الأمر بالتدرج، فأشعره بأن الغنى وكثرة المال ابتلاءٌ من الله عز وجل، ثم أمرَه بالاقتصاد فيما هو فيه من الغنى، ثم قرن الأمر بالتواضع لله، وأخيرًا أكد على ضرورة أداء حق الله، من زكاة الأموال والصدقات وامتثال أمر الله عز وجل.
وفي موقفٍ آخر، إذ بلغه رحمه الله أن ابنًا له اتخذ خاتمًا، واشترى لهذا الخاتم فصًّا بألف درهم، فكتب إليه عمر: أما بعد.. فقد بلغني أنك اشتريت فصًَّا بألف درهم، فبِعه، وأشبِع ألف جائع، واتخذ خاتمًا من حديد صيني، واكتب عليه: "رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه".
ونلاحظ أن عمر ربط أمره ببيع الفص بوجود جائعين وحاجتهم للإشباع، ليكون ذلك أجدى لإدراكِ مغزى الأمر، والتحرِّي في إنفاق الأموال مستقبلاً، وليكن أمر الفقراء والمساكين نُصب أعين أبنائه دائمًا، وذات يوم طلب أحد أبناء عمر بن عبد العزيز إلى أبيه أن يزوِّجه، وأن يُصدق عنه من بيت المال- وقد كان لابنه ذلك امرأة- فغضب رضي الله عنه لذلك، وكتب يقول: لقد أتاني كتابك تسألني أن أجمع لك بين الضرائر من بيت المال، وأبناء المسلمين لا يجد أحدهم امرأةً يستعفُّ بها، فلا أعرفن وما كتبت بمثل هذا.. ثم كتب إليه أن انظر إلى ما قِبَلك من نحاسنا ومتاعنا فبعه، واستعن بثمنه على ما بدا لك.
ولم يقتصر الأمر على الذكور من أولاده، بل شمل الذكور والإناث، ومن ذلك أن ابنةً لعمرَ بنِ عبد العزيز يقال لها (أمينة) مرَّت به يومًا، فدعاها عمر: يا أمينة، فلم تجبْه، فأمر بها، فقال: ما منعك أن تجيبي؟ فقالت إني عارية (أي ملابسها ليست حسنة) فقال: يا مزاحم: انظر إلى تلك الفرش التي فتقناها، فاقطع لها منها قميصًا، هذا عن كساء بنات عمر، أما عن طعامهن فيروي ابن عبد الحكم أن عمر كان يصلي العتمة ثم يدخل على بناته فيسلم عليهن، فدخل عليهن ذات ليلة فلما أحسنَّه وضعن أيديهن على أفواههن ثم تبادرن الباب، فقال للحاضنة: ما شأنهن؟ فقالت: إنه لم يكن عندهن شيءٌ يتعشينه إلا عدس وبصل، فكرهن أن تشمَّ ذلك من أفواههن فبكى عمر، ثم قال لهن: يا بناتي ما ينفعكن أن تعشين الألون، ويمر بأبيكن على النار، فبكين حتى علت أصواتهن ثم انصرفن وكان عمر بدأ الانتقال بأهل بيته من فترة الرفاه والتنعيم إلى فترة القناعة والزهد في الدنيا، بأن وضع حلي ومجوهرات زوجه فاطمة بنت عبد الملك في بيت المال، إذ قال لها: اختاري، إما أن تردي حليَّك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد. قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه إن كان لي.
8- اهتمامه بتعليم أولاده: أولى عمر رحمه الله تعليمَ وتأديبَ أولادِه جانبًا من الاهتمام؛ إذ اتبع إجراءاتٍ تعليميةً جعل منها منهجًا جديرًا يلبِّي حاجات الناشئ المسلم؛ ليكون موحد الذات والأهداف، غير منقسم على نفسه بين القول والعمل، أو بين الواقع والمثال؛ حيث تتضح معالم ذلك المنهج في رسالته- رضي الله عنه- إلى معلمهم ومؤدبهم مولاه سهل بن صدقة؛ إذ قرر اختياره وتكليفه بمهام تعليم وتأديب أولاده، ثم حدد الطريقة المثلى للتأديب، فقد قال: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سهل مولاه، أما بعد: فإني اخترتك على علمٍ منيِّ بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك من غيرك من مواليِّي وذوي الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء، فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك فإن كثرته تميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم، أن حضور المعازف واستماع الأغاني، واللهج بها يُنبت النفاق في القلب كما ينبت العشْبَ الماء، ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه، وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته، فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض حافيًا، فرمى سبعة أرشاق ثم انصرف إلى القائلة؛ فإن ابن مسعود- رضي الله عنه- كان يقول: يا بَنيَّ قيلوا؛ فإن الشياطين لا تقيل، ونلاحظ على هذه التوجيهات الأمور الآتية:
1- اختيار المعلم والمؤدب الصالح: فالمعلم أو المربي يُعدُّ حجر الزواية في عملية التعليم، فقد اختار معلمَ أولاده من خاصته ومواليه وعلى علم به وثقةٍ فيه، ولم يكتفِ عمر بمولاه سهل لتأديبهم وتعليمهم، بل عهد بتأديبهم أيضًا إلى أستاذه ومؤدبه الأول صالح بن كيسان، ولم يقف حرص عمر- رحمه الله- على تعليم أولاده وأدبهم عند هذا الحد، بل وجدناه يختار من كبار عصره مَن يختبر عقل أولاده وأدبهم، فقد كلَّف ميمون بن مهران أن يأتي ابنَه عبد الملك فيستشيره وينظر إلى عقله.. قال ميمون: فأتيناه- يعني عبد الملك بن عمر- فاستأذنت عليه فقعدت عنده ساعة فأعجبتُ به.
