الزعيم الجزائري المظلوم ، و تراجيديا التاريخ المصادر
بقلم: يزيد بوعنان*
بحلول شهر جوان تكون قد مرت حوالي 34 سنة عن وفاة أحد الرموز الذين ساهموا بفعالية في صناعة تاريخ الجزائر الحديث ، إنه الزعيم الوطني الكبير مصالي الذي أفنى حياته في السجون و المعتقلات و المنفى دفاعا عن الجزائر و الجزائريين و لكنه مات غريبا في فرنسا التي كافحها منذ العشرينيات ،
و المأساة الكبرى تكمن في أنه مات محروما من الجنسية الجزائرية ، و حتى السلطات الجزائرية التي وافقت عند وفاته سنة 1973م على دفنه في الجزائر اشترطت أن يتم ذلك في صمت تام بعيدا عن كل الأضواء ولكن أبى أهله وأصدقاؤه إلا ان يكسروا جدار الخوف و استقبلوا جثمانه بحماس كبير مرددين نشيد حزب الشعب "فداء الجزائر" وسط زغاريد النسوة و في جو من الحسرة و الخشوع بأعين دامعة و قلوب تعتصرها الآلام .
و قد ظل الحصار مضروبا على الرجل حتى و هو ميت في قبره إذ منعت السلطات كل من حاول تنظيم الندوات التي تتناول حياته و نضاله ، كما منع الترخيص بالنشاط لحزب الشعب الجزائري غداة إصدار قانون "الجمعيات ذات الطابع السياسي" سنة 1989م بسبب واه تمثل في " السلوك المضاد للثورة أثناء حرب التحرير" و هي تهمة تعني الخيانة للوطن رغم أن المؤرخين لم يثبتوها، وإنصافا لهذا الزعيم المظلوم نريد أن نميط اللثام عن بعض جوانب حياته المضيئة.
" طفولة و شباب كلها نضال و كفاح :
ولد " مسلي أحمد " المعروف بمصالي الحاج يوم 16 ماي 1898 بمدينة تلمسان من أب فلاح و كان هذا الأب شخصا محترما و مبجلا لدى الجميع و متدينا و كان يشغل أيضا كقيم وحارس قبة سيدي عبد القادر بتلمسان ، أما أمه فهي "فاطمة صاري حاج الدين " فكانت ابنة قاض شرعي و حرفي ميسور الحال ، و عندما بلغ مصالي الحاج سن الدراسة اقترحت عليه أمه المدرسة العربية ، لكن أباه أراد تسجيله في إحدى المدارس الفرنسية لأنه كان يرى بأن تعلم الفرنسية سيمكن ابنه من الدفاع عن نفسه و الدفاع عن بلده و استقلاله و بالفعل كان له ما أراد ، و لكن دخول التلميذ مصالي الحاج إلى إحدى المدارس الابتدائية الفرنسية لم تجعله مقطوع الجذور عن ثقافته العربية الإسلامية بحكم أن أباه كما أشرناه كان رجلا متدينا ، فكثيرا ما كان مصالي الحاج يتردد على الزاوية الدرقاوية كغيره من أفراد عائلته ، فجعلت منه شخصية عربية مسلمة نابعة من بيئته ، و في سنة 1905 حيث كان لا يتعدى سبع سنوات كان من المشاركين في استقبال الرئيس الفرنسي آنذاك و هذا عندما حط بتلمسان في زيارة لها و ربما هناك بدأت تتبلور قناعاته و تساؤلاته السياسية التي بلورها فيما بعد في كل الحركات التي أنشأها ، كما تأثر مصالي الحاج بالتجنيد الإجباري للجزائريين ، و بالرغم من هذا التأثر العميق إلا أن دوره سيأتي في عام 1918 حيث جند في الجيش الفرنسي و رقي إلى رتبة رقيب ، و هذا التجنيد فتح له أفاقا جديدة في مستقبله السياسي و الكفاحي ضد الاستعمار جعلت منه أبا للوطنية الجزائرية بحق ، و بعد تسريحه من الخدمة الاجبارية و زواجه بالفرنسية "اميل بوسكيت" وفق أصول و قواعد الشريعة الاسلامية ، عمل كغيره من المغتربين في مصانع و معامل فرنسا و كان كثير الاحتجاج لأنه لا يطيق رؤية مظاهر الميز العنصري و الظلم الاجتماعي التي كانت تمارس على العمال المغتربين خاصة العرب ، مما جعل أصحاب المصانع يصفونه بالمشوش بسبب احتجاجاته الدائمة و الجريئة على مظاهر الاستغلال.
و استغل مصالي الحاج وجوده بفرنسا لتحسين مستواه العلمي و الثقافي إذ كثيرا ما كان يتردد على مدرجات جامعة "السوربون" ليس كطالب رسمي ، و لكن كعصامي يريد ان يغرف من العلوم و الثقافات الإنسانية لتحسين مستواه ،كما استطاع أن يكون نسيجا من العلاقات الإنسانية و العلمية و الثقافية حيث تعرف هناك على الأديب الكبير "محمد ديب" و الزعيم " نهرو" و كذلك "شكيب أرسلان " و غيرهم من الزعماء و الكتاب و المثقفين القادمين من البلدان المستعمرة ،و التي بدأت تشهد في تلك الفترة ميلاد الكثير من الأحزاب و الحركات التحررية.
النشاط الحزبي لمصالي الحاج :
إن الأحداث التاريخية التي واكبها مصالي الحاج كان لها الأثر البالغ في صقل حياته النضالية و السياسية إذ أنه عاصر أحداث الحرب العالمية الأولى، سقوط الخلافة الإسلامية ، الثورة البلشفية ،و ثورة الريف المغربي بقيادة عبد الكريم الخطابي ، فحفزته كل هذه الأحداث على التفكير في إيجاد إطار سياسي يبلور من خلاله أفكاره و رؤاه السياسية حيث انخرط في "الحزب الشيوعي الفرنسي " ثم أسس بمعية " الحاج علي عبد القادر " " الجيلالي شبيلا " ما سمي آنذاك بحزب "نجم شمال إفريقيا " و ذلك سنة 1926 وكان هذا الحزب يطالب باستقلال كل البلدان التي تقع في شمال إفريقيا أو ما تسمى حاليا بدول " المغرب العربي " و كان واضحا من خلال القائمة الاسمية للمؤسسين بأن تأثير الحزب الشيوعي الفرنسي برز بشكل جلي رغم أن النجم ولد بإرادة جزائرية، و في 26 فيفري من سنة 1927 شارك مصالي الحاج في وفد ممثلا على النجم في مؤتمر بروكسل لمناهضة الاستعمار و طالب في تدخله باستقلال الجزائر، و لكن سياسة مصالي الحاج الوطنية الداعية إلى الاستقلال لم ترض الشيوعيين الذين كانت سيطرتهم واضحة على " النجم " فأوقف الحزب الشيوعي مساعداته المالية مما جعل الصراع بين مصالي و الشيوعيين يبلغ أشده ، فأنسحبت كل العناصر الشيوعية من " النجم" و هو ما جعل السلطات الفرنسية تقدم على حله و ذلك بتاريخ 20 نوفمبر من سنة 1929 م بتحريض و إيعاز من الحزب الشيوعي ، فاضطر مصالي الحاج للإعلان عن إعادة بعث وتأسيس الحزب تحت اسم جديد و هو "نجم إفريقيا الشمالية المجيد" وحينها برزت كفاءة مصالي الحاج و مقدرته في إدارة الحزب الجديد و توجبه سياسته الوطنية المستقلة ، و انتخب مصالي سنة 1933 رئيسا للنجم المجيد " و لكنه أوقف في نوفمبر 1934 بتهمة إعادة تنظيم جمعية منحلة ثم حكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهلر نافذة وغرامة مالية مقدارها 200 فرنك ، ثم انتقل إلى جنيف بسويسرا و كان دائم الاتصال بالأمير " شكيب أرسلان " و قام بنشاطات مكثفة لصالح القضية الجزائرية.
و بعد تولي الجبهة الشعبية الحكم في فرنسا و إصدارها العفو العام عاد مصالي إلى باريس بتاريخ 18 جوان 1936 و في 02 أوت من نفس العام عاد إلى الجزائر حيث حضر المؤتمر الإسلامي الجزائري و ألقى خطابا أمام حوالي 2000 مشارك و أعلن عن رفضه التام للمشروع الاندماجي أو ما سمي بمشروع " بلوم فيوليت” و صرخ بأعلى صوته و هو ممسك بحفنة من تراب " هذه الأرض أرضنا و لن نبيعها لأحد " و عند الانتهاء من خطبته حملته الجماهير على الأعناق معبرة عن تأييد له ضد دعاة الإدماج ،و في 25 جانفي 1937 تم الاعلان عن حل جمعية "النجم المجيد" ،و كان مصالي الحاج بفرنسا فطلب من أنصاره العمل تحت اسم جمعية " أحباب الأمة " و ظل هكذا إلى أن أسس مع رفاقه في 11 مارس 1937م " حزب الشعب الجزائري" و انتقل إلى الجزائر في شهر جوان و لكنه سرعان ما اعتقل بمعية خمسة أعضاء من الحزب بتهمة التشويش و التضامن ضد السلطة الفرنسية ، و أصبح ينتقل بين سجون الحراش، و بربروس و حكم عليه بالسجن لمدة سنتين مع حرمانه من كافة حقوقه المدنية و السياسية ، و في سنة 1939 حلت الإدارة الفرنسية حزب " الشعب الجزائري" و منعت جرائده من الصدور ، و في أكتوبر من نفس العام اعتقل مصالي من جديد مع بعض أنصاره ، و حكم عليهم بـ16 سنة سجنا نافذة و بعد نزول قوات الحلفاء بالجزائر سنة 1942 أطلق سراح مصالي الحاج من سجن " تازولت" بباتنة ، و وضع تحت الإقامة الجبرية ثم أبعد إلى مدينة القليعة بالجنوب الجزائري ، ثم عاد إلى العاصمة أقام بمنطقة بوزريعة و أسس " حركة انتصار الحريات الديمقراطية" التي انبثقت عنها فيما بعد المنظمة السرية (O-S) و التي تعتبر النواة الأولى المفجرة للثورة و ذلك بعد الانشقاقات التي وقعت في صفوف حزب الشعب خاصة بين المصاليين و المركزيين ، و ظهرت لجنتان موازيتان للاعداد للثورة ، اللجنة الأولى هي " اللجنة الثورية للوحدة و العمل " و لكن مصالي رفض التعاون معها و أسس لجنة ثانية سماها : " اللجنة الثورية الجزائرية " و اجتمعت هذه الأخيرة يوم 15 أوت 1954 و حددت المسؤوليات و قسمت البلاد إلى ست ولايات و ثلاث مناطق ثورية ، و لكن اللجنة الثورية للوحدة و العمل فأجاتهم و سبقتهم بإعلان الثورة في أول نوفمبر 1954.
و عند اندلاع الثورة لم يقف مصالي الحاج موقف العدو و منها –كما يصوره البعض- بل أنه لم يكن و اثقا من قدرات تلاميذ الأمس الذين تربوا في مدرسته السياسية و النضالية الاستقلالية ، و لم يهضم خروجهم عن طاعته ، و يمكن أن نعتبر الأحداث الأليمة التي اندلعت آنذاك خاصة في فرنسا بأنها مجرد إنزلاقات هامشية على حساب الغاية الاستراتيجية التي ناضل من أجلها مصالي الحاج و لم يتوقف حتى في عز الثورة التحريرية ، حيث قدم سنة 1956 مذكرة للامم المتحدة مطالبا باستقلال الجزائر ، كما أنه رفض الدعوة التي وجهها له الجنرال " ديغول " سنة 1960 للتفاوض حول الاستقلال ، لأن الزعيم كان يرى بأن الهدف من ذلك هو إضعاف الثورة ، و بعد الاستقلال بقي مصالي الحاج في فرنسا إلى أن وافته المنية يوم 03 جوان 1973.
التاريخ سوف يخرج و لو دفنوه :
إن حياة مصالي الحاج اعتبرت منتهية منذ اعلان الثورة و اصراره على عدم الانضمام إلى جبهة التحرير الوطني أسوة بخصومه السياسيين مثل المركزيين و حزب البيان و جمعية العلماء المسلمين و غيرهم ، جعله يبدو في نظر البعض عاملا من عوامل التفرقة لينتهي مصالي الحاج كما بدأ منفيا بفرنسا التي حاربها و لكنها احترمته و سمحت له بالاقامة في ترابها رغم العداء القديم بينهما في حين حرمته بلاده التي كرس حياته لخدمتها و الدفاع عنها ليس فقط من دخولها بل من حمل جنسيتها حيث مات محروما منها و لم تعط له الجنسية الجزائرية أبدا .
هذه الصورة التراجيدية التي انتهى اليها واحد يعد بحق الأب الثوري للحركة الوطنية الاستقلالية الجزائرية ، تعبر عن مسار معبر لتاريخنا الوطني و تدعونا إلى ضرورة إعادة زعماء تاريخيين مثل مصالي الحاج إلى الراهن السياسي حتى تعرف الأجيال مسارات تاريخها الوطني ، حتى و إن كانت هذه العودة تعتبر لجوء متأخرا لديمقراطية ناشئة و هشة تبحث عن مرجعية في تاريخ تغذى كثيرا من التهميش و التزوير و التوجيه و عانى من سيطرة الأساطير و الخطابات الشعبوية و كبرياء الشمولية ،كما ان ضرورة هذه العودة تقودنا إلى إعادة قراءة مسارات و توجهات الحركة الوطنية دون ديماغوجية أو زيف أو تحريف و ذلك من أجل بناء ديمقراطية صلبة و تعددية حقيقية تعيد لتاريخنا معناه الوطني الأصيل بعيدا عن كل هيمنة من قبيل هيمنة الايديولوجيات الهشة و الشرعيات المزيفة و البعيد أيضا عن التوظيف الانتقائي و العصبوي للانجازات و الأعمال التاريخية التي قامت بها مختلف الفئات و الحركات مهما اختلفت توجهاتها و مساراتها ، و نغير بالتالي تلك الصورة التراجيدية التي الصقت بجدارية التاريخ الوطني لمجرد أن المصورين- بفتح الواو و تشديدها- اختلفوا مع المصورين – بكسر الواو و تشديدها- فهل يتحقق حلم النخب الجديدة من الأجيال الصاعدة لسعيها لاحداث تغيير جذري على مستوى الأفكار و التصورات التنميطية المحنطة ، أم ان هذه الأجيال ستبقى رهائن للذين صادروا تاريخنا و استقلالنا – على حد تعبير المرحوم فرحات عباس- ؟ و هل يمكن أن تتحقق المصالحة مع تاريخ و عقل و ذات هذه الأمة ؟ إن هذه المصالحة إن تحققت بامكانها تقزيم الديناصورات الذين استولوا و صادروا و وجهوا تاريخنا وفق اهوائهم و رغباتهم ، إن مصالي الحاج بالرغم من كل شيء يبقى رمزا للوطنية ، و يبقى ايضا مثالا حيا لتراجيديا التاريخ الوطني المصادر ’ و لكن كما قال مصالي نفسه في ذكرى تأسيس حزب الشعب سنة 1968 : " هناك خيانة كبيرة للتاريخ الجزئري ، هناك سرقة لما قام به الشعب ، أنا لا أتكلم عن نفسي ، بل اتكلم عن جميع المناضلين باسم الحق ، لأن الكذب أصبح كثيرا، و لكن التاريخ سوف يخرج و لو دفنوه تحت الأرض ".
و نختم هذا الموضوع بمقولة لكبير الحوت السياسي في الجزائر :- عبد الحميد مهري - في حق الرجل : " مصالي الحاج رجل عظيم لأنه استطاع أن يجمع الشعب الجزائري على مطلب التحرر و لأنه ناضل و هو حريص على مقومات الشخصية الجزائرية بالأساليب العصرية، و إذا كان جيل الثورة على صواب فهذا لا يعني انه اصبح معصوما من الأخطاء".