بقلم: عبده مصطفى دسوقي
أثار قرار الإخوان المسلمين بإنشاء حزب سياسي منذ سنين كثيرًا من الجدل بين الجميع؛ حتى إنه أصبح حديث الساعة منذ انطلاق هذا القرار، والجميع ما بين مؤيد ومعارض، وما بين مترقب ومتوجس؛ خيفةً من شكل الحزب وكيفية تناوله القضايا وآلية عمله، وكيفية تعاطيه مع القضايا الشائكة، مثل المرأة والأقباط، ومرجعيته، بالإضافة إلى اختلاف هذا الفكر عن فكر الإمام المؤسس للجماعة الأستاذ حسن البنا، والذي كان يعارض بشدة الحزبية.
لقد استطاع الإمام- كما يصفه الأستاذ أنور الجندي- أن يقيم دعائم أساسية للفكر الإسلامي، فقد حدَّد موقف الإسلام من الوطنية والقومية، وكشف عن صلة العروبة بالإسلام، وأن الإسلام ليس دينًا لاهوتيًّا بمفهوم الغرب، ولكنه دين، ومنهج حياة، ونظام مجتمع.
كما استطاع- خلال عشرين عامًا، ثم ما جاء من بعد- أن يصنع جيلاً يحمل همَّ الدين والوطن، ويكون رائدًا في مجالات الحياة، فقد كان يعرف قدر الرجال فيعطي العاملين منهم الفرصة للعمل لخير الوطن والإسلام.
وخلال هذه السطور نحاول أن نلقي بالضوء على هذه الأمور، من خلال:
1- التعرف على مفهوم الحزب السياسي.
2- نشأة الأحزاب القديمة وأثرها في الحياة.
3- مفهوم الحزبية في فكر الإمام البنا.
4- مفهوم الحزبية في فكر الإخوان حاليًّا.
5- مفهوم الحزب السياسي.
أولاً: التعرف على مفهوم الحزب السياسي:
الحزب في اللغة: هو عبارة عن جماعة من الناس يجمعهم رأي واحد على موقف واحد.
وفي المصطلح السياسي: هو عبارة عن تجمع منظم، يهدف إلى المشاركة في الحياة السياسية بقصد الاستيلاء كليًّا أو جزئيًّا على السلطة.
قال أحد علماء السياسة هـ. كلن: "الحزب عبارة عن تشكيل يضم رجالاً لهم نفس الرأي، بهدف تأمين تأثير حقيقي لهم في إدارة الشئون العامة".
وقال فرانسوا بوردو: "الحزب هو كل تجمع لأفراد يبشرون بنفس الأفكار السياسية، ويسعون لجعلها تتغلب من خلال مؤازرة أكبر عددٍ ممكن من المواطنين لها؛ للاستيلاء على السلطة أو على الأقل للتأثير في قراراتها".
وقال العالم السياسي الكبير أوستن رني: "الحزب عبارة عن جماعة منظمة ذات استقلال ذاتي، تقوم بتعيين مرشحيها، وتخوض المعارك الانتخابية؛ على أمل الحصول على المناصب الحكومية والهيمنة على خطط الحكومة".
ويمكننا أن نستخلص من مجموع التعاريف أن الحزب في المصطلح السياسي الحديث عبارة عن "جماعة من الناس، لهم تنظيم معين ورأي واحد وموقف موحد؛ لأجل الوصول إلى الحكم، والمشاركة فيه بالاعتماد على دعم الجماهير لهم".
وقد وردت في القرآن الكريم كلمة الحزب بمعنى الجماعة التي لها رأي واحد وموقف موحد، حقًّا كان أو باطلاً.
ثانيًا: نشأة الأحزاب القديمة وأثرها في الحياة:
منذ أن دخل المستعمر الإنجليزي إلى مصر في 1882م، وسيطر على جميع مناحي الحياة، سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجعلها تدور في فلكه، فأدى ذلك إلى تهافت كثير من الساسة لإرضاء المحتل بأي وسيلة، ولهذه الأسباب اعتراض الإمام البنا على إنشاء حزب في ظل وجود محتل لن يسمح له بالسير وفق ما ينادي به الإخوان، وأيضًا للبعد عن التنافسية الحزبية البغيضة.
ولنتوقف لنتعرف على نشأة هذه الأحزاب ودورها وأثرها.
فالحزب الوطني الذي أنشأه مصطفى كامل المؤسس سنة 1907م استطاع أن يقلق مضاجع الاحتلال الأجنبي، لا سيما بعد حادثة دنشواي 1906م، وكان من سماته الوطنية العمل من أجل قضية الوطن، غير أنه بعد وفاة محمد فريد اعتراه الضعف والتناحر الحزبي، بل وصل به الحال أن حدث به انشقاقات بسبب اعتراض الشباب على سياسة قادة الحزب؛ حيث وافق حافظ رمضان على الاشتراك في وزارة في وجود الاحتلال، وهم من كانوا ينادون بأنه لا مفاوضات إلا بعد الجلاء، فانفصلوا وكوَّنوا الحزب الوطني الجديد برئاسة الأستاذ فتحي رضوان عام 1944م.
ثم كان حزب الأمة، والذي تشكل من عناصر موالية للمحتل الإنجليزي طمعًا في رضاه، فعملوا على التصدي للحزب الوطني الذي كان يعمل ضد الإنجليز، وقد نشأ حزب الأمة في سبتمبر من عام 1907م، وكما يقول عبد العزيز عمر، في كتابه "دراسات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر": إن هذا الحزب يكون من عنصرين هما المفكرون المتأثرون بالنظريات الأوروبية في جميع المجالات، الداعون إلى الابتعاد عن ثوابت الأمة التي استقر عليها أمثال أحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم، والعنصر الثاني هم جماعة الباشوات وكبار الملاك، مثل محمود سليمان باشا وحسن باشا عبد الرازق وحمد بك الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبد الرحيم الدمرداش وعلي شعراوي وعبد الخالق ثروت، وقد رأس الحزب بعد تأليفه محمود سليمان العضو بمجلس شورى القوانين وأحد كبار أثرياء الصعيد.
وقد برزت سياسة الحزب، فيما كتبته جريدة (حزب الأمة): "إن مصر تريد الاستقلال، فإذا لم يكن السبيل إليه ميسورًا، وكان لا بد من أن تحكمها أمة أخرى، فإنجلترا خير أمة ترضاها مصر".
وبعد ذلك ظهر حزب الوفد كحركة شعبية في بادئ الأمر، كانت تهدف إلى تأييد المجموعة المصرية التي تم اختيارها كممثلين عن الشعب المصري للتفاوض مع المحتل من أجل تحقيق الجلاء.
ونشأت فكرة الحزب في العهد الملكي بتشكيل وفد للتفاوض مع الإنجليز مكون من سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد وآخرين.. وأطلقوا على أنفسهم (الوفد المصري)؛ للمطالبة بإنهاء الاستعمار البريطاني على مصر.
أدى قرار بريطانيا نفي قادة الوفد إلى تفجر مظاهرات احتجاج في القاهرة، ما لبثت أن امتدت في جميع أنحاء البلاد، وتحولت الاحتجاجات الشعبية إلى ثورة عارمة عُرفت باسم ثورة 1919م.
فعاد سعد زغلول ورفاقه من المنفى، وبعد الدعم الشعبي الكبير، قرر تحويل الوفد إلى حزب لاستثمار التحرك الشعبي ومواصلة النضال من أجل الاستقلال.
أما عن حزب الأحرار الدستوريين فقد نشأ في (صفر 1341هـ = أكتوبر 1922م) برئاسة عدلي يكن، وكان يمثل طبقة كبار الملاك المصريين الراغبين في المشاركة في الحكم مع القصر، وقد انسلخ هؤلاء عن الوفد أثناء المفاوضات مع الإنجليز، فيما عُرف بالانقسام بين السعديين (نسبة إلى سعد زغلول) والعدليين (نسبة إلى عدلي يكن)، وسعى هؤلاء لتأكيد سلطة الأمة بين السلطة الشرعية ويمثلها الخديوي، والسلطة الفعلية ويمثلها الإنجليز، وكان غالبية قادة هذا الحزب متأثرين بالأفكار الغربية، مع تمرسهم في العمل السياسي، وروابطهم القوية بجهاز الدولة الإداري وعلاقاتهم بالإنجليز.
ولم تتوقف عجلة نشأة الأحزاب عند هؤلاء، فقد نشأ حزب الاتحاد في يناير 1925م؛ حيث دخل الملك فؤاد في معركةٍ سافرةٍ مع الحركة الوطنية، بأن أوعز لحسن نشأت باشا بإنشاء حزب الاتحاد؛ لكي يوقف هيمنة الوفد على الحياة السياسية في مصر.
ومن ضمن الأحزاب التي نشأت في ظل الاحتلال، والتي عملت على خدمة الديكتاتورية وتنفيذ سياسة الأجنبي المحتل؛ حزب الشعب، حيث لجأ الملك إلى استخدام إسماعيل صدقي، وقام بتوليته الوزارة، فقام الأخير بإلغاء دستور 1923م، وأصدر دستور 1930م الذي أعطى صلاحيات واسعة للملك حتى سمي بدستور الملك، في مقابل دستور 1923م الذي سمي بدستور الشعب.. وفي 17 نوفمبر 1930م أعلن تأسيس حزب الشعب، وتولى إسماعيل صدقي باشا رئاسته، وأصدر جريدة يومية أسماها (الشعب)، وشارك إسماعيل صدقي التأسيس كل من عدلي يكن، وتوفيق نسيم، ومحمد محمود.
أما حزب مصر الفتاة فقد كان حركة سياسية قومية مصرية بدأت في جمادى الآخرة 1352هـ الموافق 12 أكتوبر 1933م بقيادة أحمد حسين، متأثرة بالحركات القومية في تلك الفترة؛ حيث بدأ نشاطه اجتماعيًّا بمشروع القرش عام 1930م، ثم تشكلت الجمعية بعد ذلك في أكتوبر 1933م بزعامة أحمد حسين.. وكان من شخصيات الجمعية البارزين فتحي رضوان ومصطفى الوكيل، غير أنه في 16 من شوال 1355هـ الموافق31 من ديسمبر 1936م حوَّل أحمد حسين الجمعية إلى حزب سياسي.
وقد ثارت خصومة شديدة بين هذا الحزب وحزب الوفد، ووقف مع الأحزاب المناوئة للوفد كالأحرار الدستوريين ومع الملك، وهاجم معاهدة سنة 1936م التي أبرمتها مصر مع بريطانيا بزعامة مصطفى النحاس، وبدأ بفرق القمصان الخضراء أُسوة بأصحاب القمصان الزرقاء الفاشية، ودخل الحزب في خصومات متعددة مع الأحزاب والملك.
وبعد الانشقاق الذي حدث داخل الوفد مرة أخرى بقيادة أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي في أوائل 1938م كوَّن هؤلاء حزب الهيئة السعدية، وكانت من سياستهم إعلان الحرب على دول المحور لصالح الإنجليز.
كما انشق أيضًا مكرم عبيد عن حزب الوفد عام 1943م، وكوَّن حزب الكتلة الوفدية، وجاء هذا الانشقاق نتيجة بعض الممارسات الوزارية في الحكومة الوفدية، وكانت قضية (الاستثناءات) من أخطر القضايا التي أثارت جدلاً؛ حيث كان للوفدين منطقهم الخاص في إعطاء درجات استثنائية لأنصار الوفد، وهو الخلاف الذي أدَّى إلى إصدار مكرم عبيد لـ(الكتاب الأسود)، في محاولةٍ لنشر فضائح حزب الوفد، وقد تم القبض على مكرم ورفاقه وألقي بهم في المعتقل، وخرجوا جميعًا مع وزارة أحمد ماهر الأولى في 8 أكتوبر 1944م.
وكان آخر الأحزاب نشأةً الحزب الوطني الجديد، برئاسة الأستاذ فتحي رضوان عام 1944م، الحزب الوطني الجديد على مبادئ الحزب الوطني الذي أنشأه الزعيم مصطفى كامل؛ حيث اختلف مع زعامات الحزب الوطني القديم لتخليهم عن مبادئ مصطفى كامل وتولية الوزارة تحت ظل المحتل، وقد أصدر جريدة (اللواء الجديد)؛ حيث صدر العدد الأول منها في 12 نوفمبر 1944م.
كانت هذه نبذة مختصرة عن الأحزاب التي نشأت في ظل المحتل الإنجليزي، وقد حرص كثيرًا من هذه الأحزاب أن تحظى برضى الملك والإنجليز حتى يصلوا إلى الحكم؛ وذلك على حساب الشعب وقضاياه، مما ترك أثرًا سيئًا لدى عموم الشعب عامة وعند الأستاذ البنا والإخوان خاصة.
ثالثًا: الأحزاب والحزبية في فكر الإمام البنا:
تربَّى حسن البنا على يدى والده العالم الازهري الجليل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا وغرس فيه معاني العزة من خلال كتاب الله وسنة نبيه وسيرة السلف الصالح، فنشأ كغيره الكثير ممن تربوا على هذه المعاني، وحينما شبَّ كشاب وجد سياسة الأحزاب وانسياقها وراء المستعمر وتنفيذ مطالبه وتغليب مصالح المستعمر على حساب مصالح الوطن والشعب، وليس هذا فحسب بل وقعت البلاد في بلاء المهاترات الحزبية والتنافس الحزبي بين هذه الأحزاب للوصول إلى السلطة بأي ثمن، سواء بالتزلف للمستعمر أو بالتشهير بالآخر، أو بالعمل لحساب الملك على حساب الوطن والشعب.
ومن ثم بغض الإمام البنا الحزبية والأحزاب لهذه الأسباب والتي شعر فيها بأن هذه الأحزاب هي سبب شقاء البلاد وخرابها، ومن ثم طالب بحلها.
ومع ذلك لم ينظر الإمام البنا إلى الشخصيات الحزبية كلها أنها سيئة بل أعرب عن سعادته بزعماء عملوا من أجل الوطن أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد فيقول في ذكرى وفاته عام 1948م: " لم يكن مصطفى كامل زعيم حزب ولا رئيسًا لجماعة، وإنما كان مبعث حركة، وصاحب مبدأ، وقائد أمة، لقد كان مصطفى كامل موفقًا في تحديد الهدف، موفقًا في رسم الوسيلة، فها نحن بعد أربعين سنة من موته نعود من حيث تركنا فننادي اليوم: "بألا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، وها نحن قد ترخصنا في الوسائل فإذا بهذا الترخص لا يؤدي إلى غير وسيلة رخيصة رأينا فشلها، وها نحن نعود إلى وسيلة مصطفى كامل وهي الكفاح والجهاد".
لقد حاول حسن البنا أن يجد السياسي المحنك الذي يعرف معنى الوطنية الحقه لا الوطنية الزائفة التي سار عليها كثير من الأحزاب فيقول في رسالة دعوتنا: "وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر، وتتضاغن، وتتراشق بالسباب، وتترامى بالتهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء، وشكلتها الغايات والأغراض، وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته، ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً، يفرقهم في الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض، ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خيرَ فيها لدعاتها ولا للناس.
فها أنت قد رأيت أننا مع دعاة الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على العباد والبلاد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام".
كما فرَّق بين السياسة الحقه والحزبية البغيضة فيقول في رسالة مؤتمر الطلبة: "الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجال سياسيًّا بكل ما في الكلمة من معان، وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه، وقد يكون حزبيًّا ولا يدري من أمر السياسة شيئًا، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيًّا حزبيًّا أو حزبيًّا سياسيًّا على حد سواء، وأنا حين أتكلم عن السياسة في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة، وهي النظر في شئون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة بالحزبية بحال.. بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل، ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية، أستطيع أن أجهر في صراحة: بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا، بعيد النظر في شئون أمته، مهتمًّا بها غيورًا عليها.
وأستطيع كذلك أن أقول: إن هذا التحديد والتجريد أمر لا يقره الإسلام، وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشئون أمتها السياسية، وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام".
ويوضح أن السياسة شيء حيث إنها من الإسلام والحزبية البغيضة شيء آخر لأنها لا تمت للإسلام في شيء فيقول في رسالة مؤتمر الطلبة أيضًا: "إن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافي أبدًا الحكم الدستوري الشوري، وهي واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى من أوصاف المؤمنين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.. وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة، ولا أحب أن أفرضها على الناس.. أعتقد- أيها السادة- أن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان، فهي لا تجوز في كلها، وهي لا تجوز في مصر أبدًا، وبخاصة في هذا الوقت الذي تستفتح فيه عهدًا جديدًا، ونريد أن نبني أمتنا بناءً قويًا يستلزم تعاون الجهود، وتوافر القوى، والانتفاع بكل المواهب، والاستقرار الكامل، والتفرغ التام لنواحي الإصلاح.. وأعتقد- أيها السادة- أن التدخل الأجنبي في شئون الأمة، ليس له من باب إلا التدابر والخلاف، وهذا النظام الحزبي البغيض، وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد يلوّحون له بخصمه الآخر، ويقفون منهما موقف القرد من القطتين، ولا يجني الشعب من وراء ذلك إلا الخسارة من كرامته واستقلاله وأخلاقه ومصالحه.. إننا أمة لم نستكمل استقلالنا بعدُ استكمالاً تامًّا، ولا زلنا في الميزان، ولا زالت المطامع تحيط بنا من كل مكان، ولا سياج لحماية هذا الاستقلال والقضاء على تلك المطامع إلا الوحدة والتكاتف.. وفرق بين الحزبية التى شعارها الخلاف والانقسام في الرأي والوجهة العامة وفى كل ما يتفرع منها، وبين حرية الآراء التى يبيحها الإسلام ويحض عليها، وبين تمحيص الأمور وبحث الشئون والاختلاف فيما يعرض تحريًا للحق، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع سواء أكان ذلك إتباعا للأغلبية أو للإجماع، فلا تظهر الأمة إلا مجتمعة، ولا يرى القادة إلا متفقين".
وقد جاء في مقررات المؤتمر مطالبة الهيئات الإسلامية جميعًا بالاشتراك الفعلي في السياسة العامة للأمة، مع العمل على تكوين اتحاد عام لها، وحل جميع الأحزاب الحالية السياسية، وأن تستبدل بها هيئة موحدة لها منهاج إصلاحي إسلامي يتناول كل شئون النهضة، وتتوافر على وضعه وإنفاذه جميع المواهب والقوى؛ لما ثبت من أضرار النظام الحزبي، وفشله بالنهوض بالأمة.
ووضح في رسالة المؤتمر الخامس موقف الإخوان من هذه الأحزاب التي نشأت على الحزبية البغيضة والمصالح الشخصية فيقول: " الإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعًا قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواع أكثرها شخصي لا مصلحي .. ويعتقدون كذلك أن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها ومناهجها إلى الآن، فكل منها يدعى أنه سيعمل لمصلحة الأمة في كل نواحى الإصلاح، ولكن ما تفاصيل هذه الأعمال، وما وسائل تحقيقها؟ وما الذى أعد من هذه الوسائل، وما العقبات التى ينتظر أن تقف في سبيل التنفيذ، وماذا أعد لتذليلها؟ كل ذلك لا جواب له عند رؤساء الأحزاب وإدارات الأحزاب، فهم قد اتفقوا في هذا الفراغ، كما اتفقوا في أمر آخر هو التهالك على الحكم، وتسخير كل دعاية حزبية، وكل وسيلة شريفة وغير شريفة في سبيل الوصول إليه، وتجريح كل من يحول من الخصوم الحزبيين دون الحصول عليه.
ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الآثار... ويعتقدون كذلك أن النظام النيابي، بل حتى البرلماني، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر، وإلا لما قامت الحكومات الائتلافية في البلاد الديمقراطية، فالحجة القائلة بأن النظام البرلماني لا يتصور إلا بوجود الأحزاب حجة واهية، وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد وذلك في الإمكان.
كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقًا بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة، وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأى والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية ... هذه مجمل نظرات الإخوان إلى قضية الحزبية والأحزاب في مصر، وهم لهذا قد طلبوا إلى رؤساء الأحزاب، منذ عام تقريبًا أن يطرحوا هذه الخصومة جانبًا وينضم بعضهم إلى بعض".
ثم يوضح مفهوم الإخوان للسياسة التي يعملون في إطارها، فيقول في رسالة المؤتمر السادس: "أما إننا سياسيون حزبيون نناصر حزبًا ونناهض آخر، فلسنا كذلك ولن نكون، ولا يستطيع أحد أن يأتي على هذا بدليل أو شبه دليل، وأما إننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشئون أمتنا، ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل في نطاقه، وتندرج تحت أحكامه، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه، وفريضة من فرائضه، وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية؛ فنحن كذلك، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد، فهذا هو المعروف عند كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة".
ولا أدل على هذه الحزبية البغيضة من مواقف كثير من شباب القمصان الزرقاء التابعة للوفد وشباب القمصان الخضراء التابعة لحزب مصر الفتاة الذين كانت تقوم بينهم الحروب والمعارك حتى أصدر محمد محمود باشا رئيس الوزراء قرارًا بحل التشكيلات العسكرية عام 1939م وأيضًا عدم قبول النحاس باشا لكحومة وطنية ائتلافية في وقت عصيب؛ حيث حاصرت الدبابات القصر الملكي لتخير الملك بين البقاء كملك وتكليف النحاس باشا بحكومة وفدية أو عزله ونفيه، وأيضًا حينما توجه النقراشي باشا رئيس الوزراء عام 1947م لمجلس الأمن لعرض القضية المصرية؛ فما كان من النحاس باشا إلا أن أرسل برسالة إلى الأمين العام يطلعه أن النقراشي لا يمثل الشعب المصري، وأنه لا يمثل إلا نفسه، وأن الوفد هو الممثل الشرعي للشعب المصري، فكانت ضربة قاضية في جسد القضية؛ مما دفع الإمام البنا إلى أن يرسل رسالةً للأمين العام يطلعه أن الشعب المصري يقف خلف النقراشي في قضية مصر وعرضها، وجاء في هذه البرقية قوله: "يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري ويراها مناورةً حزبيةً لا أثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها".
كانت هذه الأسباب التي جعلت الإمام البنا والإخوان يرفضون الحزبية والأحزاب في ذلك الوقت، وفي ظل محتل جاثم على صدر البلاد ويسخّر هذه الأحزاب، ومن ثم رفض الإخوان إنشاء حزب سياسي يكون مطيةً في يدي الملك أو الإنجليز.
لكن لم يكن هذا الرأي على طول الخط، فقد وقته الإمام البنا بظروف البلاد الواقعة، لكن إذا تغيرت هذه الظروف، وإن كانت الأحزاب هي النظام الأفضل لممارسة المهام السياسة وفق دستور وقانون البلاد؛ فلم يرفضها الإمام البنا، وهو ما سار عليه الإخوان فيما بعد.
رابعًا: الأحزاب والحزبية في فكر الإخوان الآن:
ومضت السنون وخرج الاحتلال من البلاد، ودخل الإخوان السجون في عهد عبد الناصر وتغيرت أحوال البلاد السياسية، فكان لا بد من تطوير آليات العمل، ولقد انطلق الإخوان من قاعدة ثابتة لديهم، وهي أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فلم يفرقوا بين مجال من مجالات الحياة، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية أو غيرها، وعملوا من خلال الشرعية والدستور، سواء العمل من خلال البرلمان أو النقابات أو الاتحادات الطلابية، وغيرها من المؤسسات الشرعية، حتى إنهم تعاونوا مع بعض الأحزاب في ائتلاف شريف للعمل من أجل الوطن.
وبعدما زاد التضييق عليهم من قبل النظام البائد نظام حسني مبارك، وليس ذلك فحسب بل زادت الأبواق التي تعيب على الإخوان عدم تشكيل حزب سياسي للعمل تحت مظلته، عمل الإخوان على تحقيق ذلك، وحاولوا أن يتلمسوا الشرعية السياسية بأن وضعوا برنامجًا لحزب سياسي خاص بهم، لكن ما كاد هذا البرنامج يخرج في صورة غير نهائية إلا وقد تبارى الكثير يهاجم الإخوان في برنامجهم الخاص، وكأن الإخوان يصيغون هذا البرنامج كدستور دولة وليس برنامجًا لحزب خاص بهم، مثل بقية الأحزاب الليبرالية أو اليسارية أو غيرها من الأحزاب.
كما أن البعض نادى بأنه إما يكون للإخوان جماعة وهيكل وحسب، فلا يجوز أن يكون الهيكلان موجودين، ولا أدري ما القواعد التي بنى عليها هؤلاء هذا الرأي، فالحزب السياسي له برنامجه وأهدافه التي تسير وفق مبادئ ومنهج الإخوان المستمد من شريعة الإسلام، ولن يكون الحزب عوضًا عن الجماعة، كما أنه لن يسير وفق ما تسير به الأحزاب من سياسات ميكافيلية؛ حيث الغاية تبرر الوسيلة، ولن يكون الحزب أداةً طيعةً في يدي حاكم أو ديكتاتور، أو يخالف الإخوان ما نادى به مؤسس الحركة الإمام الشهيد حسن البنا، لكن سيكون الحزب مكملاً لأهداف ومبادئ الإخوان وفقًا لما يقتضيه الدستور المتفق عليه في البلاد.
فالإخوان لم يخالفوا مبادئ مرشدهم الأول الأستاذ حسن البنا أو فكره في شيء، لكن الظروف والوضع تغير ومن ثم تغيرت معه الأوضاع وطريقة تناول العمل العام للجماعة، كما أن البلاد ليست محتلةً حتى يسخّر المحتل هذه الأحزاب وفقًا لسياسته، كما أن الشرعية السياسية الآن تعمل وفق الحزب السياسي وليس الفردية حتى ولو كان الإخوان هم أكبر فصيل سياسي في مصر، لكن ما تقتضيه الظروف الآن هو أن يكون للإخوان حزب سياسي يمارسون من خلاله نشاطهم السياسي.
وإن كان الإخوان منذ خروجهم من السجون لم يعلنوا عن تشكيل حزب سياسي وتأخروا في ذلك فذلك بسبب قانون الأحزاب وتعنت النظام المصري مع الإخوان، ومن ثم فلا غروا حينما علمت السلطات أن الإخوان يشكلون حزبًا تحت اسم "الوسط" تحركت جحافل الشرطة وزوار الليل وألقوا القبض على كل من جاء اسمه في مؤسسي حزب الوسط وقدموا لمحاكمات عسكرية، ولهذا كان هذا التأخر في إعلان وتشكيل حزب سياسي، بالإضافة إلى وجود لجنة شئون الأحزاب، والتي كان يسيطر عليها الحزب الوطني ورجال النظام البائد، ففي ذلك يقول الأستاذ محمد مهدي عاكف، المرشد العام السابق للإخوان: إن الإخوان لن يتقدموا بالحزب للجنة شئون الأحزاب، وإن موقف الجماعة من هذه اللجنة ثابت، ويعتبرونها "غير دستورية"، وإن الإخوان المسلمين لن يتقدموا بحزبهم للدولة ما دامت هذه اللجنة قائمة.
ولقد سيقت الأقاويل ضد الإخوان بأنهم جماعة دينية وليست سياسية، بالرغم من أن الإخوان لهم منهجهم الثابت، وهو العمل في أطر النظام الشامل كل مقومات الحياة، وأن الإخوان لن تحل الجماعة في مقابل الحزب؛ حيث صرح لـ"العربية" الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح عام 2007 بقوله: إن إعلان الجماعة اتجاهها لإقامة حزب سياسي مدني، ذي مرجعية إسلامية، ينسجم مع المادة الثانية من الدستور المصري، الذي ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وكشف أن الجماعة لن تتقدم بهذا الحزب للجنة شئون الأحزاب ولن تعلنه من جانب واحد، وإنما تسعى لإقرار مشروع قانون يسمح بإنشاء الأحزاب بمجرد الإخطار.
ومن ثم الإخوان لديهم فكر ومنهج شامل، وهذه هي القاعدة التي انطلق وينطلق منها الإخوان في العمل الدعوي والسياسي، ولم يفرقوا بين دعوة وسياسة، أو بين دين ووطن.
كما أن الإخوان منذ نشأتها ومبادئهم واحدة ومنهجهم واحد، لكن أساليب الدعوة والعمل تختلف باختلاف الزمان والمكان والوضع السائد، لكن الأيدولوجيات واحدة، والفكر واحد.
------------
* مشرف موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)
أثار قرار الإخوان المسلمين بإنشاء حزب سياسي منذ سنين كثيرًا من الجدل بين الجميع؛ حتى إنه أصبح حديث الساعة منذ انطلاق هذا القرار، والجميع ما بين مؤيد ومعارض، وما بين مترقب ومتوجس؛ خيفةً من شكل الحزب وكيفية تناوله القضايا وآلية عمله، وكيفية تعاطيه مع القضايا الشائكة، مثل المرأة والأقباط، ومرجعيته، بالإضافة إلى اختلاف هذا الفكر عن فكر الإمام المؤسس للجماعة الأستاذ حسن البنا، والذي كان يعارض بشدة الحزبية.
لقد استطاع الإمام- كما يصفه الأستاذ أنور الجندي- أن يقيم دعائم أساسية للفكر الإسلامي، فقد حدَّد موقف الإسلام من الوطنية والقومية، وكشف عن صلة العروبة بالإسلام، وأن الإسلام ليس دينًا لاهوتيًّا بمفهوم الغرب، ولكنه دين، ومنهج حياة، ونظام مجتمع.
كما استطاع- خلال عشرين عامًا، ثم ما جاء من بعد- أن يصنع جيلاً يحمل همَّ الدين والوطن، ويكون رائدًا في مجالات الحياة، فقد كان يعرف قدر الرجال فيعطي العاملين منهم الفرصة للعمل لخير الوطن والإسلام.
وخلال هذه السطور نحاول أن نلقي بالضوء على هذه الأمور، من خلال:
1- التعرف على مفهوم الحزب السياسي.
2- نشأة الأحزاب القديمة وأثرها في الحياة.
3- مفهوم الحزبية في فكر الإمام البنا.
4- مفهوم الحزبية في فكر الإخوان حاليًّا.
5- مفهوم الحزب السياسي.
أولاً: التعرف على مفهوم الحزب السياسي:
الحزب في اللغة: هو عبارة عن جماعة من الناس يجمعهم رأي واحد على موقف واحد.
وفي المصطلح السياسي: هو عبارة عن تجمع منظم، يهدف إلى المشاركة في الحياة السياسية بقصد الاستيلاء كليًّا أو جزئيًّا على السلطة.
قال أحد علماء السياسة هـ. كلن: "الحزب عبارة عن تشكيل يضم رجالاً لهم نفس الرأي، بهدف تأمين تأثير حقيقي لهم في إدارة الشئون العامة".
وقال فرانسوا بوردو: "الحزب هو كل تجمع لأفراد يبشرون بنفس الأفكار السياسية، ويسعون لجعلها تتغلب من خلال مؤازرة أكبر عددٍ ممكن من المواطنين لها؛ للاستيلاء على السلطة أو على الأقل للتأثير في قراراتها".
وقال العالم السياسي الكبير أوستن رني: "الحزب عبارة عن جماعة منظمة ذات استقلال ذاتي، تقوم بتعيين مرشحيها، وتخوض المعارك الانتخابية؛ على أمل الحصول على المناصب الحكومية والهيمنة على خطط الحكومة".
ويمكننا أن نستخلص من مجموع التعاريف أن الحزب في المصطلح السياسي الحديث عبارة عن "جماعة من الناس، لهم تنظيم معين ورأي واحد وموقف موحد؛ لأجل الوصول إلى الحكم، والمشاركة فيه بالاعتماد على دعم الجماهير لهم".
وقد وردت في القرآن الكريم كلمة الحزب بمعنى الجماعة التي لها رأي واحد وموقف موحد، حقًّا كان أو باطلاً.
ثانيًا: نشأة الأحزاب القديمة وأثرها في الحياة:
منذ أن دخل المستعمر الإنجليزي إلى مصر في 1882م، وسيطر على جميع مناحي الحياة، سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجعلها تدور في فلكه، فأدى ذلك إلى تهافت كثير من الساسة لإرضاء المحتل بأي وسيلة، ولهذه الأسباب اعتراض الإمام البنا على إنشاء حزب في ظل وجود محتل لن يسمح له بالسير وفق ما ينادي به الإخوان، وأيضًا للبعد عن التنافسية الحزبية البغيضة.
ولنتوقف لنتعرف على نشأة هذه الأحزاب ودورها وأثرها.
فالحزب الوطني الذي أنشأه مصطفى كامل المؤسس سنة 1907م استطاع أن يقلق مضاجع الاحتلال الأجنبي، لا سيما بعد حادثة دنشواي 1906م، وكان من سماته الوطنية العمل من أجل قضية الوطن، غير أنه بعد وفاة محمد فريد اعتراه الضعف والتناحر الحزبي، بل وصل به الحال أن حدث به انشقاقات بسبب اعتراض الشباب على سياسة قادة الحزب؛ حيث وافق حافظ رمضان على الاشتراك في وزارة في وجود الاحتلال، وهم من كانوا ينادون بأنه لا مفاوضات إلا بعد الجلاء، فانفصلوا وكوَّنوا الحزب الوطني الجديد برئاسة الأستاذ فتحي رضوان عام 1944م.
ثم كان حزب الأمة، والذي تشكل من عناصر موالية للمحتل الإنجليزي طمعًا في رضاه، فعملوا على التصدي للحزب الوطني الذي كان يعمل ضد الإنجليز، وقد نشأ حزب الأمة في سبتمبر من عام 1907م، وكما يقول عبد العزيز عمر، في كتابه "دراسات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر": إن هذا الحزب يكون من عنصرين هما المفكرون المتأثرون بالنظريات الأوروبية في جميع المجالات، الداعون إلى الابتعاد عن ثوابت الأمة التي استقر عليها أمثال أحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم، والعنصر الثاني هم جماعة الباشوات وكبار الملاك، مثل محمود سليمان باشا وحسن باشا عبد الرازق وحمد بك الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبد الرحيم الدمرداش وعلي شعراوي وعبد الخالق ثروت، وقد رأس الحزب بعد تأليفه محمود سليمان العضو بمجلس شورى القوانين وأحد كبار أثرياء الصعيد.
وقد برزت سياسة الحزب، فيما كتبته جريدة (حزب الأمة): "إن مصر تريد الاستقلال، فإذا لم يكن السبيل إليه ميسورًا، وكان لا بد من أن تحكمها أمة أخرى، فإنجلترا خير أمة ترضاها مصر".
وبعد ذلك ظهر حزب الوفد كحركة شعبية في بادئ الأمر، كانت تهدف إلى تأييد المجموعة المصرية التي تم اختيارها كممثلين عن الشعب المصري للتفاوض مع المحتل من أجل تحقيق الجلاء.
ونشأت فكرة الحزب في العهد الملكي بتشكيل وفد للتفاوض مع الإنجليز مكون من سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد وآخرين.. وأطلقوا على أنفسهم (الوفد المصري)؛ للمطالبة بإنهاء الاستعمار البريطاني على مصر.
أدى قرار بريطانيا نفي قادة الوفد إلى تفجر مظاهرات احتجاج في القاهرة، ما لبثت أن امتدت في جميع أنحاء البلاد، وتحولت الاحتجاجات الشعبية إلى ثورة عارمة عُرفت باسم ثورة 1919م.
فعاد سعد زغلول ورفاقه من المنفى، وبعد الدعم الشعبي الكبير، قرر تحويل الوفد إلى حزب لاستثمار التحرك الشعبي ومواصلة النضال من أجل الاستقلال.
أما عن حزب الأحرار الدستوريين فقد نشأ في (صفر 1341هـ = أكتوبر 1922م) برئاسة عدلي يكن، وكان يمثل طبقة كبار الملاك المصريين الراغبين في المشاركة في الحكم مع القصر، وقد انسلخ هؤلاء عن الوفد أثناء المفاوضات مع الإنجليز، فيما عُرف بالانقسام بين السعديين (نسبة إلى سعد زغلول) والعدليين (نسبة إلى عدلي يكن)، وسعى هؤلاء لتأكيد سلطة الأمة بين السلطة الشرعية ويمثلها الخديوي، والسلطة الفعلية ويمثلها الإنجليز، وكان غالبية قادة هذا الحزب متأثرين بالأفكار الغربية، مع تمرسهم في العمل السياسي، وروابطهم القوية بجهاز الدولة الإداري وعلاقاتهم بالإنجليز.
ولم تتوقف عجلة نشأة الأحزاب عند هؤلاء، فقد نشأ حزب الاتحاد في يناير 1925م؛ حيث دخل الملك فؤاد في معركةٍ سافرةٍ مع الحركة الوطنية، بأن أوعز لحسن نشأت باشا بإنشاء حزب الاتحاد؛ لكي يوقف هيمنة الوفد على الحياة السياسية في مصر.
ومن ضمن الأحزاب التي نشأت في ظل الاحتلال، والتي عملت على خدمة الديكتاتورية وتنفيذ سياسة الأجنبي المحتل؛ حزب الشعب، حيث لجأ الملك إلى استخدام إسماعيل صدقي، وقام بتوليته الوزارة، فقام الأخير بإلغاء دستور 1923م، وأصدر دستور 1930م الذي أعطى صلاحيات واسعة للملك حتى سمي بدستور الملك، في مقابل دستور 1923م الذي سمي بدستور الشعب.. وفي 17 نوفمبر 1930م أعلن تأسيس حزب الشعب، وتولى إسماعيل صدقي باشا رئاسته، وأصدر جريدة يومية أسماها (الشعب)، وشارك إسماعيل صدقي التأسيس كل من عدلي يكن، وتوفيق نسيم، ومحمد محمود.
أما حزب مصر الفتاة فقد كان حركة سياسية قومية مصرية بدأت في جمادى الآخرة 1352هـ الموافق 12 أكتوبر 1933م بقيادة أحمد حسين، متأثرة بالحركات القومية في تلك الفترة؛ حيث بدأ نشاطه اجتماعيًّا بمشروع القرش عام 1930م، ثم تشكلت الجمعية بعد ذلك في أكتوبر 1933م بزعامة أحمد حسين.. وكان من شخصيات الجمعية البارزين فتحي رضوان ومصطفى الوكيل، غير أنه في 16 من شوال 1355هـ الموافق31 من ديسمبر 1936م حوَّل أحمد حسين الجمعية إلى حزب سياسي.
وقد ثارت خصومة شديدة بين هذا الحزب وحزب الوفد، ووقف مع الأحزاب المناوئة للوفد كالأحرار الدستوريين ومع الملك، وهاجم معاهدة سنة 1936م التي أبرمتها مصر مع بريطانيا بزعامة مصطفى النحاس، وبدأ بفرق القمصان الخضراء أُسوة بأصحاب القمصان الزرقاء الفاشية، ودخل الحزب في خصومات متعددة مع الأحزاب والملك.
وبعد الانشقاق الذي حدث داخل الوفد مرة أخرى بقيادة أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي في أوائل 1938م كوَّن هؤلاء حزب الهيئة السعدية، وكانت من سياستهم إعلان الحرب على دول المحور لصالح الإنجليز.
كما انشق أيضًا مكرم عبيد عن حزب الوفد عام 1943م، وكوَّن حزب الكتلة الوفدية، وجاء هذا الانشقاق نتيجة بعض الممارسات الوزارية في الحكومة الوفدية، وكانت قضية (الاستثناءات) من أخطر القضايا التي أثارت جدلاً؛ حيث كان للوفدين منطقهم الخاص في إعطاء درجات استثنائية لأنصار الوفد، وهو الخلاف الذي أدَّى إلى إصدار مكرم عبيد لـ(الكتاب الأسود)، في محاولةٍ لنشر فضائح حزب الوفد، وقد تم القبض على مكرم ورفاقه وألقي بهم في المعتقل، وخرجوا جميعًا مع وزارة أحمد ماهر الأولى في 8 أكتوبر 1944م.
وكان آخر الأحزاب نشأةً الحزب الوطني الجديد، برئاسة الأستاذ فتحي رضوان عام 1944م، الحزب الوطني الجديد على مبادئ الحزب الوطني الذي أنشأه الزعيم مصطفى كامل؛ حيث اختلف مع زعامات الحزب الوطني القديم لتخليهم عن مبادئ مصطفى كامل وتولية الوزارة تحت ظل المحتل، وقد أصدر جريدة (اللواء الجديد)؛ حيث صدر العدد الأول منها في 12 نوفمبر 1944م.
كانت هذه نبذة مختصرة عن الأحزاب التي نشأت في ظل المحتل الإنجليزي، وقد حرص كثيرًا من هذه الأحزاب أن تحظى برضى الملك والإنجليز حتى يصلوا إلى الحكم؛ وذلك على حساب الشعب وقضاياه، مما ترك أثرًا سيئًا لدى عموم الشعب عامة وعند الأستاذ البنا والإخوان خاصة.
ثالثًا: الأحزاب والحزبية في فكر الإمام البنا:
تربَّى حسن البنا على يدى والده العالم الازهري الجليل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا وغرس فيه معاني العزة من خلال كتاب الله وسنة نبيه وسيرة السلف الصالح، فنشأ كغيره الكثير ممن تربوا على هذه المعاني، وحينما شبَّ كشاب وجد سياسة الأحزاب وانسياقها وراء المستعمر وتنفيذ مطالبه وتغليب مصالح المستعمر على حساب مصالح الوطن والشعب، وليس هذا فحسب بل وقعت البلاد في بلاء المهاترات الحزبية والتنافس الحزبي بين هذه الأحزاب للوصول إلى السلطة بأي ثمن، سواء بالتزلف للمستعمر أو بالتشهير بالآخر، أو بالعمل لحساب الملك على حساب الوطن والشعب.
ومن ثم بغض الإمام البنا الحزبية والأحزاب لهذه الأسباب والتي شعر فيها بأن هذه الأحزاب هي سبب شقاء البلاد وخرابها، ومن ثم طالب بحلها.
ومع ذلك لم ينظر الإمام البنا إلى الشخصيات الحزبية كلها أنها سيئة بل أعرب عن سعادته بزعماء عملوا من أجل الوطن أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد فيقول في ذكرى وفاته عام 1948م: " لم يكن مصطفى كامل زعيم حزب ولا رئيسًا لجماعة، وإنما كان مبعث حركة، وصاحب مبدأ، وقائد أمة، لقد كان مصطفى كامل موفقًا في تحديد الهدف، موفقًا في رسم الوسيلة، فها نحن بعد أربعين سنة من موته نعود من حيث تركنا فننادي اليوم: "بألا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، وها نحن قد ترخصنا في الوسائل فإذا بهذا الترخص لا يؤدي إلى غير وسيلة رخيصة رأينا فشلها، وها نحن نعود إلى وسيلة مصطفى كامل وهي الكفاح والجهاد".
لقد حاول حسن البنا أن يجد السياسي المحنك الذي يعرف معنى الوطنية الحقه لا الوطنية الزائفة التي سار عليها كثير من الأحزاب فيقول في رسالة دعوتنا: "وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر، وتتضاغن، وتتراشق بالسباب، وتترامى بالتهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء، وشكلتها الغايات والأغراض، وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته، ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً، يفرقهم في الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض، ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خيرَ فيها لدعاتها ولا للناس.
فها أنت قد رأيت أننا مع دعاة الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على العباد والبلاد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام".
كما فرَّق بين السياسة الحقه والحزبية البغيضة فيقول في رسالة مؤتمر الطلبة: "الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجال سياسيًّا بكل ما في الكلمة من معان، وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه، وقد يكون حزبيًّا ولا يدري من أمر السياسة شيئًا، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيًّا حزبيًّا أو حزبيًّا سياسيًّا على حد سواء، وأنا حين أتكلم عن السياسة في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة، وهي النظر في شئون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة بالحزبية بحال.. بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل، ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية، أستطيع أن أجهر في صراحة: بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا، بعيد النظر في شئون أمته، مهتمًّا بها غيورًا عليها.
وأستطيع كذلك أن أقول: إن هذا التحديد والتجريد أمر لا يقره الإسلام، وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشئون أمتها السياسية، وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام".
ويوضح أن السياسة شيء حيث إنها من الإسلام والحزبية البغيضة شيء آخر لأنها لا تمت للإسلام في شيء فيقول في رسالة مؤتمر الطلبة أيضًا: "إن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافي أبدًا الحكم الدستوري الشوري، وهي واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى من أوصاف المؤمنين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.. وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة، ولا أحب أن أفرضها على الناس.. أعتقد- أيها السادة- أن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان، فهي لا تجوز في كلها، وهي لا تجوز في مصر أبدًا، وبخاصة في هذا الوقت الذي تستفتح فيه عهدًا جديدًا، ونريد أن نبني أمتنا بناءً قويًا يستلزم تعاون الجهود، وتوافر القوى، والانتفاع بكل المواهب، والاستقرار الكامل، والتفرغ التام لنواحي الإصلاح.. وأعتقد- أيها السادة- أن التدخل الأجنبي في شئون الأمة، ليس له من باب إلا التدابر والخلاف، وهذا النظام الحزبي البغيض، وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد يلوّحون له بخصمه الآخر، ويقفون منهما موقف القرد من القطتين، ولا يجني الشعب من وراء ذلك إلا الخسارة من كرامته واستقلاله وأخلاقه ومصالحه.. إننا أمة لم نستكمل استقلالنا بعدُ استكمالاً تامًّا، ولا زلنا في الميزان، ولا زالت المطامع تحيط بنا من كل مكان، ولا سياج لحماية هذا الاستقلال والقضاء على تلك المطامع إلا الوحدة والتكاتف.. وفرق بين الحزبية التى شعارها الخلاف والانقسام في الرأي والوجهة العامة وفى كل ما يتفرع منها، وبين حرية الآراء التى يبيحها الإسلام ويحض عليها، وبين تمحيص الأمور وبحث الشئون والاختلاف فيما يعرض تحريًا للحق، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع سواء أكان ذلك إتباعا للأغلبية أو للإجماع، فلا تظهر الأمة إلا مجتمعة، ولا يرى القادة إلا متفقين".
وقد جاء في مقررات المؤتمر مطالبة الهيئات الإسلامية جميعًا بالاشتراك الفعلي في السياسة العامة للأمة، مع العمل على تكوين اتحاد عام لها، وحل جميع الأحزاب الحالية السياسية، وأن تستبدل بها هيئة موحدة لها منهاج إصلاحي إسلامي يتناول كل شئون النهضة، وتتوافر على وضعه وإنفاذه جميع المواهب والقوى؛ لما ثبت من أضرار النظام الحزبي، وفشله بالنهوض بالأمة.
ووضح في رسالة المؤتمر الخامس موقف الإخوان من هذه الأحزاب التي نشأت على الحزبية البغيضة والمصالح الشخصية فيقول: " الإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعًا قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواع أكثرها شخصي لا مصلحي .. ويعتقدون كذلك أن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها ومناهجها إلى الآن، فكل منها يدعى أنه سيعمل لمصلحة الأمة في كل نواحى الإصلاح، ولكن ما تفاصيل هذه الأعمال، وما وسائل تحقيقها؟ وما الذى أعد من هذه الوسائل، وما العقبات التى ينتظر أن تقف في سبيل التنفيذ، وماذا أعد لتذليلها؟ كل ذلك لا جواب له عند رؤساء الأحزاب وإدارات الأحزاب، فهم قد اتفقوا في هذا الفراغ، كما اتفقوا في أمر آخر هو التهالك على الحكم، وتسخير كل دعاية حزبية، وكل وسيلة شريفة وغير شريفة في سبيل الوصول إليه، وتجريح كل من يحول من الخصوم الحزبيين دون الحصول عليه.
ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الآثار... ويعتقدون كذلك أن النظام النيابي، بل حتى البرلماني، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر، وإلا لما قامت الحكومات الائتلافية في البلاد الديمقراطية، فالحجة القائلة بأن النظام البرلماني لا يتصور إلا بوجود الأحزاب حجة واهية، وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد وذلك في الإمكان.
كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقًا بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة، وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأى والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية ... هذه مجمل نظرات الإخوان إلى قضية الحزبية والأحزاب في مصر، وهم لهذا قد طلبوا إلى رؤساء الأحزاب، منذ عام تقريبًا أن يطرحوا هذه الخصومة جانبًا وينضم بعضهم إلى بعض".
ثم يوضح مفهوم الإخوان للسياسة التي يعملون في إطارها، فيقول في رسالة المؤتمر السادس: "أما إننا سياسيون حزبيون نناصر حزبًا ونناهض آخر، فلسنا كذلك ولن نكون، ولا يستطيع أحد أن يأتي على هذا بدليل أو شبه دليل، وأما إننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشئون أمتنا، ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل في نطاقه، وتندرج تحت أحكامه، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه، وفريضة من فرائضه، وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية؛ فنحن كذلك، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد، فهذا هو المعروف عند كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة".
ولا أدل على هذه الحزبية البغيضة من مواقف كثير من شباب القمصان الزرقاء التابعة للوفد وشباب القمصان الخضراء التابعة لحزب مصر الفتاة الذين كانت تقوم بينهم الحروب والمعارك حتى أصدر محمد محمود باشا رئيس الوزراء قرارًا بحل التشكيلات العسكرية عام 1939م وأيضًا عدم قبول النحاس باشا لكحومة وطنية ائتلافية في وقت عصيب؛ حيث حاصرت الدبابات القصر الملكي لتخير الملك بين البقاء كملك وتكليف النحاس باشا بحكومة وفدية أو عزله ونفيه، وأيضًا حينما توجه النقراشي باشا رئيس الوزراء عام 1947م لمجلس الأمن لعرض القضية المصرية؛ فما كان من النحاس باشا إلا أن أرسل برسالة إلى الأمين العام يطلعه أن النقراشي لا يمثل الشعب المصري، وأنه لا يمثل إلا نفسه، وأن الوفد هو الممثل الشرعي للشعب المصري، فكانت ضربة قاضية في جسد القضية؛ مما دفع الإمام البنا إلى أن يرسل رسالةً للأمين العام يطلعه أن الشعب المصري يقف خلف النقراشي في قضية مصر وعرضها، وجاء في هذه البرقية قوله: "يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري ويراها مناورةً حزبيةً لا أثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها".
كانت هذه الأسباب التي جعلت الإمام البنا والإخوان يرفضون الحزبية والأحزاب في ذلك الوقت، وفي ظل محتل جاثم على صدر البلاد ويسخّر هذه الأحزاب، ومن ثم رفض الإخوان إنشاء حزب سياسي يكون مطيةً في يدي الملك أو الإنجليز.
لكن لم يكن هذا الرأي على طول الخط، فقد وقته الإمام البنا بظروف البلاد الواقعة، لكن إذا تغيرت هذه الظروف، وإن كانت الأحزاب هي النظام الأفضل لممارسة المهام السياسة وفق دستور وقانون البلاد؛ فلم يرفضها الإمام البنا، وهو ما سار عليه الإخوان فيما بعد.
رابعًا: الأحزاب والحزبية في فكر الإخوان الآن:
ومضت السنون وخرج الاحتلال من البلاد، ودخل الإخوان السجون في عهد عبد الناصر وتغيرت أحوال البلاد السياسية، فكان لا بد من تطوير آليات العمل، ولقد انطلق الإخوان من قاعدة ثابتة لديهم، وهي أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فلم يفرقوا بين مجال من مجالات الحياة، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية أو غيرها، وعملوا من خلال الشرعية والدستور، سواء العمل من خلال البرلمان أو النقابات أو الاتحادات الطلابية، وغيرها من المؤسسات الشرعية، حتى إنهم تعاونوا مع بعض الأحزاب في ائتلاف شريف للعمل من أجل الوطن.
وبعدما زاد التضييق عليهم من قبل النظام البائد نظام حسني مبارك، وليس ذلك فحسب بل زادت الأبواق التي تعيب على الإخوان عدم تشكيل حزب سياسي للعمل تحت مظلته، عمل الإخوان على تحقيق ذلك، وحاولوا أن يتلمسوا الشرعية السياسية بأن وضعوا برنامجًا لحزب سياسي خاص بهم، لكن ما كاد هذا البرنامج يخرج في صورة غير نهائية إلا وقد تبارى الكثير يهاجم الإخوان في برنامجهم الخاص، وكأن الإخوان يصيغون هذا البرنامج كدستور دولة وليس برنامجًا لحزب خاص بهم، مثل بقية الأحزاب الليبرالية أو اليسارية أو غيرها من الأحزاب.
كما أن البعض نادى بأنه إما يكون للإخوان جماعة وهيكل وحسب، فلا يجوز أن يكون الهيكلان موجودين، ولا أدري ما القواعد التي بنى عليها هؤلاء هذا الرأي، فالحزب السياسي له برنامجه وأهدافه التي تسير وفق مبادئ ومنهج الإخوان المستمد من شريعة الإسلام، ولن يكون الحزب عوضًا عن الجماعة، كما أنه لن يسير وفق ما تسير به الأحزاب من سياسات ميكافيلية؛ حيث الغاية تبرر الوسيلة، ولن يكون الحزب أداةً طيعةً في يدي حاكم أو ديكتاتور، أو يخالف الإخوان ما نادى به مؤسس الحركة الإمام الشهيد حسن البنا، لكن سيكون الحزب مكملاً لأهداف ومبادئ الإخوان وفقًا لما يقتضيه الدستور المتفق عليه في البلاد.
فالإخوان لم يخالفوا مبادئ مرشدهم الأول الأستاذ حسن البنا أو فكره في شيء، لكن الظروف والوضع تغير ومن ثم تغيرت معه الأوضاع وطريقة تناول العمل العام للجماعة، كما أن البلاد ليست محتلةً حتى يسخّر المحتل هذه الأحزاب وفقًا لسياسته، كما أن الشرعية السياسية الآن تعمل وفق الحزب السياسي وليس الفردية حتى ولو كان الإخوان هم أكبر فصيل سياسي في مصر، لكن ما تقتضيه الظروف الآن هو أن يكون للإخوان حزب سياسي يمارسون من خلاله نشاطهم السياسي.
وإن كان الإخوان منذ خروجهم من السجون لم يعلنوا عن تشكيل حزب سياسي وتأخروا في ذلك فذلك بسبب قانون الأحزاب وتعنت النظام المصري مع الإخوان، ومن ثم فلا غروا حينما علمت السلطات أن الإخوان يشكلون حزبًا تحت اسم "الوسط" تحركت جحافل الشرطة وزوار الليل وألقوا القبض على كل من جاء اسمه في مؤسسي حزب الوسط وقدموا لمحاكمات عسكرية، ولهذا كان هذا التأخر في إعلان وتشكيل حزب سياسي، بالإضافة إلى وجود لجنة شئون الأحزاب، والتي كان يسيطر عليها الحزب الوطني ورجال النظام البائد، ففي ذلك يقول الأستاذ محمد مهدي عاكف، المرشد العام السابق للإخوان: إن الإخوان لن يتقدموا بالحزب للجنة شئون الأحزاب، وإن موقف الجماعة من هذه اللجنة ثابت، ويعتبرونها "غير دستورية"، وإن الإخوان المسلمين لن يتقدموا بحزبهم للدولة ما دامت هذه اللجنة قائمة.
ولقد سيقت الأقاويل ضد الإخوان بأنهم جماعة دينية وليست سياسية، بالرغم من أن الإخوان لهم منهجهم الثابت، وهو العمل في أطر النظام الشامل كل مقومات الحياة، وأن الإخوان لن تحل الجماعة في مقابل الحزب؛ حيث صرح لـ"العربية" الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح عام 2007 بقوله: إن إعلان الجماعة اتجاهها لإقامة حزب سياسي مدني، ذي مرجعية إسلامية، ينسجم مع المادة الثانية من الدستور المصري، الذي ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وكشف أن الجماعة لن تتقدم بهذا الحزب للجنة شئون الأحزاب ولن تعلنه من جانب واحد، وإنما تسعى لإقرار مشروع قانون يسمح بإنشاء الأحزاب بمجرد الإخطار.
ومن ثم الإخوان لديهم فكر ومنهج شامل، وهذه هي القاعدة التي انطلق وينطلق منها الإخوان في العمل الدعوي والسياسي، ولم يفرقوا بين دعوة وسياسة، أو بين دين ووطن.
كما أن الإخوان منذ نشأتها ومبادئهم واحدة ومنهجهم واحد، لكن أساليب الدعوة والعمل تختلف باختلاف الزمان والمكان والوضع السائد، لكن الأيدولوجيات واحدة، والفكر واحد.
------------
* مشرف موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)