الحدث التاريخي هو نواة التاريخ وسبب قيامه، والتاريخ في صفحاته متعدد الاتجاهات، والابطال هم الذين يصنعون تاريخهم، ومثلما وجد أبطال من الملوك والأمراء والقادة والفرسان والشعراء من الرجال والنساء الذين وفاهم التاريخ والمؤرخون حقهم ونالوا مكانتهم المميزة في الذاكرة الشعبية، وشاعت سيرهم وحفظت أخبارهم في سجلات المؤرخين وعند الخاص والعام، فان كثيرين غيرهم من المغمورين في التاريخ الذين لا يقلون عن هؤلاء بطولة وتأثيرا لم يأخذوا حقهم في الشهرة في الذاكرة الشعبية ولم تنل سيرهم وأفعالهم حظها في الذيوع، أو ان انتشارها ظل محصورا في إطار مكاني محدود وفي افق معرفي ضيق.
وقد يكون مرد ذلك لعدة أسباب منها طغيان أحداث كبرى واشتهار شخصيات أخرى في زمنهم، مما كانت شهرتهم على حسابهم، أو سقوط أماكنهم ومناطقهم في دائرة الإهمال والنسيان لبعدهم عن مواطن الحضارة ومراكز المعرفة، ولا يعني ذلك أنهم مجهولون تماما.
قد يكون هؤلاء المغمورون معروفين لدى أهل العلم من المتخصصين والباحثين أو يكونون مشهورين في بلدانهم أو طوائفهم أو جماعاتهم، لكن سيرتهم لم تتجاوز الإطار الجغرافي أو الزماني الذي صنعوا أحداثه. ومن اجل هؤلاء الأبطال المغمورين في التاريخ نقدم هذه السلسلة. والى شخصية اليوم:
هو محمد بن علي الملقب بحميدو. ولد في حي القصبة سنة 1770، من عائلة جزائرية تعود جذورها إلى مدينة يسر. ويسر هي عاصمة إمارة الثعالبة في القرن الرابع عشر الميلادي، والثعالبة قبيلة عربية تعود في نسبها إلى بني ثعلبة بن بكر بن وائل احدى قبائل ربيعة بن نزار.
قدر عدد البحارة الجزائريين في عهد الرايس حميدو أشهر قادة البحرية الجزائرية إلى أكثر من 130 ألف بحار، ومن أشهر السفن الحربية الجزائرية وقتها رعب البحار، مفتاح الجهاد، المحروسة وغيرها. كما تمكن الأسطول الجزائري من الوصول بعملياته إلى اسكتلندا والمحيط الأطلسي، حيث قتل الرايس حميدو سنة 1815 في معركة مع البحرية البرتغالية والأميركية.
لم يكن الرايس حميدو الذي لم تشهد البحار مثله في شجاعته، تركيا، لكنه كان جزائريا أصيلا، وهو ابن لخياط متواضع الحال، عشق البحر وتوجه إليه منذ صغره وترقى من بحّار إلى ضابط، ثم إلى أمير للبحر.
كان صعود الرايس حميدو وتسيّده على إمارة البحرية الجزائرية يتوافق مع قيام الثورة الفرنسية ومجيء نابليون للحكم، وما أعقبه من فوضى عارمة في أوروبا، تمكن خلالها الرايس حميدو من انتهاز هذه الفرصة لتقوية الأسطول الجزائري، واستطاع أن يستولي على واحدة من أكبر سفن الأسطول البرتغالي وهي سفينة «البورتقيزية» المزودة بـ 44 مدفعا وعلى متنها 282 بحارا. ثم أضاف إليها سفينة أميركية هي «أمريكانا»، إضافة إلى سفينته الخاصة. كان أسطوله الخاص يتكون من هذه السفن الثلاث، ومن أربعة وأربعين مدفعا فرضت سيادتها على البحر لأكثر من ربع قرن.
أميركا تدفع الضريبة للجزائر
وفي زمن قيادته للبحرية الجزائرية فرض الرايس حميدو ضريبة على الولايات المتحدة. فبعد أن نالت أميركا استقلالها عن بريطانيا بدأت السفن الأميركية ترفع أعلامها لأول مرة اعتبارا من سنة 1783م، وأخذت تجوب البحار والمحيطات.
وقد تعرض البحارة الجزائريون لسفن الولايات المتحدة، فاستولوا في يوليو 1785م على إحدى سفنها في مياه قادش، بعد ذلك استولوا على إحدى عشرة سفينة أخرى تابعة للولايات المتحدة الأميركية وساقوها إلى السواحل الجزائرية.
ولحداثة استقلال الولايات المتحدة ولعدم توفرها على قوة بحرية رادعة، كانت عاجزة عن استرداد سفنها بالقوة العسكرية، فقد اضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في 5 سبتمبر 1795م، تدفع بموجبها واشنطن مبلغ 62 ألف دولار ذهبا للجزائر لقاء حرية المرور والحماية لسفنها في البحر المتوسط. وتضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة التركية.
وهذه الوثيقة من الوثائق النادرة والفريدة، فهي تعد المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة غير الإنكليزية التي وقعت عليها الولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسها حتى اليوم، وفي الوقت نفسه هي المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض البحارة الجزائريين لسفنها.
الحرب مع أميركا
عندما جاء الرئيس جيفرسون إلى الحكم رفض دفع الاتاوة المقررة، وردت البحرية الجزائرية بالاستيلاء على السفن الأميركية العابرة للبحر المتوسط. على اثر ذلك أرسلت الولايات المتحدة الأميركية قطعة بحرية إلى المتوسط لأجل
الانتقام للهجمات التي تعرضت لها سفنها في سنة 1812، وكانت هذه القطعة بقيادة كومودور دوكاتور، وكان من المهام المكلف بها هذا القائد اجبار الجزائريين على تقديم اعتذار للولايات المتحدة واسترجاع الأسرى الأميركيين وانهاء دفع الاتاوة المفروضة على السفن الأميركية في المتوسط والسماح لها بحقوق الزيارة.
وأرسل الرئيس الأميركي بعض سفنه للقضاء على الرايس الكبير، ونشبت معركة كبرى. وبالرغم من تفوق السفن الجزائرية، فإن قذيفة مدفع قوية أصابت الرايس حميدو قسمته إلى نصفين. ولقي حتفه يوم 16 يونيو 1815، وأمّ حاكم البلاد حينها الداي عمر باشا شخصيا صلاة الغائب التي أداها الجزائريون على روح بطلهم الرايس حميدو، وأعلن الحداد في كل أنحاء الجزائر لمدة ثلاثة أيام.
تطور القوة البحرية الجزائرية
بعد سقوط الحكم العربي في الأندلس عام 1492 تعرضت سواحل المغرب العربي في تونس والجزائر والمغرب لغزوات مسلحة من قبل اسبانيا والبرتغال، وتدخل العثمانيون فساعدوا أمير البحر بابا عروج الذي اصطدم بالأسبان على طول السواحل الجزائرية إلى ان قتل في احدى المعارك 1518.
وتولي أخاه خير الدين بربروسا (ذي اللحية الحمراء) الذي وجد نفسه يواجه حملة مكونة من 40 سفينة حربية أرسلها شارلكان ملك اسبانيا وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، التي تضم كل من اسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا بهدف القضاء على القوة البحرية الجزائرية.
ونزلت القوات الاسبانية «بسيدي فرج» غرب مدينة الجزائر والتحمت مع القوات الجزائرية بقيادة خير الدين، فانهزم الأسبان هزيمة كبرى، بعدها تمكن خير الدين من إخضاع معظم الأراضي الجزائرية. وفي سنة 1529م طرد الأسبان من قلعة برج الفنار (صخرة البنيون) التي كانت تهدد مدينة الجزائر.
ومن اجل رد هزيمته السابقة جاء شارل الخامس (شارلكان) ملك اسبانيا غازيا بنفسه الجزائر على رأس حملة بحرية تحتوي على 65 بارجة و451 سفينة نقل تحمل 35730 مقاتلا وعـُهد بقيادتها إلى قادة شجعان وذوي خبرة وهم أندريا دوريا وفيرانتي الأول غونزاغا وهرنان كورتيس. ورست الحملة أمام مدينة الجزائر في الخامس عشر من اكتوبر 1541م وعملت على محاصرة العاصمة. ونشبت الحرب بين الطرفين طوال 12 يوما، ثارت خلالها الزوابع البحرية وهاجت العواصف الجوية واضطربت الأمواج، فقتل فيها 12000 من الأسبان، كما حطمت زوبعة بحرية أزيد من 250 سفينة من الأسطول الاسباني. واضطر شارلكان ان ينسحب منهزما.
وفي سنة 1609م امر فيليب الثالث ملك اسبانيا أن يطرد كل الأندلسيين الموريسكيين، وساهم الأسطول الجزائري بترحيل عشرات الألوف من الأندلسيين المطرودين من الأندلس.
عصر رياس البحر
ومع زيادة نشاطهم تحررت طائفة رياس البحر من السلطة المركزية لاسطنبول وتوجيهاتها ولم تعد تدفع إلا عشر مداخيلها لخزينة الدولة العثمانية واتجهت إلى أعمال الجهاد المباشرة. وكانت سفنهم خفيفة الحركة مجهزة بالمدفعية وببحارة متمرسين، وقد هاجموا السفن الأوروبية المبحرة في طرق التجارة المتوسطية.
كانت الجزائر خلال الفترة من 1518 - 1671م ولاية عثمانية تتلقى المساعدة المالية والعسكرية من الخلافة، وقد اهتم الحكام في هذه المرحلة بتحرير موانئ البلاد من السيطرة الإسبانية وفرض سيطرة الأسطول على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط.
وفي سنة 1671م دخلت الجزائر مرحلة جديدة تميزت بتولي طائفة رياس البحر السلطة، وهم ضباط البحر الذين نصبوا نظاما جديدا يتمثل في تعيين حاكم للبلاد يلقب بالداي. والتزم الدايات بحفظ الارتباط مع الدولة العثمانية باعتبارها خلافة إسلامية، لكنهم سلكوا سياسة مستقلة فيما يتعلق بالشؤون الخاصة للبلاد.
وفي عهد رياس البحر تطورت البحرية الجزائرية وغدت أقوى الدول في حوض البحر الأبيض المتوسط. هاجمت سردينيا والسواحل الشرقية لأسبانيا، وأغارت على سواحل الممالك الايطالية كصقلية ونابولي، وهددت بذلك الصلات البحرية بين ممتلكات الإمبراطورية الأسبانية وممتلكاتها في إيطاليا. وفشل الأوروبيون في إيقاف عمل البحرية الجزائرية، وعجزت سفنهم الضخمة عن متابعة سفن البحرية الجزائرية الخفيفة وشل حركتها.
وتشير بعض المصادر التاريخية الى انه في عام 1641 اضطر البرلمان البريطاني للانعقاد في جلسة طارئة لمناقشة أنباء عن أن عدد البحارة البريطانيين المحتجزين في الجزائر بلغ نحو 5 آلاف بحار، وفي عام 1700 كتبت قصة شعبية بريطانية بعنوان «ذي الجيريان بايروت» اي القرصان الجزائري، وهي قصة مغامرات لتخويف الاطفال ولا تزال تباع في بريطانيا، وفي مطلع القرن التاسع عشر ظهر كتاب «ذي الجيرين سباي إن كاليفورنيا» اي الجاسوس الجزئري في كاليفورنيا.
وصار لرجال البحر الجزائريين مكانة مرموقة في مدينة الجزائر. وكان ركوب البحر مهنة وجاذبة، وهو ما أغرى الكثير بدخول البحرية والانتظام ضمن صفوفها، حتى أن عددا كبيرا من الأسرى المسيحيين كانوا يعلنون إسلامهم وينخرطون في سلك البحرية.
وبعد أن كانت أعمال البحرية الجزائرية تتسم بطابع جهادي تمثل في صد هجمات المالك الأوروبية المسيحية في سواحل المغرب العربي، تحول نشاطها الى الطابع التجاري، وصارت تلك الأعمال حرفة لطلب الرزق. وعادت هذه الأعمال بالغنى الوافر على البلاد نتيجة للغنائم التي يحصلون عليها.
كان الاسم الحقيقي للدولة الجزائرية هو «أيالة الجـزائر›› وأحيانا اسم «جمهورية الجزائر›› أو «مملكة الجزائر››، وبهذه الأسماء أبرمت عشرات المعاهدات مع دول العالم.
شخصيته
في قلب العاصمة الجزائرية، وتحديدا في ساحة الشهداء ينتصب تمثال شامخ لواحد من أشهر ربابنة البحر الجزائريين.. إنه الريس حميدو بن علي، احد امهر رؤساء البحر الجزائريين، الذي فرض السيطرة الجزائرية على البحر المتوسط وارغم الدول الاوروبية على دفع اتاوات وضرائب لضمان حق المرور في البحر المتوسط. جابت سفنه المحيط الاطلسي واصطدم مع البحرية الاميركية في معركة دامية أدت الى مصرعه عام 1815. ورغم ان الريس حميدو مشهور في التاريخ الجزائري، وهناك ضاحية في غرب العاصمة الجزائرية تحمل اسمه، الا ان الكثيرين في العالم العربي يجهلون سيرة هذا الربان الجزائري الشجاع.
هجمات متكررة على الجزائر
أدى تنامي القوة البحرية الجزائرية الى تجييش القوى الأوروبية لحملات عسكرية لغزو الجزائر، وفي القرن السادس عشر كانت اسبانيا مصدرا لمعظم الغزوات والحملات على الجزائر. ومنتصف القرن السابع عشر انضمت دول اخرى الى اسبانيا منها:
- الحملة البريطانية على مدينة الجزائر عامي 1660 - 1670.
- الحملة الفرنسية على الجزائر وشرشال عامي 1682 - 1683.
- الحملة الأسبانية على وهران في يوليو 1732م.
- حملة أكسموث سنة 1816 بدعوى تنفيذ قرار مؤتمر فيينا.
- معركة ميناء الجزائر ضد القوات الفرنسية في 4 أكتوبر 1827م.
وفي مؤتمر فيينا عام 1815م ومؤتمر اكس لاشابيل 1818م طرحت قضية القوة البحرية الجزائرية، وسعت الدول الأوروبية لأن تتحالف ضد الجزائر من أجل القضاء على القوة البحرية الجزائرية في البحر المتوسط.
أتاوات أوروبية للجزائر
كانت الدول الأوربية تدفع اتاوات للجزائر في عهد رياس البحر، واورد المؤرخ الفرنسي ليون فالبير ما تدفعه دول أوروبا إلى الجزائر لحماية سفنها في البحر المتوسط على النحو التالي:
• مملكة الصقليتين: تدفع مبلغ 44 ألف بياستير سنويا منها 24 ألفا نقدا والباقي في شكل بضائع.
• مملكة توسكانيا الإيطالية: تدفع 23 ألف بياستير كلما جددت قنصلها بالجزائر.
• مملكة سردينيا الايطالية: تدفع مبلغا كبيرا من المال كلما جددت قنصلها بالجزائر.
• البرتغال: تدفع مبلغ 44 ألف بياستير سنويا.
• إسبانيا: تدفع مبالغ مالية كلما جددت قنصلها.
• النمسا: تدفع هدايا دورية مباشرة وعن طريق الدولة العثمانية.
• إنجلترا: تدفع 600 جنيه إسترليني كلما جددت قنصلها.
• هولندا: تدفع 600 جنيه إسترليني.
• أمريكا: تدفع 600 جنيه إسترليني، ثم ارتفعت إلى 62 ألف دولار.
• مملكتا هانوفر وبريم الألمانيتان: تدفعان مبالغ مالية كبيرة كلما جددتا قناصلها.
• السويد والدانمارك: تدفعان مبالغ مالية كبيرة سنوية في شكل مواد حربية قيمتها 400 بياستير.
وقد يكون مرد ذلك لعدة أسباب منها طغيان أحداث كبرى واشتهار شخصيات أخرى في زمنهم، مما كانت شهرتهم على حسابهم، أو سقوط أماكنهم ومناطقهم في دائرة الإهمال والنسيان لبعدهم عن مواطن الحضارة ومراكز المعرفة، ولا يعني ذلك أنهم مجهولون تماما.
قد يكون هؤلاء المغمورون معروفين لدى أهل العلم من المتخصصين والباحثين أو يكونون مشهورين في بلدانهم أو طوائفهم أو جماعاتهم، لكن سيرتهم لم تتجاوز الإطار الجغرافي أو الزماني الذي صنعوا أحداثه. ومن اجل هؤلاء الأبطال المغمورين في التاريخ نقدم هذه السلسلة. والى شخصية اليوم:
هو محمد بن علي الملقب بحميدو. ولد في حي القصبة سنة 1770، من عائلة جزائرية تعود جذورها إلى مدينة يسر. ويسر هي عاصمة إمارة الثعالبة في القرن الرابع عشر الميلادي، والثعالبة قبيلة عربية تعود في نسبها إلى بني ثعلبة بن بكر بن وائل احدى قبائل ربيعة بن نزار.
قدر عدد البحارة الجزائريين في عهد الرايس حميدو أشهر قادة البحرية الجزائرية إلى أكثر من 130 ألف بحار، ومن أشهر السفن الحربية الجزائرية وقتها رعب البحار، مفتاح الجهاد، المحروسة وغيرها. كما تمكن الأسطول الجزائري من الوصول بعملياته إلى اسكتلندا والمحيط الأطلسي، حيث قتل الرايس حميدو سنة 1815 في معركة مع البحرية البرتغالية والأميركية.
لم يكن الرايس حميدو الذي لم تشهد البحار مثله في شجاعته، تركيا، لكنه كان جزائريا أصيلا، وهو ابن لخياط متواضع الحال، عشق البحر وتوجه إليه منذ صغره وترقى من بحّار إلى ضابط، ثم إلى أمير للبحر.
كان صعود الرايس حميدو وتسيّده على إمارة البحرية الجزائرية يتوافق مع قيام الثورة الفرنسية ومجيء نابليون للحكم، وما أعقبه من فوضى عارمة في أوروبا، تمكن خلالها الرايس حميدو من انتهاز هذه الفرصة لتقوية الأسطول الجزائري، واستطاع أن يستولي على واحدة من أكبر سفن الأسطول البرتغالي وهي سفينة «البورتقيزية» المزودة بـ 44 مدفعا وعلى متنها 282 بحارا. ثم أضاف إليها سفينة أميركية هي «أمريكانا»، إضافة إلى سفينته الخاصة. كان أسطوله الخاص يتكون من هذه السفن الثلاث، ومن أربعة وأربعين مدفعا فرضت سيادتها على البحر لأكثر من ربع قرن.
أميركا تدفع الضريبة للجزائر
وفي زمن قيادته للبحرية الجزائرية فرض الرايس حميدو ضريبة على الولايات المتحدة. فبعد أن نالت أميركا استقلالها عن بريطانيا بدأت السفن الأميركية ترفع أعلامها لأول مرة اعتبارا من سنة 1783م، وأخذت تجوب البحار والمحيطات.
وقد تعرض البحارة الجزائريون لسفن الولايات المتحدة، فاستولوا في يوليو 1785م على إحدى سفنها في مياه قادش، بعد ذلك استولوا على إحدى عشرة سفينة أخرى تابعة للولايات المتحدة الأميركية وساقوها إلى السواحل الجزائرية.
ولحداثة استقلال الولايات المتحدة ولعدم توفرها على قوة بحرية رادعة، كانت عاجزة عن استرداد سفنها بالقوة العسكرية، فقد اضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في 5 سبتمبر 1795م، تدفع بموجبها واشنطن مبلغ 62 ألف دولار ذهبا للجزائر لقاء حرية المرور والحماية لسفنها في البحر المتوسط. وتضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة التركية.
وهذه الوثيقة من الوثائق النادرة والفريدة، فهي تعد المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة غير الإنكليزية التي وقعت عليها الولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسها حتى اليوم، وفي الوقت نفسه هي المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض البحارة الجزائريين لسفنها.
الحرب مع أميركا
عندما جاء الرئيس جيفرسون إلى الحكم رفض دفع الاتاوة المقررة، وردت البحرية الجزائرية بالاستيلاء على السفن الأميركية العابرة للبحر المتوسط. على اثر ذلك أرسلت الولايات المتحدة الأميركية قطعة بحرية إلى المتوسط لأجل
الانتقام للهجمات التي تعرضت لها سفنها في سنة 1812، وكانت هذه القطعة بقيادة كومودور دوكاتور، وكان من المهام المكلف بها هذا القائد اجبار الجزائريين على تقديم اعتذار للولايات المتحدة واسترجاع الأسرى الأميركيين وانهاء دفع الاتاوة المفروضة على السفن الأميركية في المتوسط والسماح لها بحقوق الزيارة.
وأرسل الرئيس الأميركي بعض سفنه للقضاء على الرايس الكبير، ونشبت معركة كبرى. وبالرغم من تفوق السفن الجزائرية، فإن قذيفة مدفع قوية أصابت الرايس حميدو قسمته إلى نصفين. ولقي حتفه يوم 16 يونيو 1815، وأمّ حاكم البلاد حينها الداي عمر باشا شخصيا صلاة الغائب التي أداها الجزائريون على روح بطلهم الرايس حميدو، وأعلن الحداد في كل أنحاء الجزائر لمدة ثلاثة أيام.
تطور القوة البحرية الجزائرية
بعد سقوط الحكم العربي في الأندلس عام 1492 تعرضت سواحل المغرب العربي في تونس والجزائر والمغرب لغزوات مسلحة من قبل اسبانيا والبرتغال، وتدخل العثمانيون فساعدوا أمير البحر بابا عروج الذي اصطدم بالأسبان على طول السواحل الجزائرية إلى ان قتل في احدى المعارك 1518.
وتولي أخاه خير الدين بربروسا (ذي اللحية الحمراء) الذي وجد نفسه يواجه حملة مكونة من 40 سفينة حربية أرسلها شارلكان ملك اسبانيا وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، التي تضم كل من اسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا بهدف القضاء على القوة البحرية الجزائرية.
ونزلت القوات الاسبانية «بسيدي فرج» غرب مدينة الجزائر والتحمت مع القوات الجزائرية بقيادة خير الدين، فانهزم الأسبان هزيمة كبرى، بعدها تمكن خير الدين من إخضاع معظم الأراضي الجزائرية. وفي سنة 1529م طرد الأسبان من قلعة برج الفنار (صخرة البنيون) التي كانت تهدد مدينة الجزائر.
ومن اجل رد هزيمته السابقة جاء شارل الخامس (شارلكان) ملك اسبانيا غازيا بنفسه الجزائر على رأس حملة بحرية تحتوي على 65 بارجة و451 سفينة نقل تحمل 35730 مقاتلا وعـُهد بقيادتها إلى قادة شجعان وذوي خبرة وهم أندريا دوريا وفيرانتي الأول غونزاغا وهرنان كورتيس. ورست الحملة أمام مدينة الجزائر في الخامس عشر من اكتوبر 1541م وعملت على محاصرة العاصمة. ونشبت الحرب بين الطرفين طوال 12 يوما، ثارت خلالها الزوابع البحرية وهاجت العواصف الجوية واضطربت الأمواج، فقتل فيها 12000 من الأسبان، كما حطمت زوبعة بحرية أزيد من 250 سفينة من الأسطول الاسباني. واضطر شارلكان ان ينسحب منهزما.
وفي سنة 1609م امر فيليب الثالث ملك اسبانيا أن يطرد كل الأندلسيين الموريسكيين، وساهم الأسطول الجزائري بترحيل عشرات الألوف من الأندلسيين المطرودين من الأندلس.
عصر رياس البحر
ومع زيادة نشاطهم تحررت طائفة رياس البحر من السلطة المركزية لاسطنبول وتوجيهاتها ولم تعد تدفع إلا عشر مداخيلها لخزينة الدولة العثمانية واتجهت إلى أعمال الجهاد المباشرة. وكانت سفنهم خفيفة الحركة مجهزة بالمدفعية وببحارة متمرسين، وقد هاجموا السفن الأوروبية المبحرة في طرق التجارة المتوسطية.
كانت الجزائر خلال الفترة من 1518 - 1671م ولاية عثمانية تتلقى المساعدة المالية والعسكرية من الخلافة، وقد اهتم الحكام في هذه المرحلة بتحرير موانئ البلاد من السيطرة الإسبانية وفرض سيطرة الأسطول على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط.
وفي سنة 1671م دخلت الجزائر مرحلة جديدة تميزت بتولي طائفة رياس البحر السلطة، وهم ضباط البحر الذين نصبوا نظاما جديدا يتمثل في تعيين حاكم للبلاد يلقب بالداي. والتزم الدايات بحفظ الارتباط مع الدولة العثمانية باعتبارها خلافة إسلامية، لكنهم سلكوا سياسة مستقلة فيما يتعلق بالشؤون الخاصة للبلاد.
وفي عهد رياس البحر تطورت البحرية الجزائرية وغدت أقوى الدول في حوض البحر الأبيض المتوسط. هاجمت سردينيا والسواحل الشرقية لأسبانيا، وأغارت على سواحل الممالك الايطالية كصقلية ونابولي، وهددت بذلك الصلات البحرية بين ممتلكات الإمبراطورية الأسبانية وممتلكاتها في إيطاليا. وفشل الأوروبيون في إيقاف عمل البحرية الجزائرية، وعجزت سفنهم الضخمة عن متابعة سفن البحرية الجزائرية الخفيفة وشل حركتها.
وتشير بعض المصادر التاريخية الى انه في عام 1641 اضطر البرلمان البريطاني للانعقاد في جلسة طارئة لمناقشة أنباء عن أن عدد البحارة البريطانيين المحتجزين في الجزائر بلغ نحو 5 آلاف بحار، وفي عام 1700 كتبت قصة شعبية بريطانية بعنوان «ذي الجيريان بايروت» اي القرصان الجزائري، وهي قصة مغامرات لتخويف الاطفال ولا تزال تباع في بريطانيا، وفي مطلع القرن التاسع عشر ظهر كتاب «ذي الجيرين سباي إن كاليفورنيا» اي الجاسوس الجزئري في كاليفورنيا.
وصار لرجال البحر الجزائريين مكانة مرموقة في مدينة الجزائر. وكان ركوب البحر مهنة وجاذبة، وهو ما أغرى الكثير بدخول البحرية والانتظام ضمن صفوفها، حتى أن عددا كبيرا من الأسرى المسيحيين كانوا يعلنون إسلامهم وينخرطون في سلك البحرية.
وبعد أن كانت أعمال البحرية الجزائرية تتسم بطابع جهادي تمثل في صد هجمات المالك الأوروبية المسيحية في سواحل المغرب العربي، تحول نشاطها الى الطابع التجاري، وصارت تلك الأعمال حرفة لطلب الرزق. وعادت هذه الأعمال بالغنى الوافر على البلاد نتيجة للغنائم التي يحصلون عليها.
كان الاسم الحقيقي للدولة الجزائرية هو «أيالة الجـزائر›› وأحيانا اسم «جمهورية الجزائر›› أو «مملكة الجزائر››، وبهذه الأسماء أبرمت عشرات المعاهدات مع دول العالم.
شخصيته
في قلب العاصمة الجزائرية، وتحديدا في ساحة الشهداء ينتصب تمثال شامخ لواحد من أشهر ربابنة البحر الجزائريين.. إنه الريس حميدو بن علي، احد امهر رؤساء البحر الجزائريين، الذي فرض السيطرة الجزائرية على البحر المتوسط وارغم الدول الاوروبية على دفع اتاوات وضرائب لضمان حق المرور في البحر المتوسط. جابت سفنه المحيط الاطلسي واصطدم مع البحرية الاميركية في معركة دامية أدت الى مصرعه عام 1815. ورغم ان الريس حميدو مشهور في التاريخ الجزائري، وهناك ضاحية في غرب العاصمة الجزائرية تحمل اسمه، الا ان الكثيرين في العالم العربي يجهلون سيرة هذا الربان الجزائري الشجاع.
هجمات متكررة على الجزائر
أدى تنامي القوة البحرية الجزائرية الى تجييش القوى الأوروبية لحملات عسكرية لغزو الجزائر، وفي القرن السادس عشر كانت اسبانيا مصدرا لمعظم الغزوات والحملات على الجزائر. ومنتصف القرن السابع عشر انضمت دول اخرى الى اسبانيا منها:
- الحملة البريطانية على مدينة الجزائر عامي 1660 - 1670.
- الحملة الفرنسية على الجزائر وشرشال عامي 1682 - 1683.
- الحملة الأسبانية على وهران في يوليو 1732م.
- حملة أكسموث سنة 1816 بدعوى تنفيذ قرار مؤتمر فيينا.
- معركة ميناء الجزائر ضد القوات الفرنسية في 4 أكتوبر 1827م.
وفي مؤتمر فيينا عام 1815م ومؤتمر اكس لاشابيل 1818م طرحت قضية القوة البحرية الجزائرية، وسعت الدول الأوروبية لأن تتحالف ضد الجزائر من أجل القضاء على القوة البحرية الجزائرية في البحر المتوسط.
أتاوات أوروبية للجزائر
كانت الدول الأوربية تدفع اتاوات للجزائر في عهد رياس البحر، واورد المؤرخ الفرنسي ليون فالبير ما تدفعه دول أوروبا إلى الجزائر لحماية سفنها في البحر المتوسط على النحو التالي:
• مملكة الصقليتين: تدفع مبلغ 44 ألف بياستير سنويا منها 24 ألفا نقدا والباقي في شكل بضائع.
• مملكة توسكانيا الإيطالية: تدفع 23 ألف بياستير كلما جددت قنصلها بالجزائر.
• مملكة سردينيا الايطالية: تدفع مبلغا كبيرا من المال كلما جددت قنصلها بالجزائر.
• البرتغال: تدفع مبلغ 44 ألف بياستير سنويا.
• إسبانيا: تدفع مبالغ مالية كلما جددت قنصلها.
• النمسا: تدفع هدايا دورية مباشرة وعن طريق الدولة العثمانية.
• إنجلترا: تدفع 600 جنيه إسترليني كلما جددت قنصلها.
• هولندا: تدفع 600 جنيه إسترليني.
• أمريكا: تدفع 600 جنيه إسترليني، ثم ارتفعت إلى 62 ألف دولار.
• مملكتا هانوفر وبريم الألمانيتان: تدفعان مبالغ مالية كبيرة كلما جددتا قناصلها.
• السويد والدانمارك: تدفعان مبالغ مالية كبيرة سنوية في شكل مواد حربية قيمتها 400 بياستير.