المتابعة الميدانية لمشهد محليات 29 نوفمبر 2012 ،والقراءة الموضوعية لنتائجها ،تدل دلالات واضحة على أن السلطة السياسية في الجزائر تؤكد باستمرار على أنها استثناء في المشهد السياسي العربي ،وأن ثقافة الحزب الواحد والرأي الواحد والوجه الواحد ،ماتزال مسيطرة على الفاعل السياسي الذي لم يستوعب الدرس ولم يعتبر مما يحدث في المنطقة من تحولات ،ويسارع الزمن من أجل ضمان نصاب البقاء مهما كانت وسائل تحقيق هذا الهدف ،حتى ولو كانت بتزوير الإنتخابات وتضخيم نسبة المشاركة فيها.
ورغم أن الاجواء التي تمت فيها هذه الانتخابات والتي أصدرت فيها الحركة بيانات موضحة ومحذرة من رهن الفعل الانتخابي وتمييع الممارسة السياسية بما فيها تسطيح النتائج ورفع وخفض بعض الأحزاب التي ولدت كبيرة وتساهم بعض الأطراف النافذة تسويق الانطباع بأن التيار الإسلامي تقهقر وتراجع وبالتالي لم يصبح يشكل خطر أي على السلطة بمنطق شعبي ،وكأن التيار الإسلامي برمته هو الخطر الداهم على السلطة كما يروج له خصوم الإسلام ودعاة العلمانية القادمة من بعيد بعد ان استنفذت أغراضها منذ بداية التعددية السياسية في الجزائر .
إن الحملة الانتخابية التي قادها مناضلو حركة مجتمع السلم كانت حملة متميزة عرفت اتصالا مباشرا بالمواطنين الذين أحاطوا بالمجريات واحتضنوا قوائم حركة مجتمع السلم وتكتل الجزائر الخضراء وبعض القوائم النزيهة ذات المصداقية ،ولكن يوم الاقتراع عرف تجاوزات خطيرة بالجملة كانت حاسمة على مستوى العتبة التي تقصى بها الأحزاب الصغيرة وهي (7 بالمئة).
وقد أصدرت حركة مجتمع السلم كتابا ابيض حول التجاوزات الكبيرة التي حدثت وهي موثقة بالصورة والصوت ،وفي المقابل جاءت ندوة الاعلان عن النتائج من طرف وزير الداخلية غامضة وغير مفهومة حيث غرقت في تفاصيل البلديات التي أحرزت فيها الأحزاب الأغلبية المطلقة ،وأهملت جوهر العملية الانتخابية المتمثلة في العشرة الأوائل من الأحزاب (ومنها حركة مجتمع السلم وتكتل الجزائر الخضراء ) الأصوات المعبر عنها لكل حزب ،وعدد المقاعد المؤكدة ،وراحت الندوة تبرر التجاوزات ولاسيما تلك المتعلقة بانتخابات الاسلاك النظامية محددة اياها في مجرد 77 ألف وكالة ولا ندري عدد الذين صوتوا بأنفسهم بالزي المدني ؟؟ وأغفلت الحجم الهائل لتلك الحافلات التي كانت تنقل جماعات الأسلاك إلى مكاتب الاقتراع في أغلب البلديات ،وأعطت هذه الندوة الانطباع بان هنالك تراجعا كبيرا لأصوات الإسلاميين وتقدم التيار العلماني عنهم في المحليات رغبة في تسويق صورة مضللة لا تعكس الحقيقة في الميدان .
ومن خلال هذه القراءة التحليلية لهذه الأرقام الرسمية الأولية المعلنة من طرف وزير الداخلية نستنتج ما يلي:
1. إن تسويق تراجع وتقهقر التيار الاسلامي وتقدم التيار العلماني بشكل ملفت بدا منذ أن كلف احد ممثلي هذا التيار باعتماد خطاب التخويف من التيار الاسلامي وعدم وجود فرق بين المعتدل والمتطرف ،وهو سياق نعرف الواقفين وراءه ،فالأرقام المعروضة تقول غير ذلك .
2. أن الخريطة السياسية ماتزال تقليدية ولم تتغير رغم رغبة البعض في تسويق ذلك عبر وسائل الاعلام.
3. أن حركة مجتمع السلم ماتزال تمثل خط الدفاع الاخير في مسار مقاومة كل أشكال ومخططات التيئيس والإحباط ومقاومة الاستقالة من العمل السياسي التي أحالت بعض الإسلاميين على البطالة السياسية دون أدنى مقاومة تذكر ،وصارت الحركة هي رأس الحربة في كل هذا التدافع غير المتكافئ ماليا وإعلاميا .
4. ان الحملة الانتخابية لمناضلي حركة مجتمع السلم التي جابت الأحياء والمداشر ووصلت إلى كل النقاط النائية عبرت بالفعل على حيوية الحركة وقدرتها على تجسيد مشروع مقاومة الاستقالة الجماعية لأبناء التيار الاسلامي عامة.
5. ان القراءة الموضوعية للارقام المعلنة من طرف وزارة الداخلية لايمكن قراءة الترتيب فيها بمعيار رئاسة البلدية على اعتبار أن المرتب أولا لم يحوز الا على 159 بلدية محسومة بالأغلبية الساحقة ،أما الباقي (أكثر من 1050 بلدية )فهو للتحالفات التي بدأت بعد الاعلان عن النتائج ،وان معيار عدد الاصوات المعبر عنها هو المعيار الصحيح لترتيب القوى السياسية ،حيث يرتب التيار الإسلامي المقاوم للاستقالة والتيئيس،في الرتبة الثالثة بعد كل من حزبي السلطة رغم التجاوزات التي حدثت وعدد البلديات التي اختارها للترشح السياسي ،( في حوالي نصف البلديات فقط )،وزيادة ساعة للتصويت في 29 ولاية ،مع ذلك فإن الرقم الانتخابي زاد بالنسبة لنتائج التشريعيات السابقة بحوالي مئة ألف صوت .
والخلاصة الأولية التي يمكن إستنتاجها من هذا العرض تتمحور حول فكرة أساسية هي أن سياسة الأمر الواقع تحولت إلى ثقافة إدارية عامة,والجديد في الخطاب السياسي – كما في الخطاب الإعلامي – هو وضع التيار الإسلامي كله في سلة واحدة والحديث المتواتر عن تقهقره مع أن الجميع يعلم أن هذا التيار هو الذي تحمل ضريبة المأساة الوطنية وصار جزء منه عازفا أصلا عن المشاركة وعن التصويت ،والجزء الآخر يعيش حالة من إعادة اكتشاف الذات بعد تجربة تعددية مختلة مازالت معالمها تتخلق في رحم الأحداث ،أما الخلاصة الثانية فهي أن العمل في المستقبل يجب أن ينطلق من الواقع كما هو بعد قراءته قراءة صحيحة وفحص مشهد السلطة والشهب والطبقة السياسية والفواعل غير الرسمية الأساسية الأخرى لصياغة مقاربة سياسية مجتمعية تساهم مساهمة فاعلة في إعادة الأمور الى نصابها وتصحح الوضع وقد تبدأ من وقفة كبيرة وواعية من طرف كل مكونات المجتمع السياسي والمدني مع فرصة مراجعة للدستور بتوضيح طبيعة نظام الحكم وتغيير قواعد اللعبة السياسية .
الهيئة الانتخابية الوطنية