المجاهد بوصالحيح محمد المدعو باني يروي تفاصيل عملية عين الناموس 19 جوان 1961
لقد أدى القسم الأول من المنطقة الرابعة بالولاية الرابعة (العاصمة)، وخاصة ناحية جبال زكار المشرفة على مليانة وعين التركي (ولاية عين الدفلة)، دورا كبيرا في الثورة المسلحة، وذلك بفضل طبيعتها الجبلية المساعدة على نصب الكمائن وسرعة الاختفاء، وبفضل القاعدة الشعبية الصلبة لجبهة وجيش التحرير الوطني في المنطقة، والتي تكونت منذ أيام النضال السياسي والمنظمة الخاصة. فقد كانت مزارع وبساتين السكان الجبلية مصدرا هاما لتموين المجاهدين بمختلف المواد، كما كان منجم زكار للحديد بمليانة موردا ماليا هاما، خاصة وأنه كان يشتغل به حوالي 3000 منجمي معظمهم يدفعون الاشتراكات لجيش التحرير، علاوة على ما أمكن تهريبه من متفجرات وبارود. وعلى الصعيد العسكري، تلقى الجيش الفرنسي ضربات موجعة في المنطقة في عدة كمائن نصبها جيش التحرير الوطني في ناحية ''عين النسور'' و''الحمامة'' وغيرها منذ السنوات الأولى للثورة. وقد اضطر الجنرال جاك ماسو، قائد الجيش الفرنسي، إلى إرسال العقيد بيجار إلى منطقة مليانة على رأس فيلق المظليين سنة .1957 إلا أن بيجار تلقى ضربة قوية في اشتباك مع مجموعة صغيرة من المجاهدين، حاصرها في سفوح مليانة في 18 أكتوبر .1957 وقد اعترف بيجار شخصيا بذلك في كتابه (حربي في الجزائر) صفحة 71 حيث وصف الاشتباك: ''كان مهولا والصراع مع ''ج.ت.و'' قاسيا، كان يجب القتال فوق كل متر في الميدان.. كان الانتصار غالي الثمن.. هي واحدة من العمليات الأكثر قتالية، فقدت فيها 7 من المظليين''.
ومن أهم العمليات بناحية زكار أيضا عملية عين الناموس في 19 جوان ,1961 والتي وقعت داخل محتشد إجباري أقامه الجيش الفرنسي ضمن خطة الجنرال شال الهادفة إلى عزل الثورة عن الشعب، وكان المحتشد على الطريق الرابط بين مليانة وعين التركي، وفيها قضى جيش التحرير على 13 جنديا فرنسيا وغنم أسلحتهم. وقد نفذت هذه العملية شهرين بعد محاولة جنرالات الجيش الفرنسي في الجزائر قلب نظام ديغول في 21 / 04 / 1961بباريس، وفي وقت كانت فيه جبهة التحرير في الجولة الأخيرة من المفاوضات مع فرنسا، وكانت في حاجة إلى عملية عسكرية ذات صدى في كل التراب الوطني من أجل دعم الوفد الديبلوماسي المفاوض ورفع معنوياته. وقد نفذت هذه العملية بتنسيق محكم وتحضير سري بين المجاهد سي أحمد المجدوب ورفيقه في الجهاد محمد بوصالحيح المدعو (باني)، والذي كان قد التحق بجيش التحرير سنة 1957 ووقع أسيرا سنة 1960 على الحدود المغربية الجزائرية.
وفي إطار الحرب النفسية، قامت الفرق الإدارية (س.ء.س) بإرجاعه إلى المحتشد مقطوع القدم هزيل الصحة وفي حالة يرثى لها، مستهدفة بذلك ترهيب السكان وجعل هذا المجاهد (عبرة) لمن تسمح له نفسه بتأييد المجاهدين. لكن هذا المجاهد زادته إعاقته والتعذيب الذي خضع له شجاعة وولاء للوطن ولجيش التحرير، حيث استطاع بسرعة إعادة ربط الصلة بينه وبين المجاهدين من داخل المحتشد، وخاصة مع سي أحمد المجدوب الذي عرفه قبل أن يقع في الأسر.
ويروي المجاهد باني ما تذكره من تفاصيل وجوانب العملية كما يلي: ((نظرا لكثافة العمليات والاحتضان الشعبي للثورة، قرر الجيش الفرنسي إبتداء من نهاية سنة 1958 تجميع كل السكان المنتشرين بين مليانة وعين التركي داخل محتشدات كبيرة، في منطقة تحيط بها الثكنات والمراكز العسكرية من عدة جهات. وهكذا، أقيمت عدة محتشدات، وكان محتشد عين الناموس على الطريق الرابط بين مليانة وعين التركي أقرب كثيرا إلى جبل زكار، ومعظم الذين جمعوا فيه مزارعون ومنجميون، كما كان المحتشد يعد عدة شهداء وعدة مجاهدين لازالوا يقاتلون الجيش الفرنسي. وهذا ما أبقى على الصلة متينة بين جيش التحرير وسكان المحتشد، رغم المراقبة الشديدة للجيش الفرنسي، حيث استمر الـتموين وجمع الإشتراكات... إلخ.
ولإحكام سيطرته على السكان، أجبر الجيش الفرنسي في نهاية 1959 السكان على حمل السلاح وحراسة المحتشد ليلا، وسمى ذلك (الدفاع الذاتي). وبعدما احتار السكان في أمرهم، وافقت قيادة جيش التحرير على أن يحمل جماعة من الرجال السلاح، على أن يكون ذلك تظاهرا وسيناريو فقط لتغليط العدو.
فحمل بعض الرجال السلاح الفرنسي متظاهرين بالتعاون مع العدو، لكن علاقتهم بجيش التحرير بقيت هي الأحسن. وفي سنة ,1959 قتل الفرنسيون أبي أمام عائلته عندما اكتشفوا أنه ما يزال على علاقة مع جيش التحرير. وفي نفس السنة، انفجر عليّ لغم مضاد للأشخاص على مقربة من أحد الينابيع في جبل زكار، فبترت قدمي اليمنى، وبقيت 11 يوما بدون علاج حقيقي بسبب صعوبة المسلك بين جبال زكار والعيادة الطبية الموجودة في جبال الونشريس، والتي تلقيت فيها العلاج على يد الطبيب المجاهد حسان الخطيب. وفي بداية 1960 قررت القيادة إرسالي مع اثنين من المجاهدين المعطوبين إلى المغرب لاستكمال العلاج. وعلى الحدود المغربية، وقعنا في كمين للعدو فأسرنا، وبقيت في سجن القنادسة ببشار لعدة شهور، حيث خضعت لتعذيب شديد ثم نقلت إلى ثكنة مليانة العسكرية وبقيت بها مدة شهر. وفي نهاية 1960 قال لي قائد الثكنة وكان برتبة عقيد: من المفروض أن نقتلك، لكن قتلنا والدك عوضا عنك، فسوف نطلق سراحك وتبقى تحت مراقبتنا، لا تعد للجبل وتسجل حضورك كل يوم بالإمضاء). وقامت لاصاص (سءس) بنقلي إلى محتشد عين الناموس مقطوع القدم هزيل الصحة رث الثياب، هادفة جعلي عبرة لمن يتعاون مع جبهة التحرير ومبينة للسكان (شهامة وتسامح فرنسا ورئيسها ديغول مع المجاهدين).
ومنذ اليوم الأول في المحتشد، فكرت في العودة إلى صفوف جيش التحرير، غير مبال بإعاقتي وصحتي، خاصة وأني وجدت كل سكان المحتشد مازالوا مع جبهة التحرير، يجمعون الاشتراكات والمؤونة، ويترصدون تحركات العدو، ويتابعون أخبار وانتصارات جيش التحرير، رغم ما فقدوه من شهداء. وهكذا، استطعت بسرعة إعادة ربط الصلة بالمجاهدين، وخاصة مع سي المجدوب الذي عرفته قبل أن أقع في الأسر.
وحدث أنه في بداية 1961 قام الجيش الفرنسي بتجريد السكان من مسجد صغير ومقهى داخل المحتشد، وأقام فيهما مركزا عسكريا به حوالي 20 جنديا. وأخضع رجال ''الدفاع الذاتي'' إلى الأوامر المباشرة لقائد المركز الفرنسي. وذات يوم، اقترحت على سي المجدوب أن أقوم بقتل أحد الجنود الفرنسيين وأستولي على سلاحه وأعود إلى الجبل، لكن سي المجدوب نصحني بالانتظار وترقب فرصة أحسن وعملية ذات صدى أكبر. ومن هنا، ظهرت لنا فكرة القضاء على كل الجنود بالمركز، وبدأ التحضير منذ شهر ماي 1961 في سرية تامة، وتمثلت مهمتي في ترصد الجنود الفرنسيين داخل المركز كل يوم وإحصائهم وتتبع تحركاتهم وأوقات تغيير الحراس ونوعية وكمية سلاحهم... إلخ. وبعد دراسة جميع الجوانب، اتفقنا على لقاء كان ليلة 16 أو 17 جوان 1961 خارج المحتشد وفيها تم تحديد ليلة 19 و20 جوان موعدا للهجوم.
وعند مغيب شمس يوم 19 جوان وكان يوم الاثنين، كان سي المجدوب مرابطا برفقة حوالي 20 مجاهدا وسط البساتين القريبة جدا من جبل زكار، وكنت أنا والشهيد عبد الرحمن أولعربي قد تركنا لهم ما تيسر من الأكل في أحد البيوت المهجورة خارج المحتشد. وبعد تناولهم العشاء، تسللت إليهم، فسألني سي المجدوب عن عدد الجنود الفرنسيين في تلك الليلة فقلت .14 بعدها، قام سي المجدوب بتذكير جنوده بالاحتياطات والتعليمات اللازمة، وقرر أن الهجوم سوف يكون بعد مغيب القمر مباشرة.
وعند منتصف الليل، عمّ الظلام، وكان الجنود الفرنسيون قد دخلوا المركز ما عدا اثنين كانا في الحراسة قرب الباب. وبدأنا نرتقب اللحظة المناسبة للهجوم، وبقدرة الله حدث أن تحرك جسم قرب الحارس الفرنسي وسط الظلام، فأطلق عليه النار، ولم يكن في الواقع سوى كلب تائه، اتضح لنا ذلك من خلال عواء ذلك الحيوان، فعاد الجندي الفرنسي إلى مكانه. وهنا، حضرت الفرصة، حيث طلبنا من مسؤول الدفاع الذاتي بويحيى حميدة، وكان من الموالين لجيش التحرير، أن يقول للجندي الفرنسي الذي كان في المداومة (إذا كنتم في حاجة إلى تكثيف الحراسة، فندعمكم ببعض الحراس الجزائريين من الدفاع الذاتي). فرحب الجندي الفرنسي بالفكرة. وهنا، قام مجاهد اسمه (الطاهر) كان رفقة سي المجدوب بارتداء عمامة ومعطف مدني وتسلل وسط الظلام، حتى وقف أمام الجندي الفرنسي الذي اعتقد أنه حارس جزائري. وفجأة، طعنه واستولى على سلاحه، في حين أطلق مجاهد آخر النار على الحارس الفرنسي الثاني. وبسرعة كبيرة، هاجمنا بقيادة سي المجدوب باقي الجنود داخل المركز وقضينا على 13 جنديا، ثم شرعنا في جمع سلاح وذخيرة العدو. وقد غنمنا 11 قطعة سلاح أوتوماتيكي ورشاشة ثقيلة (قام المجاهد الطاهر كريمي بإطلاق عدة عيارات منها في نفس المكان تعبيرا عن نجاح العملية)، كما غنمنا جهاز إرسال لاسلكي ومنظارا مكبرا وكمية هامة من الذخيرة والملابس والأحذية العسكرية و10 قطع سلاح كانت في مركز (الدفاع الذاتي).
ومن جهتنا، جرح مجاهدان. وعند رحيلنا، عززنا صفوفنا بـ10 رجال من المحتشد، منهم بويحيى حميدة وبعض رفاقه الذين كانوا في (الدفاع الذاتي) إلتحقوا بجيش التحرير، وعدنا جميعا إلى جبال زكار، طالبين مزيدا من النصر أو الشهادة في سبيل الله رفقة سي المجدوب الذي توفي في حي العناصر بمليانة بـنهاية .1961 ويحمل اليوم اسمه شارع في مليانة ومدرسة في عين التركي)).
أما عن رد فعل العدو بعد العملية، ففضل المجاهد باني بكل تواضع أن تؤخذ بعين الاعتبار شهادات المدنيين وعائلات الشهداء في هذا النوع من العمليات، وذلك كما قال من أجل كتابة أكثر موضوعية لتاريخ الثورة ((في طريق عودتنا إلى الجبل مباشرة، سمعنا دوي آليات العدو ورأينا أضواءها. وفي الصباح، شاهدنا من مخابئنا الطائرات الفرنسية تحلق فوق المحتشد، وعلمنا فيما بعد أن الجيش الفرنسي قتل فور وصوله 11 رجلا. وفي الصباح، جمع كل السكان وعرضهم في صفوف على الطريق الرابط بين مليانة وعين التركي من أجل التعرف على من غادر المحتشد مع المجاهدين، وانهال عليهم بشتى أنواع الشتائم والإهانات، ثم أمرهم بدفن الشهداء على مقربة من المحتشد ووعدهم بشر الانتقام.
وقد بادرت بلدية عين التركي بتخليد هذه الحلقة من تاريخ الثورة بإنجاز معلم تاريخي في عين المكان إنصافا ووفاء للشهداء الذين رووا هذه الأرض بدمائهم الزكية، رحمهم الله)).
لقد أدى القسم الأول من المنطقة الرابعة بالولاية الرابعة (العاصمة)، وخاصة ناحية جبال زكار المشرفة على مليانة وعين التركي (ولاية عين الدفلة)، دورا كبيرا في الثورة المسلحة، وذلك بفضل طبيعتها الجبلية المساعدة على نصب الكمائن وسرعة الاختفاء، وبفضل القاعدة الشعبية الصلبة لجبهة وجيش التحرير الوطني في المنطقة، والتي تكونت منذ أيام النضال السياسي والمنظمة الخاصة. فقد كانت مزارع وبساتين السكان الجبلية مصدرا هاما لتموين المجاهدين بمختلف المواد، كما كان منجم زكار للحديد بمليانة موردا ماليا هاما، خاصة وأنه كان يشتغل به حوالي 3000 منجمي معظمهم يدفعون الاشتراكات لجيش التحرير، علاوة على ما أمكن تهريبه من متفجرات وبارود. وعلى الصعيد العسكري، تلقى الجيش الفرنسي ضربات موجعة في المنطقة في عدة كمائن نصبها جيش التحرير الوطني في ناحية ''عين النسور'' و''الحمامة'' وغيرها منذ السنوات الأولى للثورة. وقد اضطر الجنرال جاك ماسو، قائد الجيش الفرنسي، إلى إرسال العقيد بيجار إلى منطقة مليانة على رأس فيلق المظليين سنة .1957 إلا أن بيجار تلقى ضربة قوية في اشتباك مع مجموعة صغيرة من المجاهدين، حاصرها في سفوح مليانة في 18 أكتوبر .1957 وقد اعترف بيجار شخصيا بذلك في كتابه (حربي في الجزائر) صفحة 71 حيث وصف الاشتباك: ''كان مهولا والصراع مع ''ج.ت.و'' قاسيا، كان يجب القتال فوق كل متر في الميدان.. كان الانتصار غالي الثمن.. هي واحدة من العمليات الأكثر قتالية، فقدت فيها 7 من المظليين''.
ومن أهم العمليات بناحية زكار أيضا عملية عين الناموس في 19 جوان ,1961 والتي وقعت داخل محتشد إجباري أقامه الجيش الفرنسي ضمن خطة الجنرال شال الهادفة إلى عزل الثورة عن الشعب، وكان المحتشد على الطريق الرابط بين مليانة وعين التركي، وفيها قضى جيش التحرير على 13 جنديا فرنسيا وغنم أسلحتهم. وقد نفذت هذه العملية شهرين بعد محاولة جنرالات الجيش الفرنسي في الجزائر قلب نظام ديغول في 21 / 04 / 1961بباريس، وفي وقت كانت فيه جبهة التحرير في الجولة الأخيرة من المفاوضات مع فرنسا، وكانت في حاجة إلى عملية عسكرية ذات صدى في كل التراب الوطني من أجل دعم الوفد الديبلوماسي المفاوض ورفع معنوياته. وقد نفذت هذه العملية بتنسيق محكم وتحضير سري بين المجاهد سي أحمد المجدوب ورفيقه في الجهاد محمد بوصالحيح المدعو (باني)، والذي كان قد التحق بجيش التحرير سنة 1957 ووقع أسيرا سنة 1960 على الحدود المغربية الجزائرية.
وفي إطار الحرب النفسية، قامت الفرق الإدارية (س.ء.س) بإرجاعه إلى المحتشد مقطوع القدم هزيل الصحة وفي حالة يرثى لها، مستهدفة بذلك ترهيب السكان وجعل هذا المجاهد (عبرة) لمن تسمح له نفسه بتأييد المجاهدين. لكن هذا المجاهد زادته إعاقته والتعذيب الذي خضع له شجاعة وولاء للوطن ولجيش التحرير، حيث استطاع بسرعة إعادة ربط الصلة بينه وبين المجاهدين من داخل المحتشد، وخاصة مع سي أحمد المجدوب الذي عرفه قبل أن يقع في الأسر.
ويروي المجاهد باني ما تذكره من تفاصيل وجوانب العملية كما يلي: ((نظرا لكثافة العمليات والاحتضان الشعبي للثورة، قرر الجيش الفرنسي إبتداء من نهاية سنة 1958 تجميع كل السكان المنتشرين بين مليانة وعين التركي داخل محتشدات كبيرة، في منطقة تحيط بها الثكنات والمراكز العسكرية من عدة جهات. وهكذا، أقيمت عدة محتشدات، وكان محتشد عين الناموس على الطريق الرابط بين مليانة وعين التركي أقرب كثيرا إلى جبل زكار، ومعظم الذين جمعوا فيه مزارعون ومنجميون، كما كان المحتشد يعد عدة شهداء وعدة مجاهدين لازالوا يقاتلون الجيش الفرنسي. وهذا ما أبقى على الصلة متينة بين جيش التحرير وسكان المحتشد، رغم المراقبة الشديدة للجيش الفرنسي، حيث استمر الـتموين وجمع الإشتراكات... إلخ.
ولإحكام سيطرته على السكان، أجبر الجيش الفرنسي في نهاية 1959 السكان على حمل السلاح وحراسة المحتشد ليلا، وسمى ذلك (الدفاع الذاتي). وبعدما احتار السكان في أمرهم، وافقت قيادة جيش التحرير على أن يحمل جماعة من الرجال السلاح، على أن يكون ذلك تظاهرا وسيناريو فقط لتغليط العدو.
فحمل بعض الرجال السلاح الفرنسي متظاهرين بالتعاون مع العدو، لكن علاقتهم بجيش التحرير بقيت هي الأحسن. وفي سنة ,1959 قتل الفرنسيون أبي أمام عائلته عندما اكتشفوا أنه ما يزال على علاقة مع جيش التحرير. وفي نفس السنة، انفجر عليّ لغم مضاد للأشخاص على مقربة من أحد الينابيع في جبل زكار، فبترت قدمي اليمنى، وبقيت 11 يوما بدون علاج حقيقي بسبب صعوبة المسلك بين جبال زكار والعيادة الطبية الموجودة في جبال الونشريس، والتي تلقيت فيها العلاج على يد الطبيب المجاهد حسان الخطيب. وفي بداية 1960 قررت القيادة إرسالي مع اثنين من المجاهدين المعطوبين إلى المغرب لاستكمال العلاج. وعلى الحدود المغربية، وقعنا في كمين للعدو فأسرنا، وبقيت في سجن القنادسة ببشار لعدة شهور، حيث خضعت لتعذيب شديد ثم نقلت إلى ثكنة مليانة العسكرية وبقيت بها مدة شهر. وفي نهاية 1960 قال لي قائد الثكنة وكان برتبة عقيد: من المفروض أن نقتلك، لكن قتلنا والدك عوضا عنك، فسوف نطلق سراحك وتبقى تحت مراقبتنا، لا تعد للجبل وتسجل حضورك كل يوم بالإمضاء). وقامت لاصاص (سءس) بنقلي إلى محتشد عين الناموس مقطوع القدم هزيل الصحة رث الثياب، هادفة جعلي عبرة لمن يتعاون مع جبهة التحرير ومبينة للسكان (شهامة وتسامح فرنسا ورئيسها ديغول مع المجاهدين).
ومنذ اليوم الأول في المحتشد، فكرت في العودة إلى صفوف جيش التحرير، غير مبال بإعاقتي وصحتي، خاصة وأني وجدت كل سكان المحتشد مازالوا مع جبهة التحرير، يجمعون الاشتراكات والمؤونة، ويترصدون تحركات العدو، ويتابعون أخبار وانتصارات جيش التحرير، رغم ما فقدوه من شهداء. وهكذا، استطعت بسرعة إعادة ربط الصلة بالمجاهدين، وخاصة مع سي المجدوب الذي عرفته قبل أن أقع في الأسر.
وحدث أنه في بداية 1961 قام الجيش الفرنسي بتجريد السكان من مسجد صغير ومقهى داخل المحتشد، وأقام فيهما مركزا عسكريا به حوالي 20 جنديا. وأخضع رجال ''الدفاع الذاتي'' إلى الأوامر المباشرة لقائد المركز الفرنسي. وذات يوم، اقترحت على سي المجدوب أن أقوم بقتل أحد الجنود الفرنسيين وأستولي على سلاحه وأعود إلى الجبل، لكن سي المجدوب نصحني بالانتظار وترقب فرصة أحسن وعملية ذات صدى أكبر. ومن هنا، ظهرت لنا فكرة القضاء على كل الجنود بالمركز، وبدأ التحضير منذ شهر ماي 1961 في سرية تامة، وتمثلت مهمتي في ترصد الجنود الفرنسيين داخل المركز كل يوم وإحصائهم وتتبع تحركاتهم وأوقات تغيير الحراس ونوعية وكمية سلاحهم... إلخ. وبعد دراسة جميع الجوانب، اتفقنا على لقاء كان ليلة 16 أو 17 جوان 1961 خارج المحتشد وفيها تم تحديد ليلة 19 و20 جوان موعدا للهجوم.
وعند مغيب شمس يوم 19 جوان وكان يوم الاثنين، كان سي المجدوب مرابطا برفقة حوالي 20 مجاهدا وسط البساتين القريبة جدا من جبل زكار، وكنت أنا والشهيد عبد الرحمن أولعربي قد تركنا لهم ما تيسر من الأكل في أحد البيوت المهجورة خارج المحتشد. وبعد تناولهم العشاء، تسللت إليهم، فسألني سي المجدوب عن عدد الجنود الفرنسيين في تلك الليلة فقلت .14 بعدها، قام سي المجدوب بتذكير جنوده بالاحتياطات والتعليمات اللازمة، وقرر أن الهجوم سوف يكون بعد مغيب القمر مباشرة.
وعند منتصف الليل، عمّ الظلام، وكان الجنود الفرنسيون قد دخلوا المركز ما عدا اثنين كانا في الحراسة قرب الباب. وبدأنا نرتقب اللحظة المناسبة للهجوم، وبقدرة الله حدث أن تحرك جسم قرب الحارس الفرنسي وسط الظلام، فأطلق عليه النار، ولم يكن في الواقع سوى كلب تائه، اتضح لنا ذلك من خلال عواء ذلك الحيوان، فعاد الجندي الفرنسي إلى مكانه. وهنا، حضرت الفرصة، حيث طلبنا من مسؤول الدفاع الذاتي بويحيى حميدة، وكان من الموالين لجيش التحرير، أن يقول للجندي الفرنسي الذي كان في المداومة (إذا كنتم في حاجة إلى تكثيف الحراسة، فندعمكم ببعض الحراس الجزائريين من الدفاع الذاتي). فرحب الجندي الفرنسي بالفكرة. وهنا، قام مجاهد اسمه (الطاهر) كان رفقة سي المجدوب بارتداء عمامة ومعطف مدني وتسلل وسط الظلام، حتى وقف أمام الجندي الفرنسي الذي اعتقد أنه حارس جزائري. وفجأة، طعنه واستولى على سلاحه، في حين أطلق مجاهد آخر النار على الحارس الفرنسي الثاني. وبسرعة كبيرة، هاجمنا بقيادة سي المجدوب باقي الجنود داخل المركز وقضينا على 13 جنديا، ثم شرعنا في جمع سلاح وذخيرة العدو. وقد غنمنا 11 قطعة سلاح أوتوماتيكي ورشاشة ثقيلة (قام المجاهد الطاهر كريمي بإطلاق عدة عيارات منها في نفس المكان تعبيرا عن نجاح العملية)، كما غنمنا جهاز إرسال لاسلكي ومنظارا مكبرا وكمية هامة من الذخيرة والملابس والأحذية العسكرية و10 قطع سلاح كانت في مركز (الدفاع الذاتي).
ومن جهتنا، جرح مجاهدان. وعند رحيلنا، عززنا صفوفنا بـ10 رجال من المحتشد، منهم بويحيى حميدة وبعض رفاقه الذين كانوا في (الدفاع الذاتي) إلتحقوا بجيش التحرير، وعدنا جميعا إلى جبال زكار، طالبين مزيدا من النصر أو الشهادة في سبيل الله رفقة سي المجدوب الذي توفي في حي العناصر بمليانة بـنهاية .1961 ويحمل اليوم اسمه شارع في مليانة ومدرسة في عين التركي)).
أما عن رد فعل العدو بعد العملية، ففضل المجاهد باني بكل تواضع أن تؤخذ بعين الاعتبار شهادات المدنيين وعائلات الشهداء في هذا النوع من العمليات، وذلك كما قال من أجل كتابة أكثر موضوعية لتاريخ الثورة ((في طريق عودتنا إلى الجبل مباشرة، سمعنا دوي آليات العدو ورأينا أضواءها. وفي الصباح، شاهدنا من مخابئنا الطائرات الفرنسية تحلق فوق المحتشد، وعلمنا فيما بعد أن الجيش الفرنسي قتل فور وصوله 11 رجلا. وفي الصباح، جمع كل السكان وعرضهم في صفوف على الطريق الرابط بين مليانة وعين التركي من أجل التعرف على من غادر المحتشد مع المجاهدين، وانهال عليهم بشتى أنواع الشتائم والإهانات، ثم أمرهم بدفن الشهداء على مقربة من المحتشد ووعدهم بشر الانتقام.
وقد بادرت بلدية عين التركي بتخليد هذه الحلقة من تاريخ الثورة بإنجاز معلم تاريخي في عين المكان إنصافا ووفاء للشهداء الذين رووا هذه الأرض بدمائهم الزكية، رحمهم الله)).