مصطفى شفيق علام
كثيرًا ما يبني الحالمون في عالمنا العربي والإسلامي توقعاتهم بشأن قضايا الأمة الرئيسة على أطراف وقوى خارجية يعتبرونها الأقدر على حل هذه القضايا والتعامل مع تلك الإشكالات.
فعلى سبيل المثال يعتقد الكثيرون من أبناء الأمة ومثقفيها أن الإدارات الديمقراطية في واشنطن هي الأقرب لقضايا المسلمين من نظرائها من الإدارات الجمهورية، ومن ثم فهم يهللون ويستبشرون حينما يتولى باراك أوباما الديمقراطي مقاليد السلطة في بلاده بدلاً من جورج دبليو بوش الجمهوري. كما يعتقد الكثيرون أيضًا وعلى سبيل المثال أن حزب العمل الإسرائيلي اليساري أقل تطرفًا ومن ثم أقرب للسعي من أجل السلام من حزب الليكود اليميني، وعليه فهم يحزنون ويجزعون لفوز بنيامين نتنياهو على خصمه أيهود باراك. وينسى هؤلاء المستبشرون في الحالة الأولى –فوز أوباما بالرئاسة الأمريكية- والجزعون في الحالة الثانية –فوز نتنياهو برئاسة حكومة اليهود- أن ما يحكم الدول سياسات واستراتيجيات وليس أفراد وإدارات، ومن ثم فقد تتغير الرئاسات والإدارات تبعًا للعمليات الانتخابية والآليات الدستورية في حين تبقى السياسات والاستراتيجيات عصية على التغير إلا وفقًا لاعتبارات معقدة وأنماط مدروسة تسعى هذه الدراسة لبيانها والتعاطي مع محدداتها مع التطبيق على الحالة الأمريكية باعتبارها الأكثر تداخلاً مع قضايا العالم الإسلامي لكونها القطب الرئيس في النظام الدولي بطبعته الراهنة.
لا شك أنه من المسلم به في أدبيات التحليل السياسي أن واقع العلاقات الدولية ليس نمطًا أو حالة جامدة، بل يمكن النظر إلى ذلك الواقع باعتباره عملية متغيرة ومتطورة تتسم بالحراك والمرونة والديناميكية. وتندفع تلك العملية من سعي الأطراف والقوى الفاعلة في الواقع الدولي إلى الحفاظ على أوضاعها ومصالحها التي تعكس ما تحوزه من قدرات وإمكانات ومكنات نسبية وموارد متاحة، فعندما تتغير القدرات بشكل حاسم لدى طرف ما من أطراف التفاعل فإن باقي الأطراف –وفقًا لتحليل المدرسة الواقعية- يسعون إلى إعادة التوازن من جديد عبر تفعيل سياسات واستراتيجيات جديدة تتناسب مع مستجدات الواقع الدولي وتحولاته، حيث تدرك الأطراف الفاعلة في ذلك الواقع أنه في ظل بيئة دولية لا يحكمها إلا منطق التنافس والصراع والذي يتحول بدوره إلى سياسات وسياسات مضادة؛ فإن حماية حدودها ومكتسباتها المعطاة فضلاً عن تحقيق مصالحها واستراتيجياتها المبتغاة؛ إنما هو رهن بامتلاك القوة والسعي الدائم إلى زيادة هذه القوة وتعظيمها إلى أبعد مدى ممكن.
وإذا ما تقرر لدينا – استقراءً - أن الواقع الدولي متغير فيما يتعلق بتراتبية القوى الكبرى والمؤثرة صعودًا وهبوطًا وفقًا لما تحوزه الفواعل من الدول من محددات ومرتكزات القوة والتي تقوم على أسس بعضها مادي وبعضها الآخر معنوي، وترتبط بالنسق الدولي السائد في مرحلة زمنية ما وما يتضمنه ذلك النسق من عناصر ومحددات تشمل الوحدات والبنيان والمؤسسات والعمليات، فإن واقع تلك الدول أيضًا لا يتسم بالثبات التام أو الجمود فيما يتعلق بسياساتها واستراتيجياتها وتفاعلاتها الدولية، الأمر الذي يجعل من الأهمية بمكان التساؤل بشأن أنماط ومحددات التغيير في السياسات التي تصيغها وتنتهجها الدول إزاء الآخر سواء الحليف أو المنافس أو حتى التابع الخاضع، إضافة إلى التساؤل بشأن مدى ذلك التغيير وطبيعته.
أنماط التغير الاستراتيجي:
ثمة أربعة أنماط نظرية للتغير في استراتيجيات الدول وسياساتها الخارجية التي تحكم حركة تفاعلاتها الدولية وفقًا لتشارلز هيرمان[1]Charles Hermann أولها: ما يمكن وصفه بالتغير "التكيفي" Adjustment Change ويقصد به التغير في مستوى الاهتمام الموجه إلى قضية ما مع بقاء أهداف السياسة وأدواتها تجاه التعاطي مع تلك القضية كما هي من دون المساس بها أو تغييرها.
وثانيها: وهو ما يطلق عليه التغير "البرنامجي" Program Changeوالذي ينصرف إلى تغيير أدوات السياسة ووسائلها من دون أي تغيير فيما يتعلق بالأهداف والغايات المقصودة من ورائها.
وثالثها: ما يسمى بالتغير "الهدفي" Goal Change وفي هذا النمط تتغير أهداف السياسة ذاتها ومن ثم تتغير أدواتها ووسائلها بالتبعية.
ورابعها: وهو التغير "التوجهي" Orientation Change وهو أكثر الأنماط الأربعة تطرفًا وجذريةً إذ ينصرف إلى تغير يمس التوجه العام للسياسة الخارجية للدولة بما في ذلك تغير الاستراتيجيات وما يتبعها من أهداف وغايات ووسائل وأدوات.
وإذا كان النمط الأول (التغير التكيفي) – طبقًا لهيرمان Hermann – يعد نمطًا نظريًا بحتًا دون أن يكون له مردود حقيقي على واقع الاستراتيجيات وأهدافها ومن ثم فهو من الناحية العملية لا يعد تغيرًا حقيقيًا، فإن النمط الرابع (التغير التوجهي) يعد – وفقًا لجيمس روزيناو James Rosenau شكلاً نادر الحدوث في العلاقات الدولية[2]، ومن ثم فإن النمطين الثاني (البرنامجي) والثالث (الهدفي) هما الأكثر شيوعًا من بين الأنماط النظرية الأربعة المفترضة للتغير في السياسات الدولية وذلك اعتبارًا لمبدأ التدرجية الحاكم لمنطق التغيير الاستراتيجي للدول لاعتبارات تتعلق بواقع تلك الدول وأخرى تتعلق بالواقع الدولي وتفاعلاته وعملياته.
محددات التغير الاستراتيجي:
واستنادًا لما سبق بيانه من تعدد أنماط التغير في سياسات واستراتيجيات الدول؛ فإن ثمة محددات تحكم إطار عملية الاستمرار أو التغيير في تلك السياسات، حيث تُعين تلك المحددات مدى حاجة دولة ما إلى تغيير سياساتها واستراتيجياتها أو الإبقاء عليها واستمرارها بشكل كلي أو جزئي، نجملها في العناصر التالية[3]
أولاً: الأهمية النسبية لأهداف السياسة؛ وتعني ترتيب الأولويات الاستراتيجية للدولة وربطها بسلوك محدد لها في سياساتها الخارجية وتفاعلاتها الدولية، وهذا الترتيب يحدد ما يمكن تغييره بشكل أو بآخر من أهداف و ما يمكن إرجاؤه دون تغيير لفترة محددة من الزمن، كما يحدد أيضًا ما لا يقبل التغيير أو المساس به من أهداف استراتيجية للدولة.
ثانيًا: المدى الزمني اللازم لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للدولة سواء في المدى الطويل أو المتوسط أو القصير، حيث يحدد مدى الاستراتيجيات زمنيًا درجة الإلحاح في البدء بتغيير سياسة ما أو استمرارها لتؤتي ثمارها في الوقت المحدد والموضوع لها.
ثالثًا: مدى توافر الأدوات والوسائل المناسبة لتحقيق أهداف الاستراتيجية وتنفيذها على أرض الواقع وإخراجها من حيز التنظير إلى حيز التطبيق، فقد تغير الدولة سياستها فيما يتعلق بقضية ما لعدم وجود الأدوات التنفيذية لتلك السياسة أو تقوم بإرجائها لفترة ما لحين توافر الأدوات اللازمة لتنفيذها.
رابعًا: المقدرات النسبية للدولة، وتعني حساب حجم الموارد التي تمتلكها الدولة واللازمة لتنفيذ السياسة المرادة مع عدم إغفال ما يحوزه المنافسون والخصوم والمستهدفون بتلك السياسة من مقدرات وموارد قد تعرقل أو تحبط تنفيذها على الأرض.
خامسًا: الوحدات الدولية التي تتعامل معها أو تستهدفها السياسة، ونوعية التحالفات التي قد تسلكها تلك الوحدات لإفشال أو تحجيم الاستراتيجيات والسياسات التي تستهدفها ومدى تأثير تلك الوحدات وتحالفاتها على أهداف وغايات الدولة واستراتيجياتها.
سادسًا: القواعد الحاكمة للمباريات على الساحة الدولية، ويقصد بها الحدود المتاحة والمسموح بها والتي يمكن في نطاقها أن تتحرك الفواعل من الدول لتفعيل سياساتها واستراتيجياتها وتحقيق أهدافها من دون أن تجابه بمحاذير واقعية أو قانونية معرقلة.
المحددات السابقة تحكم -إلى حد كبير- سلوك الدول ومدركاتها فيما يتعلق باستراتيجياتها على مستوى التفاعلات الدولية وبناءً على ما سبق من محددات تقرر الدولة وجهتها من الاستمرار أو التغيير فيما تعتزم تنفيذه من سياسات على الصعيد الدولي.
التغير الاستراتيجي ما بين الجذرية والتدرجية:
تتجه الدول عادة نحو إقرار الأبعاد الرئيسية لسياساتها الهادفة إلى تحقيق مصالحها وغاياتها بعد كثير من التمحيص والتدقيق والدراسات المتعلقة بواقعها وواقع الآخرين المنافسين منهم والمستهدفين، ومن ثم فإن تلك السياسات تتميز بقدر من الثبات النسبي ولا نقول الجمود، حيث يتسم التغيير الذي قد يطرأ على السياسات الخارجية للدول واستراتيجياتها بالتدرجية، ومن ثم فإن حدوث تغييرات جذرية في تلك السياسات لا يتم إلا في حالات نادرة، في حين يكون السائد في سلوك تلك الدول هو القبول بالتغيير المحدود في الأبعاد الهامشية لسياساتها دون المساس بأبعادها الرئيسية والأساسية بشكل جذري شامل.
ويمكن تفسير الطبيعة التدرجية للتغير في السياسات الدولية بالنمط السائد في العلاقات الدولية وارتباطاتها والذي يفرض على الأطراف الفاعلة اتباع سياسات معينة، لما تتضمنه العلاقات الدولية من الدخول في تفاعلات معينة وما يفرضه ذلك من تخصيص الدولة موارد محددة للوفاء بالتزاماتها الناشئة عن تلك الارتباطات، الأمر الذي يجعل من العسير عليها إحداث تغييرات مفاجئة في استراتيجياتها على المدى الزمني القصير أو حتى المتوسط، إضافة إلى ارتباط تلك الاستراتيجيات في الغالب بمصالح الدولة العليا وأمنها القومي وهي من الأمور التي تتسم بالثبات وعدم القابلية للتغيير.
أسبابالتغير الجذري:
غير أن الطبيعة التدرجية لتغير السياسات لا تنفي إمكانية حدوث تحولات جذرية في سياسات الدول واستراتيجياتها، غير أن ذلك التحول الجذري – وبمنطق الاستقراء والتتبع التاريخي – ليس من سمات الدول الكبرى، ولكنه من سمات الدول النامية والتسلطية عمومًا[4] ومرد ذلك إلى عاملين أساسيين[5]:
أولهما: شخصنة القرار السياسي في ذلك النمط من الدول، فالقائد السياسي يهيمن على عملية صنع السياسات وصياغة الاستراتيجيات في ذلك النوع من نظم الحكم، ومن ثم فإن سياسات الدولة واستراتيجياتها تتأثر بعقائد ذلك القائد ومدركاته ورؤيته للعالم، لذا فإنه من الوارد أن تتغير توجهات دولة ما إذا ما تغير قائدها أيًا كانت طريقة التغيير، كما أنه من الوارد أيضًا أن تتغير توجهات تلك الدولة مع بقاء القائد نفسه في منصبه وذلك إذا ما حدث تغير في النمط العقدي والإدراكي لذلك القائد كأن يتحول من تبني الاشتراكية إلى اعتناق الليبرالية أو من الأخذ بمبدأ التخطيط الاقتصادي المركزي إلى تغليب اقتصادات السوق وهكذا.
أما العامل الثاني: فهو الانشقاقات السياسية التي قد تحدث داخل النخبة الحاكمة في النظام التسلطي وما تؤدي إليه من عدم وجود إجماع داخلي حول الخطوط العريضة والرئيسية في استراتيجيات الدولة، حيث تدفع انشقاقات النخبة الحاكمة باتجاه نشوب صراعات داخلية قد تؤدي إلى تفوق أحد الأجنحة داخل تلك النخبة وتفردها بالسلطة الأمر الذي ربما يعمل على إحداث تغييرات جذرية في سياسات واستراتيجيات تلك الدولة بشكل دراماتيكي.
وهناك أربعة عوامل حاسمة يمكن القول إنها تحدد درجة تغيير السياسات والاستراتيجيات ومداه في ذلك النوع من النظم السياسية[6]:
أولها: مدركات وتصورات النخبة الحاكمة ورؤيتها بشأن الدولة وقوتها ودورها وحدود ذلك الدور.
وثانيها: رؤية النخبة الحاكمة ومدركاتها بشأن طبيعة النظام الدولي وتفاعلاته وموقع الدولة من ذلك النظام وحدود التأثير فيه والتأثر به.
وثالثها: البدائل المتاحة للسياسات الحالية للدولة ومدى ملاءمتها لتصورات تلك النخبة ومدركاتها.
ورابعها: ما يفرضه ذلك التغيير في سياسات الدولة من تكلفة مادية ومعنوية ومدى تحمل تلك الدولة لنتائج وتبعات ذلك التغيير.
فلكي يتم تغيير سياسة ما لا بد من إدراك النخبة الحاكمة لأهمية التغيير ووجود البديل المناسب للسياسة المراد تغييرها، ومن ثم القدرة على تحمل تبعات ذلك التغيير بأن تكون تكلفته مساوية أو أقل من تكلفة السياسة الحالية.
الاستراتيجية الأمريكية بين بوش وباراك
ويمكن تطبيق مفهوم وأنماط ومحددات التغير الاستراتيجي وفق ما بيناه على الحالة الأمريكية الراهنة في ظل إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، الذي استبشر الكثيرون لقدومه لاسيما بعد حقبة الجمهوريين بزعامة بوش. فلقد شهدت السياسة الأمريكية إزاء العالم الإسلامي إبان حقبة بوش عددًا من العناوين الرئيسة؛ لعل أبرزها: احتلال بغداد، إسقاط حركة طالبان واحتلال أفغانستان، الحرب على ما يسمى بالإرهاب، معتقل جوانتانامو، فضيحة سجن أبوغريب، التعذيب، المعتقلات السرية، السجون الطائرة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.. إلخ.
هذه بعض العناوين الدلالية التي يصلح كل واحد منها بمفرده لدمغ حقبة بوش المنصرمة بالفشل والإخفاق – حتى داخل الأوساط الأمريكية ذاتها- سياسيًا وعسكريًا وحتى ثقافيًا واقتصاديًا، الأمر الذي ورثه الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن سلفه جورج بوش، فكيف تعاطى أوباما مع ذلك الميراث السلبي الذي خلفه له بوش وما هو مدى وحدود التغيير الاستراتيجي الذي جعله أوباما شعارًا لحملته الانتخابية ومنطلقًا لخطاب التنصيب الذي استهل به فترة ولايته إضافة إلى خطاب القاهرة الذي توجه به للعالم الإسلامي في يونيو من العام 2008؟
مقاربات حقبة بوش اللاهوتية
بعيدًا عن جدلية الفعل ورد الفعل، المتمثلة في محاولة توصيف حالة العداء الأمريكي الواضح للعالم الإسلامي والمتمثلة في استراتيجية الحرب على ما يسمى بالإرهاب التي صكها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، وهل هي "ردة فعل" على تجرؤ تنظيم "القاعدة" على الداخل الأمريكي لأول مرة منذ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية باستهدافه رموزها العسكرية والسياسية والاقتصادية في عملية نوعية غير مسبوقة؟.
أم هي "فعل" مقصود لذاته كانت واشنطن تخطط له لتحقيق مصالحها الإستراتيجية في بلدان العالم الإسلامي وكانت تنتظر اللحظة المناسبة للبدء فيه فكانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر هي الفرصة الذهبية أمام الإدارة الأمريكية المحافظة الجديدة برئاسة بوش الابن، والتي كانت قد تولت سدة الحكم في واشنطن قبل شهور قليلة من وقوع تلك الهجمات؟
فالحاصل إذن أن الرئيس بوش واجه تهديدات "القاعدة" لأمن بلاده القومي بإعلانه الحرب على كل ما هو إسلامي عبر ثوب فضفاض اختزله في كلمة واحدة هي "الإرهاب"، وكانت مقاربة بوش يغلب عليها الطابع الديني "الصليبي"، مع ما فيها من تأثير سياسي تعبوي، تتمتع بميزة تكتيكية عالية تجمع مصادر التهديد المتعددة لواشنطن في صيغة بسيطة واحدة هي "الإرهاب"، مستخدمًا عبارات لاهوتية لافتة حيث صور ما شهدته ساحة التفاعلات الدولية في حقبته من تداعيات بأنه صراع بين "الخير" – الذي تمثله بلاده ومن يدور بفلكها - و"الشر" – الذي يمثله الآخر الإسلامي بالأساس - بل إنه تبنى المعادلة اللينينية –نسبة إلى الزعيم السوفييتي لينين- الشهيرة التي تذهب إلى أن "كل من ليس معنا فهو ضدنا"، ومن ثم قسّم العالم إلى فسطاطين اثنين لا ثالث لهما حينما صك مصطلح "محور الشر" الذي قصد به وقتها دولاً بعينها تمثل تهديدًا لأمن واشنطن، غير أن دلالته اتسعت عددًا وانحسرت مضمونًا لتشمل كل من عارض استراتيجية واشنطن في حربها الكونية الجديدة على كل ما هو إسلامي وغن تدثر بشبح الإرهاب المزعوم.
قوة أوباما "الناعمة" بدلاً من قوة بوش "الخشنة"
وإذا كان ثمة عدد من المؤشرات التي افتتح بها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما حقبته الرئاسية، والتي قد تبدو تصالحية، بما يوحي – للوهلة الأولى - بصورة تحمل بعض ملامح التغيير في الخطاب للكيفية التي ستتعامل بها الإدارة الأمريكية الجديدة مع قضايا العالم الإسلامي من قبيل تجنبه ذكر "القاعدة" والحرب على الإرهاب في خطاب التنصيب، وإعلانه في خطاب القاهرة احترامه للعالم الإسلامي ودعوته إلى فتح آفاق جديدة للتعاون القائم على الثقة والاحترام والتعاون المشترك، وتأكيده على الانسحاب من العراق وإقامة سلام دائم في أفغانستان باعتبارهما وفقًا للرؤية الأمريكية موئل "الإرهاب" ومنطلق "القاعدة" في حربها ضد بلاده، واتخاذه قرارًا رئاسيًا بتصفية معتقل جوانتانامو وإيجاد مخرج قانوني للمعتقلين فيه بمحاكمتهم أو الإفراج عنهم أو تسليمهم إلى بلدانهم خلال مدة لا تتجاوز العام.
بيد أنه وبتمحيص دقيق يمكن القول إن القراءة التحليلية الثاقبة للمؤشرات السابقة قد أعطت زخمًا يشير ربما إلى جنوح أوباما نحو اعتماد ما يمكن تسميته بـ "القوة الناعمة" "Soft Power"- لن نقول كبديل ولكن على الأقل كداعم- إلى جانب "القوة الخشنة" "Hard Power" التي استخدمها بوش بشكل أساسي في تعامله مع قضايا العالم الإسلامي على مدي الأعوام الثمانية الماضية.
خيارات أوباما.. مدرستان وبديل توفيقي
ومن ثم فإنه وبنظرة واقعية بعيدة عن الآمال والطموحات العريضة التي ربما يتمناها الحالمون في عالمنا العربي والإسلامي الذين يقفون دائمًا في موقف "المفعول به" انتظارًا لما تجود به حادثات الدهر وتصريفات الأقدار اتكالاً وتهاونًا لا اعتمادًا وتوكلاً، فإنه مما لا شك فيه أن أوباما لم يحد في سياساته عما يتواءم ومقتضيات المرحلة الراهنة ومرتكزات الأمن القومي لبلاده وإعلاءً لمصالحها العليا. فهناك مدرستان كبيرتان تتسيدان الفكر الاستراتيجي الأمريكي الحالي بشأن التعامل مع قضايا العالم الإسلامي؛ أولهما:المدرسة التدخلية الجازمة الأحادية الجانب Assertive Interventional، وثانيهما: المدرسة التدخلية المتدرجة الانتقائية بالشراكة، Progressive Multilateral، حيث تؤكد الأولى - التي يوصف أصحابها بالمحافظين الجدد- على أن التهديد الأخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته بحزام الفوضى الجنوبي من الكرة الأرضية والإرهاب، ولا تعطي تلك المدرسة أهمية كبرى على دور التحالفات والشراكات، وتؤمن بأحقية التدخل العسكري المنفرد للولايات المتحدة حسب رغبتها، ولا تقيم وزنًا فعليًا لدور الأمم المتحدة، أو حتى لحلف الناتو، إذا لم يتفقا مع ما تعتبره المصلحة الأمريكية الخاصة. في حين أن الثانية التي يمكن وصفها بالليبرالية المثالية تتقاطع مع الأولى في تحديد الخطر المهدد للولايات المتحدة باعتباره قوس الأزمات أو الفوضى الجنوبي بالإضافة إلى الإرهاب، ولكن تختلف معها في سبل المواجهة، إذ تعول المدرسة الليبرالية المثالية كثيرًا على أهمية التحالفات والشراكة الدولية، وعلى استخدام القوة "الناعمة" والدبلوماسية في السياسة الخارجية الأميركية، لبناء إجماع استراتيجي وتحالفات ضرورية، والنظر إلى أن قيادة أمريكا للتحالفات الدولية يجب أن تكون مستندة إلى قناعة الآخرين الطوعية بها لا على الجبر والإكراه.
وإذا كانت توجهات المحافظين الجدد قد سادت في حقبة الرئيس بوش، فإن إدارة أوباما ربما كانت أقرب في صياغتها لاستراتيجيتها إزاء قضايا الأمة إلى المدرسة الليبرالية المثالية، مع تطوير انتقائي لها، ربما ينحو بأوباما وإدارته في تعامله مع قضايا العالم الإسلامي إلى اعتماد استراتيجية "توفيقية" تمزج بين جوانب من المدرسة الأولى –التدخلية الجازمة- التي تعلي من قيمة فرض السياسيات الفوقية أحادية الجانب والمدرسة الثانية –التدخلية الانتقائية- التي قد تتقاطع مع الأولى في تعريف وتحديد الأخطار غير أنها تختلف عنها في وسائل وآليات التعاطي معها عبر تفعيل منطق الشراكة القائمة على القيادة لا الهيمنة، وذلك بواقع الاضطرار وليس الرغبة ربما كنتيجة لما شهدته الولايات المتحدة إبان حقبة بوش المنصرمة من إخفاقات، لتستمر ذات الاستراتيجيات والسياسات وإن اختلفت الوسائل والأدوات، تختلف العناوين ولا تتباين المضامين، وليكون لسان حال واشنطن للعالم الإسلامي في ظل الإدارات الأمريكية المتعاقبة من جورج بوش الجمهوري المحافظ إلى باراك أوباما الديمقراطي البراجماتي "تعددت الإدارات.. ولكن العداء واحد".
[1] Charles Hermann: "Changing Course: When governments choose to redirect foreign policy", International Studies Quarterly, 34, 1990, p. 5.
[2] James Rosenau, "Restlessness, Change, and Foreign Policy Analysis", in James Rosenau, ed., In Search of Global Patterns, New York, Hasled Press, 1974, p. 374.
[3] محمد السيد سليم: تحليل السياسة الخارجية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1998، ص 55.
[4] K. Holsti, "Restructuring Foreign Policy: a neglected phenomenon in foreign policy theory", in K. Holsti, ed., Why Nations Re-align: Foreign Policy Restructuring in the Post War World, London, George Allen and Unwin, 1982, p. 4.
[5] Robert Rothstein, The Weak in the World of the Strong, The Developing Countries in the International System, New York, Columbia University Press, 1977, pp. 106 -108.
[6] Kjell Goldmann, Change and Stability in Foreign Policy, The Problem and Possibilities of Détente, New York, Harvester, 1988, p. 26
كثيرًا ما يبني الحالمون في عالمنا العربي والإسلامي توقعاتهم بشأن قضايا الأمة الرئيسة على أطراف وقوى خارجية يعتبرونها الأقدر على حل هذه القضايا والتعامل مع تلك الإشكالات.
فعلى سبيل المثال يعتقد الكثيرون من أبناء الأمة ومثقفيها أن الإدارات الديمقراطية في واشنطن هي الأقرب لقضايا المسلمين من نظرائها من الإدارات الجمهورية، ومن ثم فهم يهللون ويستبشرون حينما يتولى باراك أوباما الديمقراطي مقاليد السلطة في بلاده بدلاً من جورج دبليو بوش الجمهوري. كما يعتقد الكثيرون أيضًا وعلى سبيل المثال أن حزب العمل الإسرائيلي اليساري أقل تطرفًا ومن ثم أقرب للسعي من أجل السلام من حزب الليكود اليميني، وعليه فهم يحزنون ويجزعون لفوز بنيامين نتنياهو على خصمه أيهود باراك. وينسى هؤلاء المستبشرون في الحالة الأولى –فوز أوباما بالرئاسة الأمريكية- والجزعون في الحالة الثانية –فوز نتنياهو برئاسة حكومة اليهود- أن ما يحكم الدول سياسات واستراتيجيات وليس أفراد وإدارات، ومن ثم فقد تتغير الرئاسات والإدارات تبعًا للعمليات الانتخابية والآليات الدستورية في حين تبقى السياسات والاستراتيجيات عصية على التغير إلا وفقًا لاعتبارات معقدة وأنماط مدروسة تسعى هذه الدراسة لبيانها والتعاطي مع محدداتها مع التطبيق على الحالة الأمريكية باعتبارها الأكثر تداخلاً مع قضايا العالم الإسلامي لكونها القطب الرئيس في النظام الدولي بطبعته الراهنة.
لا شك أنه من المسلم به في أدبيات التحليل السياسي أن واقع العلاقات الدولية ليس نمطًا أو حالة جامدة، بل يمكن النظر إلى ذلك الواقع باعتباره عملية متغيرة ومتطورة تتسم بالحراك والمرونة والديناميكية. وتندفع تلك العملية من سعي الأطراف والقوى الفاعلة في الواقع الدولي إلى الحفاظ على أوضاعها ومصالحها التي تعكس ما تحوزه من قدرات وإمكانات ومكنات نسبية وموارد متاحة، فعندما تتغير القدرات بشكل حاسم لدى طرف ما من أطراف التفاعل فإن باقي الأطراف –وفقًا لتحليل المدرسة الواقعية- يسعون إلى إعادة التوازن من جديد عبر تفعيل سياسات واستراتيجيات جديدة تتناسب مع مستجدات الواقع الدولي وتحولاته، حيث تدرك الأطراف الفاعلة في ذلك الواقع أنه في ظل بيئة دولية لا يحكمها إلا منطق التنافس والصراع والذي يتحول بدوره إلى سياسات وسياسات مضادة؛ فإن حماية حدودها ومكتسباتها المعطاة فضلاً عن تحقيق مصالحها واستراتيجياتها المبتغاة؛ إنما هو رهن بامتلاك القوة والسعي الدائم إلى زيادة هذه القوة وتعظيمها إلى أبعد مدى ممكن.
وإذا ما تقرر لدينا – استقراءً - أن الواقع الدولي متغير فيما يتعلق بتراتبية القوى الكبرى والمؤثرة صعودًا وهبوطًا وفقًا لما تحوزه الفواعل من الدول من محددات ومرتكزات القوة والتي تقوم على أسس بعضها مادي وبعضها الآخر معنوي، وترتبط بالنسق الدولي السائد في مرحلة زمنية ما وما يتضمنه ذلك النسق من عناصر ومحددات تشمل الوحدات والبنيان والمؤسسات والعمليات، فإن واقع تلك الدول أيضًا لا يتسم بالثبات التام أو الجمود فيما يتعلق بسياساتها واستراتيجياتها وتفاعلاتها الدولية، الأمر الذي يجعل من الأهمية بمكان التساؤل بشأن أنماط ومحددات التغيير في السياسات التي تصيغها وتنتهجها الدول إزاء الآخر سواء الحليف أو المنافس أو حتى التابع الخاضع، إضافة إلى التساؤل بشأن مدى ذلك التغيير وطبيعته.
أنماط التغير الاستراتيجي:
ثمة أربعة أنماط نظرية للتغير في استراتيجيات الدول وسياساتها الخارجية التي تحكم حركة تفاعلاتها الدولية وفقًا لتشارلز هيرمان[1]Charles Hermann أولها: ما يمكن وصفه بالتغير "التكيفي" Adjustment Change ويقصد به التغير في مستوى الاهتمام الموجه إلى قضية ما مع بقاء أهداف السياسة وأدواتها تجاه التعاطي مع تلك القضية كما هي من دون المساس بها أو تغييرها.
وثانيها: وهو ما يطلق عليه التغير "البرنامجي" Program Changeوالذي ينصرف إلى تغيير أدوات السياسة ووسائلها من دون أي تغيير فيما يتعلق بالأهداف والغايات المقصودة من ورائها.
وثالثها: ما يسمى بالتغير "الهدفي" Goal Change وفي هذا النمط تتغير أهداف السياسة ذاتها ومن ثم تتغير أدواتها ووسائلها بالتبعية.
ورابعها: وهو التغير "التوجهي" Orientation Change وهو أكثر الأنماط الأربعة تطرفًا وجذريةً إذ ينصرف إلى تغير يمس التوجه العام للسياسة الخارجية للدولة بما في ذلك تغير الاستراتيجيات وما يتبعها من أهداف وغايات ووسائل وأدوات.
وإذا كان النمط الأول (التغير التكيفي) – طبقًا لهيرمان Hermann – يعد نمطًا نظريًا بحتًا دون أن يكون له مردود حقيقي على واقع الاستراتيجيات وأهدافها ومن ثم فهو من الناحية العملية لا يعد تغيرًا حقيقيًا، فإن النمط الرابع (التغير التوجهي) يعد – وفقًا لجيمس روزيناو James Rosenau شكلاً نادر الحدوث في العلاقات الدولية[2]، ومن ثم فإن النمطين الثاني (البرنامجي) والثالث (الهدفي) هما الأكثر شيوعًا من بين الأنماط النظرية الأربعة المفترضة للتغير في السياسات الدولية وذلك اعتبارًا لمبدأ التدرجية الحاكم لمنطق التغيير الاستراتيجي للدول لاعتبارات تتعلق بواقع تلك الدول وأخرى تتعلق بالواقع الدولي وتفاعلاته وعملياته.
محددات التغير الاستراتيجي:
واستنادًا لما سبق بيانه من تعدد أنماط التغير في سياسات واستراتيجيات الدول؛ فإن ثمة محددات تحكم إطار عملية الاستمرار أو التغيير في تلك السياسات، حيث تُعين تلك المحددات مدى حاجة دولة ما إلى تغيير سياساتها واستراتيجياتها أو الإبقاء عليها واستمرارها بشكل كلي أو جزئي، نجملها في العناصر التالية[3]
أولاً: الأهمية النسبية لأهداف السياسة؛ وتعني ترتيب الأولويات الاستراتيجية للدولة وربطها بسلوك محدد لها في سياساتها الخارجية وتفاعلاتها الدولية، وهذا الترتيب يحدد ما يمكن تغييره بشكل أو بآخر من أهداف و ما يمكن إرجاؤه دون تغيير لفترة محددة من الزمن، كما يحدد أيضًا ما لا يقبل التغيير أو المساس به من أهداف استراتيجية للدولة.
ثانيًا: المدى الزمني اللازم لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للدولة سواء في المدى الطويل أو المتوسط أو القصير، حيث يحدد مدى الاستراتيجيات زمنيًا درجة الإلحاح في البدء بتغيير سياسة ما أو استمرارها لتؤتي ثمارها في الوقت المحدد والموضوع لها.
ثالثًا: مدى توافر الأدوات والوسائل المناسبة لتحقيق أهداف الاستراتيجية وتنفيذها على أرض الواقع وإخراجها من حيز التنظير إلى حيز التطبيق، فقد تغير الدولة سياستها فيما يتعلق بقضية ما لعدم وجود الأدوات التنفيذية لتلك السياسة أو تقوم بإرجائها لفترة ما لحين توافر الأدوات اللازمة لتنفيذها.
رابعًا: المقدرات النسبية للدولة، وتعني حساب حجم الموارد التي تمتلكها الدولة واللازمة لتنفيذ السياسة المرادة مع عدم إغفال ما يحوزه المنافسون والخصوم والمستهدفون بتلك السياسة من مقدرات وموارد قد تعرقل أو تحبط تنفيذها على الأرض.
خامسًا: الوحدات الدولية التي تتعامل معها أو تستهدفها السياسة، ونوعية التحالفات التي قد تسلكها تلك الوحدات لإفشال أو تحجيم الاستراتيجيات والسياسات التي تستهدفها ومدى تأثير تلك الوحدات وتحالفاتها على أهداف وغايات الدولة واستراتيجياتها.
سادسًا: القواعد الحاكمة للمباريات على الساحة الدولية، ويقصد بها الحدود المتاحة والمسموح بها والتي يمكن في نطاقها أن تتحرك الفواعل من الدول لتفعيل سياساتها واستراتيجياتها وتحقيق أهدافها من دون أن تجابه بمحاذير واقعية أو قانونية معرقلة.
المحددات السابقة تحكم -إلى حد كبير- سلوك الدول ومدركاتها فيما يتعلق باستراتيجياتها على مستوى التفاعلات الدولية وبناءً على ما سبق من محددات تقرر الدولة وجهتها من الاستمرار أو التغيير فيما تعتزم تنفيذه من سياسات على الصعيد الدولي.
التغير الاستراتيجي ما بين الجذرية والتدرجية:
تتجه الدول عادة نحو إقرار الأبعاد الرئيسية لسياساتها الهادفة إلى تحقيق مصالحها وغاياتها بعد كثير من التمحيص والتدقيق والدراسات المتعلقة بواقعها وواقع الآخرين المنافسين منهم والمستهدفين، ومن ثم فإن تلك السياسات تتميز بقدر من الثبات النسبي ولا نقول الجمود، حيث يتسم التغيير الذي قد يطرأ على السياسات الخارجية للدول واستراتيجياتها بالتدرجية، ومن ثم فإن حدوث تغييرات جذرية في تلك السياسات لا يتم إلا في حالات نادرة، في حين يكون السائد في سلوك تلك الدول هو القبول بالتغيير المحدود في الأبعاد الهامشية لسياساتها دون المساس بأبعادها الرئيسية والأساسية بشكل جذري شامل.
ويمكن تفسير الطبيعة التدرجية للتغير في السياسات الدولية بالنمط السائد في العلاقات الدولية وارتباطاتها والذي يفرض على الأطراف الفاعلة اتباع سياسات معينة، لما تتضمنه العلاقات الدولية من الدخول في تفاعلات معينة وما يفرضه ذلك من تخصيص الدولة موارد محددة للوفاء بالتزاماتها الناشئة عن تلك الارتباطات، الأمر الذي يجعل من العسير عليها إحداث تغييرات مفاجئة في استراتيجياتها على المدى الزمني القصير أو حتى المتوسط، إضافة إلى ارتباط تلك الاستراتيجيات في الغالب بمصالح الدولة العليا وأمنها القومي وهي من الأمور التي تتسم بالثبات وعدم القابلية للتغيير.
أسبابالتغير الجذري:
غير أن الطبيعة التدرجية لتغير السياسات لا تنفي إمكانية حدوث تحولات جذرية في سياسات الدول واستراتيجياتها، غير أن ذلك التحول الجذري – وبمنطق الاستقراء والتتبع التاريخي – ليس من سمات الدول الكبرى، ولكنه من سمات الدول النامية والتسلطية عمومًا[4] ومرد ذلك إلى عاملين أساسيين[5]:
أولهما: شخصنة القرار السياسي في ذلك النمط من الدول، فالقائد السياسي يهيمن على عملية صنع السياسات وصياغة الاستراتيجيات في ذلك النوع من نظم الحكم، ومن ثم فإن سياسات الدولة واستراتيجياتها تتأثر بعقائد ذلك القائد ومدركاته ورؤيته للعالم، لذا فإنه من الوارد أن تتغير توجهات دولة ما إذا ما تغير قائدها أيًا كانت طريقة التغيير، كما أنه من الوارد أيضًا أن تتغير توجهات تلك الدولة مع بقاء القائد نفسه في منصبه وذلك إذا ما حدث تغير في النمط العقدي والإدراكي لذلك القائد كأن يتحول من تبني الاشتراكية إلى اعتناق الليبرالية أو من الأخذ بمبدأ التخطيط الاقتصادي المركزي إلى تغليب اقتصادات السوق وهكذا.
أما العامل الثاني: فهو الانشقاقات السياسية التي قد تحدث داخل النخبة الحاكمة في النظام التسلطي وما تؤدي إليه من عدم وجود إجماع داخلي حول الخطوط العريضة والرئيسية في استراتيجيات الدولة، حيث تدفع انشقاقات النخبة الحاكمة باتجاه نشوب صراعات داخلية قد تؤدي إلى تفوق أحد الأجنحة داخل تلك النخبة وتفردها بالسلطة الأمر الذي ربما يعمل على إحداث تغييرات جذرية في سياسات واستراتيجيات تلك الدولة بشكل دراماتيكي.
وهناك أربعة عوامل حاسمة يمكن القول إنها تحدد درجة تغيير السياسات والاستراتيجيات ومداه في ذلك النوع من النظم السياسية[6]:
أولها: مدركات وتصورات النخبة الحاكمة ورؤيتها بشأن الدولة وقوتها ودورها وحدود ذلك الدور.
وثانيها: رؤية النخبة الحاكمة ومدركاتها بشأن طبيعة النظام الدولي وتفاعلاته وموقع الدولة من ذلك النظام وحدود التأثير فيه والتأثر به.
وثالثها: البدائل المتاحة للسياسات الحالية للدولة ومدى ملاءمتها لتصورات تلك النخبة ومدركاتها.
ورابعها: ما يفرضه ذلك التغيير في سياسات الدولة من تكلفة مادية ومعنوية ومدى تحمل تلك الدولة لنتائج وتبعات ذلك التغيير.
فلكي يتم تغيير سياسة ما لا بد من إدراك النخبة الحاكمة لأهمية التغيير ووجود البديل المناسب للسياسة المراد تغييرها، ومن ثم القدرة على تحمل تبعات ذلك التغيير بأن تكون تكلفته مساوية أو أقل من تكلفة السياسة الحالية.
الاستراتيجية الأمريكية بين بوش وباراك
ويمكن تطبيق مفهوم وأنماط ومحددات التغير الاستراتيجي وفق ما بيناه على الحالة الأمريكية الراهنة في ظل إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، الذي استبشر الكثيرون لقدومه لاسيما بعد حقبة الجمهوريين بزعامة بوش. فلقد شهدت السياسة الأمريكية إزاء العالم الإسلامي إبان حقبة بوش عددًا من العناوين الرئيسة؛ لعل أبرزها: احتلال بغداد، إسقاط حركة طالبان واحتلال أفغانستان، الحرب على ما يسمى بالإرهاب، معتقل جوانتانامو، فضيحة سجن أبوغريب، التعذيب، المعتقلات السرية، السجون الطائرة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.. إلخ.
هذه بعض العناوين الدلالية التي يصلح كل واحد منها بمفرده لدمغ حقبة بوش المنصرمة بالفشل والإخفاق – حتى داخل الأوساط الأمريكية ذاتها- سياسيًا وعسكريًا وحتى ثقافيًا واقتصاديًا، الأمر الذي ورثه الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن سلفه جورج بوش، فكيف تعاطى أوباما مع ذلك الميراث السلبي الذي خلفه له بوش وما هو مدى وحدود التغيير الاستراتيجي الذي جعله أوباما شعارًا لحملته الانتخابية ومنطلقًا لخطاب التنصيب الذي استهل به فترة ولايته إضافة إلى خطاب القاهرة الذي توجه به للعالم الإسلامي في يونيو من العام 2008؟
مقاربات حقبة بوش اللاهوتية
بعيدًا عن جدلية الفعل ورد الفعل، المتمثلة في محاولة توصيف حالة العداء الأمريكي الواضح للعالم الإسلامي والمتمثلة في استراتيجية الحرب على ما يسمى بالإرهاب التي صكها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، وهل هي "ردة فعل" على تجرؤ تنظيم "القاعدة" على الداخل الأمريكي لأول مرة منذ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية باستهدافه رموزها العسكرية والسياسية والاقتصادية في عملية نوعية غير مسبوقة؟.
أم هي "فعل" مقصود لذاته كانت واشنطن تخطط له لتحقيق مصالحها الإستراتيجية في بلدان العالم الإسلامي وكانت تنتظر اللحظة المناسبة للبدء فيه فكانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر هي الفرصة الذهبية أمام الإدارة الأمريكية المحافظة الجديدة برئاسة بوش الابن، والتي كانت قد تولت سدة الحكم في واشنطن قبل شهور قليلة من وقوع تلك الهجمات؟
فالحاصل إذن أن الرئيس بوش واجه تهديدات "القاعدة" لأمن بلاده القومي بإعلانه الحرب على كل ما هو إسلامي عبر ثوب فضفاض اختزله في كلمة واحدة هي "الإرهاب"، وكانت مقاربة بوش يغلب عليها الطابع الديني "الصليبي"، مع ما فيها من تأثير سياسي تعبوي، تتمتع بميزة تكتيكية عالية تجمع مصادر التهديد المتعددة لواشنطن في صيغة بسيطة واحدة هي "الإرهاب"، مستخدمًا عبارات لاهوتية لافتة حيث صور ما شهدته ساحة التفاعلات الدولية في حقبته من تداعيات بأنه صراع بين "الخير" – الذي تمثله بلاده ومن يدور بفلكها - و"الشر" – الذي يمثله الآخر الإسلامي بالأساس - بل إنه تبنى المعادلة اللينينية –نسبة إلى الزعيم السوفييتي لينين- الشهيرة التي تذهب إلى أن "كل من ليس معنا فهو ضدنا"، ومن ثم قسّم العالم إلى فسطاطين اثنين لا ثالث لهما حينما صك مصطلح "محور الشر" الذي قصد به وقتها دولاً بعينها تمثل تهديدًا لأمن واشنطن، غير أن دلالته اتسعت عددًا وانحسرت مضمونًا لتشمل كل من عارض استراتيجية واشنطن في حربها الكونية الجديدة على كل ما هو إسلامي وغن تدثر بشبح الإرهاب المزعوم.
قوة أوباما "الناعمة" بدلاً من قوة بوش "الخشنة"
وإذا كان ثمة عدد من المؤشرات التي افتتح بها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما حقبته الرئاسية، والتي قد تبدو تصالحية، بما يوحي – للوهلة الأولى - بصورة تحمل بعض ملامح التغيير في الخطاب للكيفية التي ستتعامل بها الإدارة الأمريكية الجديدة مع قضايا العالم الإسلامي من قبيل تجنبه ذكر "القاعدة" والحرب على الإرهاب في خطاب التنصيب، وإعلانه في خطاب القاهرة احترامه للعالم الإسلامي ودعوته إلى فتح آفاق جديدة للتعاون القائم على الثقة والاحترام والتعاون المشترك، وتأكيده على الانسحاب من العراق وإقامة سلام دائم في أفغانستان باعتبارهما وفقًا للرؤية الأمريكية موئل "الإرهاب" ومنطلق "القاعدة" في حربها ضد بلاده، واتخاذه قرارًا رئاسيًا بتصفية معتقل جوانتانامو وإيجاد مخرج قانوني للمعتقلين فيه بمحاكمتهم أو الإفراج عنهم أو تسليمهم إلى بلدانهم خلال مدة لا تتجاوز العام.
بيد أنه وبتمحيص دقيق يمكن القول إن القراءة التحليلية الثاقبة للمؤشرات السابقة قد أعطت زخمًا يشير ربما إلى جنوح أوباما نحو اعتماد ما يمكن تسميته بـ "القوة الناعمة" "Soft Power"- لن نقول كبديل ولكن على الأقل كداعم- إلى جانب "القوة الخشنة" "Hard Power" التي استخدمها بوش بشكل أساسي في تعامله مع قضايا العالم الإسلامي على مدي الأعوام الثمانية الماضية.
خيارات أوباما.. مدرستان وبديل توفيقي
ومن ثم فإنه وبنظرة واقعية بعيدة عن الآمال والطموحات العريضة التي ربما يتمناها الحالمون في عالمنا العربي والإسلامي الذين يقفون دائمًا في موقف "المفعول به" انتظارًا لما تجود به حادثات الدهر وتصريفات الأقدار اتكالاً وتهاونًا لا اعتمادًا وتوكلاً، فإنه مما لا شك فيه أن أوباما لم يحد في سياساته عما يتواءم ومقتضيات المرحلة الراهنة ومرتكزات الأمن القومي لبلاده وإعلاءً لمصالحها العليا. فهناك مدرستان كبيرتان تتسيدان الفكر الاستراتيجي الأمريكي الحالي بشأن التعامل مع قضايا العالم الإسلامي؛ أولهما:المدرسة التدخلية الجازمة الأحادية الجانب Assertive Interventional، وثانيهما: المدرسة التدخلية المتدرجة الانتقائية بالشراكة، Progressive Multilateral، حيث تؤكد الأولى - التي يوصف أصحابها بالمحافظين الجدد- على أن التهديد الأخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته بحزام الفوضى الجنوبي من الكرة الأرضية والإرهاب، ولا تعطي تلك المدرسة أهمية كبرى على دور التحالفات والشراكات، وتؤمن بأحقية التدخل العسكري المنفرد للولايات المتحدة حسب رغبتها، ولا تقيم وزنًا فعليًا لدور الأمم المتحدة، أو حتى لحلف الناتو، إذا لم يتفقا مع ما تعتبره المصلحة الأمريكية الخاصة. في حين أن الثانية التي يمكن وصفها بالليبرالية المثالية تتقاطع مع الأولى في تحديد الخطر المهدد للولايات المتحدة باعتباره قوس الأزمات أو الفوضى الجنوبي بالإضافة إلى الإرهاب، ولكن تختلف معها في سبل المواجهة، إذ تعول المدرسة الليبرالية المثالية كثيرًا على أهمية التحالفات والشراكة الدولية، وعلى استخدام القوة "الناعمة" والدبلوماسية في السياسة الخارجية الأميركية، لبناء إجماع استراتيجي وتحالفات ضرورية، والنظر إلى أن قيادة أمريكا للتحالفات الدولية يجب أن تكون مستندة إلى قناعة الآخرين الطوعية بها لا على الجبر والإكراه.
وإذا كانت توجهات المحافظين الجدد قد سادت في حقبة الرئيس بوش، فإن إدارة أوباما ربما كانت أقرب في صياغتها لاستراتيجيتها إزاء قضايا الأمة إلى المدرسة الليبرالية المثالية، مع تطوير انتقائي لها، ربما ينحو بأوباما وإدارته في تعامله مع قضايا العالم الإسلامي إلى اعتماد استراتيجية "توفيقية" تمزج بين جوانب من المدرسة الأولى –التدخلية الجازمة- التي تعلي من قيمة فرض السياسيات الفوقية أحادية الجانب والمدرسة الثانية –التدخلية الانتقائية- التي قد تتقاطع مع الأولى في تعريف وتحديد الأخطار غير أنها تختلف عنها في وسائل وآليات التعاطي معها عبر تفعيل منطق الشراكة القائمة على القيادة لا الهيمنة، وذلك بواقع الاضطرار وليس الرغبة ربما كنتيجة لما شهدته الولايات المتحدة إبان حقبة بوش المنصرمة من إخفاقات، لتستمر ذات الاستراتيجيات والسياسات وإن اختلفت الوسائل والأدوات، تختلف العناوين ولا تتباين المضامين، وليكون لسان حال واشنطن للعالم الإسلامي في ظل الإدارات الأمريكية المتعاقبة من جورج بوش الجمهوري المحافظ إلى باراك أوباما الديمقراطي البراجماتي "تعددت الإدارات.. ولكن العداء واحد".
[1] Charles Hermann: "Changing Course: When governments choose to redirect foreign policy", International Studies Quarterly, 34, 1990, p. 5.
[2] James Rosenau, "Restlessness, Change, and Foreign Policy Analysis", in James Rosenau, ed., In Search of Global Patterns, New York, Hasled Press, 1974, p. 374.
[3] محمد السيد سليم: تحليل السياسة الخارجية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1998، ص 55.
[4] K. Holsti, "Restructuring Foreign Policy: a neglected phenomenon in foreign policy theory", in K. Holsti, ed., Why Nations Re-align: Foreign Policy Restructuring in the Post War World, London, George Allen and Unwin, 1982, p. 4.
[5] Robert Rothstein, The Weak in the World of the Strong, The Developing Countries in the International System, New York, Columbia University Press, 1977, pp. 106 -108.
[6] Kjell Goldmann, Change and Stability in Foreign Policy, The Problem and Possibilities of Détente, New York, Harvester, 1988, p. 26