بقلم الدكتور عبد الرزاق مقري
لم يكن تأسيس حركة المجتمع الإسلامي في آخر شهر ماي من سنة 1991 سوى الإعلان عن مرحلة جديدة لنضال الشيخ محفوظ نحناح والأعضاء المؤسسين الذين قُدمت أسماؤهم لوزارة الداخلية ومن يمثلونهم في مختلف ولايات الوطن. لقد كانت هذه الخطوة خطوة أساسية بكل تأكيد إذ سمحت بالخروج للحالة الأصلية للدعوة الإسلامية وهي العلنية والشرعية القانونية غير أن الانتقال لهذه المرحلة ما كان له أن يكون لو لم تسبقه نضالات كبيرة وتضحيات جسيمة لأكثر من عشرين سنة سبقت التأسيس القانوني
لقد كان الشيخ محفوظ ورفيقه الشيخ بوسليماني رحمهما الله من الوجوه الدعوية البارزة التي عايشت محاولات استئناف العمل الإصلاحي مباشرة بعد رحيل الاستعمار الفرنسي في إطار جمعية القيم الإسلامية على يد ثلة من العلماء والدعاة من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وغيرهم أمثال الشيخ الهاشمي التجاني والشيخ عبد اللطيف سلطاني والشيخ سحنون والشيخ العرباوي وغيرهم، كما شاركا واستفادا من الحركية الفكرية التي بعثها الأستاذ مالك بن النبي في أوساط النخب المثقفة، كما انتفعا رحمهما الله من الرموز الثورية التي كان لا يزال عطاؤها أصيلا ومتواصلا كأمثال المجاهد محفوظي معلم الشيخ وأستاذه.
لقد كانت الجزائر عامرة في بداية الاستقلال بشخصيات كبيرة ونخب متميزة في مختلف المجالات السياسية والفكرية والعلمية والدعوية والفنية والأدبية التي صقلتها التجربة الفذة للحركة الوطنية قبل الثورة والتحديات الخارقة لحرب التحرير وكان بإمكان هذه الشخصيات أن تشكل حولها طبقة قيادية متنوعة تقود المجتمع نحو النهضة والتطور في جو تعددي سلمي وآمن. غير أن هذه الفرصة بددتها سياسة القمع السياسي والنظرة الأحادية التي فُرضت على الجزائر مباشرة بعد الاستقلال إذ أُجهضت كل مبادرات استئناف الإصلاح وأُغلقت أفواه المفكرين والدعاة ولوحق السياسيون ففُرضت الإقامة الجبرية على عدد من العلماء والدعاة وعلى رأسهم الشيخ البشير الإبراهيمي الذي توفي في منفاه واغتيل عدد من السياسيين وقادة الثورة الكبار كأمثال كريم بلقاسم وخيضر وشعباني وغيرهم وفُرضت سياسة الحزب الواحد والنمط الاشتراكي العلماني وأطلق العنان في أوساط الطلبة والشباب للأفكار المصادمة لقيم الجزائر وإرث الثورة.
أمام هذا الانقلاب تحولت مجهودات الإصلاح إلى حركات إسلامية معارضة لنظام الحكم انطلق أغلبها من الجامعات برز من خلالها عدد من الشباب كان من بينهم الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله الذي اتجه في بداية مشواره الدعوي والسياسي اتجاها راديكاليا حيث عُرف بخطبه وبياناته النارية ومواقفه الجذرية واقترابه الشديد من بعض رموز المعارضة السياسية ضمن تنظيم سمي جماعة الموحدين وقد أدى به هذا الاتجاه إلى القيام بحركة احتجاجية صارمة ضد الثورة الزراعية ونهج الميثاق الوطني الاشتراكي البومديني سميت بقضية " قطع أعمدت الهاتف" التي في إثرها ألقي عليه القبض وحكم عليه بخمسة عشر سنة سجنا قضى منها خمس سنوات من سنة 1976 إلى 1981.
أمام هذا الانقلاب تحولت مجهودات الإصلاح إلى حركات إسلامية معارضة لنظام الحكم انطلق أغلبها من الجامعات برز من خلالها عدد من الشباب كان من بينهم الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله الذي اتجه في بداية مشواره الدعوي والسياسي اتجاها راديكاليا حيث عُرف بخطبه وبياناته النارية ومواقفه الجذرية واقترابه الشديد من بعض رموز المعارضة السياسية ضمن تنظيم سمي جماعة الموحدين وقد أدى به هذا الاتجاه إلى القيام بحركة احتجاجية صارمة ضد الثورة الزراعية ونهج الميثاق الوطني الاشتراكي البومديني سميت بقضية " قطع أعمدت الهاتف" التي في إثرها ألقي عليه القبض وحكم عليه بخمسة عشر سنة سجنا قضى منها خمس سنوات من سنة 1976 إلى 1981.
لقد كانت فترة السجن فرصة كبيرة للشيخ محفوظ للتأمل الفكري في النهج الذي يجب اتجاهه في مواجهة نظام مستبد أدار ظهره لعهد الشهداء ومواثيق المجاهدين وأذاق معارضيه مختلف ألوان الإقصاء والتصفية والتعذيب، وحينما أُفرج عليه اتجه الشيخ محفوظ نحناح اتجاها آخر في أسلوبه الدعوي والسياسي إذ صار يبتعد عن كل دواعي التوترات وأسباب الصدام مع نظام الحكم، وقد دفعه إلى هذا النهج الجديد بالإضافة إلى تأملات السجن استفادته من التطورات الفكرية التي وقعت في جماعة الإخوان المسلمين تحت تأثير مرشدها الثالث عمر التلمساني في اتجاه الحوار مع الحكام والصبر على آذاهم وقد كان فضيلة الشيخ رحمه الله على اتصال بجماعة الإخوان قبل دخوله السجن ثم تعمقت علاقته بهم بشكل أفضل بعده، وعلاوة على هذه التأثيرات الفكرية ساهم جو الانفتاح الذي سلكه الرئيس الجديد الشادلي بن جديد في ترسيخ هذه القناعة.
وبالفعل بعد بداية صدامية بين نظام الحكم والحركة الإسلامية عبر عنها التجمع التاريخي في الجامعة المركزية سنة 1982 اتجهت الحركة الإسلامية في مجملها اتجاها معتدلا سوى استثناء جماعة بويعلي المسلحة سنة 1985 التي تبرأ منها كل الدعاة فاستفادت الحركة الإسلامية من مساحة واسعة للحرية استغلتها أحسن استغلال لنقل الدعوة الإسلامية إلى كل القرى والمدن في مختلف أنحاء الوطن وقد كان للشيخ محفوظ نحناح في آخر عهد الثمانينيات الحظ الأوفر في هذا الانتشار بالرغم من أنه لم يكن يمثل الطرف الأقوى في الساحة الإسلامية عند خروجه من السجن سنة 1981، فقد التحقت به كثير من المجموعات الإسلامية من مختلف جهات الوطن كانت قد شكلت نفسها على هدي كتب جماعة الإخوان المسلمين وتأثرًا بالبلاء الذي أصاب رجالها في سبيل دعوتهم وقناعةً بالشخصية السمحة المرحة للشيخ محفوظ وبلاغته وسمته لا سيما أنه لم يكن طرفا في الصراعات التي وقعت بين بعض الجماعات الإسلامية والتي كان ينفر منها كثير من شباب الصحوة.
لقد كان هذا المجهود الدعوي ينطلق من تنظيم سري هرمي يتفرع من المكتب القطري إلى جهات ثم إلى المناطق فالنواحي وانتهى هذا التطور الدعوي إلى تنظيم أول مؤتمر تنظيمي سنة 1989 سمي المؤتمر التمهيدي.
وبالموازاة مع الانتشار الدعوي انخرطت الحركات الإسلامية بقوة في معركة الهوية ضد التيارات التغريبية اليسارية والعرقية التي استطاعت أن تتوغل في مختلف مفاصل الحكم وكان لها امتداداتها الواسعة في المنظمات الطلابية والعمالية والنسوية ولم يتنه عقد الثمانينيات حتى انهزمت تلك التيارات انهزاما كاسحا وقد ساعد على هزيمتها الحسم الفكري والثقافي الذي قام به مفجرو الثورة التحريرية الكبرى من خلال بيان أول نوفمبر الذي حدد بشكل إبداعي طبيعة الدولة التي جاهدوا لتحقيقها ( دولة ديموقراطية شعبية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية) وكذا وجود تيار وطني فاعل داخل نظام الحكم بقي وفيا لروح هذا البيان وجد نفسه متحالفا تحالفا موضوعيا مع الصحوة الإسلامية وأبلى بلاء حسنا في التمكين لمطالب التعريب وأصالة المنظومة التربوية وإسلامية المنظومة الأسرية.
تميز الشيخ محفوظ على أقرانه من الدعاة في تلك المرحلة بفهم البعد الاستراتيجي للعلاقة مع هؤلاء الرجال الوطنيين داخل النظام وقد ساعده هذا الإدراك على حسن إدارة الصراع الذي نشب في مرحلة التسعينيات.
لقد سبق محنة التسعينيات إرهاصات كبيرة كان أبرزها أحداث 05 أكتوبر 1988، وقد كانت تلك الأحداث فرصة كبيرة لتصحيح الخطأ الذي وقع بعد الاستقلال حيث أدى تراكم الإخفاقات والانحرافات إلى تصاعد موجات الرفض الشعبي لنظام الحكم و إلى تنامي الفساد والصراعات في داخله حتى إذا اشتدت الأزمة الاقتصادية بسبب انهيار أسعار النفط واتسعت الفروق الاجتماعية وقع الانفلات وخرج الشباب للشوارع يهتفون بالحقوق والتغيير وإنهاء الفساد في مشاهد متطابقة تمام التطابق مع ما يحدث اليوم في الساحات العربية، وقد أثمرت تلك الاحتجاجات إصلاحات دستورية غير مسبوقة في الوطن العربي، وتعددية سياسية حقيقية وانفتاحا إعلاميا واسعا.
ولو توفّر للجزائر آنذاك نخبة حاكمة صالحة وطبقة قيادية إسلامية مقتدرة لكانت الجزائر اليوم على حال أفضل من الحال الذي هي عليه. ولعل قلة الخبرة لدى الإسلاميين وعجز الحركة الإسلامية في تأطير قُواها وتسديد أدائها بسبب تشتتها وقلة الحوار بينها ورفضها لمشاريع وحدة الصف التي سعى لها بعض الخيرين في منتصف الثمانينيات ثم في بداية التسعينيات سبب رئيسي من أسباب ضياع هذه الفرصة وسيتحدث التاريخ مستقبلا عن ذلك المجد الضائع وتفاصيل قصته.
كانت تنظيمات الاعتدال والوسطية هي الغالبة في الحركة الإسلامية قبل التعددية وكان حولها تيار واسع من المتعاطفين مع الحل الإسلامي بالإضافة إلى أتباع جماعة التبليغ الذين كان لهم انتشار بارز، وأتباع الاتجاه السلفي الذي لم يكن له وجود معتبر آنذاك سوى حيوية ونشاط أحد أبرز وجوهه علي بلحاج، وكثير من الدعاة المستقلين من أبرزهم عباسي مدني.
لم يكن هناك شيء يجمع هاذين الرجلين سوى تشدد موقفهم وخطابهم من نظام الحكم وموقفهم المعارض للحركات الإسلامية المُنظَّمة كما لم يكن لهاذين الرجلين شيء يخافان عليه إذا ما أقدما على أي موقف سياسي جريء فسارعا إلى تأسيس حزب سياسي إسلامي ملكا به الأغلبية الساحقة للتيارات الشعبية المتعاطفة مع الإسلاميين والغاضبة على نظام الحكم، ساعدهم في ذلك السبق الحزبي والخطاب المتشدد في زمن بلغ فيه الاحتقان أوجه. كان الشيخ محفوظ كغيره من أصحاب التنظيمات الإسلامية العريقة متوجسا من الانفتاح السياسي خائفا من مزالقه على مكاسب الدعوة فبادر إلى تأسيس جمعية ثقافية دعوية هي جمعية الإرشاد والإصلاح سنة 1989 وحينما رأى بأن لا صوت يُسمع غير صوت السياسة وأن الحاجة إلى التميز صارت ضرورية وحيوية أسس حركة المجتمع الإسلامي.
أدرك الشيخ محفوظ نحناح مبكرا بأن الثنائية القطبية التي فُرضت على المجتمع الجزائري بين جبهة الإنقاذ والنظام والتصعيد المتنامي بينهما سيؤدي لا محالة إلى انزلاقات كبيرة، وبالفعل ألغيت الانتخابات التشريعية، وحُل الحزب الفائز واتهمه خصومه بأنه يريد أن ينقلب على الديموقراطية بعد نجاحه، وانحرفت الجزائر إلى أتون العنف ودخلت في دواهي الصدام الدموي، وطفت على سطح المشهد السياسي أولويات جديدة غاب معها التفكير في المصلحة الحزبية والطموحات السياسية وحتى طموح التمكين للبرنامج والمنهج الإسلامي. لقد شعر الشيخ محفوظ نحناح بأن ثمة مخاطر استراتيجية وتحديات بنيوية لا بد من مواجهتها ولو على حساب الحركة بل ولو على حساب النفس ذاتها، لقد صار الخطر يهدد ما هو أعلى من النفس وما هو أعلى من الحركة، لقد صار البلد كله في خطر ومؤسسات الدولة على شفا حفرة وصارت صورة الإسلام في مهب الريح ومشروعه إلى تهالك مفني وأهل المشروع على خطر عظيم.
أظهر تقييم الوضع للشيخ محفوظ ومن معه بأن انهيار الوحدة الوطنية خطر لا جدال فيه فظهر في قاموسه السياسي عبارات تحذر من ذلك كحديثه عن "الصوملة" و"اللبننة" و"الروندة" ورأى بأن السبيل الوحيد لدفع هذا الخطر هو الحوار بين جميع الأطراف مهما تناقضت اتجاهاتُهم فبادرت الحركة ومن قبلها جمعية الإصلاح والإرشاد إلى إنشاء ودعم كثير من محاولات اللقاء بين مختلف الأحزاب والتيارات مثل مبادرة التحالف الوطني الإسلامي ومبادرة التحالف الجمهوري الإسلامي (تاج)، ومجموعة السبعة ومجموعة السبعة + 1، ومبادرة السلام ومبادرة الجدار الوطني ومبادرة الصلح وفكرة المصالحة الوطنية، وغير ذلك من المبادرات الكثيرة المتنوعة.
لم يكن هذا التوجه المرفوض عند الكثيرين في ذلك الوقت عديم التأصيل فحينما كان الشيخ يستفز العقول الرافضة للتعامل مع العلمانيين والفاسدين بقوله " أتحاور حتى مع الشيطان" كان يرمز إلى أن الله تعالى الذي خلق إبليس بنفسه تحاور معه وهو يعلم بأنه من أهل النار وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرج في الصحيفة بندا ينص على التناصر بين المسلمين وبين اليهود من أجل الوطن " وبينهم النصر على من داهم يثرب".
ومما كان يشغل الحركة ورجالها هو التفاف التيار العلماني المنهزم شعبيا على الوضع مستغلا وجوده في مفاصل الدولة وبعض معاقل المجتمع المدني لمحاربة الإسلام باسم محاربة الإرهاب والاعتداء على المتدينين وشملهم جميعا في سلة واحدة مع المتشددين وحملة السلاح، مثلما حاول فعل ذلك أحد رؤساء الحكومات السابقين من خلال استراتيجية " نقل الرعب إلى الطرف الآخر" التي اشتهر بها والتي يقصد بها جميع الإسلاميين حيث أنه لا يزال إلى اليوم يقول لا فرق بين الإسلاميين وأن المعتدلين منهم أخطر من المتشددين.
أمام هذا الكيد العظيم خطت الحركة استراتيجية مضادة مشهورة في قاموسها السياسي اسمها " التميُّز" وهي عنوان لتطوير شامل للفكر الإسلامي ظهرت آثاره في الخطاب والسلوك وحتى الهندام لدى جميع أبناء الحركة في كل ربوع الوطن من مرتفعات العاصمة بالمرادية إلى أبعد الأحياء في الصحاري والقرى والمداشر.
حرص الخطاب على إدانة العنف والبراءة منه ولو كان باسم الدين وكانت الحجج المعتمدة تقليدية أحيانا تعتمد على النص والأثر ولكنها كانت أحيانا أخرى استفزازية يقصد بها رسم الحدود الفكرية بكل صرامة مثل عبارة " شاقوريصت" و " خنجاريست" التي صدمت الكثير، و كان المقصود كذلك من الخطاب المتميز إظهار رحمة الإسلام ودوره في حفظ الوطن و دعوته لانخراط الجميع في بنائه كما ساهم الجميع في تحريره فبرزت عبارة " الجزائر حررها الجميع ويبنيها الجميع" وإظهار سعة الشريعة لاستيعاب آليات الديموقراطية وتوافقهما في الأداء السياسي ومسارات إصلاح الحكم فظهرت عبارة " الشوراقراطية" وفكرة " البحث عن الحلقة المفقودة بين الإسلام والوطنية والديموقراطية " كما التزم السلوك المتميز بالابتعاد عن كل مظاهر الشبهة والريب في كل ما من شأنه أن يسيء للإسلام ولمصداقية من حملوا لواءه فظهرت عبارة " وثيابك فطهر" وعبارة " أيادينا نظيفة" وعبارات كثيرة وتصرفات متكررة تهدف إلى ترسيخ مفهوم الوطنية لدى أبناء الحركة وأفراد المجتمع وتروم وصْلا بوطنيين مخلصين ومجاهدين صادقين أضعف انقلاب الوضع وجودهم في ميزان القوة السياسي فلا بد من تشجيعهم والبحث عن سبل التحالف معهم والنظر في كيفية الاستفادة من تجربتهم ومعارفهم ومعلوماتهم.
أما عن الهندام فقد وصل الاهتمام به حدا من المبالغة لا يتفهمه إلا من أدرك مخاطر تلك المرحلة و مدى بعد النقلة الحضارية التي كان يريدها الشيخ محفوظ، فكان رحمه الله لا يَسلَمُ من نظرات عيونه الفاحصة للمظهر أحدٌ دخل مكتبه، وحينما يكون الابتذال في اللباس فاحشا يتغير وجهه وقد ينبه إلى ذلك بعبارة مازحة تحقق المطلوب دون أن تؤذي، ولا شك أن جميع من حضر تلك المرحلة يتذكر عبارة " لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام حيا للبس الألباغا ولركب الكونكورد" التي لم يستوعبها بعض من لم يدرك مقاصد استعمال العبارات الشعبية الموقظة للمشاعر والمثيرة للجدل بغرض حفر أعماق المفاصلة بين منهجي الوسطية والتطرف في زمن كان الخلط بين الأشكال والمضامين خطيرا على المنهج والتنظيم والوطن والأشخاص، ولا يعني ذلك البتة بأن سلوك التدين وسمت الإيمان لم يكن يهم الشيخ محفوظ بل كان رحمه الله يسلك أحسن السبل للتوجيه نحوه من خلال القدوة والالتزام الشخصي إذ كان يفزع للصلاة متى سمع النداء ويقطع كل شيء إذا حضرت، ولا تفوته راتبة النافلة بعد الفرض أبدا، وكان حين يكمل ختمة القرآن الشهرية يجمع من حوله في مكتبه للدعاء، وكان رحمه الله لا تسمع منه غيبة ولا نميمة رغم كثرة من خالفهم وخالفوه، وكان رحمه سيّال الدمع رقيق القلب يغمر الناس جميعا بعاطفة لا حد لها.
أظهرت التجربة منذ الوهلة الأولى بأن النمط الهيكلي الذي كان يعتبر الحزب مجرد واجهة سياسية لجماعة سرية لا يستوعب هذه المجالات التطويرية فاختارت الحركة دمج جميع الهياكل في تنظيم واحد هو الحزب السياسي ولا شك أن هذا الاختيار الذي ينخرط ضمن استراتيجية أشمل سميت " استراتيجية الانفتاح" قد نقل الحركة إلى مستويات عالية في الأداء السياسي والعمل المؤسساتي ومجال العلاقات وطمأنة المحيط والانفتاح على المجتمع والخروج من الذهنية السرية وثقافة المحنة ولكن آثاره السلبية كانت كبيرة كذلك أبرزها اهتزاز الصف وخروج قيادات كبيرة من الجهات التنظيمية الست منذ بدايات الانفتاح في المؤتمر التمهيدي وعند تأسيس الحزب وعند قرار الإدماج ومن آثاره السلبية كذلك انتقال أحسن الموارد البشرية في مجال الدعوة إلى التنافس السياسي وتراجع أولوية الدعوة أمام التحديات السياسية والأمنية.
على خطوط هذه الدروب الوعرة كان على الحركة بصفتها حزبا سياسيا معتمدا أن تتخذ قرارا حاسما تجاه إعادة بناء مؤسسات الدولة التي أنهكتها سنون الحزب الواحد المعتمدة على الشرعية التاريخية بلا توفيق ولا نجاح، ثم جاءها إلغاء الانتخابات التشريعية بعد التعددية فأفقدها الشرعية الشعبية، ووضعها بلا مصداقية في مواجهة الداخل والخارج، ثم زاد اغتيال رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف سنة 1992 الطينة بلة.
وحينما أرادت السلطة الحاكمة إنشاء مجلس انتقالي لملء الفراغ التشريعي على إثر ندوة الحوار الوطني سنة 1994 التي توَّجت الأمين زروال رئيسا للدولة قررت الحركة المشاركة فيه فدشّنت بذلك دخولها في استراتيجية طويلة وعميقة صارت اليوم هي السمة البارزة لها وهي "استراتيجية المشاركة" التي كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى المحافظة على وجود الدولة التي بدونها لا وطن ولا سيادة و لا مجتمع ولا أحزاب ثم التموقع في مختلف مستويات الحكم التي يمكن الوصول إليها بغرض عدم ترك الساحة للعلمانيين وحدهم ودفع ما يمكن دفعه من مفاسد وتحقيق ما يمكن تحقيقه من مصالح من داخل الحكم وأخذ قسط من التجربة يؤهل الحركة لأدوار أكبر في المستقبل.
في مقابل مشروع الندوة الوطنية الرسمي حاولت الجبهات الثلاثة ( جبهة التحرير، جبهة الإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية) تشكيل بديل آخر في سانت إيجيديو خارج الوطن وبعد فحص سريع لهذه المبادرة علم الشيخ محفوظ الذي حضر جانبا منها ثم تركها بأن اللقاء بين المشروعين مستحيل وأن الحل يكمن في العودة للمسار الانتخابي ليفصل الشعب في الوجهة التي يريدها وعندها بدأت معارك خوض الانتخابات التي قاطعتها أهم الأحزاب في الانتخابات الرئاسية سنة 1995 ثم رجعت جميعها إليها وطُوي الحديث عن شرعية المؤسسات وبدأ السير نحو حل الأزمة تتضح معالمه.
كانت الحركة هي رأس حربة مواجهة التطرف وهي قاطرة العودة لبناء المؤسسات ولم يكن يشاركها هذا الهم أحد ممن يزايد اليوم بالوطنية من الأحزاب المشكلة للتحالف القائم أو غيرها، وقد قدمت في طريق ذلك أربع مائة شهيد من أفضل رجالها على رأسهم فضيلة الشيخ بوسليماني الذي قُتل لأنه رفض تقديم فتوى تبيح قتل الجزائريين. لقد كانت الحركة تعمل هذا في سبيل الله من أجل الدولة وليس من أجل النظام رغم علمها بعدم استيعاب كثير من الناس لهذا الفرق، ورغم إدراكها بأن نظام الحكم سيستفيد من مواقفها إذ أن ذلك هو حال أنظمة العالم المتخلف التي تتملك الدولة ومؤسساتها حتى تجعل إسقاطها هو إسقاط الدولة ذاتها كما يحدث اليوم في ليبيا واليمن.
لقد كان الرجوع للمسار الانتخابي والتحاق الطبقة السياسية كلها به فرصة عظيمة أخرى لبناء نموذج جزائري ناجح أخّاذ يوصل لأغلى ما يتمناه المواطن من التنمية والكرامة والرقي. غير أن فساد النوايا وضعف التمسك بالوطن لصالح الغايات الخاصة جعل هذا المسار مشوّها باستراتيجية التزوير الخبيثة التي جعلت الناخبين يتركون شيئا فشيئا حقهم في الإدلاء برأيهم في من يحكمهم. اعتقد كثير من الجزائريين ممن صوت لجبهة الإنقاذ أو غيرهم بأن موقف السلطة من هذا الحزب قد يكون مفهوما بسبب تشدده فاتجهوا بقوة لتمكين الشيخ محفوظ من الرئاسة في أول انتخابات رئاسية تعددية سنة 1995 معتقدين بأن أصحاب القرار سيوافقونهم على هذا بسبب اعتدال الشيخ ولِما قدّمه من أعمال هرقلية لصالح الوطن غير أن ظنّهم خاب فلم تنفع ملايين الأصوات التي أخذها زعيم الوسطية والاعتدال في الجزائر لتجعل منه الرئيس الشرعي للبلاد.
وعلى عكس ذلك بدأت المؤامرة تحاك ضده وضد حزبه بمكر ودهاء عظيمين فتغير الدستور وقانوني الأحزاب والانتخابات على مقاس الفئة الحاكمة وضد الشيخ نحناح نفسه وأُسِّس حزب جديد للنظام بدعم الإدارة وفُرض هذا الحزب على الجزائريين بسلطان التزوير في الانتخابات التشريعية والمحلية سنة 1997 ثم صار التزوير والتزييف منهجا ماكرا ذكيا لتشكيل الساحة السياسية وكان الشيخ محفوظ يعتقد بأن سبب ذلك إنما هو الخوف الشديد من الإسلاميين فانتهج نهج الصبر و التوغل في استراتيجية "الطمأنة" و"تطبيع العلاقات" من خلال المشاركة في كل الحكومات منذ 1996 إلى يومنا هذا والمرافعة لصالح الجزائر في مختلف المحافل خارج الوطن ومواجهة محاولات تدخل القوى الدولية المتربصة في شؤون الجزائر الداخلية من خلال حملة "من يقتل من؟" التي انخرطت فيها منظمات جزائرية ودولية ولجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الأمم المتحدة على إثر المجازر التي وقعت في النصف الثاني من عقد التسعين.
غير أن كل هذا لم ينفع في قبول الشيخ محفوظ كبديل سياسي مهما كانت وطنيته وكفاءته ومهما نال من تأييد شعبي ودولي فارتُكبت في حقه جريمة تاريخية تهتز لها الجبال لن يمحُ عارَها تقادمُ الزمن إذ مُنع رحمه الله من الترشح لانتخابات الرئاسة في سنة 1999 التي كان فيها الفارس الوحيد القادر على منافسة عبد العزيز بوتفليقة، وفعلوا ذلك بحجة ظالمة أساءت لكرامة الشيخ وتاريخه حيث أنهم، لسخافتهم وقلة وفائهم ومروءتهم، لم يجدوا دليلا على مشاركته في الثورة التحريرية رغم الشهادة الموثقة التي قدمها قادة الولاية التاريخية الرابعة التي كانت تتبعها البليدة، فاضطر الشيخ رحمه الله رحمة واسعة إلى الرجوع للعودة للتحالف مع من ظلمه ليس خوفا على الوطن هذه المرة لأنه لم يعد شيء يهدد الوطن كما كان الحال من قبل ولكن لأن خياراته صارت ضيقة وكان لا بد له من وقت كاف لتقييم الوضع الجديد واتخاذ ما يجب من استراتيجيات وآليات جديدة خصوصا بعد الخسارة الانتخابية الحقيقية في انتخابات 2002.
دخل رحمه في حالة شديدة من الكآبة بعد هذا البلاء الشديد وتغيّر ميزاجه وكثر غيابه عن تسيير شؤون المكتب التنفيذي الوطني واستقال من هذا المكتب جل العناصر الجديدة ذات الكفاءة والمستويات العلمية العالية التي أتى بها الشيخ في المؤتمر الثاني سنة 1998 ورجع إلى قيادة الحركة كل العناصر الذين استبدلهم رحمه في هذا المؤتمر ضمن استراتيجية تطويرية مستقبلية لم تكتمل للأسف الشديد، وتوفاه الله عليه من الله أزكى الرحمات على إثر مرضه العضال فانتقل إلى رحمة ربه وقد أدى الذي عليه ودخل التاريخ من بابه العالي بإنجازاته الاستراتيجية الكبرى التي سيتحدث عنها الزمن وتدرسها الأجيال وترك تركة كبيرة صعبة الإدارة والتسيير بإيجابياتها وسلبياتها فنُظّم المؤتمر الثالث من بعده سنة 2003 وأفرز قيادة غير منسجمة لم ينفع عملها المشترك طيلة خمس سنوات لردم الهوة بينها، وجاء المؤتمر الرابع سنة 2008 فتعمق الشرخ ولم يصبر أحد الطرفين المشكل في غالبيته من العناصر القديمة التي رجعت للمكتب التنفيذي في ظروف مرض الشيخ وحالته النفسية الصعبة على النتائج الديموقراطية للمؤتمر الرابع وحدث الانقسام المرير الذي أعيا كل وساطات الداخل والخارج رغم التنازلات الكبيرة غير المسبوقة في تاريخ انشقاقات الحركات الإسلامية التي قدمتها الطبقة القيادية للحركة التي جدد المؤتمر الأخير الثقة بها.
رغم الخلافات الشديدة التي عرفتها الحركة بعد الشيخ محفوظ ورغم التراجع الكبير على المستوى الشعبي وبعض منظماتها الرديفة فقد استطاعت أن تحقق إنجازات كبيرة أظهرت للجميع بأنها لا تزال رقما صعبا وأن حظوظها وافرة لإقلاع جديد فحققت تقدما معبّرا في الانتخابات التشريعية والمحلية سنة 2007 تحت شعار التغيير الهادئ وأظهرت قدرة تعبوية كبيرة احتكرت فيها القدرة الذاتية على ملء الملاعب والقاعات وتقدمت على سائر القوى السياسية والاجتماعية في خدمة القضية الفلسطينية سواء من حيث التعبئة وجلب الدعم لصالحها أو من حيث المشاريع الكبرى كمشروع الوقفية المقدسية وحملة شريان الحياة خمسة لكسر الحصار على غزة وخصوصا أسطول الحرية التاريخي المبارك الذي كسّر الحصار على غزة وكذلك على الحركة من محاولات عزلها التي انتهجها الخصوم والأشقاء على السواء.
كما استطاعت أن تحقق إنجازات كبيرة على مستوى الوزارات التي تشغلها، وعلى مستوى تطوير وتعميم المناهج التربوية، وإظهار دور وأهمية الصيرفة الإسلامية، والمحافظة على الزخم الطلابي، و تحقيق قدر إضافي في الانتشار التنظيمي رغم الصعوبات الميدانية والسياسية وقلة الملاءمة اللائحية الداخلية، وعلى مستوى العلاقات، كما استطاعت أن تجعل من وظيفة التخطيط والتدريب ثقافة عامة في صفوفها والبيئة المحيطة بها، وانتبهت لأهمية دور الشباب في مستقبل الأيام ـ قبل أن يصبح هذا الهم موضة متبعة بعد الثورات العربية ـ فأسست لهم منظمات كبرى شهد لها بعض كبار المفكرين الإسلاميين والعلماء والدعاة المهتمين بالتنمية البشرية بأنها مشاريع إبداعية غير مسبوقة سيكون لها أثر كبير بحول الله.
ومن أهم ما ميز أداء الحركة رغم تلك الظروف الصعبة تقدمها الصفوف للمطالبة بالإصلاحات حينما لاحت بوادر التغيير في الوطن العربي بل إنها حينما رفعت لواء المطالبة بالنظام البرلماني سايرها أغلب مفردات الطبقة السياسية وصارت في ذلك قدوة يترقب الناس موقفها.
ظن شركاؤها في التحالف للوهلة الأولى بأن سقفها المرتفع في المطالبة بالإصلاح ما هو إلا مجرد اتباع للموجة فلما أدركوا إصرار الحركة أصابهم القلق وفقدوا اللياقة في التعامل مع قيادتها. ولعل قلقهم ذلك مرده علمهم بقدرة الحركة على تغيير الموازين إن ثبتت على خطها السياسي الجديد و لإطلاعهم على تنامي الأصوات المطالبة بالتغيير من داخل الصف لتأهيل الحركة للريادة من أجل تنمية الجزائر وتطويرها بعد أن عجز النظام القائم منذ نصف قرن من الزمن على ذلك رغم كل الدعم الذي لا يقدر بثمن الذي قدمته الحركة له.
وبالفعل لقد أصبح طموح الحركة باديا لأخذ زمام المبادرة ولتحسين وضعها على كل الأصعدة ومنه وضعها الانتخابي لتنال الأغلبية البرلمانية يوما ما لتشكيل حكومة وطنية ناجحة تتحمل مسؤوليتها بنفسها أو من خلال تحالفات جديدة تقوم على قواعد وموازين جديدة تفرزها نتائج انتخابية صحيحة أقرب أجل لها هي انتخابات 2017 التي ستصادف تطورات في الجزائر والعالم العربي يمنع من التلاعب بإرادة الشعب.
لم يصبح يمنع من ذلك شيء اليوم فقد قدمت الحركة للجزائر كل شيء حتى تعافى هذا الوطن الحبيب ولا يمكن تحقيق شيء أكثر مما تحقق من داخل النظام ولا فرصة جادة لإصلاح هذا النظام من داخله ولا يوجد ثمة مجال لرفع فزاعة الإرهاب فالخطر المتربص بالدولة اليوم لا يسكن الجبال الوعرة والأحياء الفقيرة ولدى الإسلاميين المتشددين، إن الخطر اليوم يسكن في قصور الحكم والأحياء الفاخرة وفي عقول العلمانيين المتكبرين المتخفِّين، إن اسمه على ألسنة كل الناس وعلى صفائح كل الجرائد، إنه الفساد الذي يوشك أن يفتك بالبلد.
ثم إن زمن القهر والديكتاتوريات والاستعلاء على الشعوب قد ولى فأي شيء يمنع من رفع مستوى الطموح غير تيار العجز والكسل ورهاب التغيير وتبدل المواقع الذي إن غلب في الحركة ضاعت فرصتها إلى الأبد، وربما نُساهم في ضياع الفرصة على الأمة العربية كلها لأن الجزائر لا بد أن تكون حاضرة بأهميتها الاستراتيجية في التحالفات العربية المستقبلية ثم السنية العربية - التركية ثم التحالفات السنية الشيعية وفق رؤية مستقبلية لصالحها ولصالح فلسطين ولصالح العرب والمسلمين ليس هذا مجال الحديث عنها.
لم يصبح الوقت كافيا لتتخلف الحركة عن الانطلاق برصيدها المشرف عبر عشرين تسبقها عشرون منذ التأسيس الرسمي لتبدأ في تأهيل نفسها لهذا المجد العظيم لأنها رغم مكاسبها الجمة ورغم إمكانية إدراك هذا الطموح لا تزال أمامها نقائص كبرى لا بد أن تعالجها وإنجازات ذات أهمية قصوى لا بد أن تحققها على أصعدة عديدة ومختلفة سيأتي زمن ذكرها، بنهج جديد لم يجرب من قبل، يختلف عن نهج الصدام الذي اقتضته ظروف مرحلة التأسيس وفرض الوجود قبل سجن 1975، ويتميز عن مرحلة المهادنة التي أملتها سنوات الفتنة قبل زمن الإصلاحات ورياح التحولات سنة 2011
عبد الرزاق مقري
الجزائر يوم 19 جوان 2011
لم يكن تأسيس حركة المجتمع الإسلامي في آخر شهر ماي من سنة 1991 سوى الإعلان عن مرحلة جديدة لنضال الشيخ محفوظ نحناح والأعضاء المؤسسين الذين قُدمت أسماؤهم لوزارة الداخلية ومن يمثلونهم في مختلف ولايات الوطن. لقد كانت هذه الخطوة خطوة أساسية بكل تأكيد إذ سمحت بالخروج للحالة الأصلية للدعوة الإسلامية وهي العلنية والشرعية القانونية غير أن الانتقال لهذه المرحلة ما كان له أن يكون لو لم تسبقه نضالات كبيرة وتضحيات جسيمة لأكثر من عشرين سنة سبقت التأسيس القانوني
لقد كان الشيخ محفوظ ورفيقه الشيخ بوسليماني رحمهما الله من الوجوه الدعوية البارزة التي عايشت محاولات استئناف العمل الإصلاحي مباشرة بعد رحيل الاستعمار الفرنسي في إطار جمعية القيم الإسلامية على يد ثلة من العلماء والدعاة من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وغيرهم أمثال الشيخ الهاشمي التجاني والشيخ عبد اللطيف سلطاني والشيخ سحنون والشيخ العرباوي وغيرهم، كما شاركا واستفادا من الحركية الفكرية التي بعثها الأستاذ مالك بن النبي في أوساط النخب المثقفة، كما انتفعا رحمهما الله من الرموز الثورية التي كان لا يزال عطاؤها أصيلا ومتواصلا كأمثال المجاهد محفوظي معلم الشيخ وأستاذه.
لقد كانت الجزائر عامرة في بداية الاستقلال بشخصيات كبيرة ونخب متميزة في مختلف المجالات السياسية والفكرية والعلمية والدعوية والفنية والأدبية التي صقلتها التجربة الفذة للحركة الوطنية قبل الثورة والتحديات الخارقة لحرب التحرير وكان بإمكان هذه الشخصيات أن تشكل حولها طبقة قيادية متنوعة تقود المجتمع نحو النهضة والتطور في جو تعددي سلمي وآمن. غير أن هذه الفرصة بددتها سياسة القمع السياسي والنظرة الأحادية التي فُرضت على الجزائر مباشرة بعد الاستقلال إذ أُجهضت كل مبادرات استئناف الإصلاح وأُغلقت أفواه المفكرين والدعاة ولوحق السياسيون ففُرضت الإقامة الجبرية على عدد من العلماء والدعاة وعلى رأسهم الشيخ البشير الإبراهيمي الذي توفي في منفاه واغتيل عدد من السياسيين وقادة الثورة الكبار كأمثال كريم بلقاسم وخيضر وشعباني وغيرهم وفُرضت سياسة الحزب الواحد والنمط الاشتراكي العلماني وأطلق العنان في أوساط الطلبة والشباب للأفكار المصادمة لقيم الجزائر وإرث الثورة.
أمام هذا الانقلاب تحولت مجهودات الإصلاح إلى حركات إسلامية معارضة لنظام الحكم انطلق أغلبها من الجامعات برز من خلالها عدد من الشباب كان من بينهم الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله الذي اتجه في بداية مشواره الدعوي والسياسي اتجاها راديكاليا حيث عُرف بخطبه وبياناته النارية ومواقفه الجذرية واقترابه الشديد من بعض رموز المعارضة السياسية ضمن تنظيم سمي جماعة الموحدين وقد أدى به هذا الاتجاه إلى القيام بحركة احتجاجية صارمة ضد الثورة الزراعية ونهج الميثاق الوطني الاشتراكي البومديني سميت بقضية " قطع أعمدت الهاتف" التي في إثرها ألقي عليه القبض وحكم عليه بخمسة عشر سنة سجنا قضى منها خمس سنوات من سنة 1976 إلى 1981.
أمام هذا الانقلاب تحولت مجهودات الإصلاح إلى حركات إسلامية معارضة لنظام الحكم انطلق أغلبها من الجامعات برز من خلالها عدد من الشباب كان من بينهم الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله الذي اتجه في بداية مشواره الدعوي والسياسي اتجاها راديكاليا حيث عُرف بخطبه وبياناته النارية ومواقفه الجذرية واقترابه الشديد من بعض رموز المعارضة السياسية ضمن تنظيم سمي جماعة الموحدين وقد أدى به هذا الاتجاه إلى القيام بحركة احتجاجية صارمة ضد الثورة الزراعية ونهج الميثاق الوطني الاشتراكي البومديني سميت بقضية " قطع أعمدت الهاتف" التي في إثرها ألقي عليه القبض وحكم عليه بخمسة عشر سنة سجنا قضى منها خمس سنوات من سنة 1976 إلى 1981.
لقد كانت فترة السجن فرصة كبيرة للشيخ محفوظ للتأمل الفكري في النهج الذي يجب اتجاهه في مواجهة نظام مستبد أدار ظهره لعهد الشهداء ومواثيق المجاهدين وأذاق معارضيه مختلف ألوان الإقصاء والتصفية والتعذيب، وحينما أُفرج عليه اتجه الشيخ محفوظ نحناح اتجاها آخر في أسلوبه الدعوي والسياسي إذ صار يبتعد عن كل دواعي التوترات وأسباب الصدام مع نظام الحكم، وقد دفعه إلى هذا النهج الجديد بالإضافة إلى تأملات السجن استفادته من التطورات الفكرية التي وقعت في جماعة الإخوان المسلمين تحت تأثير مرشدها الثالث عمر التلمساني في اتجاه الحوار مع الحكام والصبر على آذاهم وقد كان فضيلة الشيخ رحمه الله على اتصال بجماعة الإخوان قبل دخوله السجن ثم تعمقت علاقته بهم بشكل أفضل بعده، وعلاوة على هذه التأثيرات الفكرية ساهم جو الانفتاح الذي سلكه الرئيس الجديد الشادلي بن جديد في ترسيخ هذه القناعة.
وبالفعل بعد بداية صدامية بين نظام الحكم والحركة الإسلامية عبر عنها التجمع التاريخي في الجامعة المركزية سنة 1982 اتجهت الحركة الإسلامية في مجملها اتجاها معتدلا سوى استثناء جماعة بويعلي المسلحة سنة 1985 التي تبرأ منها كل الدعاة فاستفادت الحركة الإسلامية من مساحة واسعة للحرية استغلتها أحسن استغلال لنقل الدعوة الإسلامية إلى كل القرى والمدن في مختلف أنحاء الوطن وقد كان للشيخ محفوظ نحناح في آخر عهد الثمانينيات الحظ الأوفر في هذا الانتشار بالرغم من أنه لم يكن يمثل الطرف الأقوى في الساحة الإسلامية عند خروجه من السجن سنة 1981، فقد التحقت به كثير من المجموعات الإسلامية من مختلف جهات الوطن كانت قد شكلت نفسها على هدي كتب جماعة الإخوان المسلمين وتأثرًا بالبلاء الذي أصاب رجالها في سبيل دعوتهم وقناعةً بالشخصية السمحة المرحة للشيخ محفوظ وبلاغته وسمته لا سيما أنه لم يكن طرفا في الصراعات التي وقعت بين بعض الجماعات الإسلامية والتي كان ينفر منها كثير من شباب الصحوة.
لقد كان هذا المجهود الدعوي ينطلق من تنظيم سري هرمي يتفرع من المكتب القطري إلى جهات ثم إلى المناطق فالنواحي وانتهى هذا التطور الدعوي إلى تنظيم أول مؤتمر تنظيمي سنة 1989 سمي المؤتمر التمهيدي.
وبالموازاة مع الانتشار الدعوي انخرطت الحركات الإسلامية بقوة في معركة الهوية ضد التيارات التغريبية اليسارية والعرقية التي استطاعت أن تتوغل في مختلف مفاصل الحكم وكان لها امتداداتها الواسعة في المنظمات الطلابية والعمالية والنسوية ولم يتنه عقد الثمانينيات حتى انهزمت تلك التيارات انهزاما كاسحا وقد ساعد على هزيمتها الحسم الفكري والثقافي الذي قام به مفجرو الثورة التحريرية الكبرى من خلال بيان أول نوفمبر الذي حدد بشكل إبداعي طبيعة الدولة التي جاهدوا لتحقيقها ( دولة ديموقراطية شعبية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية) وكذا وجود تيار وطني فاعل داخل نظام الحكم بقي وفيا لروح هذا البيان وجد نفسه متحالفا تحالفا موضوعيا مع الصحوة الإسلامية وأبلى بلاء حسنا في التمكين لمطالب التعريب وأصالة المنظومة التربوية وإسلامية المنظومة الأسرية.
تميز الشيخ محفوظ على أقرانه من الدعاة في تلك المرحلة بفهم البعد الاستراتيجي للعلاقة مع هؤلاء الرجال الوطنيين داخل النظام وقد ساعده هذا الإدراك على حسن إدارة الصراع الذي نشب في مرحلة التسعينيات.
لقد سبق محنة التسعينيات إرهاصات كبيرة كان أبرزها أحداث 05 أكتوبر 1988، وقد كانت تلك الأحداث فرصة كبيرة لتصحيح الخطأ الذي وقع بعد الاستقلال حيث أدى تراكم الإخفاقات والانحرافات إلى تصاعد موجات الرفض الشعبي لنظام الحكم و إلى تنامي الفساد والصراعات في داخله حتى إذا اشتدت الأزمة الاقتصادية بسبب انهيار أسعار النفط واتسعت الفروق الاجتماعية وقع الانفلات وخرج الشباب للشوارع يهتفون بالحقوق والتغيير وإنهاء الفساد في مشاهد متطابقة تمام التطابق مع ما يحدث اليوم في الساحات العربية، وقد أثمرت تلك الاحتجاجات إصلاحات دستورية غير مسبوقة في الوطن العربي، وتعددية سياسية حقيقية وانفتاحا إعلاميا واسعا.
ولو توفّر للجزائر آنذاك نخبة حاكمة صالحة وطبقة قيادية إسلامية مقتدرة لكانت الجزائر اليوم على حال أفضل من الحال الذي هي عليه. ولعل قلة الخبرة لدى الإسلاميين وعجز الحركة الإسلامية في تأطير قُواها وتسديد أدائها بسبب تشتتها وقلة الحوار بينها ورفضها لمشاريع وحدة الصف التي سعى لها بعض الخيرين في منتصف الثمانينيات ثم في بداية التسعينيات سبب رئيسي من أسباب ضياع هذه الفرصة وسيتحدث التاريخ مستقبلا عن ذلك المجد الضائع وتفاصيل قصته.
كانت تنظيمات الاعتدال والوسطية هي الغالبة في الحركة الإسلامية قبل التعددية وكان حولها تيار واسع من المتعاطفين مع الحل الإسلامي بالإضافة إلى أتباع جماعة التبليغ الذين كان لهم انتشار بارز، وأتباع الاتجاه السلفي الذي لم يكن له وجود معتبر آنذاك سوى حيوية ونشاط أحد أبرز وجوهه علي بلحاج، وكثير من الدعاة المستقلين من أبرزهم عباسي مدني.
لم يكن هناك شيء يجمع هاذين الرجلين سوى تشدد موقفهم وخطابهم من نظام الحكم وموقفهم المعارض للحركات الإسلامية المُنظَّمة كما لم يكن لهاذين الرجلين شيء يخافان عليه إذا ما أقدما على أي موقف سياسي جريء فسارعا إلى تأسيس حزب سياسي إسلامي ملكا به الأغلبية الساحقة للتيارات الشعبية المتعاطفة مع الإسلاميين والغاضبة على نظام الحكم، ساعدهم في ذلك السبق الحزبي والخطاب المتشدد في زمن بلغ فيه الاحتقان أوجه. كان الشيخ محفوظ كغيره من أصحاب التنظيمات الإسلامية العريقة متوجسا من الانفتاح السياسي خائفا من مزالقه على مكاسب الدعوة فبادر إلى تأسيس جمعية ثقافية دعوية هي جمعية الإرشاد والإصلاح سنة 1989 وحينما رأى بأن لا صوت يُسمع غير صوت السياسة وأن الحاجة إلى التميز صارت ضرورية وحيوية أسس حركة المجتمع الإسلامي.
أدرك الشيخ محفوظ نحناح مبكرا بأن الثنائية القطبية التي فُرضت على المجتمع الجزائري بين جبهة الإنقاذ والنظام والتصعيد المتنامي بينهما سيؤدي لا محالة إلى انزلاقات كبيرة، وبالفعل ألغيت الانتخابات التشريعية، وحُل الحزب الفائز واتهمه خصومه بأنه يريد أن ينقلب على الديموقراطية بعد نجاحه، وانحرفت الجزائر إلى أتون العنف ودخلت في دواهي الصدام الدموي، وطفت على سطح المشهد السياسي أولويات جديدة غاب معها التفكير في المصلحة الحزبية والطموحات السياسية وحتى طموح التمكين للبرنامج والمنهج الإسلامي. لقد شعر الشيخ محفوظ نحناح بأن ثمة مخاطر استراتيجية وتحديات بنيوية لا بد من مواجهتها ولو على حساب الحركة بل ولو على حساب النفس ذاتها، لقد صار الخطر يهدد ما هو أعلى من النفس وما هو أعلى من الحركة، لقد صار البلد كله في خطر ومؤسسات الدولة على شفا حفرة وصارت صورة الإسلام في مهب الريح ومشروعه إلى تهالك مفني وأهل المشروع على خطر عظيم.
أظهر تقييم الوضع للشيخ محفوظ ومن معه بأن انهيار الوحدة الوطنية خطر لا جدال فيه فظهر في قاموسه السياسي عبارات تحذر من ذلك كحديثه عن "الصوملة" و"اللبننة" و"الروندة" ورأى بأن السبيل الوحيد لدفع هذا الخطر هو الحوار بين جميع الأطراف مهما تناقضت اتجاهاتُهم فبادرت الحركة ومن قبلها جمعية الإصلاح والإرشاد إلى إنشاء ودعم كثير من محاولات اللقاء بين مختلف الأحزاب والتيارات مثل مبادرة التحالف الوطني الإسلامي ومبادرة التحالف الجمهوري الإسلامي (تاج)، ومجموعة السبعة ومجموعة السبعة + 1، ومبادرة السلام ومبادرة الجدار الوطني ومبادرة الصلح وفكرة المصالحة الوطنية، وغير ذلك من المبادرات الكثيرة المتنوعة.
لم يكن هذا التوجه المرفوض عند الكثيرين في ذلك الوقت عديم التأصيل فحينما كان الشيخ يستفز العقول الرافضة للتعامل مع العلمانيين والفاسدين بقوله " أتحاور حتى مع الشيطان" كان يرمز إلى أن الله تعالى الذي خلق إبليس بنفسه تحاور معه وهو يعلم بأنه من أهل النار وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرج في الصحيفة بندا ينص على التناصر بين المسلمين وبين اليهود من أجل الوطن " وبينهم النصر على من داهم يثرب".
ومما كان يشغل الحركة ورجالها هو التفاف التيار العلماني المنهزم شعبيا على الوضع مستغلا وجوده في مفاصل الدولة وبعض معاقل المجتمع المدني لمحاربة الإسلام باسم محاربة الإرهاب والاعتداء على المتدينين وشملهم جميعا في سلة واحدة مع المتشددين وحملة السلاح، مثلما حاول فعل ذلك أحد رؤساء الحكومات السابقين من خلال استراتيجية " نقل الرعب إلى الطرف الآخر" التي اشتهر بها والتي يقصد بها جميع الإسلاميين حيث أنه لا يزال إلى اليوم يقول لا فرق بين الإسلاميين وأن المعتدلين منهم أخطر من المتشددين.
أمام هذا الكيد العظيم خطت الحركة استراتيجية مضادة مشهورة في قاموسها السياسي اسمها " التميُّز" وهي عنوان لتطوير شامل للفكر الإسلامي ظهرت آثاره في الخطاب والسلوك وحتى الهندام لدى جميع أبناء الحركة في كل ربوع الوطن من مرتفعات العاصمة بالمرادية إلى أبعد الأحياء في الصحاري والقرى والمداشر.
حرص الخطاب على إدانة العنف والبراءة منه ولو كان باسم الدين وكانت الحجج المعتمدة تقليدية أحيانا تعتمد على النص والأثر ولكنها كانت أحيانا أخرى استفزازية يقصد بها رسم الحدود الفكرية بكل صرامة مثل عبارة " شاقوريصت" و " خنجاريست" التي صدمت الكثير، و كان المقصود كذلك من الخطاب المتميز إظهار رحمة الإسلام ودوره في حفظ الوطن و دعوته لانخراط الجميع في بنائه كما ساهم الجميع في تحريره فبرزت عبارة " الجزائر حررها الجميع ويبنيها الجميع" وإظهار سعة الشريعة لاستيعاب آليات الديموقراطية وتوافقهما في الأداء السياسي ومسارات إصلاح الحكم فظهرت عبارة " الشوراقراطية" وفكرة " البحث عن الحلقة المفقودة بين الإسلام والوطنية والديموقراطية " كما التزم السلوك المتميز بالابتعاد عن كل مظاهر الشبهة والريب في كل ما من شأنه أن يسيء للإسلام ولمصداقية من حملوا لواءه فظهرت عبارة " وثيابك فطهر" وعبارة " أيادينا نظيفة" وعبارات كثيرة وتصرفات متكررة تهدف إلى ترسيخ مفهوم الوطنية لدى أبناء الحركة وأفراد المجتمع وتروم وصْلا بوطنيين مخلصين ومجاهدين صادقين أضعف انقلاب الوضع وجودهم في ميزان القوة السياسي فلا بد من تشجيعهم والبحث عن سبل التحالف معهم والنظر في كيفية الاستفادة من تجربتهم ومعارفهم ومعلوماتهم.
أما عن الهندام فقد وصل الاهتمام به حدا من المبالغة لا يتفهمه إلا من أدرك مخاطر تلك المرحلة و مدى بعد النقلة الحضارية التي كان يريدها الشيخ محفوظ، فكان رحمه الله لا يَسلَمُ من نظرات عيونه الفاحصة للمظهر أحدٌ دخل مكتبه، وحينما يكون الابتذال في اللباس فاحشا يتغير وجهه وقد ينبه إلى ذلك بعبارة مازحة تحقق المطلوب دون أن تؤذي، ولا شك أن جميع من حضر تلك المرحلة يتذكر عبارة " لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام حيا للبس الألباغا ولركب الكونكورد" التي لم يستوعبها بعض من لم يدرك مقاصد استعمال العبارات الشعبية الموقظة للمشاعر والمثيرة للجدل بغرض حفر أعماق المفاصلة بين منهجي الوسطية والتطرف في زمن كان الخلط بين الأشكال والمضامين خطيرا على المنهج والتنظيم والوطن والأشخاص، ولا يعني ذلك البتة بأن سلوك التدين وسمت الإيمان لم يكن يهم الشيخ محفوظ بل كان رحمه الله يسلك أحسن السبل للتوجيه نحوه من خلال القدوة والالتزام الشخصي إذ كان يفزع للصلاة متى سمع النداء ويقطع كل شيء إذا حضرت، ولا تفوته راتبة النافلة بعد الفرض أبدا، وكان حين يكمل ختمة القرآن الشهرية يجمع من حوله في مكتبه للدعاء، وكان رحمه الله لا تسمع منه غيبة ولا نميمة رغم كثرة من خالفهم وخالفوه، وكان رحمه سيّال الدمع رقيق القلب يغمر الناس جميعا بعاطفة لا حد لها.
أظهرت التجربة منذ الوهلة الأولى بأن النمط الهيكلي الذي كان يعتبر الحزب مجرد واجهة سياسية لجماعة سرية لا يستوعب هذه المجالات التطويرية فاختارت الحركة دمج جميع الهياكل في تنظيم واحد هو الحزب السياسي ولا شك أن هذا الاختيار الذي ينخرط ضمن استراتيجية أشمل سميت " استراتيجية الانفتاح" قد نقل الحركة إلى مستويات عالية في الأداء السياسي والعمل المؤسساتي ومجال العلاقات وطمأنة المحيط والانفتاح على المجتمع والخروج من الذهنية السرية وثقافة المحنة ولكن آثاره السلبية كانت كبيرة كذلك أبرزها اهتزاز الصف وخروج قيادات كبيرة من الجهات التنظيمية الست منذ بدايات الانفتاح في المؤتمر التمهيدي وعند تأسيس الحزب وعند قرار الإدماج ومن آثاره السلبية كذلك انتقال أحسن الموارد البشرية في مجال الدعوة إلى التنافس السياسي وتراجع أولوية الدعوة أمام التحديات السياسية والأمنية.
على خطوط هذه الدروب الوعرة كان على الحركة بصفتها حزبا سياسيا معتمدا أن تتخذ قرارا حاسما تجاه إعادة بناء مؤسسات الدولة التي أنهكتها سنون الحزب الواحد المعتمدة على الشرعية التاريخية بلا توفيق ولا نجاح، ثم جاءها إلغاء الانتخابات التشريعية بعد التعددية فأفقدها الشرعية الشعبية، ووضعها بلا مصداقية في مواجهة الداخل والخارج، ثم زاد اغتيال رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف سنة 1992 الطينة بلة.
وحينما أرادت السلطة الحاكمة إنشاء مجلس انتقالي لملء الفراغ التشريعي على إثر ندوة الحوار الوطني سنة 1994 التي توَّجت الأمين زروال رئيسا للدولة قررت الحركة المشاركة فيه فدشّنت بذلك دخولها في استراتيجية طويلة وعميقة صارت اليوم هي السمة البارزة لها وهي "استراتيجية المشاركة" التي كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى المحافظة على وجود الدولة التي بدونها لا وطن ولا سيادة و لا مجتمع ولا أحزاب ثم التموقع في مختلف مستويات الحكم التي يمكن الوصول إليها بغرض عدم ترك الساحة للعلمانيين وحدهم ودفع ما يمكن دفعه من مفاسد وتحقيق ما يمكن تحقيقه من مصالح من داخل الحكم وأخذ قسط من التجربة يؤهل الحركة لأدوار أكبر في المستقبل.
في مقابل مشروع الندوة الوطنية الرسمي حاولت الجبهات الثلاثة ( جبهة التحرير، جبهة الإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية) تشكيل بديل آخر في سانت إيجيديو خارج الوطن وبعد فحص سريع لهذه المبادرة علم الشيخ محفوظ الذي حضر جانبا منها ثم تركها بأن اللقاء بين المشروعين مستحيل وأن الحل يكمن في العودة للمسار الانتخابي ليفصل الشعب في الوجهة التي يريدها وعندها بدأت معارك خوض الانتخابات التي قاطعتها أهم الأحزاب في الانتخابات الرئاسية سنة 1995 ثم رجعت جميعها إليها وطُوي الحديث عن شرعية المؤسسات وبدأ السير نحو حل الأزمة تتضح معالمه.
كانت الحركة هي رأس حربة مواجهة التطرف وهي قاطرة العودة لبناء المؤسسات ولم يكن يشاركها هذا الهم أحد ممن يزايد اليوم بالوطنية من الأحزاب المشكلة للتحالف القائم أو غيرها، وقد قدمت في طريق ذلك أربع مائة شهيد من أفضل رجالها على رأسهم فضيلة الشيخ بوسليماني الذي قُتل لأنه رفض تقديم فتوى تبيح قتل الجزائريين. لقد كانت الحركة تعمل هذا في سبيل الله من أجل الدولة وليس من أجل النظام رغم علمها بعدم استيعاب كثير من الناس لهذا الفرق، ورغم إدراكها بأن نظام الحكم سيستفيد من مواقفها إذ أن ذلك هو حال أنظمة العالم المتخلف التي تتملك الدولة ومؤسساتها حتى تجعل إسقاطها هو إسقاط الدولة ذاتها كما يحدث اليوم في ليبيا واليمن.
لقد كان الرجوع للمسار الانتخابي والتحاق الطبقة السياسية كلها به فرصة عظيمة أخرى لبناء نموذج جزائري ناجح أخّاذ يوصل لأغلى ما يتمناه المواطن من التنمية والكرامة والرقي. غير أن فساد النوايا وضعف التمسك بالوطن لصالح الغايات الخاصة جعل هذا المسار مشوّها باستراتيجية التزوير الخبيثة التي جعلت الناخبين يتركون شيئا فشيئا حقهم في الإدلاء برأيهم في من يحكمهم. اعتقد كثير من الجزائريين ممن صوت لجبهة الإنقاذ أو غيرهم بأن موقف السلطة من هذا الحزب قد يكون مفهوما بسبب تشدده فاتجهوا بقوة لتمكين الشيخ محفوظ من الرئاسة في أول انتخابات رئاسية تعددية سنة 1995 معتقدين بأن أصحاب القرار سيوافقونهم على هذا بسبب اعتدال الشيخ ولِما قدّمه من أعمال هرقلية لصالح الوطن غير أن ظنّهم خاب فلم تنفع ملايين الأصوات التي أخذها زعيم الوسطية والاعتدال في الجزائر لتجعل منه الرئيس الشرعي للبلاد.
وعلى عكس ذلك بدأت المؤامرة تحاك ضده وضد حزبه بمكر ودهاء عظيمين فتغير الدستور وقانوني الأحزاب والانتخابات على مقاس الفئة الحاكمة وضد الشيخ نحناح نفسه وأُسِّس حزب جديد للنظام بدعم الإدارة وفُرض هذا الحزب على الجزائريين بسلطان التزوير في الانتخابات التشريعية والمحلية سنة 1997 ثم صار التزوير والتزييف منهجا ماكرا ذكيا لتشكيل الساحة السياسية وكان الشيخ محفوظ يعتقد بأن سبب ذلك إنما هو الخوف الشديد من الإسلاميين فانتهج نهج الصبر و التوغل في استراتيجية "الطمأنة" و"تطبيع العلاقات" من خلال المشاركة في كل الحكومات منذ 1996 إلى يومنا هذا والمرافعة لصالح الجزائر في مختلف المحافل خارج الوطن ومواجهة محاولات تدخل القوى الدولية المتربصة في شؤون الجزائر الداخلية من خلال حملة "من يقتل من؟" التي انخرطت فيها منظمات جزائرية ودولية ولجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الأمم المتحدة على إثر المجازر التي وقعت في النصف الثاني من عقد التسعين.
غير أن كل هذا لم ينفع في قبول الشيخ محفوظ كبديل سياسي مهما كانت وطنيته وكفاءته ومهما نال من تأييد شعبي ودولي فارتُكبت في حقه جريمة تاريخية تهتز لها الجبال لن يمحُ عارَها تقادمُ الزمن إذ مُنع رحمه الله من الترشح لانتخابات الرئاسة في سنة 1999 التي كان فيها الفارس الوحيد القادر على منافسة عبد العزيز بوتفليقة، وفعلوا ذلك بحجة ظالمة أساءت لكرامة الشيخ وتاريخه حيث أنهم، لسخافتهم وقلة وفائهم ومروءتهم، لم يجدوا دليلا على مشاركته في الثورة التحريرية رغم الشهادة الموثقة التي قدمها قادة الولاية التاريخية الرابعة التي كانت تتبعها البليدة، فاضطر الشيخ رحمه الله رحمة واسعة إلى الرجوع للعودة للتحالف مع من ظلمه ليس خوفا على الوطن هذه المرة لأنه لم يعد شيء يهدد الوطن كما كان الحال من قبل ولكن لأن خياراته صارت ضيقة وكان لا بد له من وقت كاف لتقييم الوضع الجديد واتخاذ ما يجب من استراتيجيات وآليات جديدة خصوصا بعد الخسارة الانتخابية الحقيقية في انتخابات 2002.
دخل رحمه في حالة شديدة من الكآبة بعد هذا البلاء الشديد وتغيّر ميزاجه وكثر غيابه عن تسيير شؤون المكتب التنفيذي الوطني واستقال من هذا المكتب جل العناصر الجديدة ذات الكفاءة والمستويات العلمية العالية التي أتى بها الشيخ في المؤتمر الثاني سنة 1998 ورجع إلى قيادة الحركة كل العناصر الذين استبدلهم رحمه في هذا المؤتمر ضمن استراتيجية تطويرية مستقبلية لم تكتمل للأسف الشديد، وتوفاه الله عليه من الله أزكى الرحمات على إثر مرضه العضال فانتقل إلى رحمة ربه وقد أدى الذي عليه ودخل التاريخ من بابه العالي بإنجازاته الاستراتيجية الكبرى التي سيتحدث عنها الزمن وتدرسها الأجيال وترك تركة كبيرة صعبة الإدارة والتسيير بإيجابياتها وسلبياتها فنُظّم المؤتمر الثالث من بعده سنة 2003 وأفرز قيادة غير منسجمة لم ينفع عملها المشترك طيلة خمس سنوات لردم الهوة بينها، وجاء المؤتمر الرابع سنة 2008 فتعمق الشرخ ولم يصبر أحد الطرفين المشكل في غالبيته من العناصر القديمة التي رجعت للمكتب التنفيذي في ظروف مرض الشيخ وحالته النفسية الصعبة على النتائج الديموقراطية للمؤتمر الرابع وحدث الانقسام المرير الذي أعيا كل وساطات الداخل والخارج رغم التنازلات الكبيرة غير المسبوقة في تاريخ انشقاقات الحركات الإسلامية التي قدمتها الطبقة القيادية للحركة التي جدد المؤتمر الأخير الثقة بها.
رغم الخلافات الشديدة التي عرفتها الحركة بعد الشيخ محفوظ ورغم التراجع الكبير على المستوى الشعبي وبعض منظماتها الرديفة فقد استطاعت أن تحقق إنجازات كبيرة أظهرت للجميع بأنها لا تزال رقما صعبا وأن حظوظها وافرة لإقلاع جديد فحققت تقدما معبّرا في الانتخابات التشريعية والمحلية سنة 2007 تحت شعار التغيير الهادئ وأظهرت قدرة تعبوية كبيرة احتكرت فيها القدرة الذاتية على ملء الملاعب والقاعات وتقدمت على سائر القوى السياسية والاجتماعية في خدمة القضية الفلسطينية سواء من حيث التعبئة وجلب الدعم لصالحها أو من حيث المشاريع الكبرى كمشروع الوقفية المقدسية وحملة شريان الحياة خمسة لكسر الحصار على غزة وخصوصا أسطول الحرية التاريخي المبارك الذي كسّر الحصار على غزة وكذلك على الحركة من محاولات عزلها التي انتهجها الخصوم والأشقاء على السواء.
كما استطاعت أن تحقق إنجازات كبيرة على مستوى الوزارات التي تشغلها، وعلى مستوى تطوير وتعميم المناهج التربوية، وإظهار دور وأهمية الصيرفة الإسلامية، والمحافظة على الزخم الطلابي، و تحقيق قدر إضافي في الانتشار التنظيمي رغم الصعوبات الميدانية والسياسية وقلة الملاءمة اللائحية الداخلية، وعلى مستوى العلاقات، كما استطاعت أن تجعل من وظيفة التخطيط والتدريب ثقافة عامة في صفوفها والبيئة المحيطة بها، وانتبهت لأهمية دور الشباب في مستقبل الأيام ـ قبل أن يصبح هذا الهم موضة متبعة بعد الثورات العربية ـ فأسست لهم منظمات كبرى شهد لها بعض كبار المفكرين الإسلاميين والعلماء والدعاة المهتمين بالتنمية البشرية بأنها مشاريع إبداعية غير مسبوقة سيكون لها أثر كبير بحول الله.
ومن أهم ما ميز أداء الحركة رغم تلك الظروف الصعبة تقدمها الصفوف للمطالبة بالإصلاحات حينما لاحت بوادر التغيير في الوطن العربي بل إنها حينما رفعت لواء المطالبة بالنظام البرلماني سايرها أغلب مفردات الطبقة السياسية وصارت في ذلك قدوة يترقب الناس موقفها.
ظن شركاؤها في التحالف للوهلة الأولى بأن سقفها المرتفع في المطالبة بالإصلاح ما هو إلا مجرد اتباع للموجة فلما أدركوا إصرار الحركة أصابهم القلق وفقدوا اللياقة في التعامل مع قيادتها. ولعل قلقهم ذلك مرده علمهم بقدرة الحركة على تغيير الموازين إن ثبتت على خطها السياسي الجديد و لإطلاعهم على تنامي الأصوات المطالبة بالتغيير من داخل الصف لتأهيل الحركة للريادة من أجل تنمية الجزائر وتطويرها بعد أن عجز النظام القائم منذ نصف قرن من الزمن على ذلك رغم كل الدعم الذي لا يقدر بثمن الذي قدمته الحركة له.
وبالفعل لقد أصبح طموح الحركة باديا لأخذ زمام المبادرة ولتحسين وضعها على كل الأصعدة ومنه وضعها الانتخابي لتنال الأغلبية البرلمانية يوما ما لتشكيل حكومة وطنية ناجحة تتحمل مسؤوليتها بنفسها أو من خلال تحالفات جديدة تقوم على قواعد وموازين جديدة تفرزها نتائج انتخابية صحيحة أقرب أجل لها هي انتخابات 2017 التي ستصادف تطورات في الجزائر والعالم العربي يمنع من التلاعب بإرادة الشعب.
لم يصبح يمنع من ذلك شيء اليوم فقد قدمت الحركة للجزائر كل شيء حتى تعافى هذا الوطن الحبيب ولا يمكن تحقيق شيء أكثر مما تحقق من داخل النظام ولا فرصة جادة لإصلاح هذا النظام من داخله ولا يوجد ثمة مجال لرفع فزاعة الإرهاب فالخطر المتربص بالدولة اليوم لا يسكن الجبال الوعرة والأحياء الفقيرة ولدى الإسلاميين المتشددين، إن الخطر اليوم يسكن في قصور الحكم والأحياء الفاخرة وفي عقول العلمانيين المتكبرين المتخفِّين، إن اسمه على ألسنة كل الناس وعلى صفائح كل الجرائد، إنه الفساد الذي يوشك أن يفتك بالبلد.
ثم إن زمن القهر والديكتاتوريات والاستعلاء على الشعوب قد ولى فأي شيء يمنع من رفع مستوى الطموح غير تيار العجز والكسل ورهاب التغيير وتبدل المواقع الذي إن غلب في الحركة ضاعت فرصتها إلى الأبد، وربما نُساهم في ضياع الفرصة على الأمة العربية كلها لأن الجزائر لا بد أن تكون حاضرة بأهميتها الاستراتيجية في التحالفات العربية المستقبلية ثم السنية العربية - التركية ثم التحالفات السنية الشيعية وفق رؤية مستقبلية لصالحها ولصالح فلسطين ولصالح العرب والمسلمين ليس هذا مجال الحديث عنها.
لم يصبح الوقت كافيا لتتخلف الحركة عن الانطلاق برصيدها المشرف عبر عشرين تسبقها عشرون منذ التأسيس الرسمي لتبدأ في تأهيل نفسها لهذا المجد العظيم لأنها رغم مكاسبها الجمة ورغم إمكانية إدراك هذا الطموح لا تزال أمامها نقائص كبرى لا بد أن تعالجها وإنجازات ذات أهمية قصوى لا بد أن تحققها على أصعدة عديدة ومختلفة سيأتي زمن ذكرها، بنهج جديد لم يجرب من قبل، يختلف عن نهج الصدام الذي اقتضته ظروف مرحلة التأسيس وفرض الوجود قبل سجن 1975، ويتميز عن مرحلة المهادنة التي أملتها سنوات الفتنة قبل زمن الإصلاحات ورياح التحولات سنة 2011
عبد الرزاق مقري
الجزائر يوم 19 جوان 2011