في مطلع الثلث الثاني من أيار/ مايو الجاري، ظهر للعلن أن ثلاثة مثقفين مستقلين، ميشيل كيلو وعارف دليلة ولؤي حسين، وقد سبق أن كانت لهم تجارب اعتقال سياسي، التقوا بثينة شعبان، مستشارة الرئيس للشؤون الإعلامية والسياسية، وتداولوا في الأوضاع السورية وسبل الخروج منها. ونسب أحدهم، لؤي حسين، إلى شعبان قولها أن الرئيس أمر القوى الأمنية بعدم إطلاق النار على المتظاهرين. وبالفعل كانت حصيلة "جمعة الحرائر"، 13 مايو/أيار، 6 ضحايا، وهي أقل من الأربعين قتيلا الذين سقطوا في "جمعة التحدي" السابقة لها، و65 قتيلا في "جمعة الغضب" قبلها، ونحو 120 قتيلا في "الجمعة العظيمة"، 15 أبريل/نيسان. لكن ارتفع من جديد عدد ضحايا قصف القوات السورية لبلدة تلكلخ إلى 36 قتيلا سقطوا خلال ثلاثة أيام.
وقع هذا بينما كان وزير الإعلام السوري يعلن عزم السلطات إطلاق حوار وطني في المحافظات كافة. لكن عددا من المراقبين يعتبرونه حوارا دون سياسي، يتمثل في نوع من مزج آراء ومطالب جماعات محلية، فهو أدنى مرتبة حتى من تلك اللقاءات التي يجريها الرئيس السوري بشار الأسد مع وفود من أعيان المحافظات والشخصيات النافذة في بيئاتها المحلية. فهو لا يتعلق بحوار مع المعارضة أو مع الانتفاضة. وفي جمع السلطات بين العمليات الأمنية وبين الدعوة إلى الحوار، ما يشير إلى أن الحوار استمرار للحرب بوسائل أخرى تكون أدنى كلفة. وأنه يندرج في تكتيك العزل وتقطيع الأوصال نفسه الذي تعتمده السلطات في مواجهة بؤر الاحتجاج الأنشط، على نحو ما فعلت في درعا ودوما وحمص وبانياس وتلكلخ.
يوم الجمعة الأخيرة، والتي سماها المحتجون جمعة آزادي (الحرية)، تعاملت قوات الجيش والأمن بالرصاص مع جميع بؤر التظاهرات، عدا تلك التي جرت داخل دمشق. فأوقعت 34 قتيلا، وهو عدد مرشح للزيادة بحساب المصابين إصابة خطيرة. وهذا القمع يجعل الدعوة إلى الحوار غير ذات مصداقية، ويوحي بأنها أداة إضافية في مواجهة الانتفاضة في مطلع شهرها الثالث.
وتستفيد السلطات السورية من الدعوة إلى الحوار بالتغطيةَ على قمع الاحتجاجات السلمية، والإيحاءَ أنها تعترف بمطالب المحتجين، وأنها تتعامل معهم سياسيا وسلميا، أما العمليات العسكرية فلمواجهة من تسميهم بالمسلحين أو "الإرهابيين".
وتستفيد ثانيا بتخفيف الضغوط الدولية المتصاعدة، فلقد بات الرئيس السوري مستهدفا شخصيا، ويجري حديث عن عقوبات أخرى قد تعرض على مجلس الأمن، وتحريك محكمة الجنايات الدولية. لكن لا يبدو أن أيا من القوى الدولية التي يهتم النظام لمواقفها قد اهتمت بهذه الدعوة، أو اعتبرتها خطوة إيجابية.
وثالثا، العمل على شق صفوف المعارضة، باستقطاب قطاعات تعودت القبول بالأوضاع القائمة، ومن ثم تستطيع السلطات وصف المتشككين في الحوار والمعترضين عليه بالمتطرفين، وتحدث تصدعات داخل الحركة الاحتجاجية، ثم تعلن أمام الداخل والخارج بأن ليس لها شريكا تحاوره على مخرج من الأزمة الراهنة.
رابعا، قد تجعل الدعوة إلى الحوار السلطات تكسب بعض المترددين، ممن يريدون شيئا إيجابيا، ولو شكليا، كي ينحازوا إلى صف النظام.
لكن الواضح أنه بعد أكثر من أسبوع على الدعوة للحوار لم تتوقف الانتفاضة الميدانية، بل كانت مواطن الاحتجاج تتسع وعدد المحتجين يكبر، مع ملاحظة أن بعض بؤر الاحتجاج تتجه شمالا، وتقترب من حلب.
وعلى كل حال، سارعت "لجان التنسيق المحلية"، وهي القيادة الميدانية للانتفاضة، إلى إصدار بيان يوم 15 مايو/أيار، رأت فيه أنه من غير المقبول سياسيا وأخلاقيا البدء بأي حوار قبل وقف القتل والعنف المستخدم ضد المتظاهرين السلميين، وفك الحصار المفروض على المحافظات والمدن السورية، وإطلاق سراح المتظاهرين السلميين والمعتقلين السياسيين، ووقف ملاحقة المتظاهرين والنشطاء السياسيين والحقوقيين، وعدم التعرض للمظاهرات السلمية بأي شكل من أشكال المنع أو القمع، وتحمّل الدولة السورية مسؤوليتها في ضمان سلامة المتظاهرين، ووقف كافة أشكال حملات التجييش والتخوين والكذب الإعلامية المنهجية التي تمارسها وسائل الإعلام الحكومية وشبه الحكومية، والسماح بدخول وكالات الأنباء العربية والعالمية لتغطية ما يحدث في البلاد. كما رأى بيان اللجان أن الحوار الوطني يجب أن يقوم على أسس واضحة، مثل عدم تجزئة الحوار إلى حوارات متعددة تتم في كل محافظة أو منطقة على حدة، ووجوب تمثيل الشرائح والقطاعات كافة بممثليها الذين يتم اختيارهم بشكل حر على قدم المساواة والندية، ومع وجود جدول أعمال محدد يتم الحوار عليه، وسقف زمني محدد بشكل مسبق للحوار، وأن يكون الحوار علنيا، وتغطيه وسائل الإعلام المختلفة.
من ناحية أخرى، لا يبدو أنه كان لدعوة الحوار تأثير يذكر على تشتيت الطيف المعارض التقليدي، لأن قمع الاحتجاجات جعلها تتشك في جدية السلطات، ثم إن ديناميكية الانتفاضة وتوسعها ضيقت الفوارق المحتملة في صفوف المعارضة.
في المحصلة فإن دعوة السلطات إلى الحوار مع استمرار القمع تجعلها أشبه بالمناورة في أعين المعارضة والمحتجين. وتنزع عن النظام الحد الأدنى من الصدقية. وبالتالي لن تحقق السلطات أيا من الأهداف التي تنشدها والمتمثلة في
وقف الاحتجاجات بكلفة أقل وشق صف المعارضة وكسب العطف الدولي.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
وقع هذا بينما كان وزير الإعلام السوري يعلن عزم السلطات إطلاق حوار وطني في المحافظات كافة. لكن عددا من المراقبين يعتبرونه حوارا دون سياسي، يتمثل في نوع من مزج آراء ومطالب جماعات محلية، فهو أدنى مرتبة حتى من تلك اللقاءات التي يجريها الرئيس السوري بشار الأسد مع وفود من أعيان المحافظات والشخصيات النافذة في بيئاتها المحلية. فهو لا يتعلق بحوار مع المعارضة أو مع الانتفاضة. وفي جمع السلطات بين العمليات الأمنية وبين الدعوة إلى الحوار، ما يشير إلى أن الحوار استمرار للحرب بوسائل أخرى تكون أدنى كلفة. وأنه يندرج في تكتيك العزل وتقطيع الأوصال نفسه الذي تعتمده السلطات في مواجهة بؤر الاحتجاج الأنشط، على نحو ما فعلت في درعا ودوما وحمص وبانياس وتلكلخ.
يوم الجمعة الأخيرة، والتي سماها المحتجون جمعة آزادي (الحرية)، تعاملت قوات الجيش والأمن بالرصاص مع جميع بؤر التظاهرات، عدا تلك التي جرت داخل دمشق. فأوقعت 34 قتيلا، وهو عدد مرشح للزيادة بحساب المصابين إصابة خطيرة. وهذا القمع يجعل الدعوة إلى الحوار غير ذات مصداقية، ويوحي بأنها أداة إضافية في مواجهة الانتفاضة في مطلع شهرها الثالث.
وتستفيد السلطات السورية من الدعوة إلى الحوار بالتغطيةَ على قمع الاحتجاجات السلمية، والإيحاءَ أنها تعترف بمطالب المحتجين، وأنها تتعامل معهم سياسيا وسلميا، أما العمليات العسكرية فلمواجهة من تسميهم بالمسلحين أو "الإرهابيين".
وتستفيد ثانيا بتخفيف الضغوط الدولية المتصاعدة، فلقد بات الرئيس السوري مستهدفا شخصيا، ويجري حديث عن عقوبات أخرى قد تعرض على مجلس الأمن، وتحريك محكمة الجنايات الدولية. لكن لا يبدو أن أيا من القوى الدولية التي يهتم النظام لمواقفها قد اهتمت بهذه الدعوة، أو اعتبرتها خطوة إيجابية.
وثالثا، العمل على شق صفوف المعارضة، باستقطاب قطاعات تعودت القبول بالأوضاع القائمة، ومن ثم تستطيع السلطات وصف المتشككين في الحوار والمعترضين عليه بالمتطرفين، وتحدث تصدعات داخل الحركة الاحتجاجية، ثم تعلن أمام الداخل والخارج بأن ليس لها شريكا تحاوره على مخرج من الأزمة الراهنة.
رابعا، قد تجعل الدعوة إلى الحوار السلطات تكسب بعض المترددين، ممن يريدون شيئا إيجابيا، ولو شكليا، كي ينحازوا إلى صف النظام.
لكن الواضح أنه بعد أكثر من أسبوع على الدعوة للحوار لم تتوقف الانتفاضة الميدانية، بل كانت مواطن الاحتجاج تتسع وعدد المحتجين يكبر، مع ملاحظة أن بعض بؤر الاحتجاج تتجه شمالا، وتقترب من حلب.
وعلى كل حال، سارعت "لجان التنسيق المحلية"، وهي القيادة الميدانية للانتفاضة، إلى إصدار بيان يوم 15 مايو/أيار، رأت فيه أنه من غير المقبول سياسيا وأخلاقيا البدء بأي حوار قبل وقف القتل والعنف المستخدم ضد المتظاهرين السلميين، وفك الحصار المفروض على المحافظات والمدن السورية، وإطلاق سراح المتظاهرين السلميين والمعتقلين السياسيين، ووقف ملاحقة المتظاهرين والنشطاء السياسيين والحقوقيين، وعدم التعرض للمظاهرات السلمية بأي شكل من أشكال المنع أو القمع، وتحمّل الدولة السورية مسؤوليتها في ضمان سلامة المتظاهرين، ووقف كافة أشكال حملات التجييش والتخوين والكذب الإعلامية المنهجية التي تمارسها وسائل الإعلام الحكومية وشبه الحكومية، والسماح بدخول وكالات الأنباء العربية والعالمية لتغطية ما يحدث في البلاد. كما رأى بيان اللجان أن الحوار الوطني يجب أن يقوم على أسس واضحة، مثل عدم تجزئة الحوار إلى حوارات متعددة تتم في كل محافظة أو منطقة على حدة، ووجوب تمثيل الشرائح والقطاعات كافة بممثليها الذين يتم اختيارهم بشكل حر على قدم المساواة والندية، ومع وجود جدول أعمال محدد يتم الحوار عليه، وسقف زمني محدد بشكل مسبق للحوار، وأن يكون الحوار علنيا، وتغطيه وسائل الإعلام المختلفة.
من ناحية أخرى، لا يبدو أنه كان لدعوة الحوار تأثير يذكر على تشتيت الطيف المعارض التقليدي، لأن قمع الاحتجاجات جعلها تتشك في جدية السلطات، ثم إن ديناميكية الانتفاضة وتوسعها ضيقت الفوارق المحتملة في صفوف المعارضة.
في المحصلة فإن دعوة السلطات إلى الحوار مع استمرار القمع تجعلها أشبه بالمناورة في أعين المعارضة والمحتجين. وتنزع عن النظام الحد الأدنى من الصدقية. وبالتالي لن تحقق السلطات أيا من الأهداف التي تنشدها والمتمثلة في
وقف الاحتجاجات بكلفة أقل وشق صف المعارضة وكسب العطف الدولي.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات