هارون المهدي ميغا
لن أتحدّث ـ هنا ـ عن وسائل الدعوة الإسلاميّة في غرب أفريقيا، ولا عن أساليبها ومراكزها، ولا عن الدعاة وطوائفهم..إلخ؛ فلذلك كله رجاله المتخصصون في شؤونها، الخبراء ببواطنها، وإنّما سأركز في هذه العجالة على أهمّ المعوّقات التي تواجه الدعوة الإسلاميّة المعاصرة في هذه المنطقة، والحلول المقترحة لها في قراءة لجزء من واقع هذه الدعوة، نرجو أن يكون فيها إسهام ـ بجهد المُقِلّ ـ في رسم مستقبل زاهر لازدهار الإسلام فيها؛ وسعي في تحقيق تأثير قويّ وعامّ للمؤسسات الإسلاميّة: الدعويّة، والثقافية والتربويّة، والاجتماعيّة، يستنهض جزءاً من تاريخ الإسلام الناصع، وحضارته الزاهية في هذه المنطقة لبناء مستقبل مشرق بإذن الله تعالى.
وقبل ذلك لا بدّ من أربع وقفات مهمّة:
الوقفة الأولى: أنّه لا يختلف اثنان على النجاح الكبير الذي حققته ـ ولا تزال تحققه ـ الحركة الإصلاحية الحديثة في ضوء الكتاب والسنّة، وتحققه الدعوة الإسلاميّة المعاصرة على مذهب أهل السنّة والجماعة في كلّ دول غرب أفريقيا، وعلى مختلف المستويات؛ برغم الصعوبات التي تواجه المسلمين، سواء ما كان منها خارجيّاً أم داخليّاً. فهذا النجاح ـ ولله الحمد ـ مما لا يخفى على ذي عينين، وقد تناقله الرُّكبان، وشهد به الأصحاب والأعداء؛ فكم تفاجأ به النصارى الذين حَلِموا بأن يحوِّلوا أفريقيا مع عام 2000م إلى قارة نصرانيّة؟! وكم مِنْ وثني أسلم؟! وكم من نصرانيّ أسلم؟! وكم من قرية أسلمت بكاملها؟! وكم من شخص تحوَّل عن البدع والخرافات؟! وكم من غافل تنبّه؟!.. إلخ.
الوقفة الثانية: هناك روافـد كثيـــرة، وعــــوامل عظيمة كان لها أكبر الأثر ـ بعد توفيق الله ـ في تحقيق تلك النجاحات الدعويّة الحديثة، وهذه النهضة الإسلاميّة المعاصرة، من أبرزها وأقواها(1):
1 - وفود الحجّ في العصر الحديث، وبخاصة أيّام الاستعمار وما بعده، والذين رجعوا إلى أوطانهم بعد أداء الفرض، يعززه ـ مِنْ جانب ـ ما صار للقب الحاجّ في القاموس الديني والاجتماعي في هذه المنطقة من أثر طيّب؛ بسبب ما يحمله في هذا القاموس من معاني الصلاح والبعد عن سفاسف الأمور من قول أو فعل، وإفادة الطيّبة، وحُسن السريرة، وأمن الجانب، وقوّة الشخصيّة، كلّ هذه الصفات ممّا اشتهر به الدعاة من أولئك الحجّاج، حتى صار من أساليب الإنكار والعيب: كيف تفعل هذا يا حاجّ؟(1) على اختلاف وتفاوت في استعمال هذا اللقب بين راضٍ به ومنكر له؛ لأنّه لم يرد عن السلف(2).
2 - خرّيجو حلقات العلم، ومدارسه في الحرمين الشريفين، ممن تعلّموا في مدارس الفلاح، والصولتيّة، ودار الحديث، أو في حلقات العلم بالمسجد الحرام والمسجد النبويّ(3)؛ فقد عادوا دعاة ومربّين، ومنهم مؤسسون للمدارس الإسلاميّة العربية النظاميّة الأولى في المنطقة.
3 - بعض خرّيجي حلقات التعليم الإسلامي في مساجد المنطقة نفسها ومراكزها، ممن درس على المشار إليهم في الرافدين السابقين، أو على غيرهم.
4 - الجاليات الأفريقية المتنقّلة بين دول المنطقة للتجارة أو السُّكنى، وبخاصة جاليات الشعوب ذات الحضور القويّ، الإسلامي والحضاريّ، والتاريخي والثقافي: كالسُّنغاي، والماندنغ، والسونينكي، والفلاتة، والهوسا، والولوف... إلخ.
5 - المراسلات العلميّة بين علماء المنطقة ودعاتها، وبين غيرهم من علماء الإسلام المصلحين حول مسائل فقهيّة، أو عقدية، أو غيرهما. وكذلك المبعوثون، والوفود الدعويّة والتعليمية، وبخاصة من السعوديّة، ومصر ... إلخ.
6 - خرّيجو الجامعات الإسلامية، والعربية.
7 - الجمعيات والمؤسسات الإسلامية المحليّة، والخارجية العاملة في المنطقة.
الوقفة الثالثة: أنّ هذه القراءة لا تهدف من ذكر هذه المعوّقات والصعوبات إلى إظهار صورة قاتمة عن الدعوة والدعاة، ولا طمس نجاحاتها على المستويات المختلفة، أو التقليل من شأنها، كلاّ! ولكن من باب بضدّها تتميّز الأشياء؛ ولأنّ ذكرها يشير ـ أيضاً ـ إلى النجاحات؛ إذ لولا توفيق الله، ثم هذه النجاحات لما وُجدت العقبات. أوَ ليس قد استقرّ في طبائع البشر أنّها لا تعادي إنساناً فاشلاً ما لم يطغَ عليها بالحسد والحقد والكراهية، ولا تعادي مَنْ يسايرها في معتقدها الذي اعتادته، وســلّم لها قياده؟ لأنّهــم لا يرون له قيمة تؤهله لهذه المعاداة؛ فما لجرح بميّت إيلام! ومن باب التخلية للتحلية؛ أي محاولة تخلية ساحات الدعوة من الأشواك التي تقضّ مضجعها ليحلّ محلّها ـ بتوفيق الله وعونه، ثم بجهود الدعاة المخلصين المصلحين ـ نورُ الحق الذي يُدعى إليه. وقد قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ: «كان الناس يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني»، أو كما قال رضي الله عنه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنّة، كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنّة... ليقدِّم ما هو أكثر خيراً وأقلّ شرّاً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرّين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما؛ فإن لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده»(1). وقال الشاعر:
عرفت الشرّ لا للشرّ ولكن لتوقّيهِ
ومن لم يعرف الشرّ من الناس وقع فيهِ
الوقفة الأخيرة: سنسير في هذه القراءة على الأسلوب النبويّ الإيحائيّ (ما بال أقوام!)؛ فلن نعيّن الأشخاص، أو الدول والجمعيّات، مع معرفة بكثير منها؛ إذ ليس هدفنا التشهير، ولكن التنبيه ولفت النظر، وتشخيص الداء، ومحاولة وصف الدواء، وإيقاظ الهمم؛ ولأنّ اللبيب بالإشارة يفهم.
بعد هذه الوقفات الأربع نشرع في ذكر المعوِّقات، ثم بعض الحلول المقترحة؛ فنقول ـ وبالله التوفيق والسداد وعليه التكلان ـ:
المعوّقات
هناك صعوبات كثيرة، ومعوّقات مختلفة تواجه الدعوة الإسلامية المعاصرة في غرب أفريقيا، تتفاوت فيها بيئات المنطقة، ودولها ومدنها من حيث القوّة والضعف، والأسباب والمظاهر، والأشخاص الذين يضعونها، لكن لا تكاد تخلو بيئة من معظمها. وليس يخفى على القارئ الكريم أنّه يمكن تقسيم هذه المعوّقات إلى داخليّة من صنع الدعاة أنفسهم، وأساليبهم وبيئتهم المحليّة، وخارجيّة من صنع البيئة الخارجيّة بأساليبها المختلفة، ووسائلها المتنوِّعة.
فمن أهمّ تلك المعوّقات:
أوّلاً: اختلاف التضادّ بين العاملين في ساحة الدعوة لدرجة التناحر أحياناً، ولم يخل منه بعض العلماء، وخرّيجي الجامعات الإسلاميّة الذين يُنتظر منهم أن يكونوا أداة توحيد الكلمة، ووسيلة إصلاح واسع في المجتمعات الإسلاميّة عقدياً، وعلمياً، وعملياً... إلخ، وإذا كان وقوع الاختلاف سنّة من سنن الله؛ بسبب تفاوت الناس في العقل والعلم، وفي التجربة وبُعد النظر أو قِصَره، وفي الفهم والإدراك، وامتلاك وسائل الاستنباط وحسن استعمالها، وفيما يتطلّبه ذلك كلّه من مراعاة الأحوال، وفقه الواقع، والقدرة على الموازنة لتقديم الأهمّ فالمهمّ، وكان وقوع الاختلاف ـ أيضاً ـ تمحيصاً للمختلفين ليذهب الزبد، ويبقى ما ينفع الناس ـ إذا كانت هذه كلّها أمور مسلَّماً بها ـ فإنّ العيب في الاختلاف هنا أن ينتج العداوة والبغضاء، والتقاتل والتنابذ، مـع سـموّ القصد ونُبله، واتحـاده تارة؛ حيث يكون الاختلاف فقط في الطريقة والوسائل، وفي الأحق بالتقديم؛ ذلك أن الهدف هو نشر الدين الإسلاميّ في ضوء الكتاب والسنّة، والرغبة في التمكين له في هذه المجتمعات الأفريقية.
لعلّ الأسباب الرئيسة لهذا النوع من الاختلاف (اختلاف التضادّ) هي:
أ - الابتعاد عن الحكمة والموعظة الحسنة، وعن الرفق واللين، وعن التيسير والتبشير، وعن البصيرة والمجادلة بالحسنى، وقد قال ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
ب - جهود بعض المؤسسات الإسلاميّة، وكذلك الأفراد في تغذية الحزبية والتفرقة، حتى بين مَن يُعتقد ـ حقاً ـ أنّهم طائفة واحدة كأهل السنّة والجماعة مثلاً، تلك المؤسسات قد تستعمل وسائل عدّة للضغط، وبخاصة المساعدات الماليّة، وقد تسيء عرض بعض الألفاظ فيُساء فهمها، ويُرمى بالباطل، وهو الحق حتى بين المتفقين على مضمونها المسلِّمين جميعاً بصحته. خذ ـ مثلاً ـ أهل السنّة والجماعة على منهاج السلف الصالح؛ حيث تجدهم في بعض الدول يتقسّمون إلى أهل السنّة، والسلفيّة، أو إلى أهل السنّة ومجلس أعلى لشؤون الإسلام. وأهل السنّة ودانْ إزالة (أي أبناء إزالة البدعة وإحياء السنّة في نيجيريا والنيجر) وهلُمَّ جرّاً! ثمّ تجد أشدّ ما يكون العداوة والتناحر والتنابذ بينها؛ فماذا تتوقع أن يكون موقف المناوئين لهم، المعادين لمذهبهم جميعاً؟!
ج - فتاوى ارتجاليّة لا تراعي الأحوال والبيئة المحليّة، كالفتوى بتكفير جميع الطوائف الصوفيّة، وأنّ مَنْ لم يكفّرهم أو يشكّ في تكفيرهم فهو كافر، كما فعل ثلاثة من الدعاة زاروا مدينة تنبكتــو صــيف عام 1422هـ لإقامة دورة للأئمة والدعاة بين 1 ـ 8/4/1422هـ؛ فعلى الرغم من الاستفادة الكبيرة من الدورة، والحاجة الماسّة إلى أمثالها والإقبال الشديد عليها، فإنّهم أحدثوا بفتواهم هذه فتنة، وخلّفوا للدعاة معركة كبيرة في مدينة للصوفيّة فيها سيطرة ونفوذ، وبدأ الدعاة المصلحون يجدون مواطئ قدم فيها من عشر سنوات تقريباً.
د - اتباع الهوى، ومحاولة تضيق أمر واسع، واستعجال النتائج، واستغلال قلّة من المسلمين في محاربة الإسلام وهم لا يشعرون.
هـ - مصالحُ شخصيّة ماديّة أو معنوية، بحُبّ الظهور، والتطلع إلى رئاسة المركز أو المؤسسة، والتعالم، والتأييد الأعمى لشخص ما، والمحاجّة عنه وعن آرائه بالباطل؛ فهذا مما يحدث فتنة ـ أولاً ـ بين الدعاة أنفسهم، وثانياً بينهم وبين غيرهم، فيُشغل المصلحون عن تحقيق أهداف الدعوة، وعن الذين يتربصون بهم الدوائر من أعدائهم، وعن تحقيق أهدافهم العليا، وبالمواجهة على أكثر من جبهة من غير استعداد.
و - نظرة إلى المؤسسات، والمراكز والمدارس الإسلاميّة التي تُمَوَّل أو تجد مساعدات بين وقت وآخر من الخارج؛ حيث يُنظر إليها على أنّها مخازن للأموال الطائلة، يستوي في هذه النظرة ـ أحياناً ـ المثقفون، وبعض رجال الحكومات، وبعض الدعاة والأغنياء، ناهيك عن الفقراء والجاهلين؛ فتُثار الشكوك حول القائمين عليها، وتُكال لهم الاتهامات بأنّهم يستحوذون على الأموال في مصالحهم الشخصيّة؛ فيبدأ تطلع أولئك إلى نصيبهم من القسمة، أو وضع العراقيل، أو التنابذ.
ولبعض القائمين على هذه المؤسسات والمدارس، ولا سيما التي لا تتبع لهيئة خارجيّة دور ـ أحياناً ـ في تغذية هذه النظرة عندما يحيطون المساعدات الماليّة الواردة إليها والمصروفات الصادرة منها بسياج مـن الكتمــان والســرّية، ويعـدّون ذلك غيباً لا يجوز أن يعرف به، حتى العاملون في المركز أو المدرسة، الباذلون عرق الجبين في خدمتها، وفي تعليم أبناء المسلمين ومساعدتهم من غير مقابل ماديّ، أو بشيء لا يكاد يسدّ رمق من يعول، السعاةُ الأوائل في شؤونها؛ فالمدير وحده هو المستقبِل والمتصرِّف، وهو الحفيظ الأمين، ولا سيما إذا كانت الموارد تضخّ الخير الكثير، حتى إذا شحّتْ لسبب من الأسباب فَتَح الأبوابَ على مصارعها للاستجداء، وأغلقها في محاولات الكشف عمّا سبق... هذا التصرف القديم والجديد يفتح باباً واسعاً للإشاعات والتقاذف بالسوء واللامبالاة، أو فتور الهمم والعطاء، حتى من ذاك المدير الذي كان قبل أيّام الباذل الوحيد في المدرسة أو المركز؛ فقد ينفض يديه من شؤونهما، وهما يحتضران ماليّاً؛ فتكون الضحية أبناء المسلمين الذين يستفيدون من ذلك المركز والمدرسة.. كلّ ذلك يزيد في تأجيج هذه النظرة، ومِنْ ثمّ اختلاف التضادّ الذي كان من أبرز آثاره السيّئة: التنافر، والتناحر والتنابذ، وزرع الشكّ في ضعاف النفوس حول مصداقيّتهم وحقيقة ما يدعون إليه.
ثانياً: غلاة الصوفية من التيجانيّة والقادريّة... إلخ، وهؤلاء ذوو نفوذ واسع في بعض دول المنطقة، بل وفي بعض المدن، ولهم في الساحة طوائف عديدة، ودعاة كثيرون ومناصرون في أعلى المناصب. وهناك القاديانية، والبهائية، والشيعة، وغيرها... إلخ، ولهؤلاء ـ أيضاً ـ نشاطات واسعة لنشر مبادئها، تشمل مختلف جوانب الحياة، ومراكز ثقافية وتعليميّة لاستقطاب الشباب بالترغيب والإغراء.
ثالثاً: غلاة ينتسبون إلى أهل السنّة، مثل الجماعة التي ظهرت في إحدى دول المنطقة ـ منتصف السبعينيّات الميلاديّة ـ وأطلقت على نفسها الجمعيّة الإسلاميّة: جمعيّة أنصار السنّة، تكفّر مَن لا ينتمي إليها، ولا تأكل ذبائحهم، ولا تصلّي خلفهم أو في مساجدهم، تستبيح أعراضهم وأموالهم ونفوسهم. أقامت الحدود ـ حسب زعمها ـ على أتباعها، وبخاصة حدّ الردّة ـ الخروج منها ـ وفرّقت بين الرجل وأهله، كما أوجبت الهجرة إلى مراكزها في مالي، وغانا، وغيرهما في تجمّعات خاصّة، والطاعة المطلقة لزعيمها الذي تلقب بأمير المؤمنين وهو من خرّيجي حلقات التعليم في المنطقة، سمّى مركزه الرئيس في إحدى القرى بشرق مالي بـ «دار السلام»، وجدت في بعض أطوارها تشجيعاً ماديّاً ومعنويّاً من بعض الوفود الإسلاميّة التي زارتهم في الثمانينيّات طمعاً في إمكان التوصل بذلك إلى إصلاحها؛ بنبذ معتقداتها المخالفة للسنّة. أطلق عليهم مخالفوهم من أهل السنّة وغيرهم الخوارج. لكنّها ذابت إلاّ قليلاً؛ لأمور كثيرة منها: خروج كثير منها بعد تعلُّم بعض أبنائها في الجامعات الإسلاميّة، وتبيُّن الحقّ في أمرهم بعد محاورة مشهودة لأميرها أمام لجنة علميّة من كبار العلماء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في أواخر عام 1412هـ، وأوائل 1413هـ (1).
قريب منها جماعة أخرى ظهرت في بعض دول المنطقة تدعو إلى الاعتزال الكامل لكلّ وسائل الحياة المعاصرة، حتى الضروريّة منها؛ لما يرونه فيها من صلة بالكفار. ولا علاقة لهذه الجماعة بالدعوات التي ظهرت في دول إسلاميّة إلى مقاطعة بضائع بعض الدول الغربيّة المحاربة للإسلام والمسلمين.
رابعاً: التنصير بكلّ وســائله الماديّــة والمعنويّــة، وبمدارسه ومراكزه الصحيّة، والاجتماعيّة، والتعليمية، والاقتصاديّة، والسياسية، والإعلاميّة... إلخ، وبمختلف أساليبه في الإغواء، والإغراء.
كتب الشيخ محمود شاكر ـ رحمه الله ـ في «الرسالة، في الخميس 12 رمضان 1384هـ» يقول: «وأشدّ بطلاناً أن يتصوّر امرؤ أنّ التبشير بمعزل عن الغزو الحربي، والغزو الاقتصادي، والغزو الفكري والسياسي، وعن محاولة الجنس الأوروبي المسيحيّ أن يُخضع الأمم لسيطرة تدوم ما دامت له حضارة، وأشدّ بطلاناً... أن يخطر ببال أحد أنّ التبشير قد غاب عن كثير من الدعوات التي قام أصحابها ينادون بضروب من الإصلاح في بلاد العرب، وفي بلاد الإسلام، وفي غيرهما من البلاد، وأنّه لم يضع إصبعه ليحوِّل معنى الإصلاح إلى معنى التدمير والهدم والتحطيم»(1). ويزيد في كشف أساليبهم وبيان وسائلهم، فيقول: «العامل في هذا الجهاز لا يقتصر أمر قوّته على نفسه أو منزلته، بل على التدبير المحكم، والسياسة البصيرة، والأعوان المدرّبين، وعسى أن يكون أظهر عُمّاله اسماً، وأبينُهم سلطاناً هو أقلّهم شأناً، وأبعدهم عن مواطن الرِّيَب»(2). انظر ـ مثلاً ـ إلى أسلوبهم في الموازنة بين جهودها في الخدمات الصحيّة، والتعليميّة، والاجتماعيّة، وبين الجهود الإسلاميّة؛ لإقناع ضعاف النفوس من المسلمين بمبادئها، وبأنّ دينهم دين الرحمة والعطف، والعلم، والإنسانيّة.
وقد كانت سياسة الجمعيّات الغربيّة العاملة في الساحة ـ ومعظمها تنصيريّة ـ استثناء المدارس الإسلاميّة، ممّا تسمّيه المساعدات الإنسانيّة لمحو الأميّة بإقامة فصول دراسيّة، وتوزيع بعض المستلزمات الدراسيّة، أو حفر الآبار ونحوها، لكنّ بعضها شرع في تغيير شيء من هذه السياسة في بعض الدول سعياً منها في اكتساب ثقة المسلمين ومحبّتهم؛ وإخفاءً لمحاولاتها تشويهَ تعاليم دينهم؛ حيث تقوم ببناء مدارس قرآنيّة، والإذن لممثّليهم بتدريس أطفال المسلمين اللغة الفرنسيّة أو الإنجليزية، والموادّ العلميّة بجانب الموادّ الإسلاميّة، كما هو حال منظمة «مشروع غينيا»(3)، بل لا تتردد في تقليد المسلمين بإقامة مناسباتها الدينيّة في بعض أعياد المسلمين، حتى لا يتأثر أتباعها بالمسلمين في هذه الأعياد وجوّها العَبِق، كما هو حال بعض النصارى في بنين، وغيرها في يوم الجمعة من كلّ أسبوع.
خامساً: التغريب في أوسع معانيه، وأكبر جوانبه الثقافيّة، والاجتماعيّة، والتربويّة، والأخلاقيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، وأدواته: اللادينيّة، والإعلام والمساعدات، وإشاعة الانحلال الخلقي، ومحاولة تفكيك الأسرة، وإضعاف الوازع والنازع الدينيين في نفوس الشباب بكلّ وسيلة وأسلوب(4)، في ظلّ قلّة الكفاءات العلميّة الإسلاميّة المؤثرة في جوانب الحياة الأخرى، وحاجةِ مَن وُجد منهم إلى جرعات من الوعي الديني وثقافته؛ لأنّ دراسة أغلبهم وثقافتهم غربيّة. لكنّ الساحة تشهد في الآونة الأخيرة جهوداً عظيمة لهؤلاء في الدفاع عن الإسلام وقضاياه في مختلف المجالات، وفق الله الجميع لما يحبّه ويرضاه.
سادساً: المشكلات التمويليّة، والإداريّة، والمنهجيّة، والسياسيّة، والطائفيّة التي تواجه المدارس الإسلامية العربية الأهليّة وخرّيجيها، وهي التي يوجه إليها كثير من الآباء أبناءهم أملاً في أن ينهلوا علماً صافياً ينفعهم في دنياهم وآخرتهم(1)، وضع بعض دولهم العقبات أمام هذه المدارس بعدم الاعتراف بشهاداتها، وعدم معادلة شهادات خريجيها بشهادتها، وحرمانها من المساعدات الماليّة التي تُقدَّم للمدارس الأهليّة المنصوص عليها في دساتير معظمها، وغيرها من وسائل التضييق عليها.
سابعاً: استخــدام الفئات المعاديـة بسخـاء للغــة العربية في نشر أفكارها؛ إذ وجدت إقبالاً شديداً من متعلميها، بل من المسلمين عامّة في غرب أفريقيا، على قراءة الكتب المؤلّفة بها من غير معرفة بعضهم بأنّها تخالف الإسلام وتحاربه، حتى إنّك قد تجد من يحاجُّك بأنّ ما تنكره عليه موجود في كتاب عربي، ومطبوع في دولة عربية، أو إسلاميّة، وهكذا استغلّت الجمعيات التنصيرية، وغيرها انتشار اللغة العربيّة في مجتمعات المنطقة ومالها مِنْ مكانة مرموقة في نفوس المسلمين في نشر المبادئ المناوئة للعقيدة والتعاليم الإسلاميّة الصحيحة، والتدليس على المسلمين. ولا تتردد في تضمين بعض كتيّباتها آيات قرآنيّة، وأحاديث نبويّة زيادةً في التمويه والتدليس، يساعدهم شُحٌّ شديد في الكتيّبات الإسلامية التي تتناول شؤون الإسلام في ضوء الكتاب والسنّة، وعدم قدرة كثير من الناس على شراء ما يتوفّر منها في أسواق المنطقة، وندرة المكتبات الإسلامية العامّة للقراءة والاطلاع. وهناك أمر آخر وهو التركيز على أن يتزوّد مَنْ يُرسَل من المنصِّرين إلى المناطق الإسلاميّة ببعض العلوم الإسلاميّة، وإجادة اللغة العربيّة.
ثامناً: النزاعات القبليّة، وأثرها في تفتيت وحدة المسلمين، لا يخلو قلّة من الدعاة من إشعال نارها؛ بسبب تعصّبه لقبيلته، أو شعبه ومنطقته أو للحسد، وربما الرغبة في الانتقام، ولا يتوانى بعضهم من تشويه سمعة دعاة آخرين لهم جهود بارزة في الدعوة، وإدارة مراكزها بإخلاص وأمانة؛ طمعاً في المنصب، أو لأنّهم ليسوا من جماعته ومنطقته، ومن ثمّ فقد يرميهم زوراً بالبدع والخرافات والفسوق.. إلخ، وقد يكتب في ذلك تقارير إلى بعض الجهات الدعويّة المتعاقدة معه التي قد لا تتثبّت بدورها من المتهم أو غيره قبل اتخاذ قرار فصلهم، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وإذا كانت هذه الجهة الدعويّة تحسن الظنّ بكاتب التقرير، ولا تتوقع منه ـ حسب ما غلب على ظنّها ـ الفسق الوارد في الآية فلا أقلّ من التحرّي والبحث، أو سماع رأي المتهم؛ فقد يكون وراء الأكمة ما وراءها؛ ولكي يكون آخر الدواء الكيّ لا أوّله.
ولا بدّ من الإشارة إلى أمرين مهمّين:
أحدهما: يجب أن لا نخلط بين تعصّب الشخص لمنطقته أو مدينته وبين تقديمها على غيرها؛ لأنّها أحوج من غيرها إلى خدمات دعويّة أو اجتماعيّة. فما أكثر ما يُستخدم مثل هذا في إعاقة مشاريع دعويّة في مناطق أحوج ما تكون إليها، وبخاصة إذا بعدت عن العواصم وما حواليها.
والآخـر: أنّ الإسلام لا يلغي القبيلة فهي نعمة من نعم الله تعالى(1)، وسلاح ذو حدّين إنْ استُعمل في الخير فهو خير، وإلاّ فهو شرّ، ولكنّ الإسلام وجّهها فيما يحقق الخير توجيهاً حسناً، يقوم على عدّة أسس، منها: التأليف وتقديم رابطة الدين على رابطة القبيلة إذا تعارضتا، والعدل والمساواة، والتواضع. كما جعل قرابة القبيلة أساساً لأمور كثيرة: كالأولوية في استحقاق النفقة، وتحمل ديّة القتيل (العقل)، والوصيّة في الميراث... إلخ، وأقام الإسلام ميزان التفاضل على ثلاثة أسس هي: العلم، والتقوى، وحسن الخلق.
تاسعاً: الانفراديّة والانتهازيّة في إدارة مراكز الدعوة والمدارس؛ ولها أسباب كثيرة منها: عدم وجـود تنظـيـم إداريّ يـــوزع المســؤوليّات الداخليّة، ولا مجلس إدارة يسهر عليها. فأقلّّ الآثار السيئة لهذا الأمر أن يشعر بعض العاملين أنّ علاقتهم بها هي فقط علاقة وظيفة شهريّة قد تنتهي بين عشيّة وضحاها، لا علاقة دينيّة ومشاركة فعّالة في السهر عليها، والسعي في تطويرها، والارتقاء بها، وتوسيع مجالات تأثيرها في المجتمع الإسلاميّ. وقد يُترك لهذا الشخص الحابل على النابل في إدارة شؤون المركز أو المدرسة؛ مما قد يدفعـه إلى الاســتبداد، ولا يحمل اختلاف وجهات النظر إلاّ على أسوء المحامل؛ فيتخلف المركز أو المدرسة مراحل طويلة، ويتأخر مسافات بعيدة عن تحقيق الأهداف، أو الانتقــال مــن الطــور الأوّل إلــى الذي يليه، وربّما لا يُتدارك الأمر إلاّ بعد فوات الأوان، هذا إذا نجّاه العليّ القدير من الفشل أو ذهاب الريح.
عاشراً: التركيز على العواصم والمدن القريبة منها يترتب عليه إهمال أماكن أخرى هي أحوج إلى جهود المؤسسات الإسلاميّة الدعويّة، والاجتماعيّة، والتربويّة. وفي السفر إلى بعضها ضروب من المشاقّ، كما يؤدّي إلى تركُّز الدعاة والعلماء، والمراكز الإسلاميّة المهمّة في تلك العواصم، والمدن القريبة منها؛ فيقع ما عداها فريسة للجهود التنصيريّة والجهل إلاّ ما شاء الله.
تلك عشرة كاملة من المعوِّقات التي تطفو على ساحة الدعوة الإسلاميّة المعاصرة في دول غرب أفريقيا، ومهما تفاوتت فيها لا تكاد تجد دولة أو ساحة دعويّة يخلو من معظمها، والله المستعان.
تأمَّل ـ مثلاً ـ كيف لا يزال بعض هذه المعوِّقات وكثير غيرها، تُطِلّ برأسها بين العلماء والدعاة أنفسهم في الولايات الشماليّة بنيجيريا التي بدأت تطبق الشريعة؛ برغم الهجمات الشرسة التي تعرضوا ويتعرضون لها من الأعداء بمختلف اتجاهاتهم، والتحديات الكبيرة التي تواجههم في ترسيخ أقدام هذا التطبيق في شتّى المجالات الاجتماعيّة والدعويّة، والتنظيميّة، والسياسيّة والاقتصاديّة، والتعليميّة(1). فممّا لا شكّ فيه أنّ بروز هذه المعوِّقات ـ برغم الإيجابيّات العظيمة، والفوائد الجليلة التي تحققت من تطبيق الشريعة في وقت يسير ـ بروز هذه المعوِّقات سيكون له تأثير سيئ، وأثر سبليّ لدى الراغبين في الاحتذاء حذوهم من مسلمي الولايات النيجيرية الأخرى أو من دول غرب أفريقيا، ثم ألا يتخذها الأعداء عندئذ أنموذجاً للشماتة والسخريّة بالإسلام وأهله؟ نسأل الله للجميع العون والتوفيق والسداد.
الحلول
ما من داء إلا وله دواء، وقد لا يحسن المريض استعمال الدواء فيتفاقم المرض. ودواء هذه المعوِّقات البحث عن سبل التغلب عليها، أو التقليل من آثارها، وحسن استعمال هذه الوسائل والسبل.
فهذه الصعوبات والمعوّقات وغيرها ـ على خطورتها ـ لم تتمكن ولن تتمكن بإذن الله ـ تعالى ـ من إقصاء الحركة الإصلاحية الحديثة، والدعوة الإسلاميّة المعاصرة من الساحة، لكنّها تفتّ من عضدها، وتشتت جهودها، وتحول دون تطوير نفسها والارتقاء بها، وتوسيع خدماتها ومساحاتها.
ولو تمّ التغلب على معظمها لكان ذلك مُضادّاً حَيَوِياً مهدِّئاً للبقيّة، ولشهدنا ازدهاراً للإسلام، وقوّة للمسلمين أكبر وأفضل من الواقع. أضف إلى ذلك أنّ مما ينبغي تسجيله تعاضد بعض هذه الطوائف الإسلاميّة أحياناً من مختلف الانتماءات وفي عدّة دول، تعاضدها في مقاومة بعض القضايا والقرارات المعادية للإسلام؛ فيقفون موقفاً واحداً في وجوه أصحابها؛ مما يدل على أنّ كثيراً من هذه المعوقات يمكن تفاديها بالحكمة، وبزيادة الوعي بحقائق الإسلام، وبالصبر والمثابرة، وحسن التعامل مع المخالف المسلم أو غيره؛ فالدين المعاملة، والرسول # إنّما بُعث ليتمّم مكارم الأخلاق، ولهذا التعاضد نماذج حيّة متكررة في كثير من دول المنطقة.
وإليك بعض السبل والوسائل التي تعين بتوفيق من الله على تفادي تلك المعوِّقات وغيرها.
من أهمّ سبل التغلب على تلك المعوّقات:[/align]
1 - إنّ أوقى سبيل وأنفعها هو تقوى الله، والإخلاص لله ـ تعالى ـ في القول والعمل؛ فمن ثمارها الدانية:
أ - قوّة التمسك بالكتاب والسنّة.
ب - نبذ الافتراق والتناحر، والابتعاد عن اتباع الهوى وحبّ الظهور، والتطلع إلى الرئاسة، وعن الأنانية والانفرادية والانتهازية في العمل، مع إيجاد تنظيم إداريّ لا يحتكر المسؤوليّات الداخليّة في يد شخص واحد فقط، سواء في المدارس الإسلاميّة العربية، أم في مراكز الدعوة ومؤسساتها.
ج - القدوة الحسنة في القول والعمل، والتزام الحكمة والموعظة الحسنة، والرفق والتيسير، والابتعاد عن الغلوّ والتكفير.
د - إحسان الظنّ، ومحاولة تلمّس الأعذار للعاملين في ساحة الدعوة، والابتعاد عن التقاذف بالسوء والوشايات والإشاعات.
2 - ومن سبل التغلب على هذه المعوِّقات: الوعي بأساليب الأعداء ووسائلهم المختلفة، وفقه الواقع المحلي والخارجي، ومراعاته نفسياً، واجتماعياً، وثقافياً، وعقدياً وغيرها، من غير تمييع للحق.
3 - العناية بالمدارس الإسلامية، وبتطوير مناهجها وتنويعها؛ لتخرج ـ أيضاً ـ كوادر إدارية، واقتصادية، وطبيّة، وتربويّة وغيرها، إلى جانب الكوادر الشرعية، أو على الأقلّ تُمهِّد السبيل لبعض خرّيجيها لمواصلة دراساتهم في الكليّات والجامعات الوطنيّة في تخصصات لا غنــى للمســلمين عنها، ولا أعتقد أنّ هذا سيعيق هذه المدارس عن تحقيق الهدف الأساس من تأسيسها، وهو تعليم أبناء المسلمين شؤون دينهم الذي لا يجدونه في المدارس الحكومية، إذا ما تمّ الإعداد الجيّد له؛ ولأنّ أكثر الدارســين في المدارس الحكــومية بهذه المنطقة هـم ـ أيضاً ـ من أبناء المسلمين، ويتوق كثير منهم إلى معرفة أمور دينه، ولهم في بيئاتهم الدراسيّة حركة إسلاميّة دعويّة للالتزام بالإسلام.
توجد تجارب موفَّقة للجمع بين المنهج الإسلامي العربي والحكوميّ في عدد من دول المنطقة، تتمثل في مدارس رابطة العالم الإسلاميّ، والمنتدى الإسلاميّ، وعباد الرحمن في السنغال، ولها نماذج في المدارس المدعمة من بعض الحكومات، أو من إنشائها أو من إنشاء الأفراد: كما في النيجر، ونيجيريا، وغينيا، وغانا.. إلخ، وللبنك الإسلاميّ مشروع مماثل يسعى في تطبيقه في النيجر وتشاد. كما توجد تجارب أخرى سلبياتها أكثر، سواء في ذلك المدارسُ الإسلاميّة المدعمة من الحكومات، أم التي من إنشائها، ومن إنشاء بعض الأفراد، ولها ـ أيضاً ـ نماذج في كثير من دول المنطقة.
ومِنْ ثمّ لا تصلح لأن تكون بديلاً للمدارس الإسلاميّة العربية التي نريد لها أن تتولّى تطبيق المنهجين بنفسها لأسباب كثيرة منها: عدم العناية الكافية بالموادّ الإسلاميّة والعربية في المدارس المشار إليها (المدعّمة من بعض الحكومات، أو من إنشائها، أو من إنشاء الأفراد)، إمّا بسبب دمجها للموادّ الإسلاميّة: القرآن والحديث والفقه والسيرة وغيرها، تحت مسمّى التربية الإسلاميّة؛ حيث يقدّم النجاح فيها، ولا يؤخر الرسوب فيها إذا ما نجح التلميذ في موادّ المنهج الحكوميّ. وإمّا لتدريس هذه الموادّ باللغة الإنجليزية، كما في سيراليون(1). وإمّا لضعف أداء بعض معلمّي هذه الموادّ تربوياً، وثقافياً، وقناعة أو تحمُّساً لما يعلّمه مقابل أداء معلّمي المنهج الحكوميّ. وإمّا لاختيار أوقات غير مناسبة لها: كالحصص الأخيرة مع قلّة الساعات المخصصة لها.
لقد أصبح هذا التطوير مطلباً ضرورياً في الآونة الأخيرة؛ لأسباب من أهمّها ـ إضافة إلى المشكلات الإداريّة والماليّة والمنهجيّة والسياسيّة المشار إليها ـ:
الخوف على هذه المدارس حتى من بعض القائمين بشؤونها (مدرّسين وغيرهم) ممن تثقفوا بالثقافة الإسلامية العربية، وبعضهم ذوو مناصب في الحكومات، ويستشارون في شؤونها؛ إذ يرفض هؤلاء إلحاق أبنائهم بها مع عداوة لها أو دونها؛ لحجج منها: عدم تمكّن أكثر خرّيجيها من مواصلة تعليمهم العالي لا في الخارج حيث الجامعات العربية والإسلاميّة لقلّة العدد المقبول منهم، ولا في الداخل حيث الجامعات الوطنيّة والحكوميّة، باستثناء بعض الدول: كالنيجر، وبعض ولايات نيجيريا... إلخ، مع محاولة قصر الأقسام العربيّة في بعض كليّات تلك الجامعات الوطنيّة على تخصص واحد فقط، وهو اللغة البحتة، وعلى حملة الشهادة الحكوميّة ممن اختاروا اللغة العربية لغة ثالثة في الثانوية، وفي ظلّ غياب معاهد عليا وكليّات أهليّة. ومن حججهم:
الخوف على المستقبل الوظيفي لخرّيجيها، فينضمّون إلى العدد الهائل قبلهم. ومنها: أنّ التعليم في المدارس الحكوميّة مجاني، وفي هذه المدارس برسوم.
وللإنصاف فإنّ مَنْ أشرنا إليهم قلّة، وهما طائفتان ليستا على درجة واحدة:
الأولى: ترفض بتاتاً إلحاق أبنائهم، ونحوهم بهذه المدارس الإسلاميّة العربية، مع عداوة لها؛ فقال قائلهم: لو كان الأمر بيدي لأغلقتها، واكتفيت بتحفيظ القرآن الكريم، وماذا يستفيد البلد من دراسة الشريعة والدعوة، وقال آخر: العرب يتخصصون بالفرنسيّة والإنجليزيّة وأنتم بالعربيّة... إلخ، هذا عند قلّة، أو من غير عداوة لهذه المدارس وإنّما للحجج السابقة، وهو شأن الكثير من هذه الطائفة.
والطائفة الأخرى: تُفضِّل إلحاق كلّ أبنائها بالمدارس الحكوميّة، التي يتم التعليم فيها بالفرنسية أو الإنجليزية، ومنهم من يوزِّعهم بينها وبين المدارس الإسلامية العربية الأهليّة ذكوراً كانوا أم إناثاً.
ومهما يكن فإنّه إذا كانت هذه نظرة قلّة من القائمين على هذه المدارس، وكان هذا موقف بعض خرّيجيها الأوائل منها، وممّا تُعلِّمه فما بال غيرهم؟ كما أنّ خطورتها ترجع ـ أيضاً ـ إلى أنّ تصرُّفهم هذا وافق هوى في نفوس بعض المسؤولين الحكوميين المعادين لهذه المدارس الذين لا يتوانون في وضع عراقيل إداريّة أمامها؛ بحجج ظاهرها المشاركة في توسيع البطالة في الوطن، وباطنها محاولة الحدّ من انتشار الوعي الإسلاميّ في دول المنطقة، ولا سيما مع الأحداث العالميّة في السنوات الخمس الأخيرة، أوَليست البطالة موجودة بين خرّيجي جامعات ومدارس الحكومة؟
ويقيني أنّ الطريق الأولى ـ تطوير مناهج المدارس الإسلاميّة العربية ـ أنفع ممّا يطبق في المدعمة من الحكومات ونحوها، وأسهل تطبيقاً من إيجاد دروس إسلاميّة في تخصصات الكليات والجامعات الوطنيّة باللغة الفرنسيّة، أو الإنجليزيّة تُدرِّس لطلابها بعض قضايا تخصصاتهم من منظور إسلاميّ: كنظام القضاء، ونظام المعاملات، وحقوق الإنسان، ونظام الأسرة... إلخ، برغم أنّه يوجد في كلّ دولة شباب متخصصون بالدراسات الإسلامية يمكن تأهيلهم في تلك اللغات ليقوموا بهذا الأمر؛ لأنّ ذلك سيصطدم بعوائق كثيرة يضعها القائمون على شؤون التربية والتعليم في هذه البلاد، أدناها تمييع المناهج أو تفريغها من المضمون الإسلاميّ؛ وذلك كلّه ممّا لمَّا يستعدّ له القادة المسلمون من الدعاة والعلماء والمثقفين. برغم أنّ للدين عند المسلمين عامّة مفهوماً لا تجده عند أصحاب الملل؛ فهو ـ عند المسلمين ـ الحياة كلّها، «فهو اسم جامع لكلّ تصرف يتصرّفه المرء المسلم في حياته، منذ يستيقظ من نومه إلى أن يؤوب إلى فراشه، وفي كلّ عمل يعمله، مهما اختلفت هذه الأعمال من أحقرها وأدناها إلى أشرفها وأغلاها، كُلّ ذلك دين هو مسؤول عنه يوم القيامة... وإن كان في بعض ذلك على بعض فضلٌ»(1)، مصداق ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
4 - العناية بتوعية أغنياء المسلمين في هذه الدول، وتحفيزهم على زيادة جهودهم في إقامة المشاريع وتمويلها. فمن المسلَّم به أنّ الإسلام إنّما انتشر في هذه المنطقة على أيدي التجار السودانيين والعرب، وأنّ الجاليات الأفريقية المتنقِّلة بين دولها للتجارة، أو السُّكنى أحد أبرز روافد النهضة الإصلاحيّة الحديثة، والدعوة الإسلاميّة المعاصرة. أمّا في الوقت الحاضر فعلى الرغم من الجهد الكبير المشهود الذي بذله ويبذله بعض هؤلاء في كلّ دول المنطقة لنشر الدعوة الإسلاميّة، وبناء المساجد والمدارس، والعناية ببعض مراكزها، وكفالة الدعاة، إلاّ أنّهم بحاجة إلى تحفيز متجدد، متنوِّع الأساليب والوسائل لبناء جسور من الوعي الديني والثقة والأمانة.
5 - الانطلاق في الدعوة والإصلاح من تخطيط ودراسة، ولا سيما في أفريقيا. وتأتي أهميّة التخطيط من كونه منهجاً علمياً يرسم صورة العمل في شتى المجالات، ويحدد مساره، ويساعد على استخدام أمثل للموارد البشرية والطبيعية، ودونه تصبح الأمور متروكة للتلقائية والارتجالية(2). هذا عن التخطيط بعامة، أما التخطيط للدعوة الإسلامية فتزداد أهميّته من حيث إنّ الدعوة الإسلامية تكليف شرعي على الأمة القيام بها على أكمل وجه، ولا يتم لها ذلك ما لم تحسن استخدام مواردها البشرية والمادية في أحسن صورة ممكنة، ضمن خطة محكمة(3). ومن فوائد التخطيط للدعوة: توضيح أساليب العمل وخطواته، وتنسيق الجهود، والتركيز على الأهداف، والتدرج في تنفيذ الأولويات، وتحقيق مزيد من الثقة والاطمئنان(4).
6 - تقديم الأولويات والتدرج في تنفيذها، ولا بدّ في هذا التدرج من مراعاة جانبين هما: الإلحاح، والأهميّة. الأوّل يرتبط بالوقت؛ أي المساحة الزمنية المتاحة، والآخر بالقيمة. فهناك أمور ملحّة ومهمة في آن، وأخرى درجة الإلحاح فيها أعلى من درجة الأهميّة، وأمور مهمة وليست ملحة، وأخرى ليست ملحّة ولا مهمة في حاضرها(5). فلا بدّ من مراعاة ذلك كلّه في تقديم الأولويات في الدعوة، وكذلك مراعاة الوسطية، وفقه الواقع؛ إذ لها جميعها نصيب وافر في إتقان التنفيذ وجودته، وفي تنظيم الوقت والجهد، وتحصيل ثمار طيّبة مع تذليل عقبات كثيرة.
7 - تفادي الأخطاء التي وقع فيها بعض السابقين، ويقع فيها بعض المعاصرين، وبخاصة الارتجاليّة واستعجال قطف الثمار، وجعل كلّ مخالف في الرأي عدواً لدوداً، أو شيطاناً مريداً، حتى لو كان مسلِماً ومن الطائفة نفسها. ولا ضير في تسجيل الأسباب الحقيقية لتعثُّر بعض المؤسسات والدعاة للاستفادة منها من غير شماتة ولا نشرها على الملأ.
8 - التعاون الجيّد مع الكفاءات العلمية، والإدارية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، ممن دراستهم فرنسية أو إنجليزية، وزيادة توعيتهم بأمور دينهم وتعاليمه. وقد صار عدد مَنْ يُقبِل منهم على الالتزام بالإسلام، ومحاولة فهمه والدفاع عنه كبيراً ولله الحمد، وللكثير منهم جهود عظيمة في التوعية الإسلامية، وفي الدفاع عن الإسلام وقضاياه. وما أحوجهم إلى الكتيّبات الإسلاميّة باللغات التي يُجيدونها، سواء ما تعلّق منها بالعبادات والعقائد أم بمجال عملهم؛ فهم مشتاقون إلى معرفة شيء عن النظام الإسلاميّ في كثير من القضايا، وباختصار لا بدّ من استهدافهم بخطاب دعوي يناسبهم، وبلغة ثقافتهم. وحبّذا لو تمّ في دورات علميّة متخصصة لا تقلّ مدتها عن شهر. وقد كان منهم مَنْ أخذ إجازات طويلة ـ سنة فأكثر ـ لكي يتفرّغ لتعلُّم اللغة العربية والعلوم الإسلاميّة في معاهد اللغة العربية للناطقين بغيرها: كمعهد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، وجامعة الملك سعود، والجامعة الإسلاميّة، وغيرها.
9 - العناية بالخدمات الاجتماعية وبمراكــزها؛ لـِمَا فيها من مواساة عمليّة للمحتاجين، والتخفيف من معاناتهم، وتثبيت أقدامهم، وكذلك التدريب المهنيّ، ولبعض المؤسسات الإسلامية العاملة في المنطقة جهود بارزة في هذا المجال.
10 - تنويع الوسائل وتطويرها، وحسن الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة، المقروءة، والمسموعة، والمرئيّة، باللغات المحلية والرسمية. وزيادة العناية بالجهود الحالية وببرامجها المقدّمة، وعقد الندوات العلميّة، والإكثار من الدورات الدعوية والتربوية والإدارية، وكسر حاجز اللغات الرسميّة أمام الدعاة، ليتمكنوا من إجادتها تحدُّثاً وقراءة؛ لأنّه إذا كان المتعلمون بهذه اللغات على قناعة تامّة بضرورة إجادة أكثر من لغة حيّة، حتى يمكنهم التأثير فــي المجتمــع؛ فكيــف بهــؤلاء الدعاة الذين لا يجيد أكثرهم إلاّ اللغات المحليّة؟ وكم منهم من يجهل قوانين دولته المكتوبة بالفرنسيّة أو الإنجليزية؟ فضاع بذلك كثير من حقوقه.
11 - إذا كان من المسلّم به ضرورة إيجاد استثمارات ثابتة يُنفق من ريعها على الدعوة ومراكزها، وعلى تكوين الكوادر العلميّة وتدريبهم، فلعلّ من نوع التثمير الذي يجب أن يهتمّ به الدعاة حسنُ تثمير بعض وقتهم في الكسب الحلال: كالتجارة، ونحوها، وتقويته؛ إذ من شأنه أن يتعفّفوا مما بأيدي الناس، وأن يكونوا قدوة في الإنفاق على الدعوة، وتحمل تكاليفها المتعلّقة بهم، وبغيرهم. ومن الدراسات القيّمة والمهمّة في هذا الجانب رسالة الأخ والزميل د. ساموكا داود سوماورو بعنوان: «الجمع بين الدعوة إلى الله، وطلب الرزق، دراسة تأصيلية وتطبيقية على عينة من الدعاة في غينيا»(1).
وقبل الإشارة إلى أهمّ نتائج الدراسة التطبيقية على الدعاة في جمهوريّة غينيا كوناكري بغرب أفريقيا نعرض بعض قضايا الدراسة النظرية.
فمن الضوابط الشرعية للجمع بين الدعوة وطلب الرزق: سلوك الطرق المشروعة في الدعوة، وطلب الرزق، والمحافظة على هدي الكتاب والسنّة فيهما، وتفضيل الأهداف الدعويّة، وتقديمها على غيرها، والإنفاق في المصارف المباحة. ومن ضوابطه الأخلاقية: الحرص على الثواب من الله، والعدل في علاقة الداعية بربه وبنفسه وبخلق الله، والقناعة، والصبر، والتوكل على الله(1).
أمّا دواعي الجمع بينهما فتنقسم إلى دواعٍ متعلقة بالداعية نفسه: كالمحافظة على الطاعات الماليّة، والاستعانة بالرزق في تنفيذ العبادات البدنية، والمحافظة على إعطاء النفقات اللازمة، والحرص على بذل الخيرات التطوعيّة. وهناك دواعٍ تتعلق بشؤون الدعوة نفسها: كالحرص على أداء واجب الدعوة، وتحمل تكاليفها، وأخرى تتعلق بالمدعوِّين يراعى فيها أصناف المدعوِّين(2) في الأساليب والوسائل، وقد رأى الباحث أمرين رئيسين تنحصر فيهما دواعي الجمع المتعلقة بالمدعوِّين، وهما: تسخير نصيب من الرزق لصالح المدعوّ المستجيب، ونصيب آخر لدعوة المدعوّ غير المستجيب(3).
ولضمان أن لا يتضرر أحد الطرفين: الدعوة وطلب الرزق، بهذا الجمع؛ وحيث إنّه يجب أن يكون الأمر بلا إفراط ولا تفريط كان لا بدّ من تحديد مجالات طلب الرزق المناسبة للداعية(4)، وبيان عوامل نجاح الجمع بينهما وعوائقه؛ فذكر من أهمّ عوامل النجاح: قوّة الإيمان وأثره في نجاح الدعوة وفي السعي لطلب الرزق، والتزام أخلاق الإسلام في طلب الرزق، وتقويم مستمّر للجمع بينهما؛ لمعرفة آثاره الحسنة أو السيئة عليهما، ومن ثمّ تصحيح الأخطاء وتدعيم الصواب. وأمّا عوائقه فمنها: عوائق داخلية: كالجهل بهدي الإسلام في الجمع بينهما، واتباع الهوى، والكسل، ومن الخارجية: الفقر، وضغوط أعداء الدعوة، وأساليبهم المختلفة، ووسائلهم المتنوِّعة(5).
وتتعلق الآثار بالداعية: بعبادته، ودعوته، واقتصاده. وبحياة المدعوّ المستجيب الدينية، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة. وبعضها تتعلق بالمدعوّ غير المستجيب من حيث جعله يقبل الدعوة، مع نماذج له قديماً وحديثاً(6).
وفي الجانب التطبيقي على الدعاة في جمهورية غينيا توصل الباحث إلى عـدّة نتائج أرى أنّهـا تنطبق ـ أيضاً ـ على دول غرب أفريقيا، يعنينا منها في هذا المقام النتائج الآتية:
- الدعاة الذين لا يجمعون بين الدعوة، وطلب الرزق في غينيا عدد قليل جدّاً.
- الذين يجمعـــون بينهمــا علــى ثلاثة أحــوال ـ حسب ما رأى الباحث ـ إمّا أن يقسموا الوقت بينهما، أو يمارسوا الدعوة عند القيام بطلب الرزق، أو يتفرّغوا للدعوة دون غيرها. وهؤلاء فريقان: الأوّل متفرغون مع تفويض غيرهم لكسب الرزق، والآخر متفرّغون اكتفاءً بما يجدونه من إعانات(1).
كما أنّ هناك حالاً رابعة تكثر بين الدعاة من خرّيجي حلقات التعليم الإسلامي في المنطقة، أو من يسمَّون بـ «الشيوخ التقليديين» وهي: الترزُّق عند القيام بالدعوة؛ وذلك بجمع تبرُّعات أثناء الدعوة في موعظة، أو حلقة تعليمية عامّة، ثمّ يتمّ تقسيم ما جُمِع بين الدعاة؛ ولذلك تجد أحدهم يتنقل في اليوم الواحد بين عدّة لقاءات وعظيّة أو مناسبات دينيّة: عقيقة، عقد زواج، مأتم... إلخ، وعينُه في كلّ واحد على ما سيكسبه فيه، مما يعرِّضهم في أحيان كثيرة للسخريّة والاستهزاء والإهانة، وبخاصة في حالات الاختلاف على تقسيم التركة. برغم أنّ بعض هؤلاء ممن لهم جهود مشهودة في الوعظ والإرشاد.
- يترتب على عدم الجمع بينهما أضرار كبيرة جدّاً، تطال الدعوة والدعاة، والمدعوِّين في هذه الدولة دينيّاً، وثقافيّاً، واقتصاديّاً، وسياسياً. وهذا مما يستدعي ضرورة الجمع بينهما بصفة مستمرّة.
- من أبرز العوامل المساعدة في تطبيق الجمع بينهما في هذه الدولة: تقوى الله، وقوّة الإرادة، والحرص على مساعدة المدعوّين، وتسهيلات النظام الاقتصاديّ، والتعاون بين الدعاة في الجمع بينهما وإن كان ضعيفاً، والإعانات الخارجيّة للدعاة، وحرص حكومتها على حسن العلاقات الخارجية، واهتمامها بالشؤون الإسلاميّة(2).
- ومن أبرز عوائق الجمع بينهما عند الدعاة: الحرص على المال والشرف على حساب الدعوة، وإهمال طلب الرزق مع الحاجة إليه وضغط الفقر، وأثر الأخلاقيات المخالفة للإسلام عند بعض المدعوِّين المستجيبين، وأثر الاستعمار والتنصير والصوفية.
- تتمثل أساليب الإنفاق على مصالح الدعوة في دفع الزكاة، والصدقات، والوقف، والهدايا، والتعاون على البرّ.
- وأمّا مجالات إنفاقهم لصالح الدعوة فمنها: تحمّل تكاليف الدعوة، وتربية المدعوِّين، وتثبيتهم على دينهم، ومساعدتهم اقتصادياً، والدفاع عن الإسلام(3).
تتفق دول غرب أفريقيا في هذه النتائج لاتفاقها في عوامل كثيرة منها: العامل الدينيّ، والاقتصاديّ، والسياسي، والاجتماعيّ، وكون الشعوب فيها متفقة في العادات والتقاليد، وأغلب الأجناس والقبائل الموجودة فيها. فإذا وجد تفاوت بينها فقد يكون مردّه إلى اختلاف السياسات، والقبائل النافذة في كلٍّ، وكون المسلمين أكثريّة أو أقليّة، ومدى قوّة الوعي الإسلاميّ بينهم، وكثرة المتعاقدين مع مؤسسات إسلاميّة خارجيّة أو قلّتهم، وتمكُّن الدعاة من خرّيجي الجامعات الإسلاميّة من الانخراط في الوظائف الحكوميّة أو عدمه.
وتُعدّ السونينكي، والسُّنغاي، والماندغ، والهوسا، واليوربا، والولوف من أشهر القبائل التي يجمع طوائفُ من الدعاة المنتمين إليها بين الدعوة وطلب الرزق، إمّا بتقسيم الوقت بينهما، أو بالمشاركة مع شخص آخر يتولّى شؤون التجارة؛ فيتفرغ الداعية للتعليم والدعوة، ويغلب أن يكون هذا الشخص من أقرب الناس إليه: الأخ أو ابنه أو ابن الأخت، والعمّ أو ابنه، والخال أو ابنه، وكذلك أبناء العمّات والخالات.
وهكذا نكون قد تناولنا في هذا البحث نُبذاً من المعوِّقات التي تقضّ مضاجع الدعوة الإسلاميّة المعاصرة في غرب أفريقيا، فذكرنا: اختلاف التضادّ وأسبابه، والغلاة من الصوفيّة وممن ينتسبون إلى أهل السنّة، والتنصير، والتغريب، والمشكلات التي تواجه المدارس الإسلامية العربية الأهلية، واستخدام الأعداء للغة العربية في نشر أفكارها، والنزاعات القبليّ
لن أتحدّث ـ هنا ـ عن وسائل الدعوة الإسلاميّة في غرب أفريقيا، ولا عن أساليبها ومراكزها، ولا عن الدعاة وطوائفهم..إلخ؛ فلذلك كله رجاله المتخصصون في شؤونها، الخبراء ببواطنها، وإنّما سأركز في هذه العجالة على أهمّ المعوّقات التي تواجه الدعوة الإسلاميّة المعاصرة في هذه المنطقة، والحلول المقترحة لها في قراءة لجزء من واقع هذه الدعوة، نرجو أن يكون فيها إسهام ـ بجهد المُقِلّ ـ في رسم مستقبل زاهر لازدهار الإسلام فيها؛ وسعي في تحقيق تأثير قويّ وعامّ للمؤسسات الإسلاميّة: الدعويّة، والثقافية والتربويّة، والاجتماعيّة، يستنهض جزءاً من تاريخ الإسلام الناصع، وحضارته الزاهية في هذه المنطقة لبناء مستقبل مشرق بإذن الله تعالى.
وقبل ذلك لا بدّ من أربع وقفات مهمّة:
الوقفة الأولى: أنّه لا يختلف اثنان على النجاح الكبير الذي حققته ـ ولا تزال تحققه ـ الحركة الإصلاحية الحديثة في ضوء الكتاب والسنّة، وتحققه الدعوة الإسلاميّة المعاصرة على مذهب أهل السنّة والجماعة في كلّ دول غرب أفريقيا، وعلى مختلف المستويات؛ برغم الصعوبات التي تواجه المسلمين، سواء ما كان منها خارجيّاً أم داخليّاً. فهذا النجاح ـ ولله الحمد ـ مما لا يخفى على ذي عينين، وقد تناقله الرُّكبان، وشهد به الأصحاب والأعداء؛ فكم تفاجأ به النصارى الذين حَلِموا بأن يحوِّلوا أفريقيا مع عام 2000م إلى قارة نصرانيّة؟! وكم مِنْ وثني أسلم؟! وكم من نصرانيّ أسلم؟! وكم من قرية أسلمت بكاملها؟! وكم من شخص تحوَّل عن البدع والخرافات؟! وكم من غافل تنبّه؟!.. إلخ.
الوقفة الثانية: هناك روافـد كثيـــرة، وعــــوامل عظيمة كان لها أكبر الأثر ـ بعد توفيق الله ـ في تحقيق تلك النجاحات الدعويّة الحديثة، وهذه النهضة الإسلاميّة المعاصرة، من أبرزها وأقواها(1):
1 - وفود الحجّ في العصر الحديث، وبخاصة أيّام الاستعمار وما بعده، والذين رجعوا إلى أوطانهم بعد أداء الفرض، يعززه ـ مِنْ جانب ـ ما صار للقب الحاجّ في القاموس الديني والاجتماعي في هذه المنطقة من أثر طيّب؛ بسبب ما يحمله في هذا القاموس من معاني الصلاح والبعد عن سفاسف الأمور من قول أو فعل، وإفادة الطيّبة، وحُسن السريرة، وأمن الجانب، وقوّة الشخصيّة، كلّ هذه الصفات ممّا اشتهر به الدعاة من أولئك الحجّاج، حتى صار من أساليب الإنكار والعيب: كيف تفعل هذا يا حاجّ؟(1) على اختلاف وتفاوت في استعمال هذا اللقب بين راضٍ به ومنكر له؛ لأنّه لم يرد عن السلف(2).
2 - خرّيجو حلقات العلم، ومدارسه في الحرمين الشريفين، ممن تعلّموا في مدارس الفلاح، والصولتيّة، ودار الحديث، أو في حلقات العلم بالمسجد الحرام والمسجد النبويّ(3)؛ فقد عادوا دعاة ومربّين، ومنهم مؤسسون للمدارس الإسلاميّة العربية النظاميّة الأولى في المنطقة.
3 - بعض خرّيجي حلقات التعليم الإسلامي في مساجد المنطقة نفسها ومراكزها، ممن درس على المشار إليهم في الرافدين السابقين، أو على غيرهم.
4 - الجاليات الأفريقية المتنقّلة بين دول المنطقة للتجارة أو السُّكنى، وبخاصة جاليات الشعوب ذات الحضور القويّ، الإسلامي والحضاريّ، والتاريخي والثقافي: كالسُّنغاي، والماندنغ، والسونينكي، والفلاتة، والهوسا، والولوف... إلخ.
5 - المراسلات العلميّة بين علماء المنطقة ودعاتها، وبين غيرهم من علماء الإسلام المصلحين حول مسائل فقهيّة، أو عقدية، أو غيرهما. وكذلك المبعوثون، والوفود الدعويّة والتعليمية، وبخاصة من السعوديّة، ومصر ... إلخ.
6 - خرّيجو الجامعات الإسلامية، والعربية.
7 - الجمعيات والمؤسسات الإسلامية المحليّة، والخارجية العاملة في المنطقة.
الوقفة الثالثة: أنّ هذه القراءة لا تهدف من ذكر هذه المعوّقات والصعوبات إلى إظهار صورة قاتمة عن الدعوة والدعاة، ولا طمس نجاحاتها على المستويات المختلفة، أو التقليل من شأنها، كلاّ! ولكن من باب بضدّها تتميّز الأشياء؛ ولأنّ ذكرها يشير ـ أيضاً ـ إلى النجاحات؛ إذ لولا توفيق الله، ثم هذه النجاحات لما وُجدت العقبات. أوَ ليس قد استقرّ في طبائع البشر أنّها لا تعادي إنساناً فاشلاً ما لم يطغَ عليها بالحسد والحقد والكراهية، ولا تعادي مَنْ يسايرها في معتقدها الذي اعتادته، وســلّم لها قياده؟ لأنّهــم لا يرون له قيمة تؤهله لهذه المعاداة؛ فما لجرح بميّت إيلام! ومن باب التخلية للتحلية؛ أي محاولة تخلية ساحات الدعوة من الأشواك التي تقضّ مضجعها ليحلّ محلّها ـ بتوفيق الله وعونه، ثم بجهود الدعاة المخلصين المصلحين ـ نورُ الحق الذي يُدعى إليه. وقد قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ: «كان الناس يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني»، أو كما قال رضي الله عنه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنّة، كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنّة... ليقدِّم ما هو أكثر خيراً وأقلّ شرّاً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرّين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما؛ فإن لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده»(1). وقال الشاعر:
عرفت الشرّ لا للشرّ ولكن لتوقّيهِ
ومن لم يعرف الشرّ من الناس وقع فيهِ
الوقفة الأخيرة: سنسير في هذه القراءة على الأسلوب النبويّ الإيحائيّ (ما بال أقوام!)؛ فلن نعيّن الأشخاص، أو الدول والجمعيّات، مع معرفة بكثير منها؛ إذ ليس هدفنا التشهير، ولكن التنبيه ولفت النظر، وتشخيص الداء، ومحاولة وصف الدواء، وإيقاظ الهمم؛ ولأنّ اللبيب بالإشارة يفهم.
بعد هذه الوقفات الأربع نشرع في ذكر المعوِّقات، ثم بعض الحلول المقترحة؛ فنقول ـ وبالله التوفيق والسداد وعليه التكلان ـ:
المعوّقات
هناك صعوبات كثيرة، ومعوّقات مختلفة تواجه الدعوة الإسلامية المعاصرة في غرب أفريقيا، تتفاوت فيها بيئات المنطقة، ودولها ومدنها من حيث القوّة والضعف، والأسباب والمظاهر، والأشخاص الذين يضعونها، لكن لا تكاد تخلو بيئة من معظمها. وليس يخفى على القارئ الكريم أنّه يمكن تقسيم هذه المعوّقات إلى داخليّة من صنع الدعاة أنفسهم، وأساليبهم وبيئتهم المحليّة، وخارجيّة من صنع البيئة الخارجيّة بأساليبها المختلفة، ووسائلها المتنوِّعة.
فمن أهمّ تلك المعوّقات:
أوّلاً: اختلاف التضادّ بين العاملين في ساحة الدعوة لدرجة التناحر أحياناً، ولم يخل منه بعض العلماء، وخرّيجي الجامعات الإسلاميّة الذين يُنتظر منهم أن يكونوا أداة توحيد الكلمة، ووسيلة إصلاح واسع في المجتمعات الإسلاميّة عقدياً، وعلمياً، وعملياً... إلخ، وإذا كان وقوع الاختلاف سنّة من سنن الله؛ بسبب تفاوت الناس في العقل والعلم، وفي التجربة وبُعد النظر أو قِصَره، وفي الفهم والإدراك، وامتلاك وسائل الاستنباط وحسن استعمالها، وفيما يتطلّبه ذلك كلّه من مراعاة الأحوال، وفقه الواقع، والقدرة على الموازنة لتقديم الأهمّ فالمهمّ، وكان وقوع الاختلاف ـ أيضاً ـ تمحيصاً للمختلفين ليذهب الزبد، ويبقى ما ينفع الناس ـ إذا كانت هذه كلّها أمور مسلَّماً بها ـ فإنّ العيب في الاختلاف هنا أن ينتج العداوة والبغضاء، والتقاتل والتنابذ، مـع سـموّ القصد ونُبله، واتحـاده تارة؛ حيث يكون الاختلاف فقط في الطريقة والوسائل، وفي الأحق بالتقديم؛ ذلك أن الهدف هو نشر الدين الإسلاميّ في ضوء الكتاب والسنّة، والرغبة في التمكين له في هذه المجتمعات الأفريقية.
لعلّ الأسباب الرئيسة لهذا النوع من الاختلاف (اختلاف التضادّ) هي:
أ - الابتعاد عن الحكمة والموعظة الحسنة، وعن الرفق واللين، وعن التيسير والتبشير، وعن البصيرة والمجادلة بالحسنى، وقد قال ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
ب - جهود بعض المؤسسات الإسلاميّة، وكذلك الأفراد في تغذية الحزبية والتفرقة، حتى بين مَن يُعتقد ـ حقاً ـ أنّهم طائفة واحدة كأهل السنّة والجماعة مثلاً، تلك المؤسسات قد تستعمل وسائل عدّة للضغط، وبخاصة المساعدات الماليّة، وقد تسيء عرض بعض الألفاظ فيُساء فهمها، ويُرمى بالباطل، وهو الحق حتى بين المتفقين على مضمونها المسلِّمين جميعاً بصحته. خذ ـ مثلاً ـ أهل السنّة والجماعة على منهاج السلف الصالح؛ حيث تجدهم في بعض الدول يتقسّمون إلى أهل السنّة، والسلفيّة، أو إلى أهل السنّة ومجلس أعلى لشؤون الإسلام. وأهل السنّة ودانْ إزالة (أي أبناء إزالة البدعة وإحياء السنّة في نيجيريا والنيجر) وهلُمَّ جرّاً! ثمّ تجد أشدّ ما يكون العداوة والتناحر والتنابذ بينها؛ فماذا تتوقع أن يكون موقف المناوئين لهم، المعادين لمذهبهم جميعاً؟!
ج - فتاوى ارتجاليّة لا تراعي الأحوال والبيئة المحليّة، كالفتوى بتكفير جميع الطوائف الصوفيّة، وأنّ مَنْ لم يكفّرهم أو يشكّ في تكفيرهم فهو كافر، كما فعل ثلاثة من الدعاة زاروا مدينة تنبكتــو صــيف عام 1422هـ لإقامة دورة للأئمة والدعاة بين 1 ـ 8/4/1422هـ؛ فعلى الرغم من الاستفادة الكبيرة من الدورة، والحاجة الماسّة إلى أمثالها والإقبال الشديد عليها، فإنّهم أحدثوا بفتواهم هذه فتنة، وخلّفوا للدعاة معركة كبيرة في مدينة للصوفيّة فيها سيطرة ونفوذ، وبدأ الدعاة المصلحون يجدون مواطئ قدم فيها من عشر سنوات تقريباً.
د - اتباع الهوى، ومحاولة تضيق أمر واسع، واستعجال النتائج، واستغلال قلّة من المسلمين في محاربة الإسلام وهم لا يشعرون.
هـ - مصالحُ شخصيّة ماديّة أو معنوية، بحُبّ الظهور، والتطلع إلى رئاسة المركز أو المؤسسة، والتعالم، والتأييد الأعمى لشخص ما، والمحاجّة عنه وعن آرائه بالباطل؛ فهذا مما يحدث فتنة ـ أولاً ـ بين الدعاة أنفسهم، وثانياً بينهم وبين غيرهم، فيُشغل المصلحون عن تحقيق أهداف الدعوة، وعن الذين يتربصون بهم الدوائر من أعدائهم، وعن تحقيق أهدافهم العليا، وبالمواجهة على أكثر من جبهة من غير استعداد.
و - نظرة إلى المؤسسات، والمراكز والمدارس الإسلاميّة التي تُمَوَّل أو تجد مساعدات بين وقت وآخر من الخارج؛ حيث يُنظر إليها على أنّها مخازن للأموال الطائلة، يستوي في هذه النظرة ـ أحياناً ـ المثقفون، وبعض رجال الحكومات، وبعض الدعاة والأغنياء، ناهيك عن الفقراء والجاهلين؛ فتُثار الشكوك حول القائمين عليها، وتُكال لهم الاتهامات بأنّهم يستحوذون على الأموال في مصالحهم الشخصيّة؛ فيبدأ تطلع أولئك إلى نصيبهم من القسمة، أو وضع العراقيل، أو التنابذ.
ولبعض القائمين على هذه المؤسسات والمدارس، ولا سيما التي لا تتبع لهيئة خارجيّة دور ـ أحياناً ـ في تغذية هذه النظرة عندما يحيطون المساعدات الماليّة الواردة إليها والمصروفات الصادرة منها بسياج مـن الكتمــان والســرّية، ويعـدّون ذلك غيباً لا يجوز أن يعرف به، حتى العاملون في المركز أو المدرسة، الباذلون عرق الجبين في خدمتها، وفي تعليم أبناء المسلمين ومساعدتهم من غير مقابل ماديّ، أو بشيء لا يكاد يسدّ رمق من يعول، السعاةُ الأوائل في شؤونها؛ فالمدير وحده هو المستقبِل والمتصرِّف، وهو الحفيظ الأمين، ولا سيما إذا كانت الموارد تضخّ الخير الكثير، حتى إذا شحّتْ لسبب من الأسباب فَتَح الأبوابَ على مصارعها للاستجداء، وأغلقها في محاولات الكشف عمّا سبق... هذا التصرف القديم والجديد يفتح باباً واسعاً للإشاعات والتقاذف بالسوء واللامبالاة، أو فتور الهمم والعطاء، حتى من ذاك المدير الذي كان قبل أيّام الباذل الوحيد في المدرسة أو المركز؛ فقد ينفض يديه من شؤونهما، وهما يحتضران ماليّاً؛ فتكون الضحية أبناء المسلمين الذين يستفيدون من ذلك المركز والمدرسة.. كلّ ذلك يزيد في تأجيج هذه النظرة، ومِنْ ثمّ اختلاف التضادّ الذي كان من أبرز آثاره السيّئة: التنافر، والتناحر والتنابذ، وزرع الشكّ في ضعاف النفوس حول مصداقيّتهم وحقيقة ما يدعون إليه.
ثانياً: غلاة الصوفية من التيجانيّة والقادريّة... إلخ، وهؤلاء ذوو نفوذ واسع في بعض دول المنطقة، بل وفي بعض المدن، ولهم في الساحة طوائف عديدة، ودعاة كثيرون ومناصرون في أعلى المناصب. وهناك القاديانية، والبهائية، والشيعة، وغيرها... إلخ، ولهؤلاء ـ أيضاً ـ نشاطات واسعة لنشر مبادئها، تشمل مختلف جوانب الحياة، ومراكز ثقافية وتعليميّة لاستقطاب الشباب بالترغيب والإغراء.
ثالثاً: غلاة ينتسبون إلى أهل السنّة، مثل الجماعة التي ظهرت في إحدى دول المنطقة ـ منتصف السبعينيّات الميلاديّة ـ وأطلقت على نفسها الجمعيّة الإسلاميّة: جمعيّة أنصار السنّة، تكفّر مَن لا ينتمي إليها، ولا تأكل ذبائحهم، ولا تصلّي خلفهم أو في مساجدهم، تستبيح أعراضهم وأموالهم ونفوسهم. أقامت الحدود ـ حسب زعمها ـ على أتباعها، وبخاصة حدّ الردّة ـ الخروج منها ـ وفرّقت بين الرجل وأهله، كما أوجبت الهجرة إلى مراكزها في مالي، وغانا، وغيرهما في تجمّعات خاصّة، والطاعة المطلقة لزعيمها الذي تلقب بأمير المؤمنين وهو من خرّيجي حلقات التعليم في المنطقة، سمّى مركزه الرئيس في إحدى القرى بشرق مالي بـ «دار السلام»، وجدت في بعض أطوارها تشجيعاً ماديّاً ومعنويّاً من بعض الوفود الإسلاميّة التي زارتهم في الثمانينيّات طمعاً في إمكان التوصل بذلك إلى إصلاحها؛ بنبذ معتقداتها المخالفة للسنّة. أطلق عليهم مخالفوهم من أهل السنّة وغيرهم الخوارج. لكنّها ذابت إلاّ قليلاً؛ لأمور كثيرة منها: خروج كثير منها بعد تعلُّم بعض أبنائها في الجامعات الإسلاميّة، وتبيُّن الحقّ في أمرهم بعد محاورة مشهودة لأميرها أمام لجنة علميّة من كبار العلماء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في أواخر عام 1412هـ، وأوائل 1413هـ (1).
قريب منها جماعة أخرى ظهرت في بعض دول المنطقة تدعو إلى الاعتزال الكامل لكلّ وسائل الحياة المعاصرة، حتى الضروريّة منها؛ لما يرونه فيها من صلة بالكفار. ولا علاقة لهذه الجماعة بالدعوات التي ظهرت في دول إسلاميّة إلى مقاطعة بضائع بعض الدول الغربيّة المحاربة للإسلام والمسلمين.
رابعاً: التنصير بكلّ وســائله الماديّــة والمعنويّــة، وبمدارسه ومراكزه الصحيّة، والاجتماعيّة، والتعليمية، والاقتصاديّة، والسياسية، والإعلاميّة... إلخ، وبمختلف أساليبه في الإغواء، والإغراء.
كتب الشيخ محمود شاكر ـ رحمه الله ـ في «الرسالة، في الخميس 12 رمضان 1384هـ» يقول: «وأشدّ بطلاناً أن يتصوّر امرؤ أنّ التبشير بمعزل عن الغزو الحربي، والغزو الاقتصادي، والغزو الفكري والسياسي، وعن محاولة الجنس الأوروبي المسيحيّ أن يُخضع الأمم لسيطرة تدوم ما دامت له حضارة، وأشدّ بطلاناً... أن يخطر ببال أحد أنّ التبشير قد غاب عن كثير من الدعوات التي قام أصحابها ينادون بضروب من الإصلاح في بلاد العرب، وفي بلاد الإسلام، وفي غيرهما من البلاد، وأنّه لم يضع إصبعه ليحوِّل معنى الإصلاح إلى معنى التدمير والهدم والتحطيم»(1). ويزيد في كشف أساليبهم وبيان وسائلهم، فيقول: «العامل في هذا الجهاز لا يقتصر أمر قوّته على نفسه أو منزلته، بل على التدبير المحكم، والسياسة البصيرة، والأعوان المدرّبين، وعسى أن يكون أظهر عُمّاله اسماً، وأبينُهم سلطاناً هو أقلّهم شأناً، وأبعدهم عن مواطن الرِّيَب»(2). انظر ـ مثلاً ـ إلى أسلوبهم في الموازنة بين جهودها في الخدمات الصحيّة، والتعليميّة، والاجتماعيّة، وبين الجهود الإسلاميّة؛ لإقناع ضعاف النفوس من المسلمين بمبادئها، وبأنّ دينهم دين الرحمة والعطف، والعلم، والإنسانيّة.
وقد كانت سياسة الجمعيّات الغربيّة العاملة في الساحة ـ ومعظمها تنصيريّة ـ استثناء المدارس الإسلاميّة، ممّا تسمّيه المساعدات الإنسانيّة لمحو الأميّة بإقامة فصول دراسيّة، وتوزيع بعض المستلزمات الدراسيّة، أو حفر الآبار ونحوها، لكنّ بعضها شرع في تغيير شيء من هذه السياسة في بعض الدول سعياً منها في اكتساب ثقة المسلمين ومحبّتهم؛ وإخفاءً لمحاولاتها تشويهَ تعاليم دينهم؛ حيث تقوم ببناء مدارس قرآنيّة، والإذن لممثّليهم بتدريس أطفال المسلمين اللغة الفرنسيّة أو الإنجليزية، والموادّ العلميّة بجانب الموادّ الإسلاميّة، كما هو حال منظمة «مشروع غينيا»(3)، بل لا تتردد في تقليد المسلمين بإقامة مناسباتها الدينيّة في بعض أعياد المسلمين، حتى لا يتأثر أتباعها بالمسلمين في هذه الأعياد وجوّها العَبِق، كما هو حال بعض النصارى في بنين، وغيرها في يوم الجمعة من كلّ أسبوع.
خامساً: التغريب في أوسع معانيه، وأكبر جوانبه الثقافيّة، والاجتماعيّة، والتربويّة، والأخلاقيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، وأدواته: اللادينيّة، والإعلام والمساعدات، وإشاعة الانحلال الخلقي، ومحاولة تفكيك الأسرة، وإضعاف الوازع والنازع الدينيين في نفوس الشباب بكلّ وسيلة وأسلوب(4)، في ظلّ قلّة الكفاءات العلميّة الإسلاميّة المؤثرة في جوانب الحياة الأخرى، وحاجةِ مَن وُجد منهم إلى جرعات من الوعي الديني وثقافته؛ لأنّ دراسة أغلبهم وثقافتهم غربيّة. لكنّ الساحة تشهد في الآونة الأخيرة جهوداً عظيمة لهؤلاء في الدفاع عن الإسلام وقضاياه في مختلف المجالات، وفق الله الجميع لما يحبّه ويرضاه.
سادساً: المشكلات التمويليّة، والإداريّة، والمنهجيّة، والسياسيّة، والطائفيّة التي تواجه المدارس الإسلامية العربية الأهليّة وخرّيجيها، وهي التي يوجه إليها كثير من الآباء أبناءهم أملاً في أن ينهلوا علماً صافياً ينفعهم في دنياهم وآخرتهم(1)، وضع بعض دولهم العقبات أمام هذه المدارس بعدم الاعتراف بشهاداتها، وعدم معادلة شهادات خريجيها بشهادتها، وحرمانها من المساعدات الماليّة التي تُقدَّم للمدارس الأهليّة المنصوص عليها في دساتير معظمها، وغيرها من وسائل التضييق عليها.
سابعاً: استخــدام الفئات المعاديـة بسخـاء للغــة العربية في نشر أفكارها؛ إذ وجدت إقبالاً شديداً من متعلميها، بل من المسلمين عامّة في غرب أفريقيا، على قراءة الكتب المؤلّفة بها من غير معرفة بعضهم بأنّها تخالف الإسلام وتحاربه، حتى إنّك قد تجد من يحاجُّك بأنّ ما تنكره عليه موجود في كتاب عربي، ومطبوع في دولة عربية، أو إسلاميّة، وهكذا استغلّت الجمعيات التنصيرية، وغيرها انتشار اللغة العربيّة في مجتمعات المنطقة ومالها مِنْ مكانة مرموقة في نفوس المسلمين في نشر المبادئ المناوئة للعقيدة والتعاليم الإسلاميّة الصحيحة، والتدليس على المسلمين. ولا تتردد في تضمين بعض كتيّباتها آيات قرآنيّة، وأحاديث نبويّة زيادةً في التمويه والتدليس، يساعدهم شُحٌّ شديد في الكتيّبات الإسلامية التي تتناول شؤون الإسلام في ضوء الكتاب والسنّة، وعدم قدرة كثير من الناس على شراء ما يتوفّر منها في أسواق المنطقة، وندرة المكتبات الإسلامية العامّة للقراءة والاطلاع. وهناك أمر آخر وهو التركيز على أن يتزوّد مَنْ يُرسَل من المنصِّرين إلى المناطق الإسلاميّة ببعض العلوم الإسلاميّة، وإجادة اللغة العربيّة.
ثامناً: النزاعات القبليّة، وأثرها في تفتيت وحدة المسلمين، لا يخلو قلّة من الدعاة من إشعال نارها؛ بسبب تعصّبه لقبيلته، أو شعبه ومنطقته أو للحسد، وربما الرغبة في الانتقام، ولا يتوانى بعضهم من تشويه سمعة دعاة آخرين لهم جهود بارزة في الدعوة، وإدارة مراكزها بإخلاص وأمانة؛ طمعاً في المنصب، أو لأنّهم ليسوا من جماعته ومنطقته، ومن ثمّ فقد يرميهم زوراً بالبدع والخرافات والفسوق.. إلخ، وقد يكتب في ذلك تقارير إلى بعض الجهات الدعويّة المتعاقدة معه التي قد لا تتثبّت بدورها من المتهم أو غيره قبل اتخاذ قرار فصلهم، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وإذا كانت هذه الجهة الدعويّة تحسن الظنّ بكاتب التقرير، ولا تتوقع منه ـ حسب ما غلب على ظنّها ـ الفسق الوارد في الآية فلا أقلّ من التحرّي والبحث، أو سماع رأي المتهم؛ فقد يكون وراء الأكمة ما وراءها؛ ولكي يكون آخر الدواء الكيّ لا أوّله.
ولا بدّ من الإشارة إلى أمرين مهمّين:
أحدهما: يجب أن لا نخلط بين تعصّب الشخص لمنطقته أو مدينته وبين تقديمها على غيرها؛ لأنّها أحوج من غيرها إلى خدمات دعويّة أو اجتماعيّة. فما أكثر ما يُستخدم مثل هذا في إعاقة مشاريع دعويّة في مناطق أحوج ما تكون إليها، وبخاصة إذا بعدت عن العواصم وما حواليها.
والآخـر: أنّ الإسلام لا يلغي القبيلة فهي نعمة من نعم الله تعالى(1)، وسلاح ذو حدّين إنْ استُعمل في الخير فهو خير، وإلاّ فهو شرّ، ولكنّ الإسلام وجّهها فيما يحقق الخير توجيهاً حسناً، يقوم على عدّة أسس، منها: التأليف وتقديم رابطة الدين على رابطة القبيلة إذا تعارضتا، والعدل والمساواة، والتواضع. كما جعل قرابة القبيلة أساساً لأمور كثيرة: كالأولوية في استحقاق النفقة، وتحمل ديّة القتيل (العقل)، والوصيّة في الميراث... إلخ، وأقام الإسلام ميزان التفاضل على ثلاثة أسس هي: العلم، والتقوى، وحسن الخلق.
تاسعاً: الانفراديّة والانتهازيّة في إدارة مراكز الدعوة والمدارس؛ ولها أسباب كثيرة منها: عدم وجـود تنظـيـم إداريّ يـــوزع المســؤوليّات الداخليّة، ولا مجلس إدارة يسهر عليها. فأقلّّ الآثار السيئة لهذا الأمر أن يشعر بعض العاملين أنّ علاقتهم بها هي فقط علاقة وظيفة شهريّة قد تنتهي بين عشيّة وضحاها، لا علاقة دينيّة ومشاركة فعّالة في السهر عليها، والسعي في تطويرها، والارتقاء بها، وتوسيع مجالات تأثيرها في المجتمع الإسلاميّ. وقد يُترك لهذا الشخص الحابل على النابل في إدارة شؤون المركز أو المدرسة؛ مما قد يدفعـه إلى الاســتبداد، ولا يحمل اختلاف وجهات النظر إلاّ على أسوء المحامل؛ فيتخلف المركز أو المدرسة مراحل طويلة، ويتأخر مسافات بعيدة عن تحقيق الأهداف، أو الانتقــال مــن الطــور الأوّل إلــى الذي يليه، وربّما لا يُتدارك الأمر إلاّ بعد فوات الأوان، هذا إذا نجّاه العليّ القدير من الفشل أو ذهاب الريح.
عاشراً: التركيز على العواصم والمدن القريبة منها يترتب عليه إهمال أماكن أخرى هي أحوج إلى جهود المؤسسات الإسلاميّة الدعويّة، والاجتماعيّة، والتربويّة. وفي السفر إلى بعضها ضروب من المشاقّ، كما يؤدّي إلى تركُّز الدعاة والعلماء، والمراكز الإسلاميّة المهمّة في تلك العواصم، والمدن القريبة منها؛ فيقع ما عداها فريسة للجهود التنصيريّة والجهل إلاّ ما شاء الله.
تلك عشرة كاملة من المعوِّقات التي تطفو على ساحة الدعوة الإسلاميّة المعاصرة في دول غرب أفريقيا، ومهما تفاوتت فيها لا تكاد تجد دولة أو ساحة دعويّة يخلو من معظمها، والله المستعان.
تأمَّل ـ مثلاً ـ كيف لا يزال بعض هذه المعوِّقات وكثير غيرها، تُطِلّ برأسها بين العلماء والدعاة أنفسهم في الولايات الشماليّة بنيجيريا التي بدأت تطبق الشريعة؛ برغم الهجمات الشرسة التي تعرضوا ويتعرضون لها من الأعداء بمختلف اتجاهاتهم، والتحديات الكبيرة التي تواجههم في ترسيخ أقدام هذا التطبيق في شتّى المجالات الاجتماعيّة والدعويّة، والتنظيميّة، والسياسيّة والاقتصاديّة، والتعليميّة(1). فممّا لا شكّ فيه أنّ بروز هذه المعوِّقات ـ برغم الإيجابيّات العظيمة، والفوائد الجليلة التي تحققت من تطبيق الشريعة في وقت يسير ـ بروز هذه المعوِّقات سيكون له تأثير سيئ، وأثر سبليّ لدى الراغبين في الاحتذاء حذوهم من مسلمي الولايات النيجيرية الأخرى أو من دول غرب أفريقيا، ثم ألا يتخذها الأعداء عندئذ أنموذجاً للشماتة والسخريّة بالإسلام وأهله؟ نسأل الله للجميع العون والتوفيق والسداد.
الحلول
ما من داء إلا وله دواء، وقد لا يحسن المريض استعمال الدواء فيتفاقم المرض. ودواء هذه المعوِّقات البحث عن سبل التغلب عليها، أو التقليل من آثارها، وحسن استعمال هذه الوسائل والسبل.
فهذه الصعوبات والمعوّقات وغيرها ـ على خطورتها ـ لم تتمكن ولن تتمكن بإذن الله ـ تعالى ـ من إقصاء الحركة الإصلاحية الحديثة، والدعوة الإسلاميّة المعاصرة من الساحة، لكنّها تفتّ من عضدها، وتشتت جهودها، وتحول دون تطوير نفسها والارتقاء بها، وتوسيع خدماتها ومساحاتها.
ولو تمّ التغلب على معظمها لكان ذلك مُضادّاً حَيَوِياً مهدِّئاً للبقيّة، ولشهدنا ازدهاراً للإسلام، وقوّة للمسلمين أكبر وأفضل من الواقع. أضف إلى ذلك أنّ مما ينبغي تسجيله تعاضد بعض هذه الطوائف الإسلاميّة أحياناً من مختلف الانتماءات وفي عدّة دول، تعاضدها في مقاومة بعض القضايا والقرارات المعادية للإسلام؛ فيقفون موقفاً واحداً في وجوه أصحابها؛ مما يدل على أنّ كثيراً من هذه المعوقات يمكن تفاديها بالحكمة، وبزيادة الوعي بحقائق الإسلام، وبالصبر والمثابرة، وحسن التعامل مع المخالف المسلم أو غيره؛ فالدين المعاملة، والرسول # إنّما بُعث ليتمّم مكارم الأخلاق، ولهذا التعاضد نماذج حيّة متكررة في كثير من دول المنطقة.
وإليك بعض السبل والوسائل التي تعين بتوفيق من الله على تفادي تلك المعوِّقات وغيرها.
من أهمّ سبل التغلب على تلك المعوّقات:[/align]
1 - إنّ أوقى سبيل وأنفعها هو تقوى الله، والإخلاص لله ـ تعالى ـ في القول والعمل؛ فمن ثمارها الدانية:
أ - قوّة التمسك بالكتاب والسنّة.
ب - نبذ الافتراق والتناحر، والابتعاد عن اتباع الهوى وحبّ الظهور، والتطلع إلى الرئاسة، وعن الأنانية والانفرادية والانتهازية في العمل، مع إيجاد تنظيم إداريّ لا يحتكر المسؤوليّات الداخليّة في يد شخص واحد فقط، سواء في المدارس الإسلاميّة العربية، أم في مراكز الدعوة ومؤسساتها.
ج - القدوة الحسنة في القول والعمل، والتزام الحكمة والموعظة الحسنة، والرفق والتيسير، والابتعاد عن الغلوّ والتكفير.
د - إحسان الظنّ، ومحاولة تلمّس الأعذار للعاملين في ساحة الدعوة، والابتعاد عن التقاذف بالسوء والوشايات والإشاعات.
2 - ومن سبل التغلب على هذه المعوِّقات: الوعي بأساليب الأعداء ووسائلهم المختلفة، وفقه الواقع المحلي والخارجي، ومراعاته نفسياً، واجتماعياً، وثقافياً، وعقدياً وغيرها، من غير تمييع للحق.
3 - العناية بالمدارس الإسلامية، وبتطوير مناهجها وتنويعها؛ لتخرج ـ أيضاً ـ كوادر إدارية، واقتصادية، وطبيّة، وتربويّة وغيرها، إلى جانب الكوادر الشرعية، أو على الأقلّ تُمهِّد السبيل لبعض خرّيجيها لمواصلة دراساتهم في الكليّات والجامعات الوطنيّة في تخصصات لا غنــى للمســلمين عنها، ولا أعتقد أنّ هذا سيعيق هذه المدارس عن تحقيق الهدف الأساس من تأسيسها، وهو تعليم أبناء المسلمين شؤون دينهم الذي لا يجدونه في المدارس الحكومية، إذا ما تمّ الإعداد الجيّد له؛ ولأنّ أكثر الدارســين في المدارس الحكــومية بهذه المنطقة هـم ـ أيضاً ـ من أبناء المسلمين، ويتوق كثير منهم إلى معرفة أمور دينه، ولهم في بيئاتهم الدراسيّة حركة إسلاميّة دعويّة للالتزام بالإسلام.
توجد تجارب موفَّقة للجمع بين المنهج الإسلامي العربي والحكوميّ في عدد من دول المنطقة، تتمثل في مدارس رابطة العالم الإسلاميّ، والمنتدى الإسلاميّ، وعباد الرحمن في السنغال، ولها نماذج في المدارس المدعمة من بعض الحكومات، أو من إنشائها أو من إنشاء الأفراد: كما في النيجر، ونيجيريا، وغينيا، وغانا.. إلخ، وللبنك الإسلاميّ مشروع مماثل يسعى في تطبيقه في النيجر وتشاد. كما توجد تجارب أخرى سلبياتها أكثر، سواء في ذلك المدارسُ الإسلاميّة المدعمة من الحكومات، أم التي من إنشائها، ومن إنشاء بعض الأفراد، ولها ـ أيضاً ـ نماذج في كثير من دول المنطقة.
ومِنْ ثمّ لا تصلح لأن تكون بديلاً للمدارس الإسلاميّة العربية التي نريد لها أن تتولّى تطبيق المنهجين بنفسها لأسباب كثيرة منها: عدم العناية الكافية بالموادّ الإسلاميّة والعربية في المدارس المشار إليها (المدعّمة من بعض الحكومات، أو من إنشائها، أو من إنشاء الأفراد)، إمّا بسبب دمجها للموادّ الإسلاميّة: القرآن والحديث والفقه والسيرة وغيرها، تحت مسمّى التربية الإسلاميّة؛ حيث يقدّم النجاح فيها، ولا يؤخر الرسوب فيها إذا ما نجح التلميذ في موادّ المنهج الحكوميّ. وإمّا لتدريس هذه الموادّ باللغة الإنجليزية، كما في سيراليون(1). وإمّا لضعف أداء بعض معلمّي هذه الموادّ تربوياً، وثقافياً، وقناعة أو تحمُّساً لما يعلّمه مقابل أداء معلّمي المنهج الحكوميّ. وإمّا لاختيار أوقات غير مناسبة لها: كالحصص الأخيرة مع قلّة الساعات المخصصة لها.
لقد أصبح هذا التطوير مطلباً ضرورياً في الآونة الأخيرة؛ لأسباب من أهمّها ـ إضافة إلى المشكلات الإداريّة والماليّة والمنهجيّة والسياسيّة المشار إليها ـ:
الخوف على هذه المدارس حتى من بعض القائمين بشؤونها (مدرّسين وغيرهم) ممن تثقفوا بالثقافة الإسلامية العربية، وبعضهم ذوو مناصب في الحكومات، ويستشارون في شؤونها؛ إذ يرفض هؤلاء إلحاق أبنائهم بها مع عداوة لها أو دونها؛ لحجج منها: عدم تمكّن أكثر خرّيجيها من مواصلة تعليمهم العالي لا في الخارج حيث الجامعات العربية والإسلاميّة لقلّة العدد المقبول منهم، ولا في الداخل حيث الجامعات الوطنيّة والحكوميّة، باستثناء بعض الدول: كالنيجر، وبعض ولايات نيجيريا... إلخ، مع محاولة قصر الأقسام العربيّة في بعض كليّات تلك الجامعات الوطنيّة على تخصص واحد فقط، وهو اللغة البحتة، وعلى حملة الشهادة الحكوميّة ممن اختاروا اللغة العربية لغة ثالثة في الثانوية، وفي ظلّ غياب معاهد عليا وكليّات أهليّة. ومن حججهم:
الخوف على المستقبل الوظيفي لخرّيجيها، فينضمّون إلى العدد الهائل قبلهم. ومنها: أنّ التعليم في المدارس الحكوميّة مجاني، وفي هذه المدارس برسوم.
وللإنصاف فإنّ مَنْ أشرنا إليهم قلّة، وهما طائفتان ليستا على درجة واحدة:
الأولى: ترفض بتاتاً إلحاق أبنائهم، ونحوهم بهذه المدارس الإسلاميّة العربية، مع عداوة لها؛ فقال قائلهم: لو كان الأمر بيدي لأغلقتها، واكتفيت بتحفيظ القرآن الكريم، وماذا يستفيد البلد من دراسة الشريعة والدعوة، وقال آخر: العرب يتخصصون بالفرنسيّة والإنجليزيّة وأنتم بالعربيّة... إلخ، هذا عند قلّة، أو من غير عداوة لهذه المدارس وإنّما للحجج السابقة، وهو شأن الكثير من هذه الطائفة.
والطائفة الأخرى: تُفضِّل إلحاق كلّ أبنائها بالمدارس الحكوميّة، التي يتم التعليم فيها بالفرنسية أو الإنجليزية، ومنهم من يوزِّعهم بينها وبين المدارس الإسلامية العربية الأهليّة ذكوراً كانوا أم إناثاً.
ومهما يكن فإنّه إذا كانت هذه نظرة قلّة من القائمين على هذه المدارس، وكان هذا موقف بعض خرّيجيها الأوائل منها، وممّا تُعلِّمه فما بال غيرهم؟ كما أنّ خطورتها ترجع ـ أيضاً ـ إلى أنّ تصرُّفهم هذا وافق هوى في نفوس بعض المسؤولين الحكوميين المعادين لهذه المدارس الذين لا يتوانون في وضع عراقيل إداريّة أمامها؛ بحجج ظاهرها المشاركة في توسيع البطالة في الوطن، وباطنها محاولة الحدّ من انتشار الوعي الإسلاميّ في دول المنطقة، ولا سيما مع الأحداث العالميّة في السنوات الخمس الأخيرة، أوَليست البطالة موجودة بين خرّيجي جامعات ومدارس الحكومة؟
ويقيني أنّ الطريق الأولى ـ تطوير مناهج المدارس الإسلاميّة العربية ـ أنفع ممّا يطبق في المدعمة من الحكومات ونحوها، وأسهل تطبيقاً من إيجاد دروس إسلاميّة في تخصصات الكليات والجامعات الوطنيّة باللغة الفرنسيّة، أو الإنجليزيّة تُدرِّس لطلابها بعض قضايا تخصصاتهم من منظور إسلاميّ: كنظام القضاء، ونظام المعاملات، وحقوق الإنسان، ونظام الأسرة... إلخ، برغم أنّه يوجد في كلّ دولة شباب متخصصون بالدراسات الإسلامية يمكن تأهيلهم في تلك اللغات ليقوموا بهذا الأمر؛ لأنّ ذلك سيصطدم بعوائق كثيرة يضعها القائمون على شؤون التربية والتعليم في هذه البلاد، أدناها تمييع المناهج أو تفريغها من المضمون الإسلاميّ؛ وذلك كلّه ممّا لمَّا يستعدّ له القادة المسلمون من الدعاة والعلماء والمثقفين. برغم أنّ للدين عند المسلمين عامّة مفهوماً لا تجده عند أصحاب الملل؛ فهو ـ عند المسلمين ـ الحياة كلّها، «فهو اسم جامع لكلّ تصرف يتصرّفه المرء المسلم في حياته، منذ يستيقظ من نومه إلى أن يؤوب إلى فراشه، وفي كلّ عمل يعمله، مهما اختلفت هذه الأعمال من أحقرها وأدناها إلى أشرفها وأغلاها، كُلّ ذلك دين هو مسؤول عنه يوم القيامة... وإن كان في بعض ذلك على بعض فضلٌ»(1)، مصداق ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
4 - العناية بتوعية أغنياء المسلمين في هذه الدول، وتحفيزهم على زيادة جهودهم في إقامة المشاريع وتمويلها. فمن المسلَّم به أنّ الإسلام إنّما انتشر في هذه المنطقة على أيدي التجار السودانيين والعرب، وأنّ الجاليات الأفريقية المتنقِّلة بين دولها للتجارة، أو السُّكنى أحد أبرز روافد النهضة الإصلاحيّة الحديثة، والدعوة الإسلاميّة المعاصرة. أمّا في الوقت الحاضر فعلى الرغم من الجهد الكبير المشهود الذي بذله ويبذله بعض هؤلاء في كلّ دول المنطقة لنشر الدعوة الإسلاميّة، وبناء المساجد والمدارس، والعناية ببعض مراكزها، وكفالة الدعاة، إلاّ أنّهم بحاجة إلى تحفيز متجدد، متنوِّع الأساليب والوسائل لبناء جسور من الوعي الديني والثقة والأمانة.
5 - الانطلاق في الدعوة والإصلاح من تخطيط ودراسة، ولا سيما في أفريقيا. وتأتي أهميّة التخطيط من كونه منهجاً علمياً يرسم صورة العمل في شتى المجالات، ويحدد مساره، ويساعد على استخدام أمثل للموارد البشرية والطبيعية، ودونه تصبح الأمور متروكة للتلقائية والارتجالية(2). هذا عن التخطيط بعامة، أما التخطيط للدعوة الإسلامية فتزداد أهميّته من حيث إنّ الدعوة الإسلامية تكليف شرعي على الأمة القيام بها على أكمل وجه، ولا يتم لها ذلك ما لم تحسن استخدام مواردها البشرية والمادية في أحسن صورة ممكنة، ضمن خطة محكمة(3). ومن فوائد التخطيط للدعوة: توضيح أساليب العمل وخطواته، وتنسيق الجهود، والتركيز على الأهداف، والتدرج في تنفيذ الأولويات، وتحقيق مزيد من الثقة والاطمئنان(4).
6 - تقديم الأولويات والتدرج في تنفيذها، ولا بدّ في هذا التدرج من مراعاة جانبين هما: الإلحاح، والأهميّة. الأوّل يرتبط بالوقت؛ أي المساحة الزمنية المتاحة، والآخر بالقيمة. فهناك أمور ملحّة ومهمة في آن، وأخرى درجة الإلحاح فيها أعلى من درجة الأهميّة، وأمور مهمة وليست ملحة، وأخرى ليست ملحّة ولا مهمة في حاضرها(5). فلا بدّ من مراعاة ذلك كلّه في تقديم الأولويات في الدعوة، وكذلك مراعاة الوسطية، وفقه الواقع؛ إذ لها جميعها نصيب وافر في إتقان التنفيذ وجودته، وفي تنظيم الوقت والجهد، وتحصيل ثمار طيّبة مع تذليل عقبات كثيرة.
7 - تفادي الأخطاء التي وقع فيها بعض السابقين، ويقع فيها بعض المعاصرين، وبخاصة الارتجاليّة واستعجال قطف الثمار، وجعل كلّ مخالف في الرأي عدواً لدوداً، أو شيطاناً مريداً، حتى لو كان مسلِماً ومن الطائفة نفسها. ولا ضير في تسجيل الأسباب الحقيقية لتعثُّر بعض المؤسسات والدعاة للاستفادة منها من غير شماتة ولا نشرها على الملأ.
8 - التعاون الجيّد مع الكفاءات العلمية، والإدارية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، ممن دراستهم فرنسية أو إنجليزية، وزيادة توعيتهم بأمور دينهم وتعاليمه. وقد صار عدد مَنْ يُقبِل منهم على الالتزام بالإسلام، ومحاولة فهمه والدفاع عنه كبيراً ولله الحمد، وللكثير منهم جهود عظيمة في التوعية الإسلامية، وفي الدفاع عن الإسلام وقضاياه. وما أحوجهم إلى الكتيّبات الإسلاميّة باللغات التي يُجيدونها، سواء ما تعلّق منها بالعبادات والعقائد أم بمجال عملهم؛ فهم مشتاقون إلى معرفة شيء عن النظام الإسلاميّ في كثير من القضايا، وباختصار لا بدّ من استهدافهم بخطاب دعوي يناسبهم، وبلغة ثقافتهم. وحبّذا لو تمّ في دورات علميّة متخصصة لا تقلّ مدتها عن شهر. وقد كان منهم مَنْ أخذ إجازات طويلة ـ سنة فأكثر ـ لكي يتفرّغ لتعلُّم اللغة العربية والعلوم الإسلاميّة في معاهد اللغة العربية للناطقين بغيرها: كمعهد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، وجامعة الملك سعود، والجامعة الإسلاميّة، وغيرها.
9 - العناية بالخدمات الاجتماعية وبمراكــزها؛ لـِمَا فيها من مواساة عمليّة للمحتاجين، والتخفيف من معاناتهم، وتثبيت أقدامهم، وكذلك التدريب المهنيّ، ولبعض المؤسسات الإسلامية العاملة في المنطقة جهود بارزة في هذا المجال.
10 - تنويع الوسائل وتطويرها، وحسن الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة، المقروءة، والمسموعة، والمرئيّة، باللغات المحلية والرسمية. وزيادة العناية بالجهود الحالية وببرامجها المقدّمة، وعقد الندوات العلميّة، والإكثار من الدورات الدعوية والتربوية والإدارية، وكسر حاجز اللغات الرسميّة أمام الدعاة، ليتمكنوا من إجادتها تحدُّثاً وقراءة؛ لأنّه إذا كان المتعلمون بهذه اللغات على قناعة تامّة بضرورة إجادة أكثر من لغة حيّة، حتى يمكنهم التأثير فــي المجتمــع؛ فكيــف بهــؤلاء الدعاة الذين لا يجيد أكثرهم إلاّ اللغات المحليّة؟ وكم منهم من يجهل قوانين دولته المكتوبة بالفرنسيّة أو الإنجليزية؟ فضاع بذلك كثير من حقوقه.
11 - إذا كان من المسلّم به ضرورة إيجاد استثمارات ثابتة يُنفق من ريعها على الدعوة ومراكزها، وعلى تكوين الكوادر العلميّة وتدريبهم، فلعلّ من نوع التثمير الذي يجب أن يهتمّ به الدعاة حسنُ تثمير بعض وقتهم في الكسب الحلال: كالتجارة، ونحوها، وتقويته؛ إذ من شأنه أن يتعفّفوا مما بأيدي الناس، وأن يكونوا قدوة في الإنفاق على الدعوة، وتحمل تكاليفها المتعلّقة بهم، وبغيرهم. ومن الدراسات القيّمة والمهمّة في هذا الجانب رسالة الأخ والزميل د. ساموكا داود سوماورو بعنوان: «الجمع بين الدعوة إلى الله، وطلب الرزق، دراسة تأصيلية وتطبيقية على عينة من الدعاة في غينيا»(1).
وقبل الإشارة إلى أهمّ نتائج الدراسة التطبيقية على الدعاة في جمهوريّة غينيا كوناكري بغرب أفريقيا نعرض بعض قضايا الدراسة النظرية.
فمن الضوابط الشرعية للجمع بين الدعوة وطلب الرزق: سلوك الطرق المشروعة في الدعوة، وطلب الرزق، والمحافظة على هدي الكتاب والسنّة فيهما، وتفضيل الأهداف الدعويّة، وتقديمها على غيرها، والإنفاق في المصارف المباحة. ومن ضوابطه الأخلاقية: الحرص على الثواب من الله، والعدل في علاقة الداعية بربه وبنفسه وبخلق الله، والقناعة، والصبر، والتوكل على الله(1).
أمّا دواعي الجمع بينهما فتنقسم إلى دواعٍ متعلقة بالداعية نفسه: كالمحافظة على الطاعات الماليّة، والاستعانة بالرزق في تنفيذ العبادات البدنية، والمحافظة على إعطاء النفقات اللازمة، والحرص على بذل الخيرات التطوعيّة. وهناك دواعٍ تتعلق بشؤون الدعوة نفسها: كالحرص على أداء واجب الدعوة، وتحمل تكاليفها، وأخرى تتعلق بالمدعوِّين يراعى فيها أصناف المدعوِّين(2) في الأساليب والوسائل، وقد رأى الباحث أمرين رئيسين تنحصر فيهما دواعي الجمع المتعلقة بالمدعوِّين، وهما: تسخير نصيب من الرزق لصالح المدعوّ المستجيب، ونصيب آخر لدعوة المدعوّ غير المستجيب(3).
ولضمان أن لا يتضرر أحد الطرفين: الدعوة وطلب الرزق، بهذا الجمع؛ وحيث إنّه يجب أن يكون الأمر بلا إفراط ولا تفريط كان لا بدّ من تحديد مجالات طلب الرزق المناسبة للداعية(4)، وبيان عوامل نجاح الجمع بينهما وعوائقه؛ فذكر من أهمّ عوامل النجاح: قوّة الإيمان وأثره في نجاح الدعوة وفي السعي لطلب الرزق، والتزام أخلاق الإسلام في طلب الرزق، وتقويم مستمّر للجمع بينهما؛ لمعرفة آثاره الحسنة أو السيئة عليهما، ومن ثمّ تصحيح الأخطاء وتدعيم الصواب. وأمّا عوائقه فمنها: عوائق داخلية: كالجهل بهدي الإسلام في الجمع بينهما، واتباع الهوى، والكسل، ومن الخارجية: الفقر، وضغوط أعداء الدعوة، وأساليبهم المختلفة، ووسائلهم المتنوِّعة(5).
وتتعلق الآثار بالداعية: بعبادته، ودعوته، واقتصاده. وبحياة المدعوّ المستجيب الدينية، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة. وبعضها تتعلق بالمدعوّ غير المستجيب من حيث جعله يقبل الدعوة، مع نماذج له قديماً وحديثاً(6).
وفي الجانب التطبيقي على الدعاة في جمهورية غينيا توصل الباحث إلى عـدّة نتائج أرى أنّهـا تنطبق ـ أيضاً ـ على دول غرب أفريقيا، يعنينا منها في هذا المقام النتائج الآتية:
- الدعاة الذين لا يجمعون بين الدعوة، وطلب الرزق في غينيا عدد قليل جدّاً.
- الذين يجمعـــون بينهمــا علــى ثلاثة أحــوال ـ حسب ما رأى الباحث ـ إمّا أن يقسموا الوقت بينهما، أو يمارسوا الدعوة عند القيام بطلب الرزق، أو يتفرّغوا للدعوة دون غيرها. وهؤلاء فريقان: الأوّل متفرغون مع تفويض غيرهم لكسب الرزق، والآخر متفرّغون اكتفاءً بما يجدونه من إعانات(1).
كما أنّ هناك حالاً رابعة تكثر بين الدعاة من خرّيجي حلقات التعليم الإسلامي في المنطقة، أو من يسمَّون بـ «الشيوخ التقليديين» وهي: الترزُّق عند القيام بالدعوة؛ وذلك بجمع تبرُّعات أثناء الدعوة في موعظة، أو حلقة تعليمية عامّة، ثمّ يتمّ تقسيم ما جُمِع بين الدعاة؛ ولذلك تجد أحدهم يتنقل في اليوم الواحد بين عدّة لقاءات وعظيّة أو مناسبات دينيّة: عقيقة، عقد زواج، مأتم... إلخ، وعينُه في كلّ واحد على ما سيكسبه فيه، مما يعرِّضهم في أحيان كثيرة للسخريّة والاستهزاء والإهانة، وبخاصة في حالات الاختلاف على تقسيم التركة. برغم أنّ بعض هؤلاء ممن لهم جهود مشهودة في الوعظ والإرشاد.
- يترتب على عدم الجمع بينهما أضرار كبيرة جدّاً، تطال الدعوة والدعاة، والمدعوِّين في هذه الدولة دينيّاً، وثقافيّاً، واقتصاديّاً، وسياسياً. وهذا مما يستدعي ضرورة الجمع بينهما بصفة مستمرّة.
- من أبرز العوامل المساعدة في تطبيق الجمع بينهما في هذه الدولة: تقوى الله، وقوّة الإرادة، والحرص على مساعدة المدعوّين، وتسهيلات النظام الاقتصاديّ، والتعاون بين الدعاة في الجمع بينهما وإن كان ضعيفاً، والإعانات الخارجيّة للدعاة، وحرص حكومتها على حسن العلاقات الخارجية، واهتمامها بالشؤون الإسلاميّة(2).
- ومن أبرز عوائق الجمع بينهما عند الدعاة: الحرص على المال والشرف على حساب الدعوة، وإهمال طلب الرزق مع الحاجة إليه وضغط الفقر، وأثر الأخلاقيات المخالفة للإسلام عند بعض المدعوِّين المستجيبين، وأثر الاستعمار والتنصير والصوفية.
- تتمثل أساليب الإنفاق على مصالح الدعوة في دفع الزكاة، والصدقات، والوقف، والهدايا، والتعاون على البرّ.
- وأمّا مجالات إنفاقهم لصالح الدعوة فمنها: تحمّل تكاليف الدعوة، وتربية المدعوِّين، وتثبيتهم على دينهم، ومساعدتهم اقتصادياً، والدفاع عن الإسلام(3).
تتفق دول غرب أفريقيا في هذه النتائج لاتفاقها في عوامل كثيرة منها: العامل الدينيّ، والاقتصاديّ، والسياسي، والاجتماعيّ، وكون الشعوب فيها متفقة في العادات والتقاليد، وأغلب الأجناس والقبائل الموجودة فيها. فإذا وجد تفاوت بينها فقد يكون مردّه إلى اختلاف السياسات، والقبائل النافذة في كلٍّ، وكون المسلمين أكثريّة أو أقليّة، ومدى قوّة الوعي الإسلاميّ بينهم، وكثرة المتعاقدين مع مؤسسات إسلاميّة خارجيّة أو قلّتهم، وتمكُّن الدعاة من خرّيجي الجامعات الإسلاميّة من الانخراط في الوظائف الحكوميّة أو عدمه.
وتُعدّ السونينكي، والسُّنغاي، والماندغ، والهوسا، واليوربا، والولوف من أشهر القبائل التي يجمع طوائفُ من الدعاة المنتمين إليها بين الدعوة وطلب الرزق، إمّا بتقسيم الوقت بينهما، أو بالمشاركة مع شخص آخر يتولّى شؤون التجارة؛ فيتفرغ الداعية للتعليم والدعوة، ويغلب أن يكون هذا الشخص من أقرب الناس إليه: الأخ أو ابنه أو ابن الأخت، والعمّ أو ابنه، والخال أو ابنه، وكذلك أبناء العمّات والخالات.
وهكذا نكون قد تناولنا في هذا البحث نُبذاً من المعوِّقات التي تقضّ مضاجع الدعوة الإسلاميّة المعاصرة في غرب أفريقيا، فذكرنا: اختلاف التضادّ وأسبابه، والغلاة من الصوفيّة وممن ينتسبون إلى أهل السنّة، والتنصير، والتغريب، والمشكلات التي تواجه المدارس الإسلامية العربية الأهلية، واستخدام الأعداء للغة العربية في نشر أفكارها، والنزاعات القبليّ