ذكرى المولد النبوي..
د. محمد سليم العوا
عبر القناة الفضائية المصرية الأولى عن ذكرى المولد النبوي، فقلت للذين اقترحوا الموضوع: إنني لست من وعاظ المناسبات الذين يحفظون لكل مناسبة عدداً من القصص والأحاديث والآيات ويرددونها على أسماع الجمهور ليقدموا إليه شحنة عاطفية تبقى في القلوب والعقول فترة من الزمان ثم تنسى، ولكن المناسبة الغالية على كل مسلم تقتضي ألا يرفض القادرون على البيان القول فيها. ولذلك قبلت وأنا مستشعر مسؤولية القول في هذه المناسبة الجليلة.
فقلت - أول ما قلت - إننا نحتفي بذكرى المولد، ولا نحتفل بها. لأن لفظ الاحتفال الذي يجري في هذه المناسبة وأمثالها معناه الاجتماع، يقال:"احتفل القوم أي اجتمعوا". أما الاحتفاء فهو "إظهار السرور والفرح، والمبالغة في الإكرام". ولا شك أن المسلمين عندما تحل ذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم يُسرُّون ويفرحون، وهذا هو الاحتفاء بالذكرى.
وورد ذكر يوم المولد، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ولد في يوم التاسع من ربيع الأول الموافق ليوم عشرين من إبريل فذلك هو يوم الاثنين الواقع في ذلك الأسبوع من أسابيع شهر ربيع أما اليوم الثاني عشر من ربيع الأول في سنة المولد النبوي فكان يوم خميس. ومن طرائف ما ذكرتني به هذه المسألة أن صديقاً جليلاً من المشتغلين بالمعارف الفلكية اتخذ لنفسه عادة أن يصوم يوم 20 إبريل من كل سنة ميلادية احتفاءً بذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم(!)
وسأل كثير من المشاهدين، كما سأل المذيعان النابهان عن الاحتفاء بالمولد النبوي وهل هو سنة أم بدعة؟!
وللناس في كل سنةٍ جدال عريض وبحث متكرر في هذه المسألة. وهم فريقان: فريق يقول الاحتفال سُنَّة يدل عليها الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صيام يوم الاثنين قال:"هذا يوم ولدت فيه فأنا أصومه". ويستدل هؤلاء بالآيات القرآنية الموجبة حب الرسول صلى الله عليه وسلم، والأحاديث النبوية في هذا المعنى، ومنها حديث عمر رضي الله عنه لما قال للنبي إنه أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فقال له النبي "ونفسك يا عمر" قال عمر:"لا يا رسول الله" قال رسول الله "فلا إذن"! فقال عمر:"والله لأنت أحب إليّ من نفسي يا رسول الله" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الآن إذن"! يعني الآن عبَّرت عن كمال الإيمان وتمامه الذي شَرْطه أن يكون الله ورسوله أحب إلى المسلم ممن سواهما.
وفريق يرى أن الاحتفاء بذكرى المولد بدعة محدثة، لم يأت بها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلها الصحابة والتابعون وهم خير القرون، فلا يجوز للمسلمين أن يحتفوا بهذه الذكرى!
والواقع أن الفريقين يتجادلان في غير موضع النزاع. فالذين يقولون إن الاحتفاء بالذكرى بدعة لا يجادلون في وجوب محبته صلى الله عليه وسلم ولا في صحة الأحاديث التي يستدل بها المجيزون للاحتفاء.
والذين يحتفون بالذكرى النبوية لا يُنْشِئون عبادة جديدة لم يأت بها نص، ولا يُحْدِثون في "الدين" أمراً ليس منه. وهذه هي البدعة: أن يُحْدِثُ فرداً أو جماعة في "الدين" أمراً لا يدل عليه القرآن ولا السنة.
والاحتفاء بالذكرى النبوية أمر من أمور العادات لا من أمور العبادات. ومن أمور الدنيا لا من أمور الدين. فما الذي يقع فيه، وبمناسبته؟.. إن كان من الواجبات أو المستحبات أو المباحات فحكمه حكمها. وإن كان من المحرمات فحكمه كذلك. والناس يتفاوتون في طريقة الاحتفاء بهذه الذكرى. فمنهم من يدعو إلى ندوة علمية، أو حلقة قرآنية، أو احتفال (أي اجتماع) تلقى فيه الكلمات والدروس الحاضة على العودة إلى صحيح التدين والاقتباس من هَديْ النبوة... وذلك كله خير محض لا شر فيه. والفاعلون له يأتون بسنة حسنة يثابون عليها.
ومنهم من يحتفي بالذكرى بالتوسعة على الأهل والولد في أنواع المطاعم والملابس، والتوسعة على هؤلاء مستحبة دائماً، وإذا كان الناس لا يستطيعونها كل يوم فلا بأس أن يتخيروا لها المناسبات ـ ولو سمَّوها دينية ـ ليدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم.
وفي هذه المناسبات يجري رواج تجاري يستفيد منه أهل الأسواق، وفائدتهم فائدة للمجتمع بعامة، وسبيل من سبل تداول الأموال وهي من ضرورات الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وقد امتن الله تبارك وتعالى على عباده فذكر أنهم يذهبون إلى الحج ـ أحد أركان الإسلام ـ "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" فبدأ بذكر المنافع من التجارات والتعارف والتعلّم ونحوها، ثم أتى بذكر الله الذي هو المقصد الأسمى من الحج كله. ولما ذكر ما يُهْدَى إلى البيت الحرام من الأنعام قال سبحانه "لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق" فأخَّر في الذكر المقصود الأصلي وقدَّم عليه انتفاع الناس بالهدي في أثناء رحلة الحج... وليقرأ من أراد الآيات المتتاليات من سورة الحج (من 27 إلى 37) ليقف على هذه الحقيقة مجلوَّة ببيان القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فليس الأمر أمر بدعة أو سنة، لأننا لسنا في مجال العبادة أصلاً. ولكنه أمر الطريقة الحسنة أو الطريقة السيئة لأننا في مجال من مجالات العادات التي قال في مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ولا مراء في أن المراد بالسنة هنا الطريقة والعادة، لا المصدر التشريعي الثاني (أي سنة الرسول) ولا العبادة.
فليتق الله إخواننا الذين يضيقون الواسع، ويمنعون الناس من فعل المباحات التي تدلُّهم على الواجبات والمستحبات من الشريعة، وعلى مواضع التأسي والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدعوهم إلى مكارم الأخلاق وتنهاهم عن سيئها، وتدفعهم إلى إحياء السنة الصحيحة وإماتة البدعة القبيحة... وكل ذلك واقع في صور الاحتفاء المشروع بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليكن سبيل الرشد هو الدلالة على الخير وتبيين الخطأ والشر فيما يجري من الناس بمناسبة الذكرى النبوية، ليُفْعَل الأول ويُجَتَنب الثاني.
ولا يجوز لنا أن ننشغل بأصل هذه العادة، ومن الذي بدأها، وهل هم الفاطميون أم سواهم من طوائف الأمة... فكل ذلك تاريخ يهم المؤرخين والباحثين في علم التاريخ، لكنه لا يهم المُرَبّين ولا الدعاة لأن هؤلاء يجب أن تتجه عنايتهم إلى الإنسان المعاصر وما ينفعه ويقوِّم سلوكه ويجعل منه إضافة صالحة إلى القوة الإسلامية - مهما يكن مذهبه ومنهجه- فإن الإسلام لا يملك ترف التفريط في بعض أبنائه، واستبعادهم من حسابه لأنهم يخالفون آخرين من المسلمين في بعض التصرفات الجزئية أو المواقف الفكرية.
وكل عام والأمة المسلمة في حال أفضل من حالها في سابقه.
د. محمد سليم العوا
عبر القناة الفضائية المصرية الأولى عن ذكرى المولد النبوي، فقلت للذين اقترحوا الموضوع: إنني لست من وعاظ المناسبات الذين يحفظون لكل مناسبة عدداً من القصص والأحاديث والآيات ويرددونها على أسماع الجمهور ليقدموا إليه شحنة عاطفية تبقى في القلوب والعقول فترة من الزمان ثم تنسى، ولكن المناسبة الغالية على كل مسلم تقتضي ألا يرفض القادرون على البيان القول فيها. ولذلك قبلت وأنا مستشعر مسؤولية القول في هذه المناسبة الجليلة.
فقلت - أول ما قلت - إننا نحتفي بذكرى المولد، ولا نحتفل بها. لأن لفظ الاحتفال الذي يجري في هذه المناسبة وأمثالها معناه الاجتماع، يقال:"احتفل القوم أي اجتمعوا". أما الاحتفاء فهو "إظهار السرور والفرح، والمبالغة في الإكرام". ولا شك أن المسلمين عندما تحل ذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم يُسرُّون ويفرحون، وهذا هو الاحتفاء بالذكرى.
وورد ذكر يوم المولد، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ولد في يوم التاسع من ربيع الأول الموافق ليوم عشرين من إبريل فذلك هو يوم الاثنين الواقع في ذلك الأسبوع من أسابيع شهر ربيع أما اليوم الثاني عشر من ربيع الأول في سنة المولد النبوي فكان يوم خميس. ومن طرائف ما ذكرتني به هذه المسألة أن صديقاً جليلاً من المشتغلين بالمعارف الفلكية اتخذ لنفسه عادة أن يصوم يوم 20 إبريل من كل سنة ميلادية احتفاءً بذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم(!)
وسأل كثير من المشاهدين، كما سأل المذيعان النابهان عن الاحتفاء بالمولد النبوي وهل هو سنة أم بدعة؟!
وللناس في كل سنةٍ جدال عريض وبحث متكرر في هذه المسألة. وهم فريقان: فريق يقول الاحتفال سُنَّة يدل عليها الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صيام يوم الاثنين قال:"هذا يوم ولدت فيه فأنا أصومه". ويستدل هؤلاء بالآيات القرآنية الموجبة حب الرسول صلى الله عليه وسلم، والأحاديث النبوية في هذا المعنى، ومنها حديث عمر رضي الله عنه لما قال للنبي إنه أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فقال له النبي "ونفسك يا عمر" قال عمر:"لا يا رسول الله" قال رسول الله "فلا إذن"! فقال عمر:"والله لأنت أحب إليّ من نفسي يا رسول الله" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الآن إذن"! يعني الآن عبَّرت عن كمال الإيمان وتمامه الذي شَرْطه أن يكون الله ورسوله أحب إلى المسلم ممن سواهما.
وفريق يرى أن الاحتفاء بذكرى المولد بدعة محدثة، لم يأت بها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلها الصحابة والتابعون وهم خير القرون، فلا يجوز للمسلمين أن يحتفوا بهذه الذكرى!
والواقع أن الفريقين يتجادلان في غير موضع النزاع. فالذين يقولون إن الاحتفاء بالذكرى بدعة لا يجادلون في وجوب محبته صلى الله عليه وسلم ولا في صحة الأحاديث التي يستدل بها المجيزون للاحتفاء.
والذين يحتفون بالذكرى النبوية لا يُنْشِئون عبادة جديدة لم يأت بها نص، ولا يُحْدِثون في "الدين" أمراً ليس منه. وهذه هي البدعة: أن يُحْدِثُ فرداً أو جماعة في "الدين" أمراً لا يدل عليه القرآن ولا السنة.
والاحتفاء بالذكرى النبوية أمر من أمور العادات لا من أمور العبادات. ومن أمور الدنيا لا من أمور الدين. فما الذي يقع فيه، وبمناسبته؟.. إن كان من الواجبات أو المستحبات أو المباحات فحكمه حكمها. وإن كان من المحرمات فحكمه كذلك. والناس يتفاوتون في طريقة الاحتفاء بهذه الذكرى. فمنهم من يدعو إلى ندوة علمية، أو حلقة قرآنية، أو احتفال (أي اجتماع) تلقى فيه الكلمات والدروس الحاضة على العودة إلى صحيح التدين والاقتباس من هَديْ النبوة... وذلك كله خير محض لا شر فيه. والفاعلون له يأتون بسنة حسنة يثابون عليها.
ومنهم من يحتفي بالذكرى بالتوسعة على الأهل والولد في أنواع المطاعم والملابس، والتوسعة على هؤلاء مستحبة دائماً، وإذا كان الناس لا يستطيعونها كل يوم فلا بأس أن يتخيروا لها المناسبات ـ ولو سمَّوها دينية ـ ليدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم.
وفي هذه المناسبات يجري رواج تجاري يستفيد منه أهل الأسواق، وفائدتهم فائدة للمجتمع بعامة، وسبيل من سبل تداول الأموال وهي من ضرورات الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وقد امتن الله تبارك وتعالى على عباده فذكر أنهم يذهبون إلى الحج ـ أحد أركان الإسلام ـ "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" فبدأ بذكر المنافع من التجارات والتعارف والتعلّم ونحوها، ثم أتى بذكر الله الذي هو المقصد الأسمى من الحج كله. ولما ذكر ما يُهْدَى إلى البيت الحرام من الأنعام قال سبحانه "لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق" فأخَّر في الذكر المقصود الأصلي وقدَّم عليه انتفاع الناس بالهدي في أثناء رحلة الحج... وليقرأ من أراد الآيات المتتاليات من سورة الحج (من 27 إلى 37) ليقف على هذه الحقيقة مجلوَّة ببيان القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فليس الأمر أمر بدعة أو سنة، لأننا لسنا في مجال العبادة أصلاً. ولكنه أمر الطريقة الحسنة أو الطريقة السيئة لأننا في مجال من مجالات العادات التي قال في مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ولا مراء في أن المراد بالسنة هنا الطريقة والعادة، لا المصدر التشريعي الثاني (أي سنة الرسول) ولا العبادة.
فليتق الله إخواننا الذين يضيقون الواسع، ويمنعون الناس من فعل المباحات التي تدلُّهم على الواجبات والمستحبات من الشريعة، وعلى مواضع التأسي والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدعوهم إلى مكارم الأخلاق وتنهاهم عن سيئها، وتدفعهم إلى إحياء السنة الصحيحة وإماتة البدعة القبيحة... وكل ذلك واقع في صور الاحتفاء المشروع بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليكن سبيل الرشد هو الدلالة على الخير وتبيين الخطأ والشر فيما يجري من الناس بمناسبة الذكرى النبوية، ليُفْعَل الأول ويُجَتَنب الثاني.
ولا يجوز لنا أن ننشغل بأصل هذه العادة، ومن الذي بدأها، وهل هم الفاطميون أم سواهم من طوائف الأمة... فكل ذلك تاريخ يهم المؤرخين والباحثين في علم التاريخ، لكنه لا يهم المُرَبّين ولا الدعاة لأن هؤلاء يجب أن تتجه عنايتهم إلى الإنسان المعاصر وما ينفعه ويقوِّم سلوكه ويجعل منه إضافة صالحة إلى القوة الإسلامية - مهما يكن مذهبه ومنهجه- فإن الإسلام لا يملك ترف التفريط في بعض أبنائه، واستبعادهم من حسابه لأنهم يخالفون آخرين من المسلمين في بعض التصرفات الجزئية أو المواقف الفكرية.
وكل عام والأمة المسلمة في حال أفضل من حالها في سابقه.