محمد عادل فارس
كثيراً ما تُكتب المقالات والبحوث والكتب، وتدار الحوارات والندوات، عن صفات القائد والمدير، وأهمية توافر صفات القيادة والإدارة، لأجل ضبط الإنجاز وتطويره، كالحزم والاستقامة والمرونة والحوار، وإشاعة روح المودّة والشعور بالمسؤولية، والثقة المتبادلة...
وفي الغالب، لا يكون هناك خلاف على أصل أي صفة من هذه الصفات أو غيرها، بقدر ما يكون الخلاف حول حدود كل صفة، وتقاطُعها مع الصفات الأخرى. ونضرب على ذلك أمثلة:
- كيف يوازن القائد بين المركزية التي تجعله يطّلع جيداً على ما يجري في مؤسسته، وبين التفويض الذي يمنح القيادات الوسطى مرونةً في اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية؟!
- وكيف يوازن بين الحزم والدقة وحسن سير الإنجاز والمحاسبة على الخطأ والتقصير والإهمال... وبين الإبقاء على روح المودّة بين الرئيس والمرؤوس، أو بين شريحة من المرؤوسين وشريحة أخرى؟!
- وكيف يشجع المبادرات، ويفسح المجال أمام مختلف الآراء والقناعات، ويُطْلق الفرص أمام المبدعين... وفي الوقت نفسه يحافظ على هيبة القيادة، ويصون القيم والثوابت؟!
ومن يقرأ في الكتب المختصة في بحوث القيادات والإدارات يلحظ أنه لا توجد في هذه المجالات مسلّمات، إنما هي مؤشّرات وقواعد عامة، وأن معظم ذلك لم يتولد من أصول نظرية، وإنما استُقي من دراسة مسالك القادة والمدراء الناجحين، ومن طرائق المؤسسات الناجحة كذلك.
وما أحرى المسلمين أن يستقرئوا مثل هذه القواعد من خلال قادتهم ومفكّريهم وروّادهم عبر التاريخ... وعلى رأس هؤلاء جميعاً سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو الإنسان الكامل الذي ارتضاه لنا ربنا - سبحانه وتعالى -، أسوة وقدوة.
لقد أُلّفَتْ كتب في الصفات القيادية، في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، في المجالات الدعوية والتربوية والعسكرية والسياسية والإدارية... ولكن هذه الدراسات لم توفِّ المسألة حقها، لا سيما وأن كثيرين ممن كتبوا فيها، لم يكونوا مختصين في فنون الإدارة والقيادة، ولعل بعضهم لم يكن مختصاً في المجال الذي يبحث فيه.
إنها دعوة لأهل العلم والاختصاص والغيرة على سيرة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يقرؤوا هذه السيرة المشرَّفة، من زاوية المزايا القيادية، ويضعوا بين أيدي الأمة دروساً عميقة ترشِّدُهم في إدارة أمورهم، وتقول لهم: قبل أن تولُّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب، للتعرف على صفات القادة الناجحين... اقرؤوا سيرة نبيكم، فهي كنز ثمين لا يقدَّر بثمن.
وفي هذا المقال نضرب أمثلة فحسب، على بعض الصفات القيادية التي نستفيدها من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
1- في تعامله مع المبدعين والمتميزين من أصحابه:
كان -صلى الله عليه وسلم- يكتشف مظاهر التفوق والنجاح الباهر في نفوس أصحابه، وينمي هذه المظاهر، ويضعها موضعها، ويشجع أصحابها... وفي الوقت نفسه لا يدع أحدهم يحتل موقعاً لا يُحْسنه.
ومن مظاهر تعامله الإيجابي مع المبدعين أنه أطلق صفاتٍ حميدة، وألقاباً محبّبة على عدد من أصحابه، فهذا: "الصدّيق"، وهذا: "أمين هذه الأمة"، وهذا: "سيف من سيوف الله" و (( ما أقلَّتِ الغبراء، ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذرّ)).
وزاد على ذلك أنْ أسند المهمات المناسبة لكل منهم، وأبعدهم عما لا يناسبهم من المهمات.
فخالد بن الوليد منذ حداثة عهده بالإسلام يسند إليه مهمة قيادية في فتح مكة، ويشارك في غزوة مؤتة (وعلى أثرها يسميه: سيفاً من سيوف الله)، ويرسله بعدئذ إلى أُكيدر بن عبد الملك صاحب دُومة الجندل، وهو رجل من اليمن، وكان ملكاً، وقد أسَرَه خالد وقدم به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحقَنَ دمه، وقبل منه الجزية، وردّه إلى قومه.
وعمرو بن العاص كذلك -رضي الله عنه- الذي أسلم سنة 7 أو 8 هـ أمّره على جيش المسلمين في سرية ذات السلاسل، ولم يمض على إسلامه إلا شهور، وكان في هذه السرية عدد من أصحاب السابقة من المهاجرين والأنصار.
وأبو هريرة -رضي الله عنه-، يجعله على أموال الصدقات.
وفي الجانب الآخر لم يستجب لأبي ذرّ -رضي الله عنه- حين طلب الولاية، بل قال له: (( يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأعطى الذي لله منها )).
2- في تعامله مع خطأ يصدر عن بعض أصحابه:
بعض الناس من قادة وغير قادة- يقفون في أحد طرفي النقيض من أخطاء الآخرين، حسب درجة حساسيتهم من ذلك الخطأ، أو درجة قربهم من الإنسان المخطئ، أو مصلحتهم الشخصية... فإما أن ينظروا إلى ذلك المخطئ من نقطة الخطأ وحدها، وينسوا الفضل بينهم وبين هذا الذي زلّت به قدمه... وإما أن يدافعوا عنه في خطئه، ويرفضوا أن يدينوه فيه، ويقلبوا الخطأ صواباً... تعصباً منهم لهذا الذي أخطأ.
ولننظر الآن إلى تعامل الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- مع جنوده حين يخطئون، لقد كان يضع كل خطأ في موضعه وحجمه، ويدينه، ولا يحكم على الرجل من خلال هذا الخطأ وحده، ويصلح ذات البين، ويؤلف بين القلوب.
وأخبار ذلك في سيرته -صلى الله عليه وسلم- كثيرة مستفيضة، نجتزئ ببعضها:
قال أبو عمر بن عبد الله: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى الغميصا (ماء من مياه جَذيمة من بني عامر) فقتل منهم ناساً، لم يكن قتله لهم صواباً، فوداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إني أبرأ إليك مما صنع خالد". قال أبو عمر: وخبره في ذلك من صحيح الأثر.
وقال ابن عبد البر أيضاً: اشتكى عبدُ الرحمن بن عوف خالدَ بن الوليد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا خالد لِمَ تؤذي رجلاً من أهل بدر، لو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله؟! قال: يا رسول الله، إنهم يقعون بي فأردُّ عليهم. فقال: لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله، صبّه الله على الكفار.
وفيه أيضاً: وقع بين خالد وعمار بن ياسر كلام فقال عمار: لقد هممتُ ألا أكلمك أبداً! فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (( يا خالد، مالك ولعمار، رجل من أهل الجنة قد شهد بدراً؟! وقال لعمار: "إن خالداً يا عمار سيف من سيوف الله على الكفار، قال خالد: فما زلت أحب عماراً من يومئذ)).
وحين كتب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- كتاباً وأرسله إلى قريش يخبرهم بمقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- لفتح مكة... ونزل الوحي وانكشف أمر حاطب، وبيَّن حاطبٌ عذرَه في ذلك، وقال عمر -رضي الله عنه-: "يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطّلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
3- في تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع مختلف الآراء التي يبديها أصحابه:
إن كثيراً من القادة حين يعرضون مسألة للنقاش واتخاذ القرار بشأنها، يكون لهم توجُّهٌ مسبَّق، أو يتكون لهم مثل هذا التوجّه في أثناء النقاش، فتراهم يتعرضون بالتسفيه والتوبيخ لمن يعرض الرأي المخالف لتوجههم، أو يسكّتونه، أو يتهمونه في ولائه... وهذا ما يدخل عادة في باب الإرهاب الفكري الذي يجعل صاحب الرأي يُحْجم عن إبداء رأيه بصراحة، خشية تعرّضه للإسكات أو التسفيه... فلا يبقى إلا رأي من يؤيد القائد!
فلنرَ كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع آراء أصحابه:
أخرج الإمام أحمد أنه: لما كان يوم بدر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله قومُك وأهلك، استَبْقِهم واسْتَأنِ بهم، لعل اللهَ أن يتوب عليهم، قال: وقال عمر: يا رسول الله أخرجوكَ وكذّبوكَ، قَرِّبْهم فاضرب أعناقهم، قال: وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمْ عليهم ناراً، قال: فقال العباس: قطعتَ رَحِمَكَ، قال: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يردَّ عليهم شيئاً، قال: فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، قال: فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنَّ الله ليُلينُ قلوب رجال فيه حتى تكون ألينَ من اللبن، وإنَّ الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم - عليه السلام - قال: ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (إبراهيم: 36)، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: ( إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). (المائدة: 118)، وإن مثَلك يا عمر كمثل نوح قال: ( رب لا تذر على الأرض من الكفرين ديّاراً). (نوح: 26)، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: ( واشدُد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). (يونس: 88)).
إنه يجد لصاحب كل رأي شَبَهاً في سيرة نبي كريم، فهل بعد هذا تشجيع على إبداء الرأي؟!.
4- في حسن معاملته -صلى الله عليه وسلم- التي تقلب العدوَّ صديقاً!
وهنا كذلك نجد أمثلة كثيرة جداً، نكتفي منها بمثالين اثنين:
المثال الأول: ثمامةُ بن أثال رئيس قبيلة حنيفة قومِ مسيلمة الكذّاب، أرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام سنة 7هـ، فتلقى الرسالة بازدراء، وأخذته العزة بالإثم، ثم إنه ركبه الشيطان فأغراه بقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم صرفه الله - تعالى -عن ذلك... ثم إن ثمامة أقبل معتمراً، وهو على شِركِه، وتمكّن بعض المسلمين من إلقاء القبض عليه... ورُبط إلى عمود في المسجد، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه فقال: (( مالك يا ثمامُ؟ هل أمكن الله منك؟ قال: قد كان ذلك يا محمد، إن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دم، وإن تَعْفُ تعفُ عن شاكر، وإن تسأل مالاً تُعْطَه! فمضى رسول الله وتركه، وتكرر هذا في اليوم الثاني واليوم الثالث حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: "أطلقوه، قد عفوتُ عنك يا ثمام، ولم يتمالك ثمامة مع هذه البادرة الكريمة أن أعلن إسلامه وقال: يا محمد، لقد كنتُ وما وجهٌ أبغضَ إليّ من وجهك... ثم لقد أصبحتُ وما وجه أحبَّ إلي من وجهك... وإني أشهد أن لا إله إلا الله...)) (وانظر القصة بكمالها في أسد الغابة 1/294).
المثال الثاني: عمرو بن العاص. ولنذكر أن أباه هو العاص بن وائل السهمي الذي كان من أشدّ أعداء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن عمرواً نفسه كان أحد رجلين بعثت بهما قريش إلى النجاشي حتى يُسْلمها من هاجروا إليها من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول عمرو عن نفسه وهو على فراش الموت: "... لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدَّ بغضاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني، ولا أحبّ إليّ أن أكون قد استمكنت من قتله فقتلتُه، فلو مِتّ على ذلك لكنت من أهل النار... ثم يتحدث عن نفسه بعد إسلامه أنه "ما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنتُ أطيقُ أن أملأ عينيّ منه، إجلالاً له... " (الحديث بكماله تجده في صحيح مسلم 1/112).
ونكتفي بهذه الشذرات، ونؤكد أن توافر بعض المختصين على دراسة هذه الجوانب في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة ستغني المكتبة الإسلامية، وتضع بين أيدي الأجيال المهزومة من المسلمين ما يرفع معنوياتها، وينقلها إلى الثقة بدينها ونبيها وتراثها...ونفسها.
المصدر :
http://islamselect.net/mat/89128
كثيراً ما تُكتب المقالات والبحوث والكتب، وتدار الحوارات والندوات، عن صفات القائد والمدير، وأهمية توافر صفات القيادة والإدارة، لأجل ضبط الإنجاز وتطويره، كالحزم والاستقامة والمرونة والحوار، وإشاعة روح المودّة والشعور بالمسؤولية، والثقة المتبادلة...
وفي الغالب، لا يكون هناك خلاف على أصل أي صفة من هذه الصفات أو غيرها، بقدر ما يكون الخلاف حول حدود كل صفة، وتقاطُعها مع الصفات الأخرى. ونضرب على ذلك أمثلة:
- كيف يوازن القائد بين المركزية التي تجعله يطّلع جيداً على ما يجري في مؤسسته، وبين التفويض الذي يمنح القيادات الوسطى مرونةً في اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية؟!
- وكيف يوازن بين الحزم والدقة وحسن سير الإنجاز والمحاسبة على الخطأ والتقصير والإهمال... وبين الإبقاء على روح المودّة بين الرئيس والمرؤوس، أو بين شريحة من المرؤوسين وشريحة أخرى؟!
- وكيف يشجع المبادرات، ويفسح المجال أمام مختلف الآراء والقناعات، ويُطْلق الفرص أمام المبدعين... وفي الوقت نفسه يحافظ على هيبة القيادة، ويصون القيم والثوابت؟!
ومن يقرأ في الكتب المختصة في بحوث القيادات والإدارات يلحظ أنه لا توجد في هذه المجالات مسلّمات، إنما هي مؤشّرات وقواعد عامة، وأن معظم ذلك لم يتولد من أصول نظرية، وإنما استُقي من دراسة مسالك القادة والمدراء الناجحين، ومن طرائق المؤسسات الناجحة كذلك.
وما أحرى المسلمين أن يستقرئوا مثل هذه القواعد من خلال قادتهم ومفكّريهم وروّادهم عبر التاريخ... وعلى رأس هؤلاء جميعاً سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو الإنسان الكامل الذي ارتضاه لنا ربنا - سبحانه وتعالى -، أسوة وقدوة.
لقد أُلّفَتْ كتب في الصفات القيادية، في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، في المجالات الدعوية والتربوية والعسكرية والسياسية والإدارية... ولكن هذه الدراسات لم توفِّ المسألة حقها، لا سيما وأن كثيرين ممن كتبوا فيها، لم يكونوا مختصين في فنون الإدارة والقيادة، ولعل بعضهم لم يكن مختصاً في المجال الذي يبحث فيه.
إنها دعوة لأهل العلم والاختصاص والغيرة على سيرة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يقرؤوا هذه السيرة المشرَّفة، من زاوية المزايا القيادية، ويضعوا بين أيدي الأمة دروساً عميقة ترشِّدُهم في إدارة أمورهم، وتقول لهم: قبل أن تولُّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب، للتعرف على صفات القادة الناجحين... اقرؤوا سيرة نبيكم، فهي كنز ثمين لا يقدَّر بثمن.
وفي هذا المقال نضرب أمثلة فحسب، على بعض الصفات القيادية التي نستفيدها من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
1- في تعامله مع المبدعين والمتميزين من أصحابه:
كان -صلى الله عليه وسلم- يكتشف مظاهر التفوق والنجاح الباهر في نفوس أصحابه، وينمي هذه المظاهر، ويضعها موضعها، ويشجع أصحابها... وفي الوقت نفسه لا يدع أحدهم يحتل موقعاً لا يُحْسنه.
ومن مظاهر تعامله الإيجابي مع المبدعين أنه أطلق صفاتٍ حميدة، وألقاباً محبّبة على عدد من أصحابه، فهذا: "الصدّيق"، وهذا: "أمين هذه الأمة"، وهذا: "سيف من سيوف الله" و (( ما أقلَّتِ الغبراء، ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذرّ)).
وزاد على ذلك أنْ أسند المهمات المناسبة لكل منهم، وأبعدهم عما لا يناسبهم من المهمات.
فخالد بن الوليد منذ حداثة عهده بالإسلام يسند إليه مهمة قيادية في فتح مكة، ويشارك في غزوة مؤتة (وعلى أثرها يسميه: سيفاً من سيوف الله)، ويرسله بعدئذ إلى أُكيدر بن عبد الملك صاحب دُومة الجندل، وهو رجل من اليمن، وكان ملكاً، وقد أسَرَه خالد وقدم به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحقَنَ دمه، وقبل منه الجزية، وردّه إلى قومه.
وعمرو بن العاص كذلك -رضي الله عنه- الذي أسلم سنة 7 أو 8 هـ أمّره على جيش المسلمين في سرية ذات السلاسل، ولم يمض على إسلامه إلا شهور، وكان في هذه السرية عدد من أصحاب السابقة من المهاجرين والأنصار.
وأبو هريرة -رضي الله عنه-، يجعله على أموال الصدقات.
وفي الجانب الآخر لم يستجب لأبي ذرّ -رضي الله عنه- حين طلب الولاية، بل قال له: (( يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأعطى الذي لله منها )).
2- في تعامله مع خطأ يصدر عن بعض أصحابه:
بعض الناس من قادة وغير قادة- يقفون في أحد طرفي النقيض من أخطاء الآخرين، حسب درجة حساسيتهم من ذلك الخطأ، أو درجة قربهم من الإنسان المخطئ، أو مصلحتهم الشخصية... فإما أن ينظروا إلى ذلك المخطئ من نقطة الخطأ وحدها، وينسوا الفضل بينهم وبين هذا الذي زلّت به قدمه... وإما أن يدافعوا عنه في خطئه، ويرفضوا أن يدينوه فيه، ويقلبوا الخطأ صواباً... تعصباً منهم لهذا الذي أخطأ.
ولننظر الآن إلى تعامل الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- مع جنوده حين يخطئون، لقد كان يضع كل خطأ في موضعه وحجمه، ويدينه، ولا يحكم على الرجل من خلال هذا الخطأ وحده، ويصلح ذات البين، ويؤلف بين القلوب.
وأخبار ذلك في سيرته -صلى الله عليه وسلم- كثيرة مستفيضة، نجتزئ ببعضها:
قال أبو عمر بن عبد الله: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى الغميصا (ماء من مياه جَذيمة من بني عامر) فقتل منهم ناساً، لم يكن قتله لهم صواباً، فوداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إني أبرأ إليك مما صنع خالد". قال أبو عمر: وخبره في ذلك من صحيح الأثر.
وقال ابن عبد البر أيضاً: اشتكى عبدُ الرحمن بن عوف خالدَ بن الوليد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا خالد لِمَ تؤذي رجلاً من أهل بدر، لو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله؟! قال: يا رسول الله، إنهم يقعون بي فأردُّ عليهم. فقال: لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله، صبّه الله على الكفار.
وفيه أيضاً: وقع بين خالد وعمار بن ياسر كلام فقال عمار: لقد هممتُ ألا أكلمك أبداً! فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (( يا خالد، مالك ولعمار، رجل من أهل الجنة قد شهد بدراً؟! وقال لعمار: "إن خالداً يا عمار سيف من سيوف الله على الكفار، قال خالد: فما زلت أحب عماراً من يومئذ)).
وحين كتب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- كتاباً وأرسله إلى قريش يخبرهم بمقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- لفتح مكة... ونزل الوحي وانكشف أمر حاطب، وبيَّن حاطبٌ عذرَه في ذلك، وقال عمر -رضي الله عنه-: "يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطّلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
3- في تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع مختلف الآراء التي يبديها أصحابه:
إن كثيراً من القادة حين يعرضون مسألة للنقاش واتخاذ القرار بشأنها، يكون لهم توجُّهٌ مسبَّق، أو يتكون لهم مثل هذا التوجّه في أثناء النقاش، فتراهم يتعرضون بالتسفيه والتوبيخ لمن يعرض الرأي المخالف لتوجههم، أو يسكّتونه، أو يتهمونه في ولائه... وهذا ما يدخل عادة في باب الإرهاب الفكري الذي يجعل صاحب الرأي يُحْجم عن إبداء رأيه بصراحة، خشية تعرّضه للإسكات أو التسفيه... فلا يبقى إلا رأي من يؤيد القائد!
فلنرَ كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع آراء أصحابه:
أخرج الإمام أحمد أنه: لما كان يوم بدر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله قومُك وأهلك، استَبْقِهم واسْتَأنِ بهم، لعل اللهَ أن يتوب عليهم، قال: وقال عمر: يا رسول الله أخرجوكَ وكذّبوكَ، قَرِّبْهم فاضرب أعناقهم، قال: وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمْ عليهم ناراً، قال: فقال العباس: قطعتَ رَحِمَكَ، قال: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يردَّ عليهم شيئاً، قال: فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، قال: فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنَّ الله ليُلينُ قلوب رجال فيه حتى تكون ألينَ من اللبن، وإنَّ الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم - عليه السلام - قال: ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (إبراهيم: 36)، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: ( إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). (المائدة: 118)، وإن مثَلك يا عمر كمثل نوح قال: ( رب لا تذر على الأرض من الكفرين ديّاراً). (نوح: 26)، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: ( واشدُد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). (يونس: 88)).
إنه يجد لصاحب كل رأي شَبَهاً في سيرة نبي كريم، فهل بعد هذا تشجيع على إبداء الرأي؟!.
4- في حسن معاملته -صلى الله عليه وسلم- التي تقلب العدوَّ صديقاً!
وهنا كذلك نجد أمثلة كثيرة جداً، نكتفي منها بمثالين اثنين:
المثال الأول: ثمامةُ بن أثال رئيس قبيلة حنيفة قومِ مسيلمة الكذّاب، أرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام سنة 7هـ، فتلقى الرسالة بازدراء، وأخذته العزة بالإثم، ثم إنه ركبه الشيطان فأغراه بقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم صرفه الله - تعالى -عن ذلك... ثم إن ثمامة أقبل معتمراً، وهو على شِركِه، وتمكّن بعض المسلمين من إلقاء القبض عليه... ورُبط إلى عمود في المسجد، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه فقال: (( مالك يا ثمامُ؟ هل أمكن الله منك؟ قال: قد كان ذلك يا محمد، إن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دم، وإن تَعْفُ تعفُ عن شاكر، وإن تسأل مالاً تُعْطَه! فمضى رسول الله وتركه، وتكرر هذا في اليوم الثاني واليوم الثالث حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: "أطلقوه، قد عفوتُ عنك يا ثمام، ولم يتمالك ثمامة مع هذه البادرة الكريمة أن أعلن إسلامه وقال: يا محمد، لقد كنتُ وما وجهٌ أبغضَ إليّ من وجهك... ثم لقد أصبحتُ وما وجه أحبَّ إلي من وجهك... وإني أشهد أن لا إله إلا الله...)) (وانظر القصة بكمالها في أسد الغابة 1/294).
المثال الثاني: عمرو بن العاص. ولنذكر أن أباه هو العاص بن وائل السهمي الذي كان من أشدّ أعداء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن عمرواً نفسه كان أحد رجلين بعثت بهما قريش إلى النجاشي حتى يُسْلمها من هاجروا إليها من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول عمرو عن نفسه وهو على فراش الموت: "... لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدَّ بغضاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني، ولا أحبّ إليّ أن أكون قد استمكنت من قتله فقتلتُه، فلو مِتّ على ذلك لكنت من أهل النار... ثم يتحدث عن نفسه بعد إسلامه أنه "ما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنتُ أطيقُ أن أملأ عينيّ منه، إجلالاً له... " (الحديث بكماله تجده في صحيح مسلم 1/112).
ونكتفي بهذه الشذرات، ونؤكد أن توافر بعض المختصين على دراسة هذه الجوانب في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة ستغني المكتبة الإسلامية، وتضع بين أيدي الأجيال المهزومة من المسلمين ما يرفع معنوياتها، وينقلها إلى الثقة بدينها ونبيها وتراثها...ونفسها.
المصدر :
http://islamselect.net/mat/89128