2- تحديد المنهج التعليمي: حدد عمر بن عبد العزيز المنهج التعليمي والمقررات الدراسية التي يريد لأولاده أن يتعلموها؛ حيث يتكون من القرآن الكريم وعلومه وبقية العلم من العلوم الأخرى، والتدريب على الجهاد والقتال والصبر عليه، وكذلك التمرين على الرماية ودقة الإصابة وممارسة الرياضة البدنية بالسير إلى الأهداف حفاةً ليعتادوا على ذلك، مع ما يحتويه المنهج من أوقات للراحة، أما حجم المقرر اليومي فجزءٌ واحد من القرآن الكريم بتثبت ووعي، بالإضافة إلى ما يتناسب مع ذلك الجزء من علوم الدين الأخرى وكذلك الرمي بسبعة أرشاق، مع ما يتطلبه ذلك من السير إلى أغراض والسير بينها، فكان منهجًا ذا أهداف سامية؛ إذ يجمع بين الدين والدنيا، ويراوح بين البدن والروح، والقول والعمل تلك أهداف ارتدت عنها خائبة جلُّ برامج التعليم والتربية الحديثة.
3- تحديد طريقة التأديب والتعليم: لم يقف عمر بن عبد العزيز عند اختيار معلم أولاده، وتحديد مواد المنهج التعليمي، بل امتد الأمر إلى رسم الطريقة التي ينبغي لمؤدب أولاده اتباعَها، وكيفية التنفيذ ودقة الأداء وإتقان العمل، ففي سياق رسالته رحمه الله طلب إلى سهل أن يلتزم الجدَّ في قوله لهم، فذلك أمعن لإقدامهم وأحرز لانتباههم، وطلب إليه كمؤدبٍ لهم أن يترك صحبتهم فإن عادتها تكسب الغفلة، ولا تُبقي مكانتُه عندهم، فليس للمعلم أن يتخذ من تلاميذه أصدقاء وأصحابًا له يودعهم أسراره، ويشاركهم وقته وحياته، فقد لا تُعجبهم مواقفه، فيكون ذلك أدعى للاستهانة به، وعدم الاستجابة لما يُطلب منهم وربما يؤدي ذلك إلى عدم الاكتراثِ بالمعلم، والغفلة عمَّا يقوله من العلم.
كما طلب عمر إلى مؤدب أولاده أن يكون في أدبه لهم ما يصرفهم عن الملاهي وحضور المعازف وسماع الغناء؛ لما لها من الأثر السيئ في حياة المسلم، ويلاحظ أن عمر لا يصدر أمرًا، أو يحدد طريقةً أو أسلوبًا حتى يوضح ما دفعه لذلك، وما فائدته وجدواه.
4- تحديد أوقات وأولويات التعليم: ومما اشتمل عليه المنهج الذي حدَّده عمر بن عبد العزيز في رسالته لمؤدب أولاده ما يُسمَّى بإدارة الوقت؛ إذ حدد برنامجًا يوميًّا يبدأ الأولاد ومؤدبهم في تنفيذه من الصباح الباكر بجزءٍ من القرآن الكريم، فكان البدء بالقرآن في الفترة الصباحية؛ لما فيها من صفاء ذهن التلميذ، بعد أخْذِ قسطٍ من الراحة في ليلته، فجعل أولوية القرآن الكريم في وقت صفاء الذهن والاستعداد الجيد للمتعلم، كما ربط الانتقال إلى المادة الأخرى من البرنامج اليومي بالتثبت والإتقان، ثم جاء توقيت الخروج بين الأغراض وممارسة متطلبات الرماية، ويكون الخروج للرمي بعد العلم، وهم في شَوْقٍ إليه، فيتحقق لهم بذلك أعلى درجات الكفاءة والإتقان، ويأتي في ختام البرنامج اليومي فترة القيلولة.. تلك الفترة الضرورية لراحة البدن والنفس والعقل.
5- مراعاة المؤثرات التعليمية: راعَى عمر بن عبد العزيز كلَّ ما له ارتباطٌ بالعلم، وما له تأثيرٌ على الفهم وحسن التلقي، وما يزيد من إدراك العقل من قريب أو بعيد، فكان أول أمرٍ اهتم به وبتأثيره على علم أولاده وأخلاقهم وأدبهم هو معلمهم وجدوى علمه، واقتداؤهم بأدبه وخلقه، والأمر الثاني مراعاة ما قد يسببه اللين وعدم التزام الجد في القول، وإكثار الضحك، والهزل واللعب أحيانًا، من التباطؤ في أداء متطلبات التعليم، من إقدامٍ وعلوِّ همة، وفهم وإدراك بالكفاءة المطلوبة، والثالث: ما ينجم عن تيار المجون والملاهي والغناء وحضور المعازف، من ضياع وقت أولى أن يكون للعلم، وتبلد الإحساس العلمي، ورابعها: مراعاة النواحي النفسية للناشئين، وما قد يُصيبهم من الملل، وتأثير ذلك على المستوى المطلوب من الفهم، وضرورة الترويح عن النفس ساعةً بعد ساعة، وجعل وقتٍ للراحة بين الحين والآخر، وأخيرًا الاهتمام بالمردود الإيجابي للرياضة، وممارسة الرماية، والسير بين الأغراض على الجسم وصحته والعقل وسلامته والذهن وصفائه.
- من نتائج منهج عمر بن عبد العزيز في تربية أولاده (ابنه عبد الملك): من نتائج منهج عمر في تربية أولاده ذلك النموذج الرباني المتمثل في ابنه عبد الملك، ويُعتبر عبد الملك نموذجًا للشاب الذي عاش في رغد العيش وسعة الرزق ورفاهية الحياة، فحياته مثالٌ لكثير من أبناء المسلمين الذين كانوا على شاكلته وإليك شيء من مواقفه:
1- عبادته وبكاؤه: عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وهو ابن أخي عمر بن عبد العزيز، قال: وفدت إلى سليمان بن عبد الملك، ومعنا عمر بن عبد العزيز، فنزلت على ابنه عبد الملك وهو عزب، فكنت معه في بيت فصلينا العشاء، وآوى كل رجل منا إلى فراشه، ثم قام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه، ثم قام يصلِّي حتى ذهب بي النوم، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ..﴾ (الشعراء: 205- 207) فبكى، ثم يرجع إليها، فإذا فرغ منها فعل مثل ذلك، حتى قلت: سيقتله البُكاءُ، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله، كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عليه، فلما سمعني سكت فلم أسمع له حِسَّا رحمه الله.
2- علمه وفقهه وفهمه: جمع عمر بن عبد العزيز الناس واستشارهم في ردِّ مظالم الحجَّاج، فكان كلما استشار رجلاً قال له: يا أمير المؤمنين، ذاك أمرٌ كان في غير سلطانك ولا ولايتك، فكان كلما قال له رجلٌ ذلك أقامه، حتى خلص بابنه عبد الملك، فقال له ابنه عبد الملك: يا أَبَهْ، ما من رجل استطاع أن يردَّ مظالم الحجَّاج إن لم يردها أن يشركه فيها، فقال عمر: لولا أنك ابني لقلت إنك أفقه الناس، وهذا الذي قاله عبد الملك ومدحه عليه أبوه، وهو الصواب؛ فإن الإمام إذا قدر على رد مظالم من قبله من الولاة وجب عليه وهو ذلك بحسب الاستطاعة.
وقد كان عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك من العلماء الذين جمعوا بين العلم بالله الذي يقتضي خشيته ومحبته والتبتل إليه، وبين العلم بالله الذي يقتضي معرفة الحلال والحرام والفتاوى والأحكام.
3- تذكيره والده بالموت: مات ابنٌ لعمر بن عبد العزيز، فجاء عمر فقعد عند رأسه، وكشف الثوب عن وجهه فجعل ينظر إليه ويستدمع، فجاء عبد الملك ابنه فقال: أشغلك يا أمير ما أقبل من الموت إليك؟ بل هو في شغل عما حل لديك، فكأن قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك، فبكى عمر ثم قال: رحمك الله يا بني، فوالله إنك لعظيم البركة، ما علمتك على أبيك نافع الموعظة لمن وعظت، وأيمُ الله إن كان الذي رأيت من جزعي على أخيك، ولكن لما علمت أن ملك الموت دخل داري فراعني دخوله، فكان الذي رأيت ثم أمر بجهازه.
4- صلابته في الدين وقوته في تنفيذ الحق: قال ميمون بن مهران قال: بعث إليَّ عمر بن عبد العزيز وإلى مكحول وإلى أبي قلابة فقال: ما ترَون في هذه الأموال التي أُخذت من الناس ظلمًا؟ فقال مكحول يومئذٍ قولاً ضعيفًا، فكرهه فقال: أرى أن تستأنف فنظر إليَّ عمر كالمستغيث بي، فقلت: يا أمير المؤمنين، ابعث إلى عبد الملك، فأحضِره؛ فإنه ليس بدون من رأيت، فلما دخل عليه قال: يا عبد الملك، ما ترى في هذه الأموال التي أُخذت من الناس ظلمًا، وقد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها؟! قال: أرى "أن تردَّها"؛ فإن لم تفعل كنت شريكًا لمن أخذها.
5- مرضه وموته رحمه الله: دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه- من الطاعون- فقال: يا بني، كيف تجد؟! قال: أجدني في الحق، قال: يا بني، إن تكن في ميزاني أحبُّ إليَّ من أن أكون في ميزانك، فقال ابنه: وأنا يا أبه لأَن أكون ما تحب أحبّ إليّ من أن يكون ما أُحب، وحين دفن ابنه خطب على قبره فقال: رحمك الله يا بني، فلقد كنت برًّا بأبيك، وما زلت منذ وهبك الله لي مسرورًا، ولا والله ما كنت أشدَّ سرورًا ولا أرجى لحظِّي من الله فيك، منذ وضعتك في الموضع الذي صيَّرك الله إليه، فرحمك الله وغفر ذنبك وجزاك الله بأحسن عملك وتجاوَز عن مسيئه، ورَحِم كلَّ شافع يشفع لك بخير من شاهدٍ وغائبٍ، رضينا بقضاء الله وسلَّمنا لأمره، والحمد الله رب العالمين، ثم انصرف.
ثم كتب إلى نائبه على الكوفة كتابًا يَنهى أن يُناح على ابنه كما كانت عادةُ الناس حينئذٍ في الناحية على الملوك وأولادهم، وفي ذلك الكتاب كان فيه: أن عبد الملك ابن أمير المؤمنين كان عبدًا من عباد الله، أحسن الله إليه في نفسه وأحسن إلى أبيه فيه، أعاشه الله ما أحبَّ أن يُعيشه، ثم قبضه إليه حين أحب أن يَقبضه، وهو فيما علمت بالموت مرتبطٌ، نرجو فيه من الله رجاءً حسنًا، فأعوذ بالله أن تكون لي محبةٌ في شيء من الأمور تخالف محبة الله؛ فإن خلاف ذلك لا يصح في بلائه عندي وإحسانه إلي ونعمته علي، ثم قال: أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمكه من قضاء الله، فلا أعلم مَن ينوح عليه في شيء من قبلك، ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس، ولا رخَّصت فيه لقريب ولا بعيد، واكفني في ذلك بكفاية الله ولا ألومنَّك فيه- إن شاء الله- والسلام عليك.
وجاء في رواية: لما هلَك عبد الملك بن عمر قال أبوه: يا بني، لقد كنت كما قال الله عز وجل: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف: 146)، وإني لأرجو أن تكون اليوم من الباقيات الصالحات التي هي خيرٌ ثوابًا وخيرٌ أملاً، والله ما يسرني أني دعوتك فأجبتني، وقد تُوفي عبد الملك بن عمر وكان عمرُه تسع عشرة سنة، وكان عمر بن عبد العزيز يُثني على ولده، وقال لابنه ذات يوم: يا عبد الملك، إني أخبرك خبرًا.. لا والله ما رأيت فتى ماشيًا قط أنسك منك نسكًا ولا أفقه فقهًا ولا أقرأ منك ولا أبعد في صبوة في صغير ولا كبير، وقال عمر بن عبد العزيز، والله لولا أن يكون بي زينة من أمر عبد الملك ما يُزين في عين الوالد من ولده لرأيت أنه أهلٌ للخلافة، وجاء في رواية: إن عبد الملك لما توفِّي جعل أبوه يُثني عليه عند قبره، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، لو بقي كنت تعهد إليه؟! قال: لا، قال: لم وأنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زُيِّن في عيني منه ما يُزيَّن في عين الوالد من ولده، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثةً في بيت خيرًا من عمر بن العزيز، وابنه عبد الملك، ومولاهم مزاحم.. هذا من نتائج المنهج التربوي والعلمي الذي سار عليه عمر في تربية أولاده.
- حياته مع الناس
1- اهتمامه بإصلاح المجتمع: كان اهتمامه بإصلاح المجتمع كبيرًا، وعمل على إزالة ما يتفشَّى فيه من المنكرات، وقد كتب في ذلك إلى أحد ولاته كتابًا طويلاً بليغًا، فورد بعض فقراته للأهمية وعظيم الفائدة، وفيه يقول: أما بعد فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهلُ الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي مَن يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنِّقمات ما قمع فيهم أهل الباطل، واستخفي فيهم بالمحارم، فلا يظهر من أحد منهم محرَّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوباتُ من السماء إلى الأرض على أهل المعاصي والمداهنين لهم، ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم؛ فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزَّل من كتابه عند مَثُلَة أهلك بها أحدًا نجَّى أحدًا من أولئك، إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يُصبهم من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنِّقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين، أو أن يجعلنا مداهنين للظالمين، وإنه قد بلغني أنه قد كثُر الفجور فيكم وأمن الفسَّاق في مدائنكم وجاهَروا من المحارم بأمرٍ لا يحب الله تعالى مَن فعله، ولا يرضى المداهنة فيه، كان لا يُظهرِ مثلَه علانية قوم يرجون لله وقارًا ويخافون منه غيرًا، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم، ولا بذلك تمَّت نعمة الله تعالى عليهم، بل كانوا كما قال تعالى ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: من الآية 19) ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ (المائدة: من الآية 24)، ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله تعالى بالأيدي والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الآباء، وإنما سبيل الله طاعته، ولقد بلغني أنه بطَّأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلفُّ، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحسانكم أخلاقًا، بل أولئك أسوأكم أخلاقًا، وما أقبل على نفسه من كان كذلك، بل أدبر عنها، ولا سلم من الكلفة لها بل وقع فيها؛ إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمر الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ففي هذا الكتاب المهم يبين عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى- سنة الله جل وعلا التي لا تتخلَّف، وهي أن أيَّ مجتمع يجاهر فيه أهل الفساد بمعاصيهم، ثم لا ينهاهم أهل الصلاح ولا ينكرون عليهم فلا بد أن يصيبهم الله تعالى بإحدى ثلاث: أن يصيبهم الله بعذاب من عنده، أو أن يصيبهم بعذاب على أيدي من يشاء من عباده، وقد يكون هؤلاء من الظلمة الجبارين فينتقم الله بهم من العصاة الفجار، أو يصيبهم الله بالخوف والجوع والذل وأنواع النِّقم والمصائب.
ويبين عمر في هذا الكتاب أن السكوت عن أهل المعاصي المجاهرين ليس من عمل الصحابة- رضي الله عنهم- بل قد وصفهم الله تعالى بالشدة والغلظة على المخالفين المجاهرين بالمعاصي، ويذكر أن من الجهاد في سبيل الله تعالى الغلظة على منتهكي محارم الله والإنكار عليهم بالأيدي والألسن وإن كانوا من أقرب الأقارب، وهذا التوسع في معنى الجهاد له أدلته الشرعية مثل قول الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِير﴾ (التحريم: 9)، وإنما يكون جهاد المنافقين بالإنكار عليهم والشدة في معاملتهم، ويصحِّح عمر في هذا الكتاب مفهومًا خاطئًا عند بعض الناس، وهو وصفهم القاعد عن إنكار المنكر بأنه حسن الخلق قليل التكلف مقبل على نفسه؛ حيث يبين أن هذا سيئ الخلق؛ حيث يتعامل مع المخالفين بالسلبية وعدم المبالاة، مع أنهم بحاجة إلى الشفقة والرحمة، وإنما يظهر ذلك بمحاولة إصلاحهم، ويرد على قولهم بأنه قليل التكلف مقبل على نفسه بأنه لم يُقبل على نفسه بمحاولة إنقاذها من النار ورفع درجتها في الجنة بل أقبل على هلكتها؛ حيث إن السكوت عن الإنكار معصيةٌ يحاسَب عليها مرتكبُها وقد تورده إلى النار، وإذا كان في مفهوم الناس أن الساكت قليل التكلف فإنه قد تكلَّف أمرًا عظيمًا؛ حيث خالف أمر الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم- بما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت كُتُب عمر بن عبد العزيز كلها في إصلاح المجتمع كما جاء في خبر إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: ما كان يقدم على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتابٌ من عمر إلا فيه ردُّ مظلمةٍ أو إحياءُ سنةٍ أو إطفاءُ بدعةٍ أو قَسْم أو تقدير عطاء أو خير، حتى خرج من الدنيا.
2- تذكيره الناس بالآخرة: خطب عمر بن عبد العزيز ذات يومٍ فقال: إني لم أجمعكم لأمرٍ أحدثته، ولكني نظرتُ في أمر معادكم وما أنتم إليه صائرون فوجدت المصدِّق به أحمقَ، والمكذب به هالكًا ثم نزل، وهذه خطبةٌ بليغةٌ على قصرها، فإنها تذكرة حية بمصير الإنسان بعد الموت، فالذي يؤمن بالبعث بعد الموت وما قبله من عذاب القبر ونعيمه وما بعد ذلك من الحساب والمصير إلى النعيم الدائم أو إلى الشقاء الدائم، ثم لا يعد العدة الكافية لذلك اليوم يُعتبر حقًّا أحمق؛ حيث لم يستعمل عقله في الإعداد لمستقبله بعد الموت مع إيمانه بما سيكون فيه، ومن خطبه في تذكير الناس بالموت والآخرة، ما بينَّه عمر في بعض خطبه بأن الإنسان خُلق للأبد ولكنه من دارٍ إلى دارٍ.. قال عمر: إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون.
وقال في إحدى خطبه: يا أيها الناس.. لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها، فعن قليل عنها تُنقلون وإلى غيرها ترحلون، فاللهَ اللهَ عباد الله في أنفسكم، فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت، ولا يطُل بكم الأمد، فتقسوا قلوبكم فتكونوا كقومٍ دعوا إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة، فندموا على ما قصروا عند الآخرة، وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن الموت والآخرة والاستعداد للقاء الله كثيرًا في خطبه ومواعظه رحمه الله.
3- تصحيح المفاهيم الخاطئة: قال عمر في إحدى خطبه: أما بعد.. أيها الناس، فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عليكم يوم القيامة، فإن من وافته منيته فقد قامت قيامته، لا يستعتب من شيء ولا يزيد في حسن، ألا لا سلامةَ لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيًا، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره، ثم قال: إنه لحبيبٌ عليَّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله.
ففي هذه الخطبة يُذكِّر عمر بن عبد العزيز المسلمين بقربِ يوم القيامة، فإن من وافته منيته قامت قيامته، فلينظر إلى الموت الذي قد يفاجئه في أية لحظة، وحينها لا يستطيع أن يعتذر من أعماله السيئة التي سوَّد بها صحيفته، ولا يستطيع أن يستزيد من عمل صالح بيَّض به صحيفته، ويندم حينما لا ينفع الندم على ما فاته في حياته يوم أن كان قادرًا على التوبة النصوح والتزوُّد بالعمل الصالح، ثم يبين أن السلامة كل السلامة في اتباع سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهذا بيانٌ لأحد عنصري العمل الصالح، وهما الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة، وهو بهذا يعالج واقعًا لا ينقص العمل فيه الإخلاص وإنما ينقصه اتباع السنة؛ حيث فشت البدع بعد انقراض عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفساد بعض الولاة الذين يحاربون بعض السنن التي لا تتفق مع أهوائهم، ثم بيَّن أحد العواصم التي تعصم من انتشار البدع وفساد أمور الأمة؛ حيث قال: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، فإذا كان بعض الولاة قد تسوِّل لهم نفوسهم الأمَّارة بالسوء أو مجاملة الآخرين بأن يأمروا الناس بمعصية الله، أو يمهِّدوا السبل لذلك، فإنه لا طاعة لهم، وبهذا ينقطع سببٌ مهمٌّ من أسباب سريان تلك المخالفات وهو ما لِوُلاة الأمر من طاعة على الأمة، فإذا تحددت هذه الطاعة بطاعة الله تعالى لم يكن لهوى النفوس تأثيرٌ على انتشار الفساد في المجتمع وتصبح الكلمة لأهل الإصلاح.
ثم يبين أن ما جرى عليه العرف من اعتبار الهارب من إمامه الظالم عاصيًا ليس له اعتبارٌ في النظر الشرعي؛ لأن تصرفه هذا هو أحد الأسباب التي يتخذها للخلاص من الظلم، وأولى مَن يوصف بالمعصية مَن وقع منه الظلم، وكون عمر يبين هذا- وهو في أعلى موقع من المسئولية كخليفة- لدليلٌ على تجرده من حظ النفس ومن العصبية للقرابة، وإخلاصه لله تعالى.
ثم يصف الواقع الاجتماعي الذي اختلطت فيه العادات بالدين والبدع بالسنن، ونشأ عليه أفراد المجتمع، وتربَّى على توجيهه مَن أسلم من العجم، ومَن هاجر من الأعراب حتى حسِبوه هو الدين، وحينما يختلط العُرف الاجتماعي فيتسرب إلى العرف الإسلامي بعض الأعراف الجاهلية فإن ذلك يؤثر على تربية أفراد المجتمع وتتشربه قلوبهم؛ لأن الأعراف الجاهلية تميل إلى تلبية أهواء النفوس وإن كانت منحرفةً جائرةً، فيصعب بعد ذلك على المُصلحين أن يخلِّصوا العرف الاجتماعي الإسلامي من تلك الأخلاط المتسرِّبة المتراكمة على مر الزمن؛، لأن كل انحراف له أنصاره ومؤيدوه، وليس كل أفراد المجتمع يفهمون الأمور على حقيقتها، وحينما يقوم المصلحون بمحاولة التنقية يقوم دعاةُ السوء بتشويه إصلاحهم ودعوة الناس إلى البقاء على الموروثات؛ لأن كونها موروثات يعطيها في نظر بعض الناس شيئًا من القداسة، ولكن حينما ينبع الإصلاح من أعلى قمة في المسئولية كما هو الحال في عهد عمر بن عبد العزيز فإن نتائج الإصلاح تكون كبيرةً وسريعةَ المفعول؛ لأن معه ما خوَّله الله تعالى من طاعة الرعية ما دام في طاعة الله تعالى إلى جانب قوة السلطان المعهودة.
4- إنكاره العصبية القبلية: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عبد الرحمن، وكان مما جاء في كتابه: إن ما هاجني على كتابي هذا أمرٌ ذُكِر لي عن رجال من أهل البادية، ورجال أمروا حديثًا، ظاهرٌ جفاؤهم قليلٌ علمهم بأمر الله، اغتروا فيه بالله غرةً عظيمة، ونسوا فيه بلاءَه نسيانًا عظيمًا، وغيَّروا فيه نِعَمَه تغييرًا لم يكن يصلح لهم أن يبلغوه، وذكر لي أن رجالاً من أولئك يتحاربون إلى مُضر وإلى اليمن، يزعمون أنهم ولايةٌ على مَن سواهم، وسبحان الله وبحمده ما أبعدهم من شكر نعمة، وأقربهم من كل مهلكة ومذلة وصغار، قاتلهم الله أية منزلة نزلوا، ومن أي أمان خرجوا، أو بأي أمر لصقوا ولكن قد عرفت أن الشقي بنيته يشقى، وأن النار لم تخلف باطلاً، أو لم يسمعوا إلى قول الله في كتابه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10)، وقوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: من الآية 3)، وقد ذكر لي مع ذلك أن رجالاً يتداعون إلى الحلف، لا حلفَ في الإسلام قال: وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدةً فكان يرجو أحد من الفريقين حفظ حلفه الفاجر الآثم الذي فيه معصية الله ومعصية رسوله، وقد ترك الإسلام حين انخلع منه وأنا أحذِّر كلَّ من سمع كتابي هذا ومَن بلغه أن يتخذ غير الإسلام حصنًا أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجةً؛ تحذيرًا بعد تحذير، وأذكرهم تذكيرًا بعد تذكير وأشهد عليهم الذي آخذ بناصية كل دابَّة، والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد، وإني لم آلُكم بالذي كتبت به إليكم نصحًا مع أني لو أعلم أن أحدًا من الناس يحرِّك شيئًا ليُخذله به أو ليدفع عنه- أحرص والله المستعان على مذلته من كان: رجلاً أو عشيرةً أو قبيلةً أو أكثر من ذلك، فادعُ إلى نصيحتي وما تقدمت إليكم به، فإنه هو الرشد ليس له خفاء، ثم ليكن أهل البر وأهل الإيمان عونًا بألسنتهم، وإن كثيرًا من الناس لا يعلمون.. نسأل الله أن يخلف فيما بيننا بخير خلافة في ديننا وأُلفتنا وذات بيننا والسلام.
في هذا الكتاب يعالج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز انحرافًا خطيرًا طرأ على المجتمع الإسلامي آنذاك، وهو أن طائفة من المسلمين الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولم تعمر أفكارهم بالعلم الشرعي، فقد اتخذوا لأنفسهم علاقات من روابط الجاهلية التي تقوم على القبائل والعشائر، فيعطي الواحد منهم ولاءه لقبيلته سواء بالحق أو بالباطل وسواء بالعدل أو بالظلم، ويجعل من قبيلته قضية يهتم لها ويدافع عنها ويدعو لها، حتى أصبحوا بها إخوة في الله متحابين بعد أن كانوا أعداء متحاربين، وسادوا بجماعتهم العالم وقد استفحلت هذه القضية حتى أصبح بعض المجاهدين يتحاربون بينهم بدعوى قبلِّية، مما سبب تأخرًا في تقدم الجهاد، وجرأ أصحاب البلاد المفتوحة على الانتقاض على المسلمين مرةً بعد مرة، ووصلت الحال في بعض البلاد إلى أنه كلما تولى رجل له قبيلة في تلك البلاد قرب أفراد قبيلته وقواهم وتقوى بهم، فتحدث الفتنة وتثور القبائل الأخرى، وما ذاك إلا بسبب طرح رابطة الإسلام التي هي نعمة كبرى على المسلمين، واتخاذ الروابط الجاهلية بديلاً عنها.
5- رفضه للقيام بين يديه:
لما ولي عمر بن عبد العزيز قام الناس بين يديه، فقال: يا معشر المسلمين إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وإن الله فرض فرائض وسن سننًا، من أخذ بها لحق ومن تركها مُحِق. أراد عمر أن يقضي على العادات الموروثة التي أشبه بها الولاة آنذاك الأكاسرة والقياصرة، وعزم صارم على العودة بالأمة إلى منهج الخلفاء الراشدين، وعمر هنا يحجِّم دافعين قويين يدفعانه إلى مجاراة عشيرته في مظاهرهم.. أولهما طموح النفس نحو الظهور وفرض السلطة والهيبة في قلوب الناس، وثانيهما رغبة عشيرته الملحة في الإبقاء على هذه المظاهر، وتشنيعهم عليه في مخالفة ما كان عليه أسلافه ولكنه تغلب على هذين الدافعين بحزمٍ وإيمانٍ قوي، وكان الدافع الذي يدفعه إلى التواضع ورفض المظاهر الدنيوية هو خوفه من الله تعالى ورغبته فيما عنده، وطموح فكره نحو الآخرة وتجاوز المستقبل الدنيوي، وكان هذا الدافع أقوى بكثير من الجواذب الأرضية، فنجح في إلجام نفسه عن هواها وإسكات أصحاب المظاهر الخادعة، وتصحيح مفاهيم المجتمع فيما يجب أن تكون عليه الولاة والعلاقة بينهم وبين الرعية. وفي قوله: إن الله فرض فرائض. بيان لأسباب السعادة والشقاوة الحقيقية في الدنيا والآخرة، فمن طبقها لحق بركب المتقين في الدنيا، وأكرم به من رفقة صالحة، وسيق يوم القيامة إلى رضوان الله تعالى والجنة وأكرم به من مآل وعاقبة.
6- تقديره أهل الفضل:
ذكر الحافظ ابن كثير أن ولد قتادة بن النعمان وفد على عمر بن عبد العزيز فقال له: مَن أنت؟ فقال مرتجلاً:
أنا ابن الذي سالت على الخدِّ عينه فرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرَّدِّ
فعادت كما كانت لأول أمرها فيا حُسْنَها عينًا ويـا حُسْنَ ما رَدِّ
قال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبًا بمـاء فعادا بعـد أبـوالا
ثم وصله وأحسن جائزته رضي الله عنه. ففي هذا الخبر موقف لأمير عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في إكرام ولد قتادة بن النعمان لما وفد عليه حينما عرَّف نفسه بما حدث لأبيه رضي الله عنه في هذا الخبر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على تفوق عمر بن عبد العزيز في المجال الأخلاقي، وذلك بتقدير أهل الفضل، والتقدم في خدمة الإسلام والمسلمين، فإن ما حدث لقتادة رضي الله عنه من اقتلاع عينه بتلك الصورة شاهد على إيغاله في القتال وتعرضه للمهالك، كما أنه شرف له أن تمثلت فيه تلك المعجزة النبوية.
من تقديره لأهل الفضل ما قام به لزياد مولى ابن عياش، فقد قدم عليه زياد مولى ابن عياش، وأصحاب له، فأتى الباب وبه جماعة من الناس فأذن له دونهم، فدخل عليه فنسي أن يسلم عليه بالخلافة، ثم ذكر فقال: السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين، فقال له عمر: والأُولى لم تضرني، ثم نزل عمر عن موضع كان عليه إلى الأرض وقال: إني أعظم أن أكون في موضع أعلو فيه على زياد، فلما قضي زياد ما يريد خرج، فأمر عمر خازن بيت المال أن يفتحه لزياد ومن معه يأخذون منه حاجتهم، فنظر إليه خازن بيت المال فاقتحمته عينه أن يكون يُفتح لمثله بيت المال ويسلَّطُ عليه- وهو به غير عارف- ففعل الخازن ما أمر به، فدخل زياد فأخذ لنفسه ولأصحابه بضعًا وثمانين درهمًا أو بضعًا وتسعين درهمًا، فلما رأى ذلك الخازن قال: أمير المؤمنين أعلم بمَن يسلط على بيت المال. ففي هذا الخبر صور من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله وتقديره للعلماء الربانيين فهو أولاً لم يبالِ بلقب الخلافة وهو أعلى لقب عند المسلمين، والمناصب لها فتنة يقع في حبائلها مَن اغتروا بالجاه والمنزلة الدنيوية، أما أقوياء الإيمان فإن شخصيتهم لا تتغير بعد المنصب بل يظلون على ما هم عليه من التواضع، وربما زادوا تواضعًا في مقابلة احترام الناس لهم. ثم هو ثانيًا نزل من مكانه حتى لا يعلو على ذلك العالم الرباني زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وكون ذلك العالم من الموالي لا ينزل من قدره ابن عمر، فإن العبرة بالعلم والتقوى لا بشرف النسب، وموقف كريم لهذا العالم الرباني حيث لم يأخذ من بيت المال إلا ذلك القدر الزهيد مع أنه قد مُكِّن منه، وهذا مثال رفيع من أمثلة الزهد والورع، وحين ما تكون النفوس كبيرة والعقول راجحة فإنها تعف عن متاع الدنيا الذي يتنافس عليه الصغار، وتطمح ببصرها نحو نعيم الآخرة الخالد الذي يتنافس فيه الكبار.
7- المرء بأصغريه قلبه ولسانه:
كان بين وفد المهنئين لعمر بالخلافة من أهل الحجاز غلامٌ صغيرٌ وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم، فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام ليتكلم مَن هو أسن منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانًا لافظًا وقلبًا حافظًا، فقد استجاد له الحلية، يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمةِ مَن هو أسن منك- أي أحق بمجلسك هذا ممن هو أكبر منك سنًا-. فقال عمر: تحدث يا غلام، قال: "نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي منَّ بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلى بلدنا، وأما الرهبة فقد أمّننا الله بعدلك من جورك".. فأُعجب عمر بفصاحة الغلام وعلمه، وسداد رأيه، فما كان من عمر إلا أن شجَّعه على ذلك، وزاده ثقةً بنفسه وجراءةً ليكون هذا الحادث موقفًا تربويًّا يتعلم فيه الغلام في حضرة خليفة المسلمين، فطلب منه الموعظة فقال: عظنا يا غلام وأوجز، فقال: "نعم يا أمير المؤمنين، إن أناسًا من الناس غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك".. ثم نظرَ عمر في سنِّ الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة، فأنشأ يقول:
تعلم فليس المـرء يولد عالمًا وليس أخو علم كمن بات جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفـت عليـه المحافل
8- امرأة مصرية مسكينة تشتكي لعمر:
كان عمر يتابع أمور المسلمين ويفتح الأبواب على مصرعيها لسماع أخبارهم: فقد كان بريد عمر بن عبد العزيز لا يعطيه أحدًا من الناس إذا خرج كتابًا إلا حمله، فخرج بريد من مصر فدفعت إليه فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح كتابًا تذكر فيه أنَّ لها حائطًا قصيرًا، وأنه يُقتحم عليها فيُسرق دجاجها، فكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرتي من قصر حائطك وأنه يُدخل عليك فيُسرق دجاجك، فقد كتبت كتابًا إلى أيوب بن شرحبيل- وكان أيوب عامله على صلاة مصر وحربها- آمره بأن يبني لك ذلك يُحصنه لك مما تخافين إن شاء الله"، وكتب إلى أيوب بن شرحبيل: "من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يُسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تُحصنه لها، فلمَّا جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصَّنه لها".
9- اهتمامه بفداء الأسرى:
كتب إلى الأسارى بالقسطنطينية: أما بعد: فإنكم تعدون أنفسكم أسارى، معاذ الله بل أنتم الحبساء في سبيل الله، واعلموا أنني لست أقسم شيئًا بين رعيتي إلا خصصت أهليكم بأوفر نصيب وأطيبه وأني قد بعثت إليكم خمسة دنانير ولولا إني خشيت إن زدتكم أن يحبسه طاغية الروم عنكم لزدتكم، وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يُفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما سُئل به، فأبشروا ثم أبشروا والسلام عليكم. وفي هذا الكتاب يتجلى سمو أخلاق عمر وعظم شعوره بالمسئولية كنموذجٍ راقٍ لحاكمٍ مسلم الذي يخاف الله فيراعيه، ويتقي الله في حقوق رعيته بمنتهى الإخلاص والأمانة حيث واسى أسرى المسلمين لدى الروم، حيث شبههم بالمرابطين الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله تعالى، فهم بهذا ينالون أجر المرابطين وإلى جانب هذه المواساة المعنوية فإنه قد واساهم بالمال الذي أمدهم به، وأزاح الهمَّ عنهم وبما أخبرهم به من كفالة أسرهم في حال غيبتهم، كما أنه وعدهم جميعًا بمفاداتهم لفك أسرهم، وهذه معاملة كريمة يستحقها هؤلاء الأسرى الذين خرجوا بأنفسهم لحماية الإسلام ونصره.
10- قضاء ديون الغارمين:
كتب إلى عماله: أن اقضوا عن الغارمين فكتب إليه: إن نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته، فكتب عمر: لا بد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين، ففي هذا الخبر يأمر أمير المؤمنين عمر بقضاء الديون عن الغارمين وإن كانوا يملكون المسكن والأثاث والخادم والفرس، وهو مظهر عظيم من مظاهر الرحمة والمواساة، والاهتمام بشئون الرعية، وهكذا يتصرف الأئمة العادلون بأموال الأمة، حيث يغنون بها فقيرها ويجبرون به كسيرها، ويفكون بها أسيرها، ويقضون به عن معسرها، ويسدون به خلة معوزها.
11- خبر الأسير الأعمى عند الروم:
أرسل عمر بن عبد العزيز إلى صاحب الروم رسولاً، فأتاه وخرج من عنده يدور، فمر بموضع فسمع فيه رجلاً يقرأ القرآن ويطحن، فأتاه فسلَّم عليه فلم يرد عليه السلام- مرتين أو ثلاث- ثم سلَّم عليه فقال له: وأنَّى بالسلام في هذا البلد، فاعلمه أنه رسول عمر إلى صاحب الروم، قال له: ما شأنك؟ فقال: وإني أسرت في موضع كذا وكذا، فأُتي بي إلى صاحب الروم، فعرض عليَّ النصرانية فأبيتُ، وقال لي: إن لم تفعل سملت عينيك، فاخترت ديني على بصري، فسمل عيني وصيرني إلى هذا الموضع، يُرسل إليَّ كل يومٍ بحنطةٍ أطحنها وبخبزةٍ آكلها، فسار الرسول إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره، خبر الرجل، قال: فما فرغت من الخبر حتى رأيتُ دموع عمر قد بلَّت ما بين يديه ثم أمر، فكتب إلى صاحب الروم: أما بعد: فقد بلغني خبر فلان بن فلان فوصف