موقع يوسف القرضاوي
تلقى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي - رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين - استفساراً من أحد القراء يقول فيه: شيخي الجليل يعلم الله أني أحبك في الله، وبمناسبة قرب مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم ما حكم الاحتفال بهذه المناسبة؟ وما واجبنا تجاه الحبيب صلى الله عليه وسلم؟
وقد أجاب فضيلته على السائل بقوله: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهناك لون من الاحتفال يمكن أن نقره ونعتبره نافعاً للمسلمين، ونحن نعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يحتفلون بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بالهجرة النبوية ولا بغزوة بدر، لماذا؟
لأن هذه الأشياء عاشوها بالفعل، وكانوا يحيون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً في ضمائرهم، لم يغب عن وعيهم، كان سعد بن أبي وقاص يقول: كنا نروي أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفِّظهم السورة من القرآن، بأن يحكوا للأولاد ماذا حدث في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وفي غزوة الخندق وفي غزوة خيبر، فكانوا يحكون لهم ماذا حدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا إذن في حاجة إلى تذكّر هذه الأشياء.
ثم جاء عصر نسي الناس هذه الأحداث وأصبحت غائبة عن وعيهم، وغائبة عن عقولهم وضمائرهم، فاحتاج الناس إلى إحياء هذه المعاني التي ماتت والتذكير بهذه المآثر التي نُسيت، صحيح اتُخِذت بعض البدع في هذه الأشياء ولكنني أقول إننا نحتفل بأن نذكر الناس بحقائق السيرة النبوية وحقائق الرسالة المحمدية، فعندما أحتفل بمولد الرسول فأنا أحتفل بمولد الرسالة، فأنا أذكِّر الناس برسالة رسول الله وبسيرة رسول الله.
وفي هذه المناسبة أذكِّر الناس بهذا الحدث العظيم وبما يُستفاد به من دروس، لأربط الناس بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب 21] لنضحي كما ضحى الصحابة، كما ضحى علِيّ حينما وضع نفسه موضع النبي صلى الله عليه وسلم، كما ضحت أسماء وهي تصعد إلى جبل ثور، هذا الجبل الشاق كل يوم، لنخطط كما خطط النبي للهجرة، لنتوكل على الله كما توكل على الله حينما قال له أبو بكر: والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال: "يا أبا بكر ما ظنك في اثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا".
نحن في حاجة إلى هذه الدروس فهذا النوع من الاحتفال تذكير الناس بهذه المعاني، أعتقد أن وراءه ثمرة إيجابية هي ربط المسلمين بالإسلام وربطهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذوا منه الأسوة والقدوة، أما الأشياء التي تخرج عن هذا فليست من الاحتفال؛ ولا نقر أحدًا عليها.
علماء من المغرب والمشرق قديما وحديثا يؤكدون: لا بأس بالاحتفال بالمولد النبوي في عصر كاد الشباب ينسى فيه دينه وأمجاده
لا شك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين، وإن هذه المحبة تعتبر من أصول الدين ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فليس من أمته.
إلا أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يجب أن يجاوز الحد المشروع، ويجاوز حد ما أمرنا به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يشتمل على شيء محرم أو منكرات، وذلك تعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال بهذا علماء أجلاء في القديم أمثال: ابن الحاج من المالكية، وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني، وجلال الدين السيوطيّ، والشيخ محمد الفاضل بن عاشور، ومن المحدثين الشيخ عبد الله الصديق الغماري، والأستاذ البشير المحمودي من علماء مراكش، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبد الخالق الشريف من مصر، والشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا. وبالمناسبة نقدم مختارات من فتاوى علماء المغرب والمشرق تضئ جوانب من المسألة.
الشيخ عبد الله الصديق الغماري، رحمه الله (من علماء المغرب): الأمكنة والأزمنة لا تَشْرُف لذاتها، وإنما بما خُصَّتْ به من المعاني
* ما حكم العادات التي جرى عليها الناس في الاحتفال من إقامة الحفلات وتقديم الحلوى وغير ذلك؟
" لقد تكلم أبو عبد الله بن الحاج، من المالكية في كتابