على غرار الدول العربية الأخرى، تجتاح المغرب موجة احتجاجية تطالب بالتغيير، هذه الموجة تستلهم أساسا ثورتي تونس ومصر وتؤمن بأن الفرصة أصبحت مواتية لتحريك الشارع من أجل الضغط على النظام السياسي الحاكم للانخراط في مسلسل إصلاحات مؤسساتية وسياسية عميقة، وقد عبّرت هذه الموجة عن نفسها من خلال نداء وجه للمغاربة للتظاهر يوم 20 فبراير/شباط 2011، هذا التاريخ أصبح مرتبطا بالحركة الاحتجاجية الداعية إلى التغيير، والتي تسمى "حركة شباب 20 فبراير". ومنذ الإعلان عن تنظيم التظاهرات في التاريخ المشار إليه انخرطت مجموعات حقوقية وسياسية في سلسلة وقفات نظمت في مختلف المدن المغربية، كما دعت حركة 20 فبراير إلى التظاهر يومي 20 مارس و24 أبريل /نيسان من السنة الجارية. وخلال هذه التظاهرات ظلت تتكاثر العديد من الأسئلة حول حظوظ نجاح هذه الحركة في إحداث تغيير عميق. وبعيدا عن الجدل الدائر بين اتجاهين: يدعو الأول إلى إمكانية نجاح التغيير في المغرب، ويذهب الثاني إلى التلويح بأطروحة الاستثناء المغربي، فإن المسار الذي اتخذته التظاهرات المنظمة من قبل حركة 20 فبراير وطبيعة المطالب المرفوعة تعقِّد مهمة الملاحظين في طرح الفرضيات الممكنة حول آفاق التغيير في المغرب.
إن نقطة البدء للحديث عن التغيير بالمغرب ترتبط بتحديد القوى التي تدعو إليه من جهة، والتعرف على حقيقة "حركة 20 فبراير" من جهة أخرى.
قوى التغيير: تجاوز الخطوط الإيديولوجية
من الثورة الافتراضية إلى تحريك الشارع
الملكية في ميزان التغيير
قوى التغيير: تجاوز الخطوط الإيديولوجية
هناك ثلاث قوى تدعو إلى التغيير في المغرب:
تتمثل الأولى في القوى الإسلامية خاصة جماعة العدل والإحسان وحزب البديل الحضاري الذي حلّته الحكومة في شهر فبراير /شباط 2008 وحزب الأمة غير المرخص له.
تتجسد الثانية في قوى اليسار الراديكالي التي تعبر عن نفسها حزبيا من خلال أحزاب سياسية أهمها حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي والحزب الاشتراكي الموحد وحزب النهج الديمقراطي، وتعبر عن نفسها حقوقيا من خلال الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
تتجلى الثالثة في القوى الأمازيغية، مع التذكير أن التيار الأمازيغي يتكون من ثلاث اتجاهات، الأول اتجاه مخزني يوالي السلطة السياسية الحاكمة، والثاني اتجاه ديمقراطي يناضل نشطاؤه داخل الأحزاب الديمقراطية التقدمية، والثالث أصولي يعلن عداؤه لكل ما يرمز إلى الإسلام والعروبة.
إن هذه القوى الثلاث كانت تدعو إلى التغيير منذ عقود غير أنها لم تنجح في التحول إلى سلطة مضادة للسلطة الرسمية وظلت حبيسة أنشطة النوادي وداخل أسوار الجامعة، وكانت تنزل إلى الشارع بين الفينة والأخرى للتعبير عن تضامنها مع القضايا العربية والإسلامية، وهنا تبرز أهمية حركة 20 فبراير التي دعت المغاربة إلى النزول إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير. فما مسار تشكل هذه الحركة وما هويتها؟
في ورقة تعريفية صادرة عن "حركة 20 فبراير" بتاريخ 16 فبراير /شباط 2011، تقدم الحركة نفسها باعتبارها حركة شباب مغربي مستقلة عن كل التنظيمات والأحزاب السياسية، تحمل حبا كبيرا لهذا الوطن، وهذا الحب هو الذي حرّك فيها الدافع للمطالبة بالتغيير من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، كما تعتبر الحركة نفسها امتدادا طبيعيا للحركات الاحتجاجية التي يعرفها المغرب، وكتعبير عن تفاعل شباب الإنترنت مع هذه الحركية، وهو تفاعل عبر عن نفسه من خلال تشكيل مجموعات افتراضية عبر خدمة "الفايسبوك" من بينها مجموعة "مغاربة يتحاورون مع الملك".
قبل الإعلان عن تشكيل "حركة 20 فبراير"، بادرت مجموعة شبابية افتراضية بتاريخ 27 يناير /كانون الثاني 2011 إلى تحديد يوم 20 فبراير يوما للتظاهر السلمي في مختلف المدن المغربية؛ وأطلقت هذه المجموعة على نفسها اسم "حركة حرية وديمقراطية الآن"، وقد أعلن عن ميلاد هذه الحركة على أرضية خمسة مطالب:
إلغاء الدستور الحالي وتعيين لجنة تأسيسية من كفاءات البلد النزيهة لوضع دستور جديد يضع الملكية في حجمها الطبيعي.
حل البرلمان والحكومة والأحزاب التي ساهمت في ترسيخ الفساد السياسي.
القيام بإجراءات فورية حقيقية وملموسة للتخفيف من معاناة الشعب المغربي وإحداث صندوق عاجل للتعويض عن البطالة.
إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين.
تعيين حكومة مؤقتة تقوم بالتدبير المؤقت في انتظار وضع الدستور وتوافق الهيئات والفعاليات النزيهة من كافة فئات الشعب على ما يجب القيام به في إطار العقد المجتمعي الجديد بين الملكية والمجتمع (البيان الأول لـ"حركة حرية وديمقراطية الآن" بتاريخ 27 يناير /كانون الثاني 2011).
وقد عرفت "حركة حرية وديمقراطية الآن" نفسها بكونها حركة مغربية ديمقراطية مستقلة تعبر عن تطلعات جميع من يؤمن بانتمائه لهذه الأرض، وما تحمله من تنوع جغرافي وثقافي تحت القيم المقدسة لحقوق الإنسان في الحرية والاختلاف وإرادة العيش المشترك، وتدعو الملك إلى مواكبة التحولات العالمية في التغيير وتحجيم تأثير الاستئصالين ذوي المقاربات الأمنية القديمة الضيقة (البيان الثاني لـ"حركة حرية وديمقراطية الآن" بتاريخ 30 يناير /كانون الثاني 2011).
في سياق الدعوة للتظاهرات يوم 20 فبراير /شباط، تشكلت حركتان انطلاقا من مجموعتين شبابيتين افتراضيتين التحقتا بـ"حركة حرية وديمقراطية الآن"، وهاتان الحركتان هما "حركة الشعب يريد التغيير" و"حركة الانتفاضة من أجل الكرامة"، وقد أصدرت هذه الحركات الثلاث بيانا مشتركا يوم 15 فبراير /شباط 2011، وأطلقت على نفسها اسم "مجموعات شباب 20 فبراير" وقد أبرزت مواقفها كالتالي:
اعتبار التظاهر السلمي يوم 20 فبراير /شباط تظاهرا يهدف إلى المطالبة بإحداث التغييرات الدستورية العميقة والجذرية بنقل المغرب نحو نظام ملكي برلماني.
التحذير من محاولات الركوب على المطالب الواضحة والسقف السياسي للتظاهر.
دعوة عموم المغاربة إلى الخروج للتظاهر السلمي في إطار الانضباط والمسؤولية.
مناشدة المثقفين والفاعلين الجمعويين والغيورين الخروج عن الصمت والعمل على تحقيق التغيير المنشود ( بيان "مجموعات شباب 20 فبراير" بتاريخ 15 فبراير/شباط 2011).
بعد يوم من إصدار الحركات الثلاث لبيان مشترك باسم "مجموعات شباب 20 فبراير"، ستتوحد هذه الحركات في اليوم الموالي أي 16 فبراير /شباط 2011 فيما بينها ليظهر لأول مرة اسم "حركة شباب 20 فبراير" والتي حددت مطالبها في:
إقرار دستور ديمقراطي يمثل الإرادة الحقيقة للشعب.
حل الحكومة والبرلمان وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة تخضع لإرادة الشعب.
قضاء مستقل ونزيه.
محاكمة المتورطين في قضايا الفساد واستغلال النفوذ ونهب خيرات الوطن.
الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية والاهتمام بخصوصيات الهوية المغربية لغة وثقافة وتاريخا.
إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي ومحاكمة المسئولين (بيان حركة شباب 20 فبراير بتاريخ 16 فبراير/شباط 2011).
من الثورة الافتراضية إلى تحريك الشارع
ما هو السبب الذي ساهم في دفع بعض المجموعات الشبابية الافتراضية إلى التحول وفي ظرف قياسي إلى "حركة شباب 20 فبراير"؟
يكمن السبب الرئيسي في المساندة التي حظيت بها الدعوة إلى التظاهر منذ أطلقتها "حركة حرية وديمقراطية الآن" بتاريخ 27 يناير/كانون الثاني 2011، فقد سارعت "الحركة الحقوقية المغربية" منذ 2 فبراير /شباط 2011 إلى التعبير عن هذه المساندة، كما دعت هذه الحركة الحقوقية التي تضم 20 منظمة حقوقية وجمعوية بعد أسبوعين من ذلك التاريخ إلى:
دعم ومساندة "حركة 20 فبراير" ولكل الحركات الاحتجاجية السلمية المعلنة من أجل الحقوق والمطالب المشروعة للشعب المغربي، وعلى رأسها تغيير الدستور بهدف إقرار دستور ديمقراطي.
دعوة السلطات المغربية إلى التعامل بشكل حضاري مع "مبادرة 20 فبراير"، وضرورة احترام إرادة المواطنات والمواطنين في الاحتجاج السلمي، وضمان حقهم في التعبير بشكل حضاري عن تطلعاتهم في وطن ينعمون فيه بالحرية والكرامة والمواطنة ( بلاغ "الحركة الحقوقية المغربية" بتاريخ 14 فبراير /شباط 2011).
إضافة إلى مساندة الحركة الحقوقية المغربية لـ"حركة 20 فبراير"، دخلت جماعة العدل والإحسان على الخط لتدعو المغاربة إلى التظاهر والنزول إلى الشارع، وفوّضت قطاعها الشبابي حق اختيار الأساليب والأشكال التي يراها مناسبة للمشاركة في تظاهرات "20 فبراير".
لقد طرحت تساؤلات حول من يقف وراء "حركة شباب 20 فبراير"، هل هي حركة مستقلة عن التنظيمات السياسية كما ورد ذلك في بيانها الصادر بتاريخ 16 فبراير /شباط 2011 أم أنها امتداد للقوى المطالبة بالتغيير في المغرب، إسلامية كانت أم يسارية أم أمازيغية؟
وبصرف النظر عن الجواب فإن "حركة شباب 20 فبراير" لا يمكن فصلها في الظرف الراهن عن القوى الداعمة لها وذلك من خلال المعطيين الآتيين:
يتعلق المعطى الأول بكون مطالب هذه الحركة تطورت في سياق دخول قوى أخرى على الخط، فالمجموعات الشبابية الافتراضية في البداية لم تكن تطالب بانتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور ديمقراطي جديد، فعلى سبيل المثال كان مطلب حركة "حرية وديمقراطية الآن" في بيانها الأول الصادر بتاريخ 27 يناير /كانون الثاني 2011، هو تعيين لجنة تأسيسية ليصبح المطلب بعد ذلك انتخاب مجلس تأسيسي، كما أن هذه الحركة كانت تطالب بوضع الملكية في حجمها الطبيعي في الدستور الجديد ثم أصبح المطلب بعد ذلك في بيان مجموعات "شباب 20 فبراير"، بتاريخ 15 فبراير /شباط 2011، هو إحداث التغييرات الدستورية والسياسية الجذرية بنقل المغرب نحو نظام ملكي برلماني. غير أن التصريح الصحفي للهيئات الحقوقية المغربية المدلى به يوم 17 فبراير /شباط 2011 ، والمطالب بإقرار نظام برلماني ديمقراطي يكرس فصل السلطات، سيدفع "حركة 20 فبراير" إلى المطالبة بالملكية البرلمانية.
يرتبط المعطى الثاني بكون المشاركين في تظاهرات 20 فبراير /شباط وتظاهرات 20 مارس /آذار وتظاهرات 24 أبريل /نيسان، ينتمون تحديدا إلى جماعة العدل والإحسان ونشطاء اليسار الراديكالي، بحيث أضحى من الصعب التمييز بينهم وبين المشاركين من "حركة شباب 20 فبراير".
في إطار المعطى الثاني كان من الضروري التشديد على القيمة المضافة لـ"حركة شباب 20 فبراير" حيث استطاعت أن تجسر الفجوة بين قوى التغيير السياسي، خاصة بين نشطاء جماعة العدل والإحسان ونشطاء اليسار الراديكالي، فهؤلاء جميعا احترموا سقف المطالب المتفق عليها من قبيل المطالبة بالملكية البرلمانية عبر إقرار دستور ديمقراطي والمطالبة بمحاربة الاستبداد والفساد، تاركين وراءهم مرجعياتهم الإيديولوجية المتباينة؛ فلم تعد هناك مطالبة بإقامة الدولة الإسلامية أو إقامة الدولة الاشتراكية وإنما أصبح هناك تشديد على إقامة الدولة المدنية العصرية: دولة الكرامة والمواطنة.
لا أحد يشكك في الدينامكية التي أطلقتها "حركة شباب 20 فبراير" بالمغرب مستفيدة مما جرى خاصة في تونس ومصر، هذه الدينامكية التي أفضت إلى دفع المؤسسة الملكية إلى فتح ورشات الإصلاحات الدستورية من خلال خطاب 9 مارس /آذار، وتشكيل لجنة استشارية لتعديل الدستور، واتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات لتكريس آليات ممارسة الحريات الفردية والجماعية، من قبيل تحويل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وتحويل ديوان المظالم إلى مؤسسة الوسيط، وإحداث المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان. كما اتخذت إجراءات كانت ضمن مطالب "حركة شباب 20 فبراير" كالعفو عن بعض المعتقلين السياسيين وإحالة بعض المتهمين بنهب المال العام على القضاء.
الملكية في ميزان التغيير
لكن هناك سؤالا لا زال يفرض نفسه حول آفاق التغيير بالمغرب: هل التغيير سيكتسي بعدا جذريا وعميقا يفضي إلى إقامة ملكية برلمانية أم أن التغيير لن يتجاوز المنطق الإصلاحي الذي لن يمس في نهاية المطاف بجوهر سلطة المؤسسة الملكية؟
إن الجواب يرتبط بالتعرف على العوامل الدافعة أو الكابحة للتغيير، بالنسبة للعوامل الدافعة يمكن الإشارة إلى صنفين من العوامل: عوامل خارجية وأخرى داخلية.
تتجلى العوامل الخارجية في الآتي:
ضرورة التزام المغرب بالوفاء بدفتر التزاماته تجاه الاتحاد الأوروبي، فمعلوم أن هذا الأخير منح المغرب وضعا متقدما في علاقاته به في أكتوبر /تشرين الأول 2008، وهذا الوضع المتقدم يرتب التزامات على المغرب فيما يتعلق بدمقرطة مؤسساته واحترام الحريات وإقامة دولة القانون، كما يطالب الملك بالابتعاد عن التدخل في المجال الاقتصادي بفك ارتباطه بعالم المال والإعمال، وهي المطالب التي تكررت عند انعقاد قمة غرناطة بين المغرب والاتحاد الأوروبي في 7 مارس /آذار 2010. وكان الملك قد سبق انعقاد قمة غرناطة بالإعلان من خلال خطاب 3 يناير /كانون الثاني 2010 انخراط المغرب في مسلسل الإصلاحات المؤسساتية العميقة عبر الإعداد لإقامة نظام جهوي جديد.
محاولة الحصول على دعم الإدارة الأمريكية لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء، خاصة أن إدارة أوباما ربطت دعمها لهذا المقترح بقيام الملك بإصلاحات سياسية حقيقية.
هذا بالنسبة للعوامل الخارجية، أما بالنسبة للعوامل الداخلية فقد أدركت دوائر القرار في المغرب بعد قراءتها للتجربتين التونسية والمصرية أن مطالب الشعب المغربي ليست ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية فقط بل هي مطالب ذات طبيعة سياسية أيضا، فمنذ وصول محمد السادس إلى الحكم سنة 1999 ظل يمنح الأولوية لما هو اجتماعي، كما عبرت عن ذلك بوضوح "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" المعلن عنها في خطاب 18 مايو /أيار 2005، غير أن ثورتي تونس ومصر جعلتا دوائر القرار المغربية تنتبه إلى وجود طلب قوي على الديمقراطية من قبل فئات أخرى لا تطالب ضرورة بالخبز أو العمل، وبتعبير آخر إذا كانت الفئات الفقيرة والمهمشة التي تعاني من الإقصاء الاجتماعي تطالب بتحسين أوضاعها الاجتماعية، فإن شرائح كثيرة داخل الطبقة الوسطى تعاني من إقصاء ذي طبيعة أخرى وهو الإقصاء السياسي، وتطالب بحقها في المشاركة في اتخاذ القرار عبر إقامة نظام سياسي ديمقراطي.
غير أنه في مقابل هذه العوامل الدافعة للتغيير توجد عوامل كابحة له، ونذكر على سبيل المثال منها:
وجود قوى سياسية كثيرة لا رغبة لها في ذهاب الإصلاحات إلى مدى بعيد، وهي قوى تستفيد من الوضع السائد اقتصاديا وسياسيا، ولا مصلحة لها في أي تغيير. وفي مقدمة هذه القوى العديد من الأحزاب السياسية التي لم تضع أبدا مسألة الإصلاحات الدستورية ضمن أولوياتها، وعبّرت منذ البداية عن مناهضتها لـ"حركة شباب 20 فبراير"، ورفضت النزول إلى الشارع. وحتى عندما قرر الملك في خطاب 9 مارس /آذار 2011 إدخال تعديلات عميقة على الدستور وشكّل لجنة لتعديله، فان هذه الأحزاب السياسية والتي طُلب منها تقديم مقترحاتها بشأن تعديل الدستور لم تتجاوز سقف ما تضمنه خطاب 9 مارس /آذار 2011، رغم أن الملك أوحى في خطابه بضرورة الاجتهاد بما يفيد عدم التقيد ضرورة بالسقف المحدد.
وجود قوى دينية محافظة ترفض الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي بالنسبة لسلطة الملك، وقد جسّد بيان المجلس الأعلى للعلماء الذي يرأسه الملك بوصفه أمير المؤمنين، والصادر بتاريخ 30 مارس /آذار 2011، هذا الموقف بوضوح حيث شدّد البيان على الدور المركزي الذي يلعبه العلماء باعتبارهم ضمير الأمة. وبتعبير آخر، فإن العلماء يجعلون تمثيليتهم فوق تمثيلية البرلمانيين، كما رفض البيان اختزال وظيفة إمارة المؤمنين في تدبير الشأن الديني فقط بل تشمل تدبير الشأن السياسي كذلك، وهذا رد واضح على كل القوى السياسية التي تطالب بإعادة النظر أو إلغاء مقتضيات الفصل 19 من الدستور الحالي، وانتقد البيان ضمنيا "حركة شباب 20 فبراير" عندما اعتبر الفساد العقدي والأخلاقي أخطر من الفساد السياسي والمالي.
وجود انقسام بين الشباب شجّعته بعض القوى المناهضة للتغيير، حيث أصبحنا أمام حركتين أولاها "حركة شباب 20 فبراير" التي تطالب بإقامة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، و"حركة 9 مارس" التي تدعو إلى الإبقاء على الملكية الفاعلة حيث يسود الملك ويحكم.
يبدو أن العوامل الكابحة للتغيير تتفوق على العوامل الدافعة له، خاصة وأن "حركة شباب 20 فبراير" لم تتمكن من تحويل الشارع إلى سلطة مضادة للسلطة الرسمية، كما أن القوى المطالبة بالتغيير الداعمة لـ"حركة شباب 20 فبراير" لم تنجح لحد الآن في تحويل مواقفها الراديكالية إلى إستراتيجية عمل بإمكانها أن تساهم في تعديل موازين القوى لصالحها، وفي ظل هذا الوضع تبدو عملية التغيير محكومة بعوامل خارجية دون إهمال بعض العوامل الداخلية، وهو وضع سيفضي لا محالة إلى القطع مع الملكية التنفيذية ولكن دون الوصول إلى إقامة ملكية برلمانية. وبتعبير آخر، فالمغرب من خلال عملية مراجعة الدستور سيقيم ملكية متوازنة لا تمس بالدور المحوري للمؤسسة الملكي
محمد ضريف أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني-المغرب
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
إن نقطة البدء للحديث عن التغيير بالمغرب ترتبط بتحديد القوى التي تدعو إليه من جهة، والتعرف على حقيقة "حركة 20 فبراير" من جهة أخرى.
قوى التغيير: تجاوز الخطوط الإيديولوجية
من الثورة الافتراضية إلى تحريك الشارع
الملكية في ميزان التغيير
قوى التغيير: تجاوز الخطوط الإيديولوجية
هناك ثلاث قوى تدعو إلى التغيير في المغرب:
تتمثل الأولى في القوى الإسلامية خاصة جماعة العدل والإحسان وحزب البديل الحضاري الذي حلّته الحكومة في شهر فبراير /شباط 2008 وحزب الأمة غير المرخص له.
تتجسد الثانية في قوى اليسار الراديكالي التي تعبر عن نفسها حزبيا من خلال أحزاب سياسية أهمها حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي والحزب الاشتراكي الموحد وحزب النهج الديمقراطي، وتعبر عن نفسها حقوقيا من خلال الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
تتجلى الثالثة في القوى الأمازيغية، مع التذكير أن التيار الأمازيغي يتكون من ثلاث اتجاهات، الأول اتجاه مخزني يوالي السلطة السياسية الحاكمة، والثاني اتجاه ديمقراطي يناضل نشطاؤه داخل الأحزاب الديمقراطية التقدمية، والثالث أصولي يعلن عداؤه لكل ما يرمز إلى الإسلام والعروبة.
إن هذه القوى الثلاث كانت تدعو إلى التغيير منذ عقود غير أنها لم تنجح في التحول إلى سلطة مضادة للسلطة الرسمية وظلت حبيسة أنشطة النوادي وداخل أسوار الجامعة، وكانت تنزل إلى الشارع بين الفينة والأخرى للتعبير عن تضامنها مع القضايا العربية والإسلامية، وهنا تبرز أهمية حركة 20 فبراير التي دعت المغاربة إلى النزول إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير. فما مسار تشكل هذه الحركة وما هويتها؟
في ورقة تعريفية صادرة عن "حركة 20 فبراير" بتاريخ 16 فبراير /شباط 2011، تقدم الحركة نفسها باعتبارها حركة شباب مغربي مستقلة عن كل التنظيمات والأحزاب السياسية، تحمل حبا كبيرا لهذا الوطن، وهذا الحب هو الذي حرّك فيها الدافع للمطالبة بالتغيير من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، كما تعتبر الحركة نفسها امتدادا طبيعيا للحركات الاحتجاجية التي يعرفها المغرب، وكتعبير عن تفاعل شباب الإنترنت مع هذه الحركية، وهو تفاعل عبر عن نفسه من خلال تشكيل مجموعات افتراضية عبر خدمة "الفايسبوك" من بينها مجموعة "مغاربة يتحاورون مع الملك".
قبل الإعلان عن تشكيل "حركة 20 فبراير"، بادرت مجموعة شبابية افتراضية بتاريخ 27 يناير /كانون الثاني 2011 إلى تحديد يوم 20 فبراير يوما للتظاهر السلمي في مختلف المدن المغربية؛ وأطلقت هذه المجموعة على نفسها اسم "حركة حرية وديمقراطية الآن"، وقد أعلن عن ميلاد هذه الحركة على أرضية خمسة مطالب:
إلغاء الدستور الحالي وتعيين لجنة تأسيسية من كفاءات البلد النزيهة لوضع دستور جديد يضع الملكية في حجمها الطبيعي.
حل البرلمان والحكومة والأحزاب التي ساهمت في ترسيخ الفساد السياسي.
القيام بإجراءات فورية حقيقية وملموسة للتخفيف من معاناة الشعب المغربي وإحداث صندوق عاجل للتعويض عن البطالة.
إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين.
تعيين حكومة مؤقتة تقوم بالتدبير المؤقت في انتظار وضع الدستور وتوافق الهيئات والفعاليات النزيهة من كافة فئات الشعب على ما يجب القيام به في إطار العقد المجتمعي الجديد بين الملكية والمجتمع (البيان الأول لـ"حركة حرية وديمقراطية الآن" بتاريخ 27 يناير /كانون الثاني 2011).
وقد عرفت "حركة حرية وديمقراطية الآن" نفسها بكونها حركة مغربية ديمقراطية مستقلة تعبر عن تطلعات جميع من يؤمن بانتمائه لهذه الأرض، وما تحمله من تنوع جغرافي وثقافي تحت القيم المقدسة لحقوق الإنسان في الحرية والاختلاف وإرادة العيش المشترك، وتدعو الملك إلى مواكبة التحولات العالمية في التغيير وتحجيم تأثير الاستئصالين ذوي المقاربات الأمنية القديمة الضيقة (البيان الثاني لـ"حركة حرية وديمقراطية الآن" بتاريخ 30 يناير /كانون الثاني 2011).
في سياق الدعوة للتظاهرات يوم 20 فبراير /شباط، تشكلت حركتان انطلاقا من مجموعتين شبابيتين افتراضيتين التحقتا بـ"حركة حرية وديمقراطية الآن"، وهاتان الحركتان هما "حركة الشعب يريد التغيير" و"حركة الانتفاضة من أجل الكرامة"، وقد أصدرت هذه الحركات الثلاث بيانا مشتركا يوم 15 فبراير /شباط 2011، وأطلقت على نفسها اسم "مجموعات شباب 20 فبراير" وقد أبرزت مواقفها كالتالي:
اعتبار التظاهر السلمي يوم 20 فبراير /شباط تظاهرا يهدف إلى المطالبة بإحداث التغييرات الدستورية العميقة والجذرية بنقل المغرب نحو نظام ملكي برلماني.
التحذير من محاولات الركوب على المطالب الواضحة والسقف السياسي للتظاهر.
دعوة عموم المغاربة إلى الخروج للتظاهر السلمي في إطار الانضباط والمسؤولية.
مناشدة المثقفين والفاعلين الجمعويين والغيورين الخروج عن الصمت والعمل على تحقيق التغيير المنشود ( بيان "مجموعات شباب 20 فبراير" بتاريخ 15 فبراير/شباط 2011).
بعد يوم من إصدار الحركات الثلاث لبيان مشترك باسم "مجموعات شباب 20 فبراير"، ستتوحد هذه الحركات في اليوم الموالي أي 16 فبراير /شباط 2011 فيما بينها ليظهر لأول مرة اسم "حركة شباب 20 فبراير" والتي حددت مطالبها في:
إقرار دستور ديمقراطي يمثل الإرادة الحقيقة للشعب.
حل الحكومة والبرلمان وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة تخضع لإرادة الشعب.
قضاء مستقل ونزيه.
محاكمة المتورطين في قضايا الفساد واستغلال النفوذ ونهب خيرات الوطن.
الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية والاهتمام بخصوصيات الهوية المغربية لغة وثقافة وتاريخا.
إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي ومحاكمة المسئولين (بيان حركة شباب 20 فبراير بتاريخ 16 فبراير/شباط 2011).
من الثورة الافتراضية إلى تحريك الشارع
ما هو السبب الذي ساهم في دفع بعض المجموعات الشبابية الافتراضية إلى التحول وفي ظرف قياسي إلى "حركة شباب 20 فبراير"؟
يكمن السبب الرئيسي في المساندة التي حظيت بها الدعوة إلى التظاهر منذ أطلقتها "حركة حرية وديمقراطية الآن" بتاريخ 27 يناير/كانون الثاني 2011، فقد سارعت "الحركة الحقوقية المغربية" منذ 2 فبراير /شباط 2011 إلى التعبير عن هذه المساندة، كما دعت هذه الحركة الحقوقية التي تضم 20 منظمة حقوقية وجمعوية بعد أسبوعين من ذلك التاريخ إلى:
دعم ومساندة "حركة 20 فبراير" ولكل الحركات الاحتجاجية السلمية المعلنة من أجل الحقوق والمطالب المشروعة للشعب المغربي، وعلى رأسها تغيير الدستور بهدف إقرار دستور ديمقراطي.
دعوة السلطات المغربية إلى التعامل بشكل حضاري مع "مبادرة 20 فبراير"، وضرورة احترام إرادة المواطنات والمواطنين في الاحتجاج السلمي، وضمان حقهم في التعبير بشكل حضاري عن تطلعاتهم في وطن ينعمون فيه بالحرية والكرامة والمواطنة ( بلاغ "الحركة الحقوقية المغربية" بتاريخ 14 فبراير /شباط 2011).
إضافة إلى مساندة الحركة الحقوقية المغربية لـ"حركة 20 فبراير"، دخلت جماعة العدل والإحسان على الخط لتدعو المغاربة إلى التظاهر والنزول إلى الشارع، وفوّضت قطاعها الشبابي حق اختيار الأساليب والأشكال التي يراها مناسبة للمشاركة في تظاهرات "20 فبراير".
لقد طرحت تساؤلات حول من يقف وراء "حركة شباب 20 فبراير"، هل هي حركة مستقلة عن التنظيمات السياسية كما ورد ذلك في بيانها الصادر بتاريخ 16 فبراير /شباط 2011 أم أنها امتداد للقوى المطالبة بالتغيير في المغرب، إسلامية كانت أم يسارية أم أمازيغية؟
وبصرف النظر عن الجواب فإن "حركة شباب 20 فبراير" لا يمكن فصلها في الظرف الراهن عن القوى الداعمة لها وذلك من خلال المعطيين الآتيين:
يتعلق المعطى الأول بكون مطالب هذه الحركة تطورت في سياق دخول قوى أخرى على الخط، فالمجموعات الشبابية الافتراضية في البداية لم تكن تطالب بانتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور ديمقراطي جديد، فعلى سبيل المثال كان مطلب حركة "حرية وديمقراطية الآن" في بيانها الأول الصادر بتاريخ 27 يناير /كانون الثاني 2011، هو تعيين لجنة تأسيسية ليصبح المطلب بعد ذلك انتخاب مجلس تأسيسي، كما أن هذه الحركة كانت تطالب بوضع الملكية في حجمها الطبيعي في الدستور الجديد ثم أصبح المطلب بعد ذلك في بيان مجموعات "شباب 20 فبراير"، بتاريخ 15 فبراير /شباط 2011، هو إحداث التغييرات الدستورية والسياسية الجذرية بنقل المغرب نحو نظام ملكي برلماني. غير أن التصريح الصحفي للهيئات الحقوقية المغربية المدلى به يوم 17 فبراير /شباط 2011 ، والمطالب بإقرار نظام برلماني ديمقراطي يكرس فصل السلطات، سيدفع "حركة 20 فبراير" إلى المطالبة بالملكية البرلمانية.
يرتبط المعطى الثاني بكون المشاركين في تظاهرات 20 فبراير /شباط وتظاهرات 20 مارس /آذار وتظاهرات 24 أبريل /نيسان، ينتمون تحديدا إلى جماعة العدل والإحسان ونشطاء اليسار الراديكالي، بحيث أضحى من الصعب التمييز بينهم وبين المشاركين من "حركة شباب 20 فبراير".
في إطار المعطى الثاني كان من الضروري التشديد على القيمة المضافة لـ"حركة شباب 20 فبراير" حيث استطاعت أن تجسر الفجوة بين قوى التغيير السياسي، خاصة بين نشطاء جماعة العدل والإحسان ونشطاء اليسار الراديكالي، فهؤلاء جميعا احترموا سقف المطالب المتفق عليها من قبيل المطالبة بالملكية البرلمانية عبر إقرار دستور ديمقراطي والمطالبة بمحاربة الاستبداد والفساد، تاركين وراءهم مرجعياتهم الإيديولوجية المتباينة؛ فلم تعد هناك مطالبة بإقامة الدولة الإسلامية أو إقامة الدولة الاشتراكية وإنما أصبح هناك تشديد على إقامة الدولة المدنية العصرية: دولة الكرامة والمواطنة.
لا أحد يشكك في الدينامكية التي أطلقتها "حركة شباب 20 فبراير" بالمغرب مستفيدة مما جرى خاصة في تونس ومصر، هذه الدينامكية التي أفضت إلى دفع المؤسسة الملكية إلى فتح ورشات الإصلاحات الدستورية من خلال خطاب 9 مارس /آذار، وتشكيل لجنة استشارية لتعديل الدستور، واتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات لتكريس آليات ممارسة الحريات الفردية والجماعية، من قبيل تحويل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وتحويل ديوان المظالم إلى مؤسسة الوسيط، وإحداث المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان. كما اتخذت إجراءات كانت ضمن مطالب "حركة شباب 20 فبراير" كالعفو عن بعض المعتقلين السياسيين وإحالة بعض المتهمين بنهب المال العام على القضاء.
الملكية في ميزان التغيير
لكن هناك سؤالا لا زال يفرض نفسه حول آفاق التغيير بالمغرب: هل التغيير سيكتسي بعدا جذريا وعميقا يفضي إلى إقامة ملكية برلمانية أم أن التغيير لن يتجاوز المنطق الإصلاحي الذي لن يمس في نهاية المطاف بجوهر سلطة المؤسسة الملكية؟
إن الجواب يرتبط بالتعرف على العوامل الدافعة أو الكابحة للتغيير، بالنسبة للعوامل الدافعة يمكن الإشارة إلى صنفين من العوامل: عوامل خارجية وأخرى داخلية.
تتجلى العوامل الخارجية في الآتي:
ضرورة التزام المغرب بالوفاء بدفتر التزاماته تجاه الاتحاد الأوروبي، فمعلوم أن هذا الأخير منح المغرب وضعا متقدما في علاقاته به في أكتوبر /تشرين الأول 2008، وهذا الوضع المتقدم يرتب التزامات على المغرب فيما يتعلق بدمقرطة مؤسساته واحترام الحريات وإقامة دولة القانون، كما يطالب الملك بالابتعاد عن التدخل في المجال الاقتصادي بفك ارتباطه بعالم المال والإعمال، وهي المطالب التي تكررت عند انعقاد قمة غرناطة بين المغرب والاتحاد الأوروبي في 7 مارس /آذار 2010. وكان الملك قد سبق انعقاد قمة غرناطة بالإعلان من خلال خطاب 3 يناير /كانون الثاني 2010 انخراط المغرب في مسلسل الإصلاحات المؤسساتية العميقة عبر الإعداد لإقامة نظام جهوي جديد.
محاولة الحصول على دعم الإدارة الأمريكية لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء، خاصة أن إدارة أوباما ربطت دعمها لهذا المقترح بقيام الملك بإصلاحات سياسية حقيقية.
هذا بالنسبة للعوامل الخارجية، أما بالنسبة للعوامل الداخلية فقد أدركت دوائر القرار في المغرب بعد قراءتها للتجربتين التونسية والمصرية أن مطالب الشعب المغربي ليست ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية فقط بل هي مطالب ذات طبيعة سياسية أيضا، فمنذ وصول محمد السادس إلى الحكم سنة 1999 ظل يمنح الأولوية لما هو اجتماعي، كما عبرت عن ذلك بوضوح "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" المعلن عنها في خطاب 18 مايو /أيار 2005، غير أن ثورتي تونس ومصر جعلتا دوائر القرار المغربية تنتبه إلى وجود طلب قوي على الديمقراطية من قبل فئات أخرى لا تطالب ضرورة بالخبز أو العمل، وبتعبير آخر إذا كانت الفئات الفقيرة والمهمشة التي تعاني من الإقصاء الاجتماعي تطالب بتحسين أوضاعها الاجتماعية، فإن شرائح كثيرة داخل الطبقة الوسطى تعاني من إقصاء ذي طبيعة أخرى وهو الإقصاء السياسي، وتطالب بحقها في المشاركة في اتخاذ القرار عبر إقامة نظام سياسي ديمقراطي.
غير أنه في مقابل هذه العوامل الدافعة للتغيير توجد عوامل كابحة له، ونذكر على سبيل المثال منها:
وجود قوى سياسية كثيرة لا رغبة لها في ذهاب الإصلاحات إلى مدى بعيد، وهي قوى تستفيد من الوضع السائد اقتصاديا وسياسيا، ولا مصلحة لها في أي تغيير. وفي مقدمة هذه القوى العديد من الأحزاب السياسية التي لم تضع أبدا مسألة الإصلاحات الدستورية ضمن أولوياتها، وعبّرت منذ البداية عن مناهضتها لـ"حركة شباب 20 فبراير"، ورفضت النزول إلى الشارع. وحتى عندما قرر الملك في خطاب 9 مارس /آذار 2011 إدخال تعديلات عميقة على الدستور وشكّل لجنة لتعديله، فان هذه الأحزاب السياسية والتي طُلب منها تقديم مقترحاتها بشأن تعديل الدستور لم تتجاوز سقف ما تضمنه خطاب 9 مارس /آذار 2011، رغم أن الملك أوحى في خطابه بضرورة الاجتهاد بما يفيد عدم التقيد ضرورة بالسقف المحدد.
وجود قوى دينية محافظة ترفض الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي بالنسبة لسلطة الملك، وقد جسّد بيان المجلس الأعلى للعلماء الذي يرأسه الملك بوصفه أمير المؤمنين، والصادر بتاريخ 30 مارس /آذار 2011، هذا الموقف بوضوح حيث شدّد البيان على الدور المركزي الذي يلعبه العلماء باعتبارهم ضمير الأمة. وبتعبير آخر، فإن العلماء يجعلون تمثيليتهم فوق تمثيلية البرلمانيين، كما رفض البيان اختزال وظيفة إمارة المؤمنين في تدبير الشأن الديني فقط بل تشمل تدبير الشأن السياسي كذلك، وهذا رد واضح على كل القوى السياسية التي تطالب بإعادة النظر أو إلغاء مقتضيات الفصل 19 من الدستور الحالي، وانتقد البيان ضمنيا "حركة شباب 20 فبراير" عندما اعتبر الفساد العقدي والأخلاقي أخطر من الفساد السياسي والمالي.
وجود انقسام بين الشباب شجّعته بعض القوى المناهضة للتغيير، حيث أصبحنا أمام حركتين أولاها "حركة شباب 20 فبراير" التي تطالب بإقامة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، و"حركة 9 مارس" التي تدعو إلى الإبقاء على الملكية الفاعلة حيث يسود الملك ويحكم.
يبدو أن العوامل الكابحة للتغيير تتفوق على العوامل الدافعة له، خاصة وأن "حركة شباب 20 فبراير" لم تتمكن من تحويل الشارع إلى سلطة مضادة للسلطة الرسمية، كما أن القوى المطالبة بالتغيير الداعمة لـ"حركة شباب 20 فبراير" لم تنجح لحد الآن في تحويل مواقفها الراديكالية إلى إستراتيجية عمل بإمكانها أن تساهم في تعديل موازين القوى لصالحها، وفي ظل هذا الوضع تبدو عملية التغيير محكومة بعوامل خارجية دون إهمال بعض العوامل الداخلية، وهو وضع سيفضي لا محالة إلى القطع مع الملكية التنفيذية ولكن دون الوصول إلى إقامة ملكية برلمانية. وبتعبير آخر، فالمغرب من خلال عملية مراجعة الدستور سيقيم ملكية متوازنة لا تمس بالدور المحوري للمؤسسة الملكي
محمد ضريف أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني-المغرب
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات