الحيض وأحكامه
دراسة مقارنة
بين
الشريعة والطب
الدكتورة
سهير فؤاد إسماعيل
مدرس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية
قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية
جامعة الكويت
بحث منشور في المجلة العلمية
بكلية الشريعة والقانون بطنطا
قال تعالى: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ).
[سورة البقرة: آية 222]
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم".
أخرجه البخاري
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين... وبعد:
فإن النساء شطر كبير في المجتمع الإنساني، وهذه المسألة دقيقة للغاية في أحكام عملية في فرع فقهي بالغ الأهمية، وإن هذه المسألة تواجه الإناث منذ سن مبكرة، وتبدأ بمرحلة البلوغ، الأمر الذي يتطلب توضيح المسالة، لأنها التزام ديني أولاً، ولها وجه صحي أساسي يراعيه الإسلام، وقد جاء بما يكفل الحفاظ على صحة الإنسان.
ونظراً لقصور بعض النساء عن العلم بهذا الموضوع، إما للجهل، أو لعدم الرغبة في الإطلاع على ما هو لازم من الدين بالضرورة، أو للحياء والخجل، ومن خلال تجربتي في التدريس في الجامعة في مجال التخصص، لاحظت قصوراً كبيراً عند الكثير من الطالبات في المعلومات الخاصة بعبادات المرأة عامة –وبصفة خاصة ما يتعلق بالحيض من أحكام- رغم تخصصهن في الدراسات الإسلامية.
ونظراً لترددهن على التساؤل حول هذا الموضوع، وغيرهن من النساء الغير متخصصات، عن طريق اللقاءات والندوات وعبر الهاتف، وجدت من واجبي عليهن أن أكتب في هذا الموضوع وعنوانه:
(الحيض وأحكامه- دراسة مقارنة- بين الشريعة والطب)
وقد يخطئ من يظن أن هذا الموضوع مسألة عابرة، الأحكام فيها إجمالية أو عامة، ولكن لها تفصيل دقيق، وهناك من النساء ذوات الصحة الطبية المعتادة، وهناك ذوات المرض، فمنهن من تأتي لها الدورة الشهرية منتظمة، وبعضهن تكون دورتها غير منتظمة، أو من تنقطع عنهن فترات كبيرة، ويترتب على ذلك أحكام، منها ما يتعلق بالعبادة، كالصلاة والصوم، والطواف، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد، وغيرها. ومنها ما يتعلق بينها وبين زوجها إذا كانت متزوجة ليس في اللقاء الجنسي فحسب، بل عند الطلاق، وهذا الموضوع وإن كان قديماً قدم البشرية، إلا أننا لا نجد غير الإسلام قد نظمه، ووضع له الضوابط الدقيقة، التي سنرى نتائجها في خاتمة البحث إن شاء الله تعالى.
ولا أدعي أنني أول من طرق الباب في هذا الموضوع للبحث فيه، ولكن سبقني الكثير، ولكن تبدو لي من الناحية العملية أموراً قد يكشف البحث عنها بجلاء ووضوح بطريقة تكون سهلة التناول، ملمة بجوانبه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ولذلك كانت أهمية البحث ومدى الحاجة إليه.
منهج البحث:
سيكون منهجي في هذا البحث إنشاء الله تعالى: عرض المسائل المراد بحثها بفروعها ونقاطها التفصيلية بالرجوع إلى المصادر المعتمدة، وإلى بيان مواضع اتفاق الفقهاء من المذاهب الفقهية المعتبرة، ومواطن اختلافهم، مع ذكر أدلة كل فريق ومناقشتها حيثما كانت لذلك ضرورة، مرجحة ما قوي دليله عندي، وما رأيته أكثر تحقيقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية السمحة، ملخصة للنتائج بما يوجز الأمر للقارئ المتخصص بعد تفصيل، وتيسيره على القارئ المتخصص بعد تفصيل، وتيسيره على القارئ غير المتخصص.
خطة البحث:
وقد قسمت هذا البحث على مقدمة، وتسعة مباحث، وخاتمة:
أما المقدمة: فقد اشتملت على سبب اختيار هذا الموضوع، وأهميته، ومنهج البحث، وخطة البحث.
وأما المباحث: فقد اشتملت على ما يأتي:
المبحث الأول: تعريف الحيض، في اللغة، وفي الاصطلاح، وفي الطب.
المبحث الثاني: الدماء التي تراها المرأة.
المبحث الثالث: الحكمة الإلهية في الحيض.
المبحث الرابع: ركن الحيض، وشروطه، وحكمه.
المبحث الخامس: صفات، وألوان دم الحيض.
المبحث السادس: زمن الحيض (سن الحيض بداية ونهاية)، ومدته (أقل الحيض، وأكثره، وغالبه).
المبحث السابع: الطهر بين الحيضتين، وعلامات الطهر.
المبحث الثامن: أحوال الحائض.
المبحث التاسع: أحكام الحيض، وما يحرم على الحائض.
الخاتمة: وتتضمن أهم نتائج البحث.
وبعد.. فهذا جهد متواضع، فإن كنت أصبت فمن الله، وإن أخطأت فأرجو نصحي وإرشادي، والتماس المعذرة لي، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
دكتورة
سهير فؤاد
مدرس بقسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية
المبحث الأول
تعريف الحيض
أولاً: الحيض في اللغة:
مصدر حاض، من حاضت المرأة، تحيض حيضاً ومحيضاً. زاد أبو إسحاق ومحاضاً فهي حائض.
وقال الجوهري: (حاضت فهي حائضة، والجمع: حوائض وحيض)( )، والحيضة (بفتح الحاء) المرة الواحدة، والحيضة (بالكسر): الخرقة التي تستثفر بها المرأة. والحيض يكون مصدراً( )، وقيل الحيض عبارة عن الزمان والمكان، وعن الحيض نفسه وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض وأصل الكلمة من السيلان والانفجار.
قال البرديسي: (الحيض من قولهم حاض السيل إذا فاض)( ).
ويقال: حاضت الشجرة: أي سالت رطوبتها، قيل: ومنه الحوض: لأن الماء يحيض، أي يسيل إليه، والعرب تدخل الواو على الياء، والياء على الواو لأنهما من حيز واحد، وهما حرفا لين. قاله الأزهري ونقله الصاغاني( ).
وللحيض أسماء كثيرة، قال ابن خالوية: يقال: حاضت، ونفست، ودرست، وطمست، وضحكت، وكادت، وأكبرت، وصامت ( ).
وفي العرف: جريان دم المرأة( ).
ثانياً: الحيض في الاصطلاح:
عرف الفقهاء الحيض عدة تعريفات، اختلفت لفظاً، وإن لم تختلف معنى.
فعند الحنفية( ):
الحيض: هو دم ينفضه رحم بالغة لا داء بها ولا حبل ولا إياس.
شرح التعريف:
المقصود بلفظ (الدم) بيان نوعية الخارج من الرحم، فإذا كان السائل الخارج ماء أبيض، فلا يعتبر حيضاً، وإن شابته الكدرة أو الصفرة، فهو من الحيض. والمقصود بعبارة (ينفضه الرحم) أي يدفعه ويدفقه، وفيه بيان المكان الذي يسيل منه الدم، وهذا قيد يمنع غير ما يسيل من موضع الرحم، فلا يسمى حيضاً كالدم الخارج من الدبر أو من السرة.
والمقصود بـ(برحم بالغة) أي فرج آدمية اكتملت، وأدنى سن البلوغ تسع سنوات، فخرج بهذا القيد ما تراه الطفلة من دم، إذ أنه ليس بحيض، وإن استمر لأن الحيض لا يأتي قبل تسع سنوات في الغالب، عند غير الحنفية. أما عند الحنفية، فأقل سن تحيض فيه المرأة تراجع سنين، وفي التعريف (لا داء بها) قيد خرج به ما يكون من دم لعلة، أو جرح في الرحم أو المهبل والأبواق وغيرها، لأن الحيض دم فطرة وصحة، وكلمة (ولا حبل) قيد خرج به لو رأت الدم وهي حامل، فإذا رأت الحامل الدم لم يكن حيضاً، وفي (ولا إياس) خرج ما تراه الآيسة، وهي التي بلغت سناً ينقطع الحيض من أقرانها، وهي التي سنها زاد على 55سنة، وهو المعتمد عندهم إلا إذا رأت دماً قوياً، كالحيض فإنه يعتبر حيضاً.
وعند المالكية( ):
قالوا في تعريفهم للحيض: بأنه دم صفرة أو كدرة خرج بنفسه من قبل من تحمل عادة، وإن كان دفعة.
شرح التعريف:
(دم) جنس يشمل الحيض والنفاس و الاستحاضة، وغيرها من أنواع الدم (الصفرة) شيء كالصديد تعلوه صفرة، (أو كدرة) شيء كدر ليس على ألوان الدماء، (خرج بنفسه) أي بلا سبب ولادة ولا افتضاض، وما خرج بعلاج قبل وقته المعتاد، فليس بحيض، (من قبل)، فخرج بذلك الدم أو الصفرة أو الكدرة الخارجة من دبر أو ثقبة ولو تحت المعدة وانسد الفرج، (من تحمل عادة) وهي المرأة المراهقة على الخمسين، فخرج بذلك الدم الخارج من قبل من لا تحمل عادة، وهي مادون التسع أو آيسة، كبنت سبعين، (وإن كان دفعة)، أي خارجاً في زمن يسير.
وعند الشافعية( ):
قالوا: الحيض: دم جبلة يخرج من أقصى رحم امرأة بعد بلوغها على سبيل الصحة من غير سبب في أوقات معلومة.
شرح التعريف:
المقصود بقوله: (دم جبلة) أي سببه الجبلة، أي الطبيعة لا العلة، لأنه تقتضيه الطباع السليمة، خرج بذلك الاستحاضة.
وقوله: (من أقصى رحم المرأة)، أي من عرق فمه في أقصى رحم المرأة، والرحم وعاء الولد، وهو جلدة داخل الفرج على صورة الجرة المقلوبة، فبابه ضيق من جهة الفرج، وواسع إلى جهة البطن، ويسمى بأم الأولاد
وعند الحنابلة( ):
قالوا: الحيض: (دم طبيعة) يخرج مع الصحة من غير سبب ولادة، من قعر الرحم، يعتاد أنثى إذا بلغت في أوقات معلومة.
شرح التعريف:
المقصود من قوله (دم طبيعة)، أي جبلة وخلقة، وقوله (مع الصحة) خرج به دم الاستحاضة وخرج بقوله (من غير سبب ولادة) النفاس، وقوله (من قعر الرحم) أي بيت منبت الولد وقوله (يعتاد أنثى إذا بلغت في أوقات معلومة) ليس بدم فاسد، بل خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته.
وعند الظاهرية( ):
قالوا: الحيض: هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص والنقاء المتوسط بينه.
شرح التعريف:
قوله: (الأذى) أي شيء يستقذر منه، ويؤذي من يقربه، نفره منه وكراهة له، وقوله: (الخارج من الرحم) قيد خرج به الأذى من غير الرحم، كصديد، والقيح، والدم الخارج من سائر البدن، والرحم بيت منبت الولد ووعائه ومخرجه من قعره، وقوله: (في وقت مخصوص) أي وقت الحيض.
يتبين لنا مما سبق في تعريفات الفقهاء المتعددة للحيض في المذاهب الفقهية، أن ما بينها اختلاف لفظي مع اتحادها في المعنى، فالفقهاء متفقون على أن الحيض يخرج من مكان مخصوص وهو من أقصى قعر رحم المرأة، وعلى أنه يخرج في وقت مخصوص، وهو زمن الحيض.
ففي قوله تعالى: (ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ)( ) فسرها العلماء بالحيض والحمل.
وفي قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لفاطمة بنت أبي حبيش. الحديث: "دعي الصلاة أيام إقرائك( )"، أي زمن الحيض.
أما سن الحيض، فعلى الخلاف بينهم في أقل سن تحيض فيه المرأة، وفي أكثره على ما سيأتي تفصيل ذلك في موضعه إنشاء الله.
العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي:
يتضح لنا أن التعريف الاصطلاحي للحيض مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتعريف اللغوي الذي معناه الشيء الذي يسيل أو يفيض، ويؤكد ذلك ما قاله ابن العربي، في تعريف الحيض:
وهو عبارة عن الدم الذي يرخيه الرحم فيفيض( ).
ثالثاً: الحيض عند الأطباء:
أما عن تعريف علم الطب للحيض:
فقد قال العلماء المختصون: إن الحيض عبارة عن إفراز دوري لدم يمتزج بالمخاط، وخلايا بالية تساقطت من الغشاء المخاطي المبطن للرحم، فهي إحدى العمليات الطبيعية، وظاهرة وظيفية للجهاز التناسلي للأنثى، وعلى ذلك فالحيض ليس بمرض، ودمه ككل دم ينزل من جرح مع فارق بسيط طبعاً، ولون دم الحيض أسود، أما الدم الأحمر المشرق، فإنه دم غير طبيعي، ودم الحيض لا يتجمد (لا يتجلط) ويمكن إبقاؤه سنين طويلة على تلك الحالة دون أن يتجلط، فإذا ظهر متجلط (متجمد) أثناء الحيض فإن الحائض سرعان ما تعرف ذلك، ويعتبر ذلك غير طبيعي( ).
يقول د/ محمد علي البار( ): (وعند فحص دم الحيض بالمجهر، فإننا نرى كرات الدم الحمراء والبيضاء وقطعاً من الغشاء المخاطي المبطن للرحم، ويعتقد أن سبب عدم تجلط دم الحيض، هو أنه قد سبق له أن تجلط، ثم تذوب جلطة الدم، وترى خيوط (الفيبرين)( ) واضحة تحت المجهر وتتخللها كرا ت الدم الحمراء والبيضاء)( ).
يتبين لنا مما سبق: أنه لا يوجد أدنى تعارض بين تعريف كل من اللغة والشريعة والطب، لماهية الحيض وجوهره، بل إن التعريفات الثلاثة تتكامل فيما بينها تكاملاً ملحوظاً.
رابعاً: الأصل في الحيض:
والأصل في الحيض من القرآن قوله تعالى: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ)( ).
سبب نزول هذه الآية: كما رواه أنس (رضي الله عنه): أن اليهود كانت إذا حاضت امرأة منهن لم يؤاكلها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فأنزل الله تعالى: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ...)، حتى فرغ من الآية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.
فجاء أسيد بن خضير وعباد بن بشر فقالا: "يا رسول الله إن اليهود قالت كذا وكذا فلا نجامعهن، فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى ظننا أنه قد وجد (غضب) عليهما فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن، فأرسل لهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما" (رواه مسلم)( ).
والمحيض: اختلف العلماء في معناه، قال النووي( ): (أما المحيض في قوله تعالى: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ...)( )، فهو دم الحيض بإجماع العلماء وأما المحيض في قوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ)( ). فقيل: (إنه دم الحيض، وقيل: زمانه، وقيل: مكانه، وهو الفرج، وقيل: الحيض نفسه، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض)( ).
والأصل من السنة: ما روي عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف [مكان بين مكة والمدينة] حضت، فدخل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا أبكي، فقال: مالك؟ أنفست؟ قلت: نعم، قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم" (رواه البخاري)( ).
وقال البخاري: إن بعضهم قال: كان أول ما أرسل الحيض على نساء بني إسرائيل، ثم أبطله بهذا الحديث، لأن حديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، أكثر وأشمل لأنه عام في جميع بنات آدم، فيتناول الإسرائيليات ومن قبلهن، أو المراد أكثر شواهد أو أكثر قوة.
قال ابن حجر تعليقاً على هذا( ): ويمكن أن يجمع بينهما مع القول بالتعميم، بأن الذي أرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن، لا ابتداء وجوده، وقد روى الطبري( ) وغيره عن ابن عباس، أن قوله تعالى في قصة سيدنا إبراهيم: (وامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ)( ). أي حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب.
وروى الحاكم، وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس (رضي الله عنهما): أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن هبطت من الجنة، وإذا كان الأمر كذلك فبنات آدم بناتها، وهذا هو الراجح من وجهة نظري –والله أعلم-.
المبحث الثاني
الدماء التي تراها المرأة
والدماء التي تراها المرأة ثلاثة: دم الحيض، ودم الاستحاضة، ودم النفاس. وقد سبق الكلام عن دم الحيض من حيث تعريفاته المختلفة لغة، واصطلاحاً، وعند علماء الطب( ).
أما دم الاستحاضة( ): فقد اختلف الفقهاء في تعريفهم للاستحاضة نورد بعضها فيما يلي:
-عرف الحنفية الاستحاضة: بأنها: دم عرق انفجر ليس من الرحم( ).
-وعرفها المالكية: بأنها: ما زاد على الدم المعتبر( ). أو استمرار نزول الدم وجريانه في غير أوانه( ).
-وعرفها الشافعية: بأنها: دم علة يسيل من عرق من أدنى الرحم، يقال له العاذل. قال الرملي: الاستحاضة دم تراه المرأة غير دم الحيض والنفاس، سواء اتصل بهما أم لا، وجعل من أمثلتها الدم الذي تراه الصغيرة( ).
-وعرفها الحنابلة: بأنها سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة من مرض أو فساد من عرق فمه أدنى الرحم يسمى ذلك العرق العاذل( ).
فمن هذه التعاريف السابقة للاستحاضة عند الفقهاء، نرى أنها وإن كانت تختلف في الألفاظ، لكن المراد منها واحد، وهو سيلان الدم في غير وقت الحيض والنفاس، فكل ما نقص عن اقل الحيض أو زاد على أكثر مدة الحيض أو النفاس، أو سال قبل سن الحيض فهو استحاضة.
ولا يشترط في دم الاستحاضة أن يخرج ممن بلغت سن الحيض عند أهل العلم، بل إذا نزل الدم من صغيرة ينقص سنها عن السن الذي يليق به الحيض، فإنه يقال له: دم استحاضة، وكذلك الدم الذي تراه الكبيرة الآيسة من المحيض، فإنه لا يكون حيضاً عند أكثر العلماء، وإنما يقال له: استحاضة.
وأما دم النفاس( ): فقد عرفه الفقهاء بما يأتي:
-عرفه الحنفية بأنه: الدم الخارج عقب الولادة، لأنه مأخوذ من النفس الرحم بالدم، أو من خروج النفس بمعنى الولد أو بمعنى الدم.
فمقتضى هذا التعريف: أن الدم الذي تراه الحامل ابتداء وحال ولادتها قبل خروج الولد ليس بنفاس، وإنما هو استحاضة( ).
-وعرفه المالكية بأنه: دم صفرة أو كدرة خرج من القبل للولادة معها أو بعدها لا قبلها على الأرجح( ).
-وعرفه الشافعية بأنه: الدم الخارج بعد فراغ الرحم من الحمل.
فخرج بما ذكر: دم الطلق والخارج مع الولد فليس بحيض، لأن ذلك من آثار الولادة، ولا نفاس لتقدمه على خروج الولد، بل ذلك دم فاسد( ).
-وعرفه الحنابلة بأنه: الدم الخارج بسبب الولادة( ).
-وخلاصة هذه التعاريف: أن الدم الخارج بسبب الولادة ثلاثة أنواع:
أولاً: الدم الذي خرج قبل الولادة.
ثانياً: الدم الذي خرج مع الولادة.
ثالثاً: الدم الذي خرج بعد الولادة.
وباتفاق العلماء أن الدم الذي خرج بعد الولادة دم نفاس، أما الدم الذي خرج مع الولادة:
فعند المالكية( )، والحنابلة( ): دم نفاس. وعند الحنفية( )، والشافعية( ): ليس نفاساً، وأما الدم الذي يخرج قبل الولادة: فعند الحنفية، والراجح عند المالكية: ليس بنفاس، وأما عند الشافعية فهو نفاس، وأما الحنابلة: فقد نصوا على أن: الدم الذي تراه الحامل قبل الولادة بيومين أو ثلاثة دم نفاس( ).
أما ما تراه الحامل من الدم: فقد وقع فيه الخلاف:
فعند أبي حنيفة وأحمد( ) –رحمهما الله- أن ما تراه الحامل من الدم ليس بحيض، وإنما هو دم فاسد من نوع الاستحاضة.
وعند مالك والشافعي( ) –رحمهما الله- أنه دم حيض له أحكام الحيض.
والسبب في هذا أمران: الأول: تعارض النصوص في الظاهر ومنها: ما جاء عن عائشة (رضي الله عنها) من روايتين:
-إحداهما عند مالك: أنه بلغه أنها قالت: (في المرأة الحامل ترى الدم أنها تدع الصلاة)( )،وعند الدارمي قولها: (إن المرأة الحبلى لا تحيض، فإذا رأت الدم فلتغتسل ولتصل)، وفي رواية: (لا تصلي حتى تطهر)( ). فاختلاف الرواية عنها أوقع الخلاف عندهم.
-والثاني: من الناحية الطبية في عمل الرحم.
-أما من جهة النصوص فقال ابن قدامة( ): احتج أحمد –رحمه الله- على عدم اعتباره حيضاً بحديث ابن عمر (رضي الله عنهما) في طلاقه امرأته وهي حائض، وأمره (صلى الله عليه وسلم) برجعتها، وقال: "ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً"( ). فجعل الحمل علماً على عدم الحيض وهو الطهر، كما جعل الطهر علماً على عدم الحمل، فلا يكون حيضاً كالآيسة ترى الدم، وإنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم، وأما رواية عائشة: (في الحامل ترى الدم تدع الصلاة)، فيحمل على ما تراه قبيل النفاس بثلاثة أيام مثلاً، فإنه يكون تابعاً للنفاس، فتدع الصلاة، وبهذا يكون الجمع بين روايتيها.
وأما من الناحية الطبية( ): فقد قال أطباء الولادة: بأن الرحم متعود على الانقباض وقت الحيضة ليخرج الدم، فإذا جاء وقت الحيضة انقبض كالمعتاد، وخاصة في أوائل الحمل، حتى يستقر حملها وتتغير حالة الرحم فيتوقف عن الانقباض العادي.
وسبب هذا الانقباض قد يحدث انفصال عرق عن شبكة (المشيمة) من جدار الرحم، فينزف من خارج الرحم، وتظن المرأة أنه من الرحم، وهكذا لا ترى الدم إلا في موعد عادتها عند تقلص الرحم كالمعتاد، ولعل لهذا التعليل أن الله تعالى نص على أن الجنين في قرار مكين، قال الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ)( ).
وبالنظر في هذه المسالة: فإننا نرى أن الأحاديث النبوية الصحيحة والاستقراء العلمي الدقيق يقرران بما لا يدع مجالاً للشك: أن الحامل لا تحيض، وبناء عليه، لا تترك الحامل الصلاة لما تراه من دم، لأنه دم فساد لا حيض، كما لا تترك الصوم والاعتكاف والطواف ونحوها من العبادات، ولا يمنع زوجها من وطنها، لأنها ليست حائضاً، وليست أيضاً نفساء، لأنها لم تتنفس ولا وضعت حملها بعد.
رأي الطب الحديث( ):
وقد توصلت الدراسات العلمية الحديثة: إلى أن الدم الذي تراه الحامل أثناء حملها، ليس بدم حيض، وإنما هو استحاضة، وقد ذهب إلى ذلك أكثر علماء الطب الحديث، ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:
- نزيف ينذر بالاجهاض في الشهور الأولى للحمل، وقبل الأسبوع الثامن والعشرين.
- الحمل خارج الرحم، ويكون عادة مصحوباً بآلام بالبطن، وهبوط بالضغط وهي حالة في حاجة إلى التدخل الجراحي فوراً.
- الحمل العنقودي، وهو حمل غير طبيعي، ويكون عبارة عن كتل من الخلايا، لها قدرة على الانتشار داخل الرحم ولها خطورة على حياة الأم، ويجب التخلص من هذا الحمل بأسرع ما يمكن، حفاظاً على صحة الأم، كما يتطلب إجراء الفحوصات باستمرار بعد ذلك.
- وهناك أسباب أخرى –تعود إلى الجهاز التناسلي، ومن هذه الأسباب:
أ - وجود زوائد بعنق الرحم.
ب- حصول التهاب في عنق الرحم، أو المهبل.
جـ- وجود دوالي في عنق الرحم، أو المهبل.
د – وجود مشيمة متقدمة.
وهناك رأي آخر: يقول د/ محمد علي البار، الطبيب الداعية: (وإذا استعنا بالمعلومات الطبية، فإننا نجد الجنين لا يملأ تجويف الرحم إلا الرحم بعد الشهر الثالث من الحمل، وعليه فإن سقوط شيء من غشاء الرحم (وهو الذي يسقط عادة في الحيض). يجعل هذا الدم شبيهاً جداً بدم الحيض، ورغم ندرة حصول هذا الدم، إلا أنه يمكن أن يعتبر على هذه الصفة حيضاً، وذلك في الأشهر الأولى من الحمل( ).
وقد نص أطباء أمراض النساء والولادة: على الفرق بين دم الحيض، ودم الاستحاضة، أو دماء النزيف عموماً، وهو: أن دم الحيض إذا خرج لا يتخثر، فيتخثر بعد خروجه من الجسم( ).
وهناك مسألتان –كثر وقوعهما-، ويسأل عن حكمهما وهما:
المسألة الأولى: إذا أسقطت الحامل ورأت الدم مع السقط( )، فما حكمه؟
أولاً: ينبغي التنبيه على أنه يحرم التسبب في الإسقاط، ولو لنطفة أو علقة، ويخطئ من يدعي القول بجوازه ما لم تنفخ فيه الروح، لأن النطفة متى علقت بالرحم، فإنه يحرم إسقاطها، لأنها تنمو من أولى تعلق بها الرحم كنمو الثمرة في غصنها.
أما السقط الذي استبان فيه شيء من خلق الإنسان أو بعض خلقه، فإن الدم الذي تراه المرأة مع هذا السقط يعتبر دم نفاس وله أحكامه، وأما إذا لم يكن استبان من خلقه شيء فقد اختلف العلماء في حكمه، فعند الحنفية( ): لا يعتبر ولداً، ولا تصير المرأة بسببه نفساء، بل تكون حائضاً إن كان في زمن الحيض، أو مستحاضة إن كانت في زمن غير الحيض.
وعند الشافعية( ): أن للسقط حكم الولد سواء استبان خلقه أم لا، واشترطوا شهادة القوابل.
وللحنابلة وجهان( ):
إحداهما: أنه نفاس لأن الملقى بدء خلق آدمي، فكان الدم الخارج نفاساً كما لو تبين في الملقى خلق آدمي.
والثاني: أنه ليس بنفاس، لأنه لم يتبين في المضغة خلق آدمي فأشبهت النطفة. أما إن ولدت ولم تر دماً، فهي طاهرة لا نفاس لها، لأن النفاس هو الدم الخارج بسبب الولد ولم يوجد.
الراجح –والله أعلم-:
يتبين لنا بعد استعراض مذاهب الفقهاء، ورأى علماء الطب الحديث في هذه المسالة، أن الرأي الراجح هو القول: بأن الدم الذي تراه الحامل أثناء الحمل ليس حيضاً، وإنما هو دم فساد لعلة، أو دم استحاضة( ).
أما بعد ذلك، فإنه يكون نتيجة إصابة في المشيمة، ويتحول إلى دم سقط، سواء كان السقط منذراً أو كاملاً، فإذا كان كاملاً فلا مشاحة في أنه يسمى دم نفاس، لأن الفقهاء يتفقون على أن دم السقط المخلق هو دم نفاس –والله أعلم-( ).
وتقرر هذه الدراسات العلمية، استحالة حدوث نزيف في الرحم أثناء فترة الحمل، حتى في حالة وجود الرحم ذي القرنين، لأن الرحم يكون في حالة الحمل واقعاً تحت تأثير الهرمونات التي تفرزها المشيمة لاستمرار الحمل، ولا يمكن أن يحدث نزيف إلا إذا حدث إجهاض( ).
المسالة الثانية:
إذا تناولت المرأة دواء يمنع مجيء الحيض، فهل تعتبر المرأة طاهراً في موعد الحيضة لعدم رؤيتها الدم، أم لا؟
الصحيح أنها تكون طاهراً ولا عبرة بالوقت بدون رؤية الدم، وقد حدث لنسوة كن مع ابن عمر (رضي الله عنهما) في الحج فخضن مجيء الحيضة قبل طواف الإفاضة، فأخذن أعواد الأراك وطبخنها وشربن ماءها، فلم تأتهن الحيضة حتى أتممن حجهن.
وقد سال رجل ابن عمر عن امرأة تطاول بها دم الحيض، فأرادت أن تشرب دواء يقطع الدم عنها، فلم ير ابن عمر بأساً( ).
ولكن يجب الحذر من رد فعل تعاطي حبوب منع الحمل، وبسؤال أهل الاختصاص في أمراض النساء والولادة عن تأثيره هذه الحبوب على بعض النساء خاصة من كن مريضات بالكبد، فأجابوا بأن لهذه الحبوب تأثيراً كبيراً عليهن، وأنها قد تؤدي إلى الوفاة، وكذلك قد تؤدي إلى العقم وعدم الإنجاب، وعلى كل حال فإن المرأة إذا أخذت الدواء باستشارة طبيبة أو طبيب مسلم ثقة، فلا كراهة في ذلك لعدم خوف الضرر، إذا كانت قاصدة من ذلك العبادة، كأداء الحج، أو العمرة، أو صيام شهر رمضان، فإنها من جهة العبادة تغتسل وتصلي وتصوم، وتكون طاهراً.
المبحث الثالث
الحكمة الإلهية في الحيض
والكلام فيه يتناول أمرين:
أولهما: العلاقة بين الحيض والسلالة البشرية.
ثانيهما: القانون الصحي للحائض.
أولاً: العلاقة بين الحيض والسلة البشرية: سأقوم ببيان ما ذكره العلماء القدامى والمحدثين، ثم ما ذكره أهل الطب المعاصر.
تمهيد:
إن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً، وجعله خليفة في الأرض.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً)( ).
هذه الآية الكريمة فيها دلالة على أن الله تبارك وتعالى قد خلق الإنسان نوعين: الذكر والأنثى –خلق ابتداء نفساً واحدة وخلق منها زوجها- ومن العلاقة الزوجية بينهما يبث رجالاً كثيراً ونساء، فالعلاقة بين الرجل والمرأة غرض أسمى هو الاستبقاء على النوع البشري، وإقامة الحياة المدنية التي لا يمكن أن يرتفع بنيانها إلا بعشرة الرجال والنساء معاً كالأزواج والزوجات، ولما كان الغرض خاصاً بالإنسان وحده، إذا فإن الخالق تبارك وتعالى قد وضع في تكوين الإنسان من الدواعي –إلى تحقيق هذا الغرض ما لم يضعه غيره من الحيوانات والنباتات.
قال بعض فقهاء الحنابلة، منهم البهوتي( )، وابن قدامة( ): (إن الحيض ليس بدم فساد، بل خلقه الله سبحانه وتعالى لحكمة غذاء الوليد وتربيته، فإذا حملت انصرف ذلك بإذن الله إلى غذائه، ولذلك لا تحيض الحامل، فإذا وضعت قلبه الله لبناً يتغذى به، ولذلك فلما تحيض المرضع فإذا خليت منها بقي الدم لا مصرف له، فيستقر في مكان، ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة أيام، وقد تزيد على ذلك ويقل ويطيل شهرها ويقصر على حسب ما ركبه الله في الطباع).
وقال الإمام الغزالي: في إحياء علوم الدين( ): (قال بعض أهل التشريح إن المضغة تخلق بتقدير الله من دم الحيض، وأن الدم منها كاللبن من الرائب، وأن النطفة من الرجل شرط في خثور دم الحيض وانعقاده كالنفحة للبن إذ بها ينعقد الرائب).
وقال بعض العلماء القدامى( ): (إن الدم الذي ينفصل في الحيض عن المرأة يصير أكثره غذاء في وقت الحمل، فمنه ما يستحيل إلى مشابهة جوهر المني والأعضاء الكائنة منه، فيكون غذاء منمياً لها، ومنها ما لا يصير غذاء لذلك، ولكن يصلح لأن ينعقد في حشوها فيكون لحماً آخر وسمناً أو شحماً، ويملأ الأمكنة بين الأعضاء، ومنه فضل لا يصلح لأحد الأمرين فيبقى إلى وقت النفاس وتدفعه الطبيعة فضلاً).
وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي( ): (الحيض أمر طبيعي لابد من حدوثه لكل أنثى سليمة في فطرتها وتركيب جسدها خالية من المرض أو الموانع، والحيض ليس بمرض بل هو ظاهرة طبيعية تشير إلى أن الجهاز التناسلي للأنثى قد نضج، وأنه أصبح مستعداً للدور الهام الذي هيأه الله جلت قدرته له، ألا وهو التناسل، فالحيض ما هو إلا دليل على أن الجهاز التناسلي يقوم بوظيفته تماماً، كما يقوم الجهاز البولي بترشيح النفايات المختلفة عن نشاط الجسم وإخراجها في البول، وكما تقوم العين بالرؤية والأذن بالسمع).
ويقول علماء الطب الحديث( ): (إن الحيض عبارة عن إفراز دموي لدم يمتزج بالمخاط وخلايا بالية تساقطت من الغشاء المخاطي المبطن للرحم في إحدى العمليات الطبيعية، وظاهرة وظيفة الجهاز التناسلي للأنثى، وعلى ذلك فالحيض ليس بمرض، ودمه ككل دم ينزل من جرح مع فارق بسيط طبعاً. كما قالوا: إن دم الحيض ما هو إلا عصير مدمي خلق لتغذية الولد( ).
فالجميع متفقون على أن الحيض أمر طبيعي، وليس بمرض بأي حال من الأحوال، وعلى أن دم الحيض الحكمة منه أن يكون غذاء للولد إذا قدر وحصل حمل.
ولسهولة فهم الدورة الحيضية، وسبب انتظامها، ومعنى نزول الدم، يجدر بنا أن نعرف ما ذكره علماء الطب في التغيرات التي تحدث في الرحم، والتي ينتج عنها الحيض، وعن المراحل التي يمر بها.
يقول الدكتور محمد على البار( ): (إن رحم المرأة ومبيضها وأثداءها، بل وجهازها التناسلي بأكمله، يمر بدورة شهرية كاملة حسب تغير الهرمونات في جسمها، بزيادة هرمون ونقصان آخر. وسنكتفي هنا بالتركيز على دورة الرحم حتى نعرف كيف يأتي الحيض وما هو سببه؟
إن للرحم غشاء يبطنه من الداخل، وستبدأ الدورة بعد انتهاء الطمث مباشرة، فنجد الغشاء المبطن للرحم بسيطاً ولا تزيد ثخانته عن نصف ملليمتر، وأوعيته الدموية وغدده بسيطة كذلك، فإذا ابتدأت الدورة، فإن الرحم يمر بثلاث مراحل، ونوجزها فيما يلي:
- المرحلة الأولى: مرحلة النمو (Proliferative phase):
وخلال هذه الفترة ينمو الغشاء المبطن للرحم من أقل من ملليمتر إلى ما يربو على خمسة ملليمترات، أي يتضاعف حجمه أكثر من خمس مرات، كما يزداد عدد الغدد وتصبح على شكل أنابيب طويلة لها خلايا عمودية (EP Gellsithial Golnmnar). ويزداد نمو الأوعية الدموية المغذية للرحم، وتكثر بشكل واضح ويزداد دولها حتى تصبح لولبية الشكل من طولها في المكان الضيق المتاح لها.
أما سبب النمو السريع للرحم هو هرمون تفرزه حويصلة جراف (Grafian follicle)بالمبيض، ويسمى الاستروجين، وهذا الهرمون هو هرمون الأنوثة شكلاً ومظهراً وسلوكاً، حيث تنمو الأثداء وتمتلئ الأرداف.
المرحلة الثانية: مرحلة الإفراز: (secretay phse) في هذه المرحلة يزداد نمو الرحم زيادة ملحوظة، فينمو سمك الغشاء المبطن للرحم من خمسة ملليمترات إلى ثمانية ملليمترات، وتزداد حلزونية الشرايين المغذية للرحم لازدياد طولها في حيز ضيق، كما يزداد عددها ازدياداً كبيراً، وتنمو الغدد الرحمية نمواً كبيراً أيضاً، وتصبح هي الأخرى حلزونية الشكل يضيق بها المكان أيضاً، وتنمو الخلايا فيما بين الغدد ويكثر عددها، ويكون الغشاء أكثر تماسكاً ناحية السطح وإسفنجي القوام ناحية جدار الرحم.
والسبب في هذه المرحلة إفراز هرمون البوجسترون من حويصلة جراف التي تزيد من إفرازها بعد إخراج البويضة منها إلى قناة الرحم استعداداً لتلقيحها بالحيوان المنوي الذي تختاره المشيئة الإلهية من بين بلايين الحيوانات المنوية.
هذا الهرمون هو هرمون الحمل، لذلك فهو يهيئ الرحم ويعد الجسم لتقبل النطفة، حيث تنمو الغدد اللبنية في الأثداء استعداداً لتغذية الجنين عند خروجه إلى الدنيا، كذلك تخف كثافة وحموضة إفراز عنق الرحم حتى يسمح للحيوانات المنوية بالولوج سريعاً إلى الرحم.
المرحلة الثالثة: مرحلة الطمث: إذا لم تلقح البويضة بحيوان منوي يحزن الرحم لفقدان فرصته في أداء وظيفته الطبيعية، فيبكي دماً هو دم الطمث، ويحدث ذلك نتيجة النقص الفجائي في ضخ المبيض لهرمون البروجسترون، ويتوقف عن إفراز هرمون الحمل، فإذا نقصت كمية الهرمون في الدم انقبضت الأوعية الدموية المغذية لغشاء الرحم انقباضاً شديداً، حتى لتمنع عنه التغذية منعاً باتاً، فيذوي الغشاء ويتفتت ما تحته من أوعية دموية فيخرج منه الدم المحتقن، أسود أكمد وينزل معه قطع من الغشاء المبطن للرحم مفتتة، ويتجلط الدم في الرحم، ثم تسلط عليه مواد مذيبة لهذه الجلطة وأليافها بواسطة خميرة (أنزيم) تدعى مذيب الليفين( )، وينزل لذلك دم الحيض لا يتجلط ولو بقي سنيناً طوالاً، لأنه قد سبق تجلطه في الرحم، ثم أذيبت الجلطة بفعل تلك الخميرة (الأنزيمات).
ثانيهما: القانون الصحي للحائض:
سنتناول الكلام هنا عن آلام الحيض وآثارها الجسدية والنفسية التي تعترض المرأة أثناء الحيض، لأن كثيراً من الأحكام الشرعية تترتب على هذه الآثار، ثم أعقبه بذكر بعض النصائح الطبية التي يجب على المرأة أن تؤديها للمحافظة على جسدها ومزاجها لتهنأ بالحياة السعيدة، ولتنهض بواجباتها الدينية والدنيوية.
إن الحيض أمر طبيعي للأنثى –كما ذكرت سابقاً- وليس بمرض بأي حال من الأحوال، إلا أنه قد تصحبه آلام وآثار تتفاوت كثيراً في درجتها من امرأة إلى أخرى، وكذلك تتفاوت باختلاف فصول حياة المرأة الواحدة، فقد تكون الآلام خفيفة لا تكاد المرأة تحس بها، وقد تصل إلى درجة خطيرة مرضية.
فالآلام الجسدية التي تصاحب المحيض غالباً ما تتمثل في الشعور بالضيق والتعب الغامض أمر طبيعي في كل امرأة، ويصاحب ذلك شعور بالصداع الشديد ويزداد تدفق اللعاب، ويتضخم الكبد ويتمدد، كما يحدث مغص حاد في الكيس الصفراوي، وتفقد المرأة شهيتها للأكل، كما يضطرب الجهاز الهضمي، ويحدث في بعض الأحيان أن تحس المرأة بجوع شديد، أو بالعكس فتعاف الطعام، وكثيراً ما تشعر بميل للقيء والغثيان، ويزداد الريح في الأمعاء، وتصاب بعض النساء بإسهال بسيط، ولكن كل عادة شهرية تنتهي بالإمساك.
والعادة الشهرية تؤثر على الدورة الدموية، فتضطرب ضربات القلب، وتتورم الأوعية الدموية، وتحتقن الأغشية الأنفية، كما تحدث بعض الآلام في المفاصل، وتتضخم الغدة الدرقية والحبال الصوتية بشكل ملحوظ، ويصيب الجزء الخلفي من الحنجرة تمدد وارتخاء في الغدد والعروق الدموية، وقد يفقد الجهاز الصوتي قدرته، ويتضح ذلك عند المدرسات فيبدو التعب ظاهراً.
وتلتهب العين قليلاً، وتعدو وظائفها متوترة، فيضيق مجال الرؤية ضيقاً ملحوظاً، وتصبح القدرة على تمييز الألوان أقل، كما أن أنسجة الجسم العامة تتضخم وتحتقن أو تنبسط وترتخي، كما أن للحيض آثاراً واسعة النطاق –بالضرورة- على الجهاز التناسلي للمرأة، حيث يبدو تضخم العضلات والأنسجة المتصلة بالرحم، وتشعر المرأة بارتخاء الرحم وتضخمه قليلاً، وكذلك تضم العضلات والأنسجة الضامة المجاورة، مما يجعل المرأة تشعر بالثقل ويتضخم أسفل بطنها، كما تشعر بضغط على الأمعاء والمثانة وتمتد الآلام إلى الفخذين أو الساقين.
وكل هذه الأعراض عادية، يجب أن تتوقعها كل امرأة، ويصح هذا القول عن الآلام الخفيفة التي تصاحب انقباضات الرحم، وهي عادة تصاحب بدء الدورة الشهرية، وتنقص حين يغزر تدفق الحيض، وتخرج قطع صغيرة متجمدة من الدم والمخاط من فتحة الرحم الداخلية.
ومهما كانت تلك الأعراض عادية بدنياً، إلا أنها في مجموعها تسلب قدرة المرأة وحيويتها ونضارتها، فالمرأة التي تحس عادة أنها ممتلئة صحة وعافية، تتضح حيوية وقوة، تعلوها مظاهر النشاط والانتعاش –تشعر أثناء الحيض بالهبوط والضيق والملل، وقد تكون أسرع انفعالاً وتأثراً( ).
وأما الآثار النفسية: فقبل الدورة الشهرية ببضعة أيام تصاب المرأة أو معظم النساء باضطرابات مختلفة، تكون مقدمة لبدء مرحلة الطمث عندهن، فتأخذ أشكالاً عدة، منها انهيار وسرعة التأثر واضطرابات المزاج، وزيادة الحساسية، والانتقال السريع من رأي إلى رأي، وتغير المشاعر تغيراً سريعاً، والغضب لأتفه الأسباب، وردود الأفعال التي لا ترضي عنها حين تتجاوز تلك الفترة (فترة الحيض)، ولكن رغم كل ذلك فإن بعض النساء لا ينتابهن أي شعور بالضيق في تلك الفترة، بل يشعرن أنهن خاليات من أي أعراض سيئة، حتى أنهن لا يدركن قدوم فترة المحيض إلا حين يأخذ الدم في النزول.
وأخيراً، فإننا نؤكد –مكررين- أن أعراض المحيض، سواء كانت جسدية أم نفسية، لا تجتمع في امرأة واحدة، بل هي موزعة بين النساء( ).
هذا موجز لبعض الظواهر الطبيعية للحيض، وهي التغيرات التي تحدث في جسم المرأة أثناء الحيض أو قبيل نزوله، لأن هذه التغيرات لها علاقة وثيقة بالدورة الحيضية، وهناك بعض النصائح الطبية التي ينبغي على المرأة إتباعها للحفاظ على صحتها وسلامتها، ونوجزها فيما يلي:
أولها: هو ما نصحنا به خالقنا –سبحانه وتعالى- في قوله: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)( )، فقوله سبحانه: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ)، أي ترك الجماع أثناء الحيض، وقد أثبت الأطباء أن الجماع أثناء الحيض ضار بالمرأة والرجل –على حد سواء- وسأقوم ببيان ذلك –إنشاء الله- في موضعه.
ثانيهما: الاستحمام بالماء الدافئ، خصوصاً لمن يشتكين من عسر الطمث وذلك في كل ليلة في الثلاث أو الأربع ليالي التي تسبق ميعاد الحيض، لأن الماء الدافئ يحول الدم من الأعضاء الداخلية بما فيها الرحم للجلد، وهذا يقلل من احتقان الرحم( ).
ثالثهما: يجب على المرأة أن تحذر الإمساك في الأيام السابقة للحيض، وعليها أن تستعمل بعض الملينات، ويستحسن أن تكون من الأعشاب والنباتات الطبيعية، حتى يقل احتقان أعضاء الحوض بما فيها الرحم( ).
رابعها: يجب عليها منع أو الإقلال من ملح الطعام خلال الأسبوع السابق لنزول الطمث، والسبب هو أن هرمون الاستروجين ليحتجز كمية زائدة من الماء والملح في الجسم، مما ينتج عنه قلة خروج البول في هذه الفترة، ويمكن بعد استشارة الطبيب، تناول دواء مدر للبول والملح خلال هذا الأسبوع، يلاحظ أن هذه المتاعب تزول فور نزول الطمث نتيجة انخفاض مستوى الاستروجين في الدم، مما يترتب عليه تخلص الجسم الزائد من الماء والملح الزائد من حاجته، وتلاحظ كثير من النساء زيادة كمية البول في اليوم السابق وأثناء الحيض( ).
خامسها: يجب على المرأة أن تعتني بنفسها وتكثر من نظافتها في فترة الحيض، بأن تلجأ إلى غسل أعضائها يومياً، والفرج وما حوله، حتى لا تنبعث منه رائحة كريهة قد ينفر زوجها منها، مما يصيبه بالملل واليأس والسآمة، وقد يجعله مصاباً بعقدة نفسية من زوجته، مما يصرفه عنها إلى غيرها.
سادسها: لا يجوز لزوجها مجامعتها إلا بعد الاغتسال من الحيض بالماء، ويستحب أن تستعمل معه الصابون، أو السدر، أو أي مطهر آخر، لأن الطب أثبت أن مجامعتها قبل الاغتسال يورث مرض الجذام، فيجب عليها غسل الجسم كله غسلاً جيداً، ثم غسل الفرج والمهبل من الداخل لإزالة ما بقي من آثار الدم، حتى لا يكون مرتعاً للميكروبات، ثم تطيب المهبل بوضع قطن معقم له رائحة طيبة فيه حتى يزول كل أثر لدم الحيض( ).
سابعها: في أثناء الحيض، تفقد المرأة بعض الدم، وبذلك تفقد معه مقداراً من الحديد، وأن نقصان الحديد يسبب نوعاً من الأنيميا، فمن واجبها على نفسها أن تعوض جسمها ما يفقده من الحديد كل شهر، وذلك بالإكثار من تناول الأغذية الغنية بالحديد، ويمكنها تناول أقراص حديد، مثل: سلوف slowfe (الجرعة: قرص بعد الإفطار وقرص بعد العشاء)( ).
ثامنها: يفضل للمرأة ممارسة بعض التمرينات الرياضية الخفيفة، ولو رياضة المشي لتنشيط الجسم وزيادة الشهية للطعام ومساعدة الإقبال على النوم، ومنع احتقان الحوض، والتقليل من احتقان الدم( ).
تاسعها: يمكن للمرأة الانتفاع ببعض الأعشاب لتسكن ألم الحيض، على أن تؤخذ في صورة شاي (منقوع) يجهز بإضافة ملعقة صغيرة من العشب لكل فنجان ماء مغلي. ويترك العشب لينقع لمدة 10دقائق، ويؤخذ مثل هذا الفنجان بمعدل 3مرات يومياً. وإليك أمثلة لبعض هذه الأعشاب المضادة لألم الحيض:
- البابونج: يساعد على تسكين اللم والصداع، كما يخفف من التوتر النفسي.
وهو يفيد خاصة للحيض المصحوب بنزول كمية بسيطة من الدم.
- الشمر: لتسكين اللم، وتخفيف التوتر النفسي، كما يساعد في علاج متاعب الهضم.
- الكراوية: تساعد في تخفيف الم الحيض.
- القراسيون: وهو من أقدم الأعشاب التي وصفت للمرأة لعلاج متاعب الحيض.
- النعناع البري: ويفيد خاصة في حالات ألم الحيض المصحوب بنزول كمية بسيطة من الدم. ويجهز في صورة مغلي بإضافة ملعقة كبيرة من الأوراق لكل فنجان ماء.
- المقدونس: ويؤخذ في صورة مغلي بإضافة ملعقة كبيرة من الأوراق لكل فنجان ماء ويمكن كذلك الاعتماد على أكل المقدونس بكثرة لتسكين ألم الحيض.
- الزعتر البلدي: ويحضر في صورة مغلي، بإضافة ملعقة كبيرة لكل فنجان ماء، ويشرب منه يومياً من 1-2فنجان (ويؤخذ خلال الأيام الثلاثة السابقة لميعاد الحيض)، كما يساعد تناول الزعتر على انتظام الدورة الشهرية.
- السمسم: وهو يفيد في تخفيف ألم الحيض عند الفتيات. ويؤخذ بإضافة نصف ملعقة صغيرة من بودرة الحبوب المطحونة لكل فنجان ماء ساخن، ويشرب مثل هذا الفنجان مرتين يومياً( ).
- الحلبة: وينصح باستخدامها في حالات عدم انتظام الدورة الشهرية، وعند غياب الحيض لمدة قد تصل إلى عدة شهور بسبب التوتر النفسي الذي يصاحب المرأة، وتستخدم الحلبة في صورة شراب مغلي، مع أكل البذور بمعدل 2-3أكواب في اليوم، وذلك خلال الأيام القليلة المتوقع نزول دم الحيض فيها( ).
- السفرجل: يشرب من عصير السفرجل البارد مقدار فنجان كبير صباحاً وآخر مساء، ويستخدم لوقف نزف الحيض( ).
وأكتفي بهذا الموجز عن الآلام التي تعترض المرأة بسبب الدورة الحيضية، وآثارها الجسدية والنفسية، وعلاجها، حتى تحفظ المرأة صحتها وتنهض على القيام بواجباتها الدينية والدنيوية.
المبحث الرابع
ركن( )الحيض، وشروطه( )، وحكمه
أولاً: ركن الحيض:
صرح فقهاء الحنفية، بأن للحيض ركناً وهو: بروز الدم من الرحم، أي ظهور الدم بأن يخرج من الفرج الداخل إلى الفرج الخارج، فلو نزل إلى الفرج الداخل فليس بحيض.
وعن محمد (رحمه الله) يكفي الإحساس به: فلو أحست به في رمضان قبل الغروب، ثم خرج بعده تقضي صوم اليوم عنه، أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف فلا قضاء عليها، وإذا حاذى الدم الفرج الداخل ولم ينفصل عنه ثبت به الحيض، أما إذا أحست بنزوله، ولم يظهر إلى حرف المخرج، فليس له حكم الحيض حتى لو منعت ظهوره بالشد والاحتشاء( ).
وما صرح به الحنفية يوافق المذاهب الأخرى، حيث أنهم يعرفون الحيض بأنه: (دم يخرج من الفرج...)، ونص الحنابلة على أنه: يثبت بانتقال الحيض ما يثبت بخروجه( ).
ثانياً: شروط الحيض:
ذهب جمهور الفقهاء( ): إلى أنه ليس كل دم يخرج من المرأة يكون حيضاً، بل لابد من شروط تتحقق فيه حتى يكون الدم الخارج حيضاً، وتترتب عليه أحكام الحيض، وهذه الشروط هي:
1- أن يكون من رحم امرأة لا داء بها، فالخارج من الدبر ليس يحيض وكذا الخارج من رحم البالغة، بسبب يقتضي خروج دم بسببه، وقد زاد الحنفية والحنابلة( ): على هذه الشروط كلمة (ولا حبل) حيث أن الحامل عندهم ولا تحيض.
2- ألا يكون بسبب الولادة، فالخارج بسبب الولادة دم نفاس لا حيض.
3- أن يتقدمه نصاب الطهر ولو حكماً، ونصاب الطهر: مختلف فيه- وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله.
4- ألا ينقص الدم عن أقل الحيض، وأقله مختلف فيه -وسيأتي تفصيل ذلك-.
5- أن يكون في أوانه، وهو تسع سنين قمرية، فمتى رأت دماً قبل بلوغ تلك السن لم يكن حيضاً( )، وإذا رأت دماً بعد سن الإياس لم يكن حيضاً أيضاً.
ثالثاً: حكم دم الحيض:
اتفق الفقهاء: على القول بنجاسة دم الحيض كسائر الدماء، وقد استدلوا على ذلك بأحاديث تدل على أنه نجس، ويجب تطهيره.
ومن هذه الأحاديث: ما روي عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها) قالت: (جاءت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه)( ) (رواه البخاري).
قوله: (تحته): أي تحكه، والمراد بذلك إزالة عينه.
وقوله: (ثم تقرصه): أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما تشربه الثوب منه.
وقوله: (وتنضحه): أي تغسله.
ففي الحديث دلالة على المبالغة في إزالته بما ذكر من الحت، والقرص، والنضح، ويجوز استعمال السدر عند غسله، لما روي عن أم قيس بنت محصن أنها قالت: سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) عن دم الحيض يصيب الثوب، قال: "حكيه بصلع( )، واغسليه بماء وسدر". (أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان)( ).
وكذلك يجوز استعمال قليل من الملح عند غسله، والدليل: عن امرأة من بني غفار أنها ركبت ردف النبي (صلى الله عليه وسلم) على ناقته، فلما نزلت إذا على حقيبته شيء من دمها، فأمرها النبي (صلى الله عليه وسلم)، أن تجعل في الماء ملحاً ثم تغسل به الدم. (رواه أبو داود)( ).
وإذا بقي شيء من أثر الدم بعد الغسل فلا يعتبر نجساً، لحديث أبي هريرة، أن خولة بنت يسار أتت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله إنه ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: "إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه". فقالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: "يكفيك غسل الدم، ولا يضرك أثره"( ).
وقد نص الحنابلة( ): على أنه إن لم يزل لونه (أي من النجاسة) وكانت إزالته تشق، أو يتلف الثوب، أو يضره عفي عنه.
أما عند المالكية: فقد جاء في الكافي لابن عبد البر( ): (وما أصاب الثوب، أو ا