دور الدبلوماسية الجزائرية إبان الثورة التحريرية وتأثيرها
على الحركات التحررية في العالم الثالث
ـ دور الدبلوماسية الجزائرية أثناء الثورة التحريرية: مما لا شك فيه أنه كان للعمل الدبلوماسي إبان الثورة التحريرية دور هام إن لم نقل رئيسيا في استقلال البلاد. فقد ساهمت التحركات الحثيثة لأعضاء جبهة التحرير الوطني في بلوغ الهدف المنشود الذي اندلعت من أجله الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر 1954، ألى وهو استقلال الجزائر. وإذا كان قادة جبهة التحرير الوطني عند تأكيدهم على ضرورة الإعتماد بالدرجة الأولى على العمل المسلح، فإن الأمور تغيرت مباشرة بعد حوالي 3 سنوات من اندلاع الثورة المجيدة، حيث عرفت هذه السنوات، لاسيما بعد مؤتمر الصومام، تحركات دبلوماسية ركزت بالخصوص على:
ـ عزل العدو في الميدان الدبلوماسي
ـ ربح أصدقاء جدد في الداخل والخارج
ـ الحصول على مساعدات مادية ومعنوية
ـ تدعيم مؤسسات الدولة الجزائرية قصد الإعتراف بالنظام السياسي لها.
ـ الضغط المتواصل ومداهمة الإستعمار بإستعمال سياسة الإنهاك الإعلامي.
ـ تدويل القضية الجزائرية
ـ حمل المعاناة الجزائرية والمحن الداخلية إلى الخارج من أجل إبلاغ الرأي العام الدولي بالأعمال الشرسة التي كان الجيش الفرنسي يرتكبها في حق الشعب الجزائري.
والجدير بالذكر أن الوضع الدولي السائد آنذاك والمتميز في الحرب الباردة، ساهم كثيرا في العمل الدبلوماسي، لأن وجود قطبين رئيسيين في العالم في ذلك الوقت، جعلا الأمور ملائمة ومواتية للتحرك الدبلوماسي. ويمكن أن نقول أن المؤتمر الآفروآسياوي الذي انعقد في 17 أبريل 1955 بباندونق (أندونيسيا) كان بمثابة نقطة انطلاق وتحول رئيسية في كفاح الشعب الجزائري والدور السياسي لجبهة التحرير، خاصة وأنه اختتم بإصدار بيان تضامني مع الثورة الجزائرية في حربها الدائرة ضد الإستعمار الفرنسي
والأكثر من هذا، يرى بعض الملاحظين والمحللين السياسيين أن التنظيم العسكري والسياسي وحتى الدبلوماسي الذي ميز جبهة التحرير وجيش التحرير بدأ بعد إنعقاد مؤتمر الصومام في 20 أغسطس 1956 على اعتبار أن المؤتمر أحدث تغييرات جذرية على هذا المستوى من خلال التقسيم الذي فرضه والذي بموجبه ضمت الولايات الثورية الست بعض ما كانت تسمى بالنواحي و المناطق و القسمات. وهذا ما سمح بتحقيق دفع إضافي للثورة إذ تم تحديد المهام بتسلسل ودقة سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الجانب ألمخابراتي والإتصالي فضلا على الجانب المتعلق بالتموين والإعلام والدعاية والتكوين إلى غير ذلك. كما تم تنصيب عدد من الهياكل بالجبهة من بينها "لجنة التنسيق والتنفيذ" (CCE)، حيث لعبت هذه الأخيرة في السنة الأولى من تنصيبها دور هيئة مهتمة بالشؤون الخارجية.
ومن هذا المنطلق، صارت الدبلوماسية الجزائرية وعلى رأسها الإعلام تلعب دورا حساسا رئيسيا يتمثل في التصريحات التي كان يدلي بها ممثلو جبهة التحرير الوطني، وكذلك الندوات الصحفية التي يعقدونها في مختلف العواصم الأجنبية.
كما استغل ممثلو جبهة التحرير الوطني في الخارج وسائل الإعلام في البلدان الشقيقة والصديقة لإبراز الإنطلاقة والتعريف بالثورة الجزائرية وبأهدافها وأبعادها الحقيقية. فقد نظمت الجبهة برامج إذاعية بعنوان "صوت الجزائر" باللغة العربية تبث من الرباط وتطوان وطنجة بالمغرب الأقصى وأيضا من تونس والقاهرة.
وقد ظلت هذه البرامج تذاع حتى بعد إنشاء الإذاعة السرية للثورة في قلب الجزائر عام 1957. كما كانت هناك إذاعات للدول الصديقة تذيع أخبار الثورة الجزائرية بلغات متعددة وفي مقدمتها إذاعة بودابست (Budapest ) السرية التي كانت تذيع برامجها تحت عنوان: "صوت الإستقلال والحرية".
وقد خدمت هذه البرامج الإذاعية الثورة الجزائرية خير خدمة.
فكانت أداة فعالة لغرس روح النضال وتقوية الإيمان بالنصر ورفع معنويات الجماهير الجزائرية في الداخل والخارج وحشدها وراء الثورة، وكانت أيضا خير وسيلة لتمرير الدور الدبلوماسي لقادة الثورة الجزائرية.
كما دعمت جبهة التحرير الوطني جهازها الإعلامي بإصدار صحيفتي: "المجاهد" في سنة 1956 والمقاومة الجزائرية " في سنة 1955 والتي كانت لسان حال جبهة التحرير الجزائرية للدفاع عن شمال إفريقيا كلها.
هذا، وقد تمكنت المقاومة بفضل توجيهها من قبل القادة السياسيين والدبلوماسيين المحنكين في الداخل والخارج، في ظرف قصير، بالرغم من عملها الشاق والعسير أن تحقق رواجا وانتشارا كبيرا عبر كل الوسائل المتاحة لها من كتب، وشعر ومسرح، وسينما، وكذا النشرات التي أصبحت متواجدة عبر أنحاء العالم، ومنها من ترجمت إلى عدة لغات لإقناع الرأي العام الداخلي والخارجي بشرعية الثورة الجزائرية و عدالتها.
وكان ذلك، إن دل على شيء، فإنما كان يدل على إرادة قادة الجبهة في ضرورة الرد الفوري على أجهزة الإعلام الغربية المنحازة لوجهة النظر الفرنسي، كما كانت موجهة للشعب الفرنسي كذلك. وبفضل تلك النشاطات الثقافية والإعلامية والتحسيسية تمكنت قيادة الجبهة والجيش أن تقدم للرأي العام الدولي صورة متكاملة لكفاح الشعب الجزائري الشرعي وبسط الجرائم البشعة للإستعمار وحق الشعب في تقرير مصيره بنفسه. كما استطاعت الدبلوماسية الجزائرية آنذاك أن تدق أبواب أوروبا والأمم المتحدة بنيويورك، وأن تنتزع وتكسب حماس الشعوب وقناعتها بعدالة القضية الجزائرية.
ولعل أول انتصار دبلوماسي على المستوى الدولي بالنسبة لقيادي جبهة التحرير الوطني، كان إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الجلسة العاشرة للأمم المتحدة، وكان ذلك في 20 سبتمبر سنة 1957 وتزامن هذا الحادث مع إضراب التجار في الجزائر. كما مكنت هذه الواقعة بإسماع صوت الجزائر وإخراج المسألة من أيادي الفرنسيين الذين كانوا دائما يتخوفون من حدوث هذا النوع من المسائل الحرجة وإبرازها إلى العالم بحيث كانوا يروجون الى حلفائهم بأن القضية الجزائرية شأن داخلي فرنسي.
ولقد كان للدبلوماسية الجزائرية تأثير كبير في تحول المواقف التي كانت الإدارة الفرنسية تروج لها في شأن الذين أسمتهم "بالفلاقة" (الخارجين عن القانون) حيث عمدت في الأخير إلى إجراء أول لقاء سري مع محمد يزيد الذي كان يمثل الجبهة في الأمم المتحدة بنيويورك، وذلك في 21 يونيو من سنة 1956.
وقد ظهرت قوة الدبلوماسية الجزائرية إبان الحرب التحريرية في أول تحرك للهيئة الأممية بشأن القضية الجزائرية ،حيث أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة لائحة في 15 أكتوبر 1957 تدعو فيها إلى إيجاد حل سلمي وديمقراطي للقضية الجزائرية التي صارت تشكل صداعا للعالم. وهو الأمر الذي دفع قادة الجبهة إلى التركيز على الخارج وربح معركة أخرى، معركة مواجهة الرأي العام الدولي، حيث أنه بعد شهر من لائحة الأمم المتحدة، خرجت لجنة التنسيق والتنفيذ التابعة لجبهة التحرير الوطني إلى الخارج قصد إعطاء بعث قوي للعمل الدبلوماسي.
كما ساهمت التقارير التي كانت تصدر وتنشر عن مختلف عمليات التعذيب والإبادة الجماعية الممارسة من قبل الجيش الوحشي الفرنسي في تجنيد المتطوعين في الخارج وتحسيس الرأي العام الدولي حول القضية الجزائرية سواء في الدول العربية الشقيقة أو الدول الصديقة.
وهكذا كانت سنة 1957 هي سنة الجزائر في الأمم المتحدة، فقد عرضت مرتين قضية الجزائر على الأمم المتحدة في الدورتين الحادية عشر والثانية عشر، واستمر طرح القضية بعد ذلك في كل دورة من دورات هيئة الأمم المتحدة وذلك نتيجة الكفاح السياسي والدبلوماسي الذي لعب، إن لم نقل الدور الأساسي، بل الدور الأهم في الكفاح لخدمة القضية الجزائرية وإظهار حقيقتها.
وكان عدد أنصار الجزائر المكافحة يتزايد في كل مرة، في حين كان موقف فرنسا يتزايد تقهقرا وحرجا حتى أمام حلفائها، الأمر الذي أرغم حلفاء فرنسا في النهاية إلى التخلي عنها، وكان للعزلة الدولية التي منيت بها فرنسا دورها في التأثير على السياسة الفرنسية التي وجدت نفسها مضطرة لإعادة النظر في مواقفها. وقد لايتسع المجال هنا لعرض مراحل الصراع السياسي والدبلوماسي للجزائر على المستوى الدولي. وعلى هذا الأساس، يكون من المناسب ذكر بعض الانتصارات الدبلوماسية للجزائر الثورية وبالتالي الهزائم الدبلوماسية التي لحقت بالحكومة بالفرنسية، نذكر منها خاصة:
1/ التقرير الذي بعثه السيناتور جون كنيدي الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، حيث إتهم فيه كنيدي أمام الكونغرس، السياسية الفرنسية فيما يخص موقفها الإستعماري المتعنت والسياسة التي إلتزمتها الولايات المتحدة تجاه هذه المسألة. مما بدأ يغير مجرى الأحوال عبر العالم لاسيما في الدول الغربية.
2/ مذكرة بتاريخ 23 نوفمبر 1960 موجهة من طرف أعضاء البرلمان السويدي إلى الوزير الأول مطالبين حكومتهم التدخل لدى هيئة الأمم المتحدة لوقف الإعتداءات الفرنسية وإيجاد حل سلمي للقضية الجزائرية.
3/ الندوات الصحفية ووسائل الإعلام التي جندتها الجبهة للرأي العام الدولي ضد الحرب الفرنسية في الجزائر وإعطاء أرقام عن الشهداء والأسرى وحرق الأراضي وعدد المحتشدات، مما أعطى إحصائيات حقيقية للدمار الإستعماري ونظرة حقيقية للعمليات العسكرية والفدائية في المدن والمناطق الجبلية التي جعلت العدو لا يستقر ولا يهدأ له بال، إلى غير ذلك من الإتصالات المباشرة مع عواصم العالم.
4/ تنصيب البعثات والوفود الجزائرية في الخارج والتي كانت من جملة مهامها توسيع أعمال الجبهة السياسية منها لفت نظر العالم والإتصال الدائم بالهيئات الدبلوماسية للدول الشقيقة والصديقة والغربية وكذا الحكومات المركزية التابعة للدول حيث كان يوجد ممثل الثورة الجزائرية.
5/ تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA) في 26 سبتمبر 1958، وكان ذلك من نتائج الدبلوماسية الجزائرية حيث كان عملها الأساسي هو إسماع الصوت الرسمي للمثل الرئيسي للشعب الجزائري على المستوى الدولي. فقد عمد فرحات عباس الذي كان يترأس الحكومة المؤقتة آنذاك إلى إجراء عدد من اللقاءات والزيارات للوفود الجزائرية في الخارج، منها زيارة الوفد إلى بكين وموسكو وبلغراد ونيودلهي إلى غير ذلك من عواصم الدول الصديقة والعربية الشقيقة. وقد سجلت هذه الحكومة الفتية أول عمل دبلوماسي لها في هيئة الأمم المتحدة إذ أسمعت صوت ملايين الجزائريين فيما يخص الإستفتاء الذي اقترحه الجنرال دي غول رئيس الجمهورية الفرنسية انذاك في 16 سبتمبر 1959.
6/ القرار الذي أصدرته هيئة الأمم المتحدة بتاريخ 19/12/1960 (أثناء الدورة الحادية عشرة) والذي تضمن مايلي:
أولا: "إن الجمعية العامة قد أحيطت علما بأن الفريقين قد وافقا على تقرير المصير كأساس لحل القضية الجزائرية ووافقت على هذا المبدأ".
ثانيا: إن الجمعية العامة قد أكدت الحاجة القصوىّ لوضع الضمانات الفعلية المناسبة التي تكفل تطبيق مبدأ تقرير المصير بنجاح وعدالة، على أساس الإعتراف بالوحدة والسلامة الإقليمية للجزائر.
7/ النصر الدبلوماسي إثر انضمام الجزائر المكافحة إلى إتفاقيات جنيف في 20 جويلية 1960 الذي حققته في القصر الفيدرالي بمدينة بارن (BERNE) السويسرية والذي كان له إنعكاسات كبيرة بحصولها على تسجيل حكومة سويسرا وثائق إنضمام الحكومة المؤقتة إلى إتفاقيات جنيف الأربعة المبرمة في 12 أغسطس 1949 بشأن حقوق الإنسان.
يقول الأستاذ محمد بجاوي ا لذي صار فيما بعد وزيرا للعدل في الجزائر المستقلة و رئيس محكمة العدل الدولية ثم وزيرا للخارية قبل اعتزاله عن السياسة : " كانت هذه الإتفاقيات تنظم سلوك المتحاربين وأسرى الحرب وحقوق الإنسان، وكان الإنضمام إلى هذه الإتفاقيات ، يعد في سياق ذلك العهد، نصرا سياسيا ودبلوماسيا وقانونيا هائلا، وكان لا يبدو في متناول أي حركة تحررية في ذلك العهد".
ومن الميادين التي تحقق فيها النجاح كاملا ـ يضيف محمد بجاوي ـ على الرغم من قيود وقواسر الحياة في الجبال ميدان معاملة أسرى الحرب. وكان الإفراج على الأسرى عندما يتقرر يستلزم عبور الجزائر بكاملها عبر مخاطر الجبال حتى حدود التراب التونسي أو التراب المغربي، حيث يسلمون للجنة الدولية للصليب الأحمر". أما فيما يخص الأسرى من جنسيات أخرى غير الجنسية الفرنسية، يضيف السيد بجاوي، فقد برزت الحكومة المؤقتة في شأنهم بعمل إنساني جدير بالتنويه، حيث أنشأت مصالح كثيرة لإعادة هؤلاء الشباب من "فيلق اللفيف الأجنبي" (LégionEtrangère) إلى أوطانهم عبر الحدود المجاورة. ويقدر الأستاذ بجاوي الذين وصلوا إلى الحدود الغربية وحدها إلى رقم 3299 جندي بحلول يوم 23 جويلية 1960.
وعلى هذا الأساس، وبعد تكثيف العمليات العسكرية بالضربات القاصمة للقوات المستعمرة المرة تلو الأخرى والضربات الدبلوماسية المحنكة، بدأت مباحاثات إفيان (Evian) التي سنطرحها في مايلي:
وقبل أن نتكلم عن المفاوضات الرسمية التي سطرت الطريق إلى الحرية والاستقلال، بودنا أن نقول أن بعض الأحداث المتتالية و المبرمجة من طرف الجبهة جعلت نفسها تفرض قوة المفاوضات وأسلوب المباحثات بين الطرفين الفرنسي والجزائري.
أولا: مظاهرات 11 ديسمبر 1960 التي كانت حاسمة في:
1/إقامة الدليل للحكومة الفرنسية على أنه لا توجد أي قوة سياسية بالجزائر تتمتع بثقة الشعب ماعدا جبهة التحرير الوطني، وإلى هذا يرجع بعض الباحثين عزم الرئيس الفرنسي دي غول على التفاوض مع الجبهة.
2/ دفع الإستعماريين إلى الظهور بمظهرهم الحقيقي الذي بدأ من خلال عمليات منظمة الجيش السري الإرهابي(OAS) التي فقدت كل امال في التشبت في البقاء داخل هذه البلاد وبدأت تنتهح سياسة الأرض المحروقة.
ثانيا: مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بباريس بقلب فرنسا والتي واجهتها قوات الأمن تحت قيادة السفاح موريس بابون (Maurice Papon) حاكم مدينة باريس بكل وحشية، مما حطم سمعة?? فرنسا المتحضرة ?? .
ومن هذا المنطلق، أخذت الحكومة المؤقتة على عاتقها مبدأ الأمم المتحدة بصدور قرار أعلنت من خلاله إستعدادها للدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية على أساس تقرير المصير والاستقلال.
في الحقيقة، كانت هناك مراحل عديدة للمحادثات الجزائرية الفرنسية منها:
1/ الإتصالات السرية:
*قبل أن تعترف فرنسا رسميا بممثلي الشعب الجزائري كطرف محارب، تم الإتصال الأول في 12 أبريل 1956 بالقاهرة بين جوزيف بيغارا، النائب الإشتراكي في البرلمان الفرنسي والسيد محمد خيضر ممثل الجبهة.
*وكان الإتصال الثاني في 25 جويلية 1956 ببلغراد بين محمد يزيد وأحمد فرانسيس عن الجبهة وبيار كومين، نائب الأمين العام للحزب الإشتراكي الفرنسي وبيار هيربوت من الجانب الفرنسي.
*أما الإتصال الثالث، فكان في 20 سبتمبر 1956 بروما بين محمد خيضر ومحمد يزيد وعبد الرحمن كيوان من جبهة وبين بيار كومين وبيار هيربوت من جهة أخرى.
*وتم الإتصال الرابع في 22 سبتمبر 1956 ببلغراد بين محمد خيضر والأمين دباغين من جهة وبين بيار هيربوت من جهة أخرى.
لكن هذه الإتصالات توقفت بعد عملية القرصنة الجوية في 22 أكتوبر1956 حيث ألقي القبض على الزعماء الخمسة بن بله و رفاقه.
والجدير بالذكرأنه بعد مجيء الجنرال دي غول إلى الحكم باشر الإتصال مع جبهة التحرير قائلا أنه مستعد ليبحث معها إيقاف القتال على أساس الإنتخابات ثم المفاوضات. فكان الإجتماع ما بين 20 أغسطس و20 أكتوبر 1958، وكان ذلك بمجرد "سياسة إدماج في ثوب جديد" بعدما كان يريد من وراء ذلك ربح الوقت في هدنة وإيقاف إطلاق النار ضمن إعلانه عن "سلم الشجعان". لكن فرحات عباس رد عليه بأنه نسي أن الشعب الجزائري قد رفض الإدماج في أشد حالة ضعفه، فكيف يقبله اليوم وثورته في عامها الرابع أسمعت العالم دجيجها وأهدافها. ولقد كان هذا الرد بمثابة صفعة قاسية لكل من كان يشك في إستقلال الجزائر. فقال قولته الشهيرة: " أفضل أن نكون 10 ملايين من الجثث على أن نكون عشرة ملايين من الفرنسيين".
وبذلك عرف دي غول أن هذا الطريق غير مُجد فقطع إتصلاته السرية، إلى أن جاء اليوم المعلوم لبدء مفاوضات حقيقية على أسس متكافئة بين الطرفين، حيث أعربت الحكومة المؤقتة عن إستعدادها للعمل على تصفية المعضلة طبقا لروح هذا المبدأ المقبول قصد توقيف إطلاق النار وتحديد الشروط والضمانات لتقرير المصير وتحقيق الإستقلال.
2/ المفاوضات الرسمية:
من الواضح أن فرنسا حاولت أن تخلق قوة ثالثة موالية لها لتضمن مصالحها ولم تعترف بجبهة التحرير كممثل للشعب الجزائري. ولما أبطلت الجبهة هذه المحاولة الأخرى، أضطر ديغول أن يعرض علانية في 20 نوفمبر 1959 على قادة الثورة التفاوض من أجل إنهاء المعارك و"محاولة تبييض صورة فرنسا سياسيا ودبلوماسيا". فردت عليه الحكومة المؤقتة بتعيين الوزراء الخمس بن بله و رفاقه المعتقلين بفرنسا لإجراء هذه المفاوضات، لكنه رفض وقال أنه لا يتفاوض مع رجال يوجدون خارج المعكرة متمسكا برأيه، وهو أن الحكومة المؤقتة لاتمثل كل الجزائريين. لكنه في الأخير لمس الحقيقة بنفسه عند زيارته للجزائر في ديسمبر 1960 ليشرح سياسته الجديدة فاستقبلته جموع الجزائريين وهي تحمل العلم الجزائري وشعارات جبهة التحرير الوطني. فعاد إلى فرنسا وهو مقتنع بإستحالة سياسته الجديدة.
يقول المفكر الفرنسي المشهور جاك بيرك (Jacques Berques)"مع من يتعين علينا أن نتفاوض ؟ مع الخصم بالطبع، ولايعني ذلك أن نعتبره الممثل الرئيسي والوحيد. إن الشعب الجزائري بكامله هو الذي له أن يحدد مستقبله بنفسه، ولكن القوة التمثيلية لجبهة التحرير أو الحكومة الجزائرية المؤقتة أو كيفما دعوناها تعتبر كافية لإنهاء الصراع وبالتالي إجراء المفاوضات حتميا معها... ثم يعرض هذا البروتوكول للإستشارة الشعبية".
ونظرا لهذا الصراع النفسي والسيساي والدبلوماسي بين فرنسا الإستعمارية ودبلوماسية جبهة التحرير الوطني، فإنه سيكون من المعقول الوصول حتما إلى مفاوضات رسيمة حقيقية ..أولا: مفاوضات مولان : (MELUN)
في 14 يونيو1960، دعا الجنرال دي غول، في خطاب له، قادة الثورة الجزائرية للقدوم إلى فرنسا، فوافقت الحكومة المؤقتة في 20 من نفس الشهر، وتم تحديد مدينة مولان MELUN الفرنسية للقاء بين أحمد بومنجل ومحمد بن يحي للتمهيد للمفاوضات، وذلك من 25 إلى 29 من نفس الشهر، واصطدم الوفد الجزائري بالموقف الفرنسي الذي كان مراده جس النبض ومعرفة مدى صلابة وتمسك الثورة بمبادئها.
ثانيا: كما تم لقاء آخر في لوسيرن (LUCERNE) بسويسرا في نهاية 1960 بين أحمد بومنجل والطيب بولحروف وممثلي فرنسا جورج بومبيدو وهوبير لويس، وكانت هذه الجولة أكثر جدية من سابقتها وعلى قدم المساواة، ولكن هذا اللقاء لم ينجح كون فرنسا طرحت "تسليم الإستقلال دون الصحراء"، وهي مسألة مبدئية في دبلوماسية الثورة الجزائرية. مما أرغم فرنسا على الإعتراف بالجبهة والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ثالثا: مفاوضات الأولى (Evian)
أعلنت الحكومة المؤقتة في 3 مارس 1961 أن وقف إطلاق النار لن يتم إلا بالمفاوضات بين الحكومتين. وكان على الجانب الجزائري أحمد بومنجل والطيب بولحروف، وجورج بومبيدو GeorgesPompidou وبرونو دولوس Bruno De Leus عن الوفد الفرنسي. وقـد اتفقوا عـلى بـدأ المفاوضات في إفيان مـن 20 مـاي إلى 13 جوان 1961، ثم توقفت نظرا لإسرار فرنسا على فصل الصحراء عن الجزائر (وهي إعادة إثارة الأسطورة القديمة أي الصحراء الفرنسية وفصلها عن الجزائر الأم، (لاسيما بعد إكتشاف ثرواتها النفطية) وكذلك إصرارها على منح الجنسية المزدوجة للأقلية الأوروبية في الجزائر مما يجعل منها دولة داخل دولة، وكذا تهديدها بتقسيم الجزائر إلى "قطاعات جزائرية" (Territoires Alg?riens)،مع الاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية إلى الأبد.
وقد شهدت الجزائر أثناء هذه المفاوضات من الرابع إلى السابع يونيوتحركات سياسية ودبلوماسية كثيفة، لكن المفاوضات توقفت في 12 جوان "لأن فرنسا كان تريد في المفاوضات الأولى استقلالا شكليا مزيفا، مما أدى إلى تأجيل هذه المفاوضات إلى أجل غير مسمى، مع العلم أن إرادة دي غول وعزيمته الأولية والرئيسية هي: الحصول على توقيف عاجل للإطلاق النار، منذ مجيئه إلى الحكم.
كما كانت هناك بعض المبادرات من بعض الأقطار المجاورة للضغط على الحكومة الجزائرية للتنازل وقبول الحل الفرنسي.
لكن رد الفعل كان سريعا على هذا التدخل حيث قام الشعب الجزائري بمظاهرات مساندة للوفد ومنددة بالتعنت الفرنسي الذي يدل على سوء النية في إيجاد حل للقضية الجزائرية.
رابعا : مفاوضات "لوغران" (LUGRIN)
ثم استؤنفت المفاوضات في جويلية بـلوغران "LUGRIN" قرب الحدود السويسرية، واستمرت هذه المرة أكثر من أسبوع، ثم انقطعت من جديد من أجل إصرار فرنسا على فصل الصحراء باعتبار الصحراء مشكلة قائمة ستسوى هذه المرة فيما بعد بين الجزائر المستقلة وفرنسا، وكان ذلك في 20/07/1961.
خامسا: مفاوضات إيفيان الثانية EVIAN:
وأخيرا في 02 أكتوبر 1961 تراجع الجنرال دي غول عن رأيه في مؤتمر صحفي بضرورة التفاوض مع الجبهة على أساس استقلال الجزائر، كل الجزائر بما فيها الصحراء.
وقد اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية (CNRA) في طرابلس من 09 إلى 24 أغسطس 1961 تم فيه تغيير الحكومة الجديدة برئاسة بن يوسف بن خدة عوض فرحاة عباس وتمت إتصالات سرية بين الحكومة المؤقتة والحكومة الفرنسية اتفقتا على اللقاء في إفيان للمرة الثانية وتمت على مرحلتين:
1/ من 11 إلى 19 فبراير 1962، وبعدها استدعي المجلس (CNRA) في دورة استثنائية بطرابلس من 22 إلى 27 من نفس الشهر حيث حرر مشروع الإتفاقية ومناقشته والمصادقة عليه.
2/ ومن 07 مارس إلى 18 مارس 1962، تم الاتفاق على مفاوضات إيفيان وتوقيعها بين الطرفين. ومن ثم الإتفاق على النقاط التالية:
* وقف إطلاق النار في منتصف يوم الإثنين 19 مارس 1962
* وحدة التراب الوطني
* إستقلال الجزائر إستقلالا تاما داخليا وخارجيا بعد استفتاء يجرى بعد فترة انتقالية قصيرة
* الإفراج عن المعتقلين في فرنسا والجزائر في مدة أقصاها 20 يوما
* إقامة علاقات مبنية على الإحترام المتبادل بين الطرفين
* اختيار الجنسية للأوروبيين مع احترام تقاليدهم ودينهم ولغتهم
* الإتفاق على بقاء البحرية العسكرية الفرنسية في المرسى الكبير بوهران لمدة 15 سنة وإجلاء القوات الفرنسية حسب جدول مضبوط.
دور الثورة الجزائرية في تحرير إفريقيا وبعض دول العالم الثالث
بعد إمضاء إتفاقية جنيف حول الهند الصينية عام 1954، إتجه رئيس الحكومة الفرنسية انذاك مانداس فرانس إلى تونس وصاحب معه المارشال جوان "صاحب التجارب الفاشلة"، وأعلن هناك منح تونس إستقلالا ذاتيا داخليا لمدة عشرين سنة. ولكن الشعب التونسي لم يرض بهذا الإستقلال المبتور، بينما تقوم بجواره ثورة في المغرب الأقصى والجزائر خاصة بعد أحداث 20 أغسطس 1955 في الشمال القسنطيني الجزائري. واضطرت فرنسا أن تعترف بالاستقلال التام للمغرب الأقصى وعاد الملك محمد الخامس من منفاه من مدغشقر مرفوع الرأس.
يقول المؤرخ الجزائري الدكتور يحيى بوعزيز ??إن هذه الأحداث المزدحمة بالمغرب الأقصى والجزائر كانت حافزا للرئيس التونسي بورقيبة ليشد الرحال إلى باريس وينتزع من "قي مولي" رئيس الحكومة الفرنسية الإستقلال لتونس، ولم يكن في ذلك تردد آخر لفرنسا، وقد غرقت هذه الأخيرة في أحداث ثورة الجزائر المظفرة وضربات جيش التحرير في كل بقعة. وهكذا، تخلصت فرنسا من ثورتين شرقا وغربا للجزائر لهدف رئيسي وحتمي وهو: التفرغ لقمع هذه الثورة المشتعلة في أكبر دولة في المغرب العربي، والتي تربطها بها مصالح كبيرة إقتصاديا، وثقافيا وجغرافيا واستراتيجيا ??.
وعندما انتصر الاشتراكيون في انتخابات مطلع عام 1956، توقع المراقبون أن تعصف فرنسا بثورة الجزائر، ولكن قادة الثورة المباركة كانوا يعرفون كل المعرفة أنها سوف لن تفعل شيئا، لأن الاشتراكيين واليسار الفرنسي بصفة عامة لايختلفون عن أحزاب اليمين الفرنسي تجاه الجزائر وثورتها، ولم يكونوا يفكروا في حل جذري لقضيتها، لأن" قي مولي"، الأمين العام للحزب الإشتراكي آنذاك، ورئيس الحكومة الفرنسية الجديدة، و روبار لاكوست الإشتراكي الآخر صاحب خرافة "الربع الساعة الأخير" (le dernier ? d?heure) للقضاء على الثورة الجزائرية وكذا الفيلسوف جاك سوستال الذين غرقوا في أدغال الثورة المريرة التي بقيت تدوس كل القوات الإستعمارية سواء المسلحة أو السياسية منها، وتسقط 7 حكومات فرنسية متتالية وتطيح بالجمهورية الفرنسية الرابعة بأكملها. وهذه الحكومات هي:
ـ حكومة مانداس فرانس (Mend?sFrance) ـ حكومة قي مولي الأولى (Guy Mollet ) ـ حكومة برجاس مونوري (BorgesMaunoury ) ـ حكومة إدغار فور (Edgar Faure) ـ حكومة فيليكس قايار (F?lix Gaillard ) حكومة قي مولي الثانية (Guy Mollet ) وحكومة ميشال دوبري ) (Michel Debr?.
فقد امتد التعفن السياسي والدبلوماسي في فرنسا داخليا وخارجيا وحتى في الجيش الفرنسي الذي أصبح يشعر بالمرارة من الهزائم النكراء التي توالت عليه. وبفضل إستراتيجية الثورة وعملها السياسي والدبلوماسي عبر القنوات المتعددة في الداخل والبعثات في الخارج، وصل الأمر إلى تمرد ضباط وجنرالات الجيش الفرنسي بالجزائر صباح يوم 13 ماي 1958، حيث جاؤوا بالجنرال دي غول إلى الحكم من قريته العزولة deuxEglises) (ColombeyLes لينقذهم من ردود فعل الثورة وشراستها ويحمي لهم مابقي مما سموه "بالجزائر الفرنسية".
ولكنه كان يمتاز بنظريته البعيدة لمصالح فرنسا الداخلية والخارجية فأكثر من التردد على الأرض المستعمرة (الجزائر) ليطلع بنفسه على الأمر الواقع و يتبعه عن كثب.
وكمحاولة لتحدي الثورة الجزائرية، والتفرغ لمواجهتها، إلتفت فرنسا تحت قيادة الجنرال دي غول إلى مشاكل المستعمرات الفرنسية الأخرى في إفريقيا للتخلص منها والاهتمام بالمستعمرة الكبرى التي كانت تعتبرها قطعة لا يمكن أن تنفصل عن فرنسا أبدا
. ويقول المؤرخ يحي بوعزيز في هذا الشأن: "كانت شعوب المستعمرات قبل إندلاع ثورة نوفمبر الجزائرية شبه نائمة ومستكينة لسبات الغفلة والتخلف، فأيقظتها هذه الثورة بضجيجها وهديرها وتساءلت عما يجري في شمال قارتها..."
ويضيف يحي بوعزيز: "كانت صيحة "لا" (Non) أثناء الإنتخابات التي أعلنها شعب غينيا عام 1958 مع أحمد سيكوتوري(SEKOU TOURE) بداية لمسيرة شعوب القارة السمراء نحو التحرر وتحقيق الإستقلال الوطني. واضطر دي غول أن يعترف بهذا الواقع وبحق شعب غينيا في الإستقلال والإنفصال عن فرنسا... وقد أقحم الجنرال دي غول البلدان الإفريقية فيما سماه "بالإتحاد الإفريقي" حتى لا تفلت منه ويوقف إمكانيات فرنسا كلها لمحاربة الثورة الجزائرية وحدها وتصفية حسابها لوحدها. ولكن العكس هو الذي حصل ،فبعد تجربة غينيا الناجحة، أخذت باقي الشعوب الإفريقية الأخرى تعلن صيحتها وتطالب بحقها في الإستقلال والحرية... ولما عم الغضب سائر بلدان إفريقيا، إضطرت فرنسا أن تسلم الإستقلال بالجملة وأمضى رئيس وزرائها ميشال دوبري في ظرف عام واحد (1960) على إستقلال 12 بلدا إفريقيا، وهي:
مالي ـ سينغال ـ فلطا العليا ـ ساحل العاج ـ الداهومي ـ إفريقيا الوسطى ـ تشاد ـ النيجر ـ الغابون ـ الكونغو (برازافيل) ـ الكامرون ـ وموريتانيا.
"ولم يكن هذا الإعتراف كرما وسخاء من فرنسا ـ يقول بوعزيزـ وإنما بفضل الثورة الجزائرية التي كانت بمثابة البعبع ينطحها ويشبعها ركلا ورغسا من كل جانب".
وكانت فرنسا تظن وتتصور أن التخلص من هذه الدول الإفريقية يتيح لها الفرصة والقوة لكي تطعن ثورة الجزائر وتقضي عليها، وجاءت الفائدة مزدوجة، فتحررت إفريقيا كلها من رجس الإستعمار الفرنسي والبريطاني، والبلجيكي، وحتى الإسباني والبرتغالي.
وهكذا، يمكننا القول بأن ثورة أول نوفمبر 1954تعتبر من الأحداث العالمية الكبرى في التاريخ المعاصر. فانعكست آثارها الحسنة والإيجابية على معظم شعوب العالم إن لم نقل العالم الثالث ، وخاصة في إفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية،بل صارت تمثل تجربة رائدة في الكفاح الوطني ضد الإستعمار وفي المواقف البناءة والدءوبة تجاه القضايا العالمية العادلة والمحبة للسلام.
على الحركات التحررية في العالم الثالث
ـ دور الدبلوماسية الجزائرية أثناء الثورة التحريرية: مما لا شك فيه أنه كان للعمل الدبلوماسي إبان الثورة التحريرية دور هام إن لم نقل رئيسيا في استقلال البلاد. فقد ساهمت التحركات الحثيثة لأعضاء جبهة التحرير الوطني في بلوغ الهدف المنشود الذي اندلعت من أجله الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر 1954، ألى وهو استقلال الجزائر. وإذا كان قادة جبهة التحرير الوطني عند تأكيدهم على ضرورة الإعتماد بالدرجة الأولى على العمل المسلح، فإن الأمور تغيرت مباشرة بعد حوالي 3 سنوات من اندلاع الثورة المجيدة، حيث عرفت هذه السنوات، لاسيما بعد مؤتمر الصومام، تحركات دبلوماسية ركزت بالخصوص على:
ـ عزل العدو في الميدان الدبلوماسي
ـ ربح أصدقاء جدد في الداخل والخارج
ـ الحصول على مساعدات مادية ومعنوية
ـ تدعيم مؤسسات الدولة الجزائرية قصد الإعتراف بالنظام السياسي لها.
ـ الضغط المتواصل ومداهمة الإستعمار بإستعمال سياسة الإنهاك الإعلامي.
ـ تدويل القضية الجزائرية
ـ حمل المعاناة الجزائرية والمحن الداخلية إلى الخارج من أجل إبلاغ الرأي العام الدولي بالأعمال الشرسة التي كان الجيش الفرنسي يرتكبها في حق الشعب الجزائري.
والجدير بالذكر أن الوضع الدولي السائد آنذاك والمتميز في الحرب الباردة، ساهم كثيرا في العمل الدبلوماسي، لأن وجود قطبين رئيسيين في العالم في ذلك الوقت، جعلا الأمور ملائمة ومواتية للتحرك الدبلوماسي. ويمكن أن نقول أن المؤتمر الآفروآسياوي الذي انعقد في 17 أبريل 1955 بباندونق (أندونيسيا) كان بمثابة نقطة انطلاق وتحول رئيسية في كفاح الشعب الجزائري والدور السياسي لجبهة التحرير، خاصة وأنه اختتم بإصدار بيان تضامني مع الثورة الجزائرية في حربها الدائرة ضد الإستعمار الفرنسي
والأكثر من هذا، يرى بعض الملاحظين والمحللين السياسيين أن التنظيم العسكري والسياسي وحتى الدبلوماسي الذي ميز جبهة التحرير وجيش التحرير بدأ بعد إنعقاد مؤتمر الصومام في 20 أغسطس 1956 على اعتبار أن المؤتمر أحدث تغييرات جذرية على هذا المستوى من خلال التقسيم الذي فرضه والذي بموجبه ضمت الولايات الثورية الست بعض ما كانت تسمى بالنواحي و المناطق و القسمات. وهذا ما سمح بتحقيق دفع إضافي للثورة إذ تم تحديد المهام بتسلسل ودقة سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الجانب ألمخابراتي والإتصالي فضلا على الجانب المتعلق بالتموين والإعلام والدعاية والتكوين إلى غير ذلك. كما تم تنصيب عدد من الهياكل بالجبهة من بينها "لجنة التنسيق والتنفيذ" (CCE)، حيث لعبت هذه الأخيرة في السنة الأولى من تنصيبها دور هيئة مهتمة بالشؤون الخارجية.
ومن هذا المنطلق، صارت الدبلوماسية الجزائرية وعلى رأسها الإعلام تلعب دورا حساسا رئيسيا يتمثل في التصريحات التي كان يدلي بها ممثلو جبهة التحرير الوطني، وكذلك الندوات الصحفية التي يعقدونها في مختلف العواصم الأجنبية.
كما استغل ممثلو جبهة التحرير الوطني في الخارج وسائل الإعلام في البلدان الشقيقة والصديقة لإبراز الإنطلاقة والتعريف بالثورة الجزائرية وبأهدافها وأبعادها الحقيقية. فقد نظمت الجبهة برامج إذاعية بعنوان "صوت الجزائر" باللغة العربية تبث من الرباط وتطوان وطنجة بالمغرب الأقصى وأيضا من تونس والقاهرة.
وقد ظلت هذه البرامج تذاع حتى بعد إنشاء الإذاعة السرية للثورة في قلب الجزائر عام 1957. كما كانت هناك إذاعات للدول الصديقة تذيع أخبار الثورة الجزائرية بلغات متعددة وفي مقدمتها إذاعة بودابست (Budapest ) السرية التي كانت تذيع برامجها تحت عنوان: "صوت الإستقلال والحرية".
وقد خدمت هذه البرامج الإذاعية الثورة الجزائرية خير خدمة.
فكانت أداة فعالة لغرس روح النضال وتقوية الإيمان بالنصر ورفع معنويات الجماهير الجزائرية في الداخل والخارج وحشدها وراء الثورة، وكانت أيضا خير وسيلة لتمرير الدور الدبلوماسي لقادة الثورة الجزائرية.
كما دعمت جبهة التحرير الوطني جهازها الإعلامي بإصدار صحيفتي: "المجاهد" في سنة 1956 والمقاومة الجزائرية " في سنة 1955 والتي كانت لسان حال جبهة التحرير الجزائرية للدفاع عن شمال إفريقيا كلها.
هذا، وقد تمكنت المقاومة بفضل توجيهها من قبل القادة السياسيين والدبلوماسيين المحنكين في الداخل والخارج، في ظرف قصير، بالرغم من عملها الشاق والعسير أن تحقق رواجا وانتشارا كبيرا عبر كل الوسائل المتاحة لها من كتب، وشعر ومسرح، وسينما، وكذا النشرات التي أصبحت متواجدة عبر أنحاء العالم، ومنها من ترجمت إلى عدة لغات لإقناع الرأي العام الداخلي والخارجي بشرعية الثورة الجزائرية و عدالتها.
وكان ذلك، إن دل على شيء، فإنما كان يدل على إرادة قادة الجبهة في ضرورة الرد الفوري على أجهزة الإعلام الغربية المنحازة لوجهة النظر الفرنسي، كما كانت موجهة للشعب الفرنسي كذلك. وبفضل تلك النشاطات الثقافية والإعلامية والتحسيسية تمكنت قيادة الجبهة والجيش أن تقدم للرأي العام الدولي صورة متكاملة لكفاح الشعب الجزائري الشرعي وبسط الجرائم البشعة للإستعمار وحق الشعب في تقرير مصيره بنفسه. كما استطاعت الدبلوماسية الجزائرية آنذاك أن تدق أبواب أوروبا والأمم المتحدة بنيويورك، وأن تنتزع وتكسب حماس الشعوب وقناعتها بعدالة القضية الجزائرية.
ولعل أول انتصار دبلوماسي على المستوى الدولي بالنسبة لقيادي جبهة التحرير الوطني، كان إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الجلسة العاشرة للأمم المتحدة، وكان ذلك في 20 سبتمبر سنة 1957 وتزامن هذا الحادث مع إضراب التجار في الجزائر. كما مكنت هذه الواقعة بإسماع صوت الجزائر وإخراج المسألة من أيادي الفرنسيين الذين كانوا دائما يتخوفون من حدوث هذا النوع من المسائل الحرجة وإبرازها إلى العالم بحيث كانوا يروجون الى حلفائهم بأن القضية الجزائرية شأن داخلي فرنسي.
ولقد كان للدبلوماسية الجزائرية تأثير كبير في تحول المواقف التي كانت الإدارة الفرنسية تروج لها في شأن الذين أسمتهم "بالفلاقة" (الخارجين عن القانون) حيث عمدت في الأخير إلى إجراء أول لقاء سري مع محمد يزيد الذي كان يمثل الجبهة في الأمم المتحدة بنيويورك، وذلك في 21 يونيو من سنة 1956.
وقد ظهرت قوة الدبلوماسية الجزائرية إبان الحرب التحريرية في أول تحرك للهيئة الأممية بشأن القضية الجزائرية ،حيث أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة لائحة في 15 أكتوبر 1957 تدعو فيها إلى إيجاد حل سلمي وديمقراطي للقضية الجزائرية التي صارت تشكل صداعا للعالم. وهو الأمر الذي دفع قادة الجبهة إلى التركيز على الخارج وربح معركة أخرى، معركة مواجهة الرأي العام الدولي، حيث أنه بعد شهر من لائحة الأمم المتحدة، خرجت لجنة التنسيق والتنفيذ التابعة لجبهة التحرير الوطني إلى الخارج قصد إعطاء بعث قوي للعمل الدبلوماسي.
كما ساهمت التقارير التي كانت تصدر وتنشر عن مختلف عمليات التعذيب والإبادة الجماعية الممارسة من قبل الجيش الوحشي الفرنسي في تجنيد المتطوعين في الخارج وتحسيس الرأي العام الدولي حول القضية الجزائرية سواء في الدول العربية الشقيقة أو الدول الصديقة.
وهكذا كانت سنة 1957 هي سنة الجزائر في الأمم المتحدة، فقد عرضت مرتين قضية الجزائر على الأمم المتحدة في الدورتين الحادية عشر والثانية عشر، واستمر طرح القضية بعد ذلك في كل دورة من دورات هيئة الأمم المتحدة وذلك نتيجة الكفاح السياسي والدبلوماسي الذي لعب، إن لم نقل الدور الأساسي، بل الدور الأهم في الكفاح لخدمة القضية الجزائرية وإظهار حقيقتها.
وكان عدد أنصار الجزائر المكافحة يتزايد في كل مرة، في حين كان موقف فرنسا يتزايد تقهقرا وحرجا حتى أمام حلفائها، الأمر الذي أرغم حلفاء فرنسا في النهاية إلى التخلي عنها، وكان للعزلة الدولية التي منيت بها فرنسا دورها في التأثير على السياسة الفرنسية التي وجدت نفسها مضطرة لإعادة النظر في مواقفها. وقد لايتسع المجال هنا لعرض مراحل الصراع السياسي والدبلوماسي للجزائر على المستوى الدولي. وعلى هذا الأساس، يكون من المناسب ذكر بعض الانتصارات الدبلوماسية للجزائر الثورية وبالتالي الهزائم الدبلوماسية التي لحقت بالحكومة بالفرنسية، نذكر منها خاصة:
1/ التقرير الذي بعثه السيناتور جون كنيدي الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، حيث إتهم فيه كنيدي أمام الكونغرس، السياسية الفرنسية فيما يخص موقفها الإستعماري المتعنت والسياسة التي إلتزمتها الولايات المتحدة تجاه هذه المسألة. مما بدأ يغير مجرى الأحوال عبر العالم لاسيما في الدول الغربية.
2/ مذكرة بتاريخ 23 نوفمبر 1960 موجهة من طرف أعضاء البرلمان السويدي إلى الوزير الأول مطالبين حكومتهم التدخل لدى هيئة الأمم المتحدة لوقف الإعتداءات الفرنسية وإيجاد حل سلمي للقضية الجزائرية.
3/ الندوات الصحفية ووسائل الإعلام التي جندتها الجبهة للرأي العام الدولي ضد الحرب الفرنسية في الجزائر وإعطاء أرقام عن الشهداء والأسرى وحرق الأراضي وعدد المحتشدات، مما أعطى إحصائيات حقيقية للدمار الإستعماري ونظرة حقيقية للعمليات العسكرية والفدائية في المدن والمناطق الجبلية التي جعلت العدو لا يستقر ولا يهدأ له بال، إلى غير ذلك من الإتصالات المباشرة مع عواصم العالم.
4/ تنصيب البعثات والوفود الجزائرية في الخارج والتي كانت من جملة مهامها توسيع أعمال الجبهة السياسية منها لفت نظر العالم والإتصال الدائم بالهيئات الدبلوماسية للدول الشقيقة والصديقة والغربية وكذا الحكومات المركزية التابعة للدول حيث كان يوجد ممثل الثورة الجزائرية.
5/ تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA) في 26 سبتمبر 1958، وكان ذلك من نتائج الدبلوماسية الجزائرية حيث كان عملها الأساسي هو إسماع الصوت الرسمي للمثل الرئيسي للشعب الجزائري على المستوى الدولي. فقد عمد فرحات عباس الذي كان يترأس الحكومة المؤقتة آنذاك إلى إجراء عدد من اللقاءات والزيارات للوفود الجزائرية في الخارج، منها زيارة الوفد إلى بكين وموسكو وبلغراد ونيودلهي إلى غير ذلك من عواصم الدول الصديقة والعربية الشقيقة. وقد سجلت هذه الحكومة الفتية أول عمل دبلوماسي لها في هيئة الأمم المتحدة إذ أسمعت صوت ملايين الجزائريين فيما يخص الإستفتاء الذي اقترحه الجنرال دي غول رئيس الجمهورية الفرنسية انذاك في 16 سبتمبر 1959.
6/ القرار الذي أصدرته هيئة الأمم المتحدة بتاريخ 19/12/1960 (أثناء الدورة الحادية عشرة) والذي تضمن مايلي:
أولا: "إن الجمعية العامة قد أحيطت علما بأن الفريقين قد وافقا على تقرير المصير كأساس لحل القضية الجزائرية ووافقت على هذا المبدأ".
ثانيا: إن الجمعية العامة قد أكدت الحاجة القصوىّ لوضع الضمانات الفعلية المناسبة التي تكفل تطبيق مبدأ تقرير المصير بنجاح وعدالة، على أساس الإعتراف بالوحدة والسلامة الإقليمية للجزائر.
7/ النصر الدبلوماسي إثر انضمام الجزائر المكافحة إلى إتفاقيات جنيف في 20 جويلية 1960 الذي حققته في القصر الفيدرالي بمدينة بارن (BERNE) السويسرية والذي كان له إنعكاسات كبيرة بحصولها على تسجيل حكومة سويسرا وثائق إنضمام الحكومة المؤقتة إلى إتفاقيات جنيف الأربعة المبرمة في 12 أغسطس 1949 بشأن حقوق الإنسان.
يقول الأستاذ محمد بجاوي ا لذي صار فيما بعد وزيرا للعدل في الجزائر المستقلة و رئيس محكمة العدل الدولية ثم وزيرا للخارية قبل اعتزاله عن السياسة : " كانت هذه الإتفاقيات تنظم سلوك المتحاربين وأسرى الحرب وحقوق الإنسان، وكان الإنضمام إلى هذه الإتفاقيات ، يعد في سياق ذلك العهد، نصرا سياسيا ودبلوماسيا وقانونيا هائلا، وكان لا يبدو في متناول أي حركة تحررية في ذلك العهد".
ومن الميادين التي تحقق فيها النجاح كاملا ـ يضيف محمد بجاوي ـ على الرغم من قيود وقواسر الحياة في الجبال ميدان معاملة أسرى الحرب. وكان الإفراج على الأسرى عندما يتقرر يستلزم عبور الجزائر بكاملها عبر مخاطر الجبال حتى حدود التراب التونسي أو التراب المغربي، حيث يسلمون للجنة الدولية للصليب الأحمر". أما فيما يخص الأسرى من جنسيات أخرى غير الجنسية الفرنسية، يضيف السيد بجاوي، فقد برزت الحكومة المؤقتة في شأنهم بعمل إنساني جدير بالتنويه، حيث أنشأت مصالح كثيرة لإعادة هؤلاء الشباب من "فيلق اللفيف الأجنبي" (LégionEtrangère) إلى أوطانهم عبر الحدود المجاورة. ويقدر الأستاذ بجاوي الذين وصلوا إلى الحدود الغربية وحدها إلى رقم 3299 جندي بحلول يوم 23 جويلية 1960.
وعلى هذا الأساس، وبعد تكثيف العمليات العسكرية بالضربات القاصمة للقوات المستعمرة المرة تلو الأخرى والضربات الدبلوماسية المحنكة، بدأت مباحاثات إفيان (Evian) التي سنطرحها في مايلي:
وقبل أن نتكلم عن المفاوضات الرسمية التي سطرت الطريق إلى الحرية والاستقلال، بودنا أن نقول أن بعض الأحداث المتتالية و المبرمجة من طرف الجبهة جعلت نفسها تفرض قوة المفاوضات وأسلوب المباحثات بين الطرفين الفرنسي والجزائري.
أولا: مظاهرات 11 ديسمبر 1960 التي كانت حاسمة في:
1/إقامة الدليل للحكومة الفرنسية على أنه لا توجد أي قوة سياسية بالجزائر تتمتع بثقة الشعب ماعدا جبهة التحرير الوطني، وإلى هذا يرجع بعض الباحثين عزم الرئيس الفرنسي دي غول على التفاوض مع الجبهة.
2/ دفع الإستعماريين إلى الظهور بمظهرهم الحقيقي الذي بدأ من خلال عمليات منظمة الجيش السري الإرهابي(OAS) التي فقدت كل امال في التشبت في البقاء داخل هذه البلاد وبدأت تنتهح سياسة الأرض المحروقة.
ثانيا: مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بباريس بقلب فرنسا والتي واجهتها قوات الأمن تحت قيادة السفاح موريس بابون (Maurice Papon) حاكم مدينة باريس بكل وحشية، مما حطم سمعة?? فرنسا المتحضرة ?? .
ومن هذا المنطلق، أخذت الحكومة المؤقتة على عاتقها مبدأ الأمم المتحدة بصدور قرار أعلنت من خلاله إستعدادها للدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية على أساس تقرير المصير والاستقلال.
في الحقيقة، كانت هناك مراحل عديدة للمحادثات الجزائرية الفرنسية منها:
1/ الإتصالات السرية:
*قبل أن تعترف فرنسا رسميا بممثلي الشعب الجزائري كطرف محارب، تم الإتصال الأول في 12 أبريل 1956 بالقاهرة بين جوزيف بيغارا، النائب الإشتراكي في البرلمان الفرنسي والسيد محمد خيضر ممثل الجبهة.
*وكان الإتصال الثاني في 25 جويلية 1956 ببلغراد بين محمد يزيد وأحمد فرانسيس عن الجبهة وبيار كومين، نائب الأمين العام للحزب الإشتراكي الفرنسي وبيار هيربوت من الجانب الفرنسي.
*أما الإتصال الثالث، فكان في 20 سبتمبر 1956 بروما بين محمد خيضر ومحمد يزيد وعبد الرحمن كيوان من جبهة وبين بيار كومين وبيار هيربوت من جهة أخرى.
*وتم الإتصال الرابع في 22 سبتمبر 1956 ببلغراد بين محمد خيضر والأمين دباغين من جهة وبين بيار هيربوت من جهة أخرى.
لكن هذه الإتصالات توقفت بعد عملية القرصنة الجوية في 22 أكتوبر1956 حيث ألقي القبض على الزعماء الخمسة بن بله و رفاقه.
والجدير بالذكرأنه بعد مجيء الجنرال دي غول إلى الحكم باشر الإتصال مع جبهة التحرير قائلا أنه مستعد ليبحث معها إيقاف القتال على أساس الإنتخابات ثم المفاوضات. فكان الإجتماع ما بين 20 أغسطس و20 أكتوبر 1958، وكان ذلك بمجرد "سياسة إدماج في ثوب جديد" بعدما كان يريد من وراء ذلك ربح الوقت في هدنة وإيقاف إطلاق النار ضمن إعلانه عن "سلم الشجعان". لكن فرحات عباس رد عليه بأنه نسي أن الشعب الجزائري قد رفض الإدماج في أشد حالة ضعفه، فكيف يقبله اليوم وثورته في عامها الرابع أسمعت العالم دجيجها وأهدافها. ولقد كان هذا الرد بمثابة صفعة قاسية لكل من كان يشك في إستقلال الجزائر. فقال قولته الشهيرة: " أفضل أن نكون 10 ملايين من الجثث على أن نكون عشرة ملايين من الفرنسيين".
وبذلك عرف دي غول أن هذا الطريق غير مُجد فقطع إتصلاته السرية، إلى أن جاء اليوم المعلوم لبدء مفاوضات حقيقية على أسس متكافئة بين الطرفين، حيث أعربت الحكومة المؤقتة عن إستعدادها للعمل على تصفية المعضلة طبقا لروح هذا المبدأ المقبول قصد توقيف إطلاق النار وتحديد الشروط والضمانات لتقرير المصير وتحقيق الإستقلال.
2/ المفاوضات الرسمية:
من الواضح أن فرنسا حاولت أن تخلق قوة ثالثة موالية لها لتضمن مصالحها ولم تعترف بجبهة التحرير كممثل للشعب الجزائري. ولما أبطلت الجبهة هذه المحاولة الأخرى، أضطر ديغول أن يعرض علانية في 20 نوفمبر 1959 على قادة الثورة التفاوض من أجل إنهاء المعارك و"محاولة تبييض صورة فرنسا سياسيا ودبلوماسيا". فردت عليه الحكومة المؤقتة بتعيين الوزراء الخمس بن بله و رفاقه المعتقلين بفرنسا لإجراء هذه المفاوضات، لكنه رفض وقال أنه لا يتفاوض مع رجال يوجدون خارج المعكرة متمسكا برأيه، وهو أن الحكومة المؤقتة لاتمثل كل الجزائريين. لكنه في الأخير لمس الحقيقة بنفسه عند زيارته للجزائر في ديسمبر 1960 ليشرح سياسته الجديدة فاستقبلته جموع الجزائريين وهي تحمل العلم الجزائري وشعارات جبهة التحرير الوطني. فعاد إلى فرنسا وهو مقتنع بإستحالة سياسته الجديدة.
يقول المفكر الفرنسي المشهور جاك بيرك (Jacques Berques)"مع من يتعين علينا أن نتفاوض ؟ مع الخصم بالطبع، ولايعني ذلك أن نعتبره الممثل الرئيسي والوحيد. إن الشعب الجزائري بكامله هو الذي له أن يحدد مستقبله بنفسه، ولكن القوة التمثيلية لجبهة التحرير أو الحكومة الجزائرية المؤقتة أو كيفما دعوناها تعتبر كافية لإنهاء الصراع وبالتالي إجراء المفاوضات حتميا معها... ثم يعرض هذا البروتوكول للإستشارة الشعبية".
ونظرا لهذا الصراع النفسي والسيساي والدبلوماسي بين فرنسا الإستعمارية ودبلوماسية جبهة التحرير الوطني، فإنه سيكون من المعقول الوصول حتما إلى مفاوضات رسيمة حقيقية ..أولا: مفاوضات مولان : (MELUN)
في 14 يونيو1960، دعا الجنرال دي غول، في خطاب له، قادة الثورة الجزائرية للقدوم إلى فرنسا، فوافقت الحكومة المؤقتة في 20 من نفس الشهر، وتم تحديد مدينة مولان MELUN الفرنسية للقاء بين أحمد بومنجل ومحمد بن يحي للتمهيد للمفاوضات، وذلك من 25 إلى 29 من نفس الشهر، واصطدم الوفد الجزائري بالموقف الفرنسي الذي كان مراده جس النبض ومعرفة مدى صلابة وتمسك الثورة بمبادئها.
ثانيا: كما تم لقاء آخر في لوسيرن (LUCERNE) بسويسرا في نهاية 1960 بين أحمد بومنجل والطيب بولحروف وممثلي فرنسا جورج بومبيدو وهوبير لويس، وكانت هذه الجولة أكثر جدية من سابقتها وعلى قدم المساواة، ولكن هذا اللقاء لم ينجح كون فرنسا طرحت "تسليم الإستقلال دون الصحراء"، وهي مسألة مبدئية في دبلوماسية الثورة الجزائرية. مما أرغم فرنسا على الإعتراف بالجبهة والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ثالثا: مفاوضات الأولى (Evian)
أعلنت الحكومة المؤقتة في 3 مارس 1961 أن وقف إطلاق النار لن يتم إلا بالمفاوضات بين الحكومتين. وكان على الجانب الجزائري أحمد بومنجل والطيب بولحروف، وجورج بومبيدو GeorgesPompidou وبرونو دولوس Bruno De Leus عن الوفد الفرنسي. وقـد اتفقوا عـلى بـدأ المفاوضات في إفيان مـن 20 مـاي إلى 13 جوان 1961، ثم توقفت نظرا لإسرار فرنسا على فصل الصحراء عن الجزائر (وهي إعادة إثارة الأسطورة القديمة أي الصحراء الفرنسية وفصلها عن الجزائر الأم، (لاسيما بعد إكتشاف ثرواتها النفطية) وكذلك إصرارها على منح الجنسية المزدوجة للأقلية الأوروبية في الجزائر مما يجعل منها دولة داخل دولة، وكذا تهديدها بتقسيم الجزائر إلى "قطاعات جزائرية" (Territoires Alg?riens)،مع الاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية إلى الأبد.
وقد شهدت الجزائر أثناء هذه المفاوضات من الرابع إلى السابع يونيوتحركات سياسية ودبلوماسية كثيفة، لكن المفاوضات توقفت في 12 جوان "لأن فرنسا كان تريد في المفاوضات الأولى استقلالا شكليا مزيفا، مما أدى إلى تأجيل هذه المفاوضات إلى أجل غير مسمى، مع العلم أن إرادة دي غول وعزيمته الأولية والرئيسية هي: الحصول على توقيف عاجل للإطلاق النار، منذ مجيئه إلى الحكم.
كما كانت هناك بعض المبادرات من بعض الأقطار المجاورة للضغط على الحكومة الجزائرية للتنازل وقبول الحل الفرنسي.
لكن رد الفعل كان سريعا على هذا التدخل حيث قام الشعب الجزائري بمظاهرات مساندة للوفد ومنددة بالتعنت الفرنسي الذي يدل على سوء النية في إيجاد حل للقضية الجزائرية.
رابعا : مفاوضات "لوغران" (LUGRIN)
ثم استؤنفت المفاوضات في جويلية بـلوغران "LUGRIN" قرب الحدود السويسرية، واستمرت هذه المرة أكثر من أسبوع، ثم انقطعت من جديد من أجل إصرار فرنسا على فصل الصحراء باعتبار الصحراء مشكلة قائمة ستسوى هذه المرة فيما بعد بين الجزائر المستقلة وفرنسا، وكان ذلك في 20/07/1961.
خامسا: مفاوضات إيفيان الثانية EVIAN:
وأخيرا في 02 أكتوبر 1961 تراجع الجنرال دي غول عن رأيه في مؤتمر صحفي بضرورة التفاوض مع الجبهة على أساس استقلال الجزائر، كل الجزائر بما فيها الصحراء.
وقد اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية (CNRA) في طرابلس من 09 إلى 24 أغسطس 1961 تم فيه تغيير الحكومة الجديدة برئاسة بن يوسف بن خدة عوض فرحاة عباس وتمت إتصالات سرية بين الحكومة المؤقتة والحكومة الفرنسية اتفقتا على اللقاء في إفيان للمرة الثانية وتمت على مرحلتين:
1/ من 11 إلى 19 فبراير 1962، وبعدها استدعي المجلس (CNRA) في دورة استثنائية بطرابلس من 22 إلى 27 من نفس الشهر حيث حرر مشروع الإتفاقية ومناقشته والمصادقة عليه.
2/ ومن 07 مارس إلى 18 مارس 1962، تم الاتفاق على مفاوضات إيفيان وتوقيعها بين الطرفين. ومن ثم الإتفاق على النقاط التالية:
* وقف إطلاق النار في منتصف يوم الإثنين 19 مارس 1962
* وحدة التراب الوطني
* إستقلال الجزائر إستقلالا تاما داخليا وخارجيا بعد استفتاء يجرى بعد فترة انتقالية قصيرة
* الإفراج عن المعتقلين في فرنسا والجزائر في مدة أقصاها 20 يوما
* إقامة علاقات مبنية على الإحترام المتبادل بين الطرفين
* اختيار الجنسية للأوروبيين مع احترام تقاليدهم ودينهم ولغتهم
* الإتفاق على بقاء البحرية العسكرية الفرنسية في المرسى الكبير بوهران لمدة 15 سنة وإجلاء القوات الفرنسية حسب جدول مضبوط.
دور الثورة الجزائرية في تحرير إفريقيا وبعض دول العالم الثالث
بعد إمضاء إتفاقية جنيف حول الهند الصينية عام 1954، إتجه رئيس الحكومة الفرنسية انذاك مانداس فرانس إلى تونس وصاحب معه المارشال جوان "صاحب التجارب الفاشلة"، وأعلن هناك منح تونس إستقلالا ذاتيا داخليا لمدة عشرين سنة. ولكن الشعب التونسي لم يرض بهذا الإستقلال المبتور، بينما تقوم بجواره ثورة في المغرب الأقصى والجزائر خاصة بعد أحداث 20 أغسطس 1955 في الشمال القسنطيني الجزائري. واضطرت فرنسا أن تعترف بالاستقلال التام للمغرب الأقصى وعاد الملك محمد الخامس من منفاه من مدغشقر مرفوع الرأس.
يقول المؤرخ الجزائري الدكتور يحيى بوعزيز ??إن هذه الأحداث المزدحمة بالمغرب الأقصى والجزائر كانت حافزا للرئيس التونسي بورقيبة ليشد الرحال إلى باريس وينتزع من "قي مولي" رئيس الحكومة الفرنسية الإستقلال لتونس، ولم يكن في ذلك تردد آخر لفرنسا، وقد غرقت هذه الأخيرة في أحداث ثورة الجزائر المظفرة وضربات جيش التحرير في كل بقعة. وهكذا، تخلصت فرنسا من ثورتين شرقا وغربا للجزائر لهدف رئيسي وحتمي وهو: التفرغ لقمع هذه الثورة المشتعلة في أكبر دولة في المغرب العربي، والتي تربطها بها مصالح كبيرة إقتصاديا، وثقافيا وجغرافيا واستراتيجيا ??.
وعندما انتصر الاشتراكيون في انتخابات مطلع عام 1956، توقع المراقبون أن تعصف فرنسا بثورة الجزائر، ولكن قادة الثورة المباركة كانوا يعرفون كل المعرفة أنها سوف لن تفعل شيئا، لأن الاشتراكيين واليسار الفرنسي بصفة عامة لايختلفون عن أحزاب اليمين الفرنسي تجاه الجزائر وثورتها، ولم يكونوا يفكروا في حل جذري لقضيتها، لأن" قي مولي"، الأمين العام للحزب الإشتراكي آنذاك، ورئيس الحكومة الفرنسية الجديدة، و روبار لاكوست الإشتراكي الآخر صاحب خرافة "الربع الساعة الأخير" (le dernier ? d?heure) للقضاء على الثورة الجزائرية وكذا الفيلسوف جاك سوستال الذين غرقوا في أدغال الثورة المريرة التي بقيت تدوس كل القوات الإستعمارية سواء المسلحة أو السياسية منها، وتسقط 7 حكومات فرنسية متتالية وتطيح بالجمهورية الفرنسية الرابعة بأكملها. وهذه الحكومات هي:
ـ حكومة مانداس فرانس (Mend?sFrance) ـ حكومة قي مولي الأولى (Guy Mollet ) ـ حكومة برجاس مونوري (BorgesMaunoury ) ـ حكومة إدغار فور (Edgar Faure) ـ حكومة فيليكس قايار (F?lix Gaillard ) حكومة قي مولي الثانية (Guy Mollet ) وحكومة ميشال دوبري ) (Michel Debr?.
فقد امتد التعفن السياسي والدبلوماسي في فرنسا داخليا وخارجيا وحتى في الجيش الفرنسي الذي أصبح يشعر بالمرارة من الهزائم النكراء التي توالت عليه. وبفضل إستراتيجية الثورة وعملها السياسي والدبلوماسي عبر القنوات المتعددة في الداخل والبعثات في الخارج، وصل الأمر إلى تمرد ضباط وجنرالات الجيش الفرنسي بالجزائر صباح يوم 13 ماي 1958، حيث جاؤوا بالجنرال دي غول إلى الحكم من قريته العزولة deuxEglises) (ColombeyLes لينقذهم من ردود فعل الثورة وشراستها ويحمي لهم مابقي مما سموه "بالجزائر الفرنسية".
ولكنه كان يمتاز بنظريته البعيدة لمصالح فرنسا الداخلية والخارجية فأكثر من التردد على الأرض المستعمرة (الجزائر) ليطلع بنفسه على الأمر الواقع و يتبعه عن كثب.
وكمحاولة لتحدي الثورة الجزائرية، والتفرغ لمواجهتها، إلتفت فرنسا تحت قيادة الجنرال دي غول إلى مشاكل المستعمرات الفرنسية الأخرى في إفريقيا للتخلص منها والاهتمام بالمستعمرة الكبرى التي كانت تعتبرها قطعة لا يمكن أن تنفصل عن فرنسا أبدا
. ويقول المؤرخ يحي بوعزيز في هذا الشأن: "كانت شعوب المستعمرات قبل إندلاع ثورة نوفمبر الجزائرية شبه نائمة ومستكينة لسبات الغفلة والتخلف، فأيقظتها هذه الثورة بضجيجها وهديرها وتساءلت عما يجري في شمال قارتها..."
ويضيف يحي بوعزيز: "كانت صيحة "لا" (Non) أثناء الإنتخابات التي أعلنها شعب غينيا عام 1958 مع أحمد سيكوتوري(SEKOU TOURE) بداية لمسيرة شعوب القارة السمراء نحو التحرر وتحقيق الإستقلال الوطني. واضطر دي غول أن يعترف بهذا الواقع وبحق شعب غينيا في الإستقلال والإنفصال عن فرنسا... وقد أقحم الجنرال دي غول البلدان الإفريقية فيما سماه "بالإتحاد الإفريقي" حتى لا تفلت منه ويوقف إمكانيات فرنسا كلها لمحاربة الثورة الجزائرية وحدها وتصفية حسابها لوحدها. ولكن العكس هو الذي حصل ،فبعد تجربة غينيا الناجحة، أخذت باقي الشعوب الإفريقية الأخرى تعلن صيحتها وتطالب بحقها في الإستقلال والحرية... ولما عم الغضب سائر بلدان إفريقيا، إضطرت فرنسا أن تسلم الإستقلال بالجملة وأمضى رئيس وزرائها ميشال دوبري في ظرف عام واحد (1960) على إستقلال 12 بلدا إفريقيا، وهي:
مالي ـ سينغال ـ فلطا العليا ـ ساحل العاج ـ الداهومي ـ إفريقيا الوسطى ـ تشاد ـ النيجر ـ الغابون ـ الكونغو (برازافيل) ـ الكامرون ـ وموريتانيا.
"ولم يكن هذا الإعتراف كرما وسخاء من فرنسا ـ يقول بوعزيزـ وإنما بفضل الثورة الجزائرية التي كانت بمثابة البعبع ينطحها ويشبعها ركلا ورغسا من كل جانب".
وكانت فرنسا تظن وتتصور أن التخلص من هذه الدول الإفريقية يتيح لها الفرصة والقوة لكي تطعن ثورة الجزائر وتقضي عليها، وجاءت الفائدة مزدوجة، فتحررت إفريقيا كلها من رجس الإستعمار الفرنسي والبريطاني، والبلجيكي، وحتى الإسباني والبرتغالي.
وهكذا، يمكننا القول بأن ثورة أول نوفمبر 1954تعتبر من الأحداث العالمية الكبرى في التاريخ المعاصر. فانعكست آثارها الحسنة والإيجابية على معظم شعوب العالم إن لم نقل العالم الثالث ، وخاصة في إفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية،بل صارت تمثل تجربة رائدة في الكفاح الوطني ضد الإستعمار وفي المواقف البناءة والدءوبة تجاه القضايا العالمية العادلة والمحبة للسلام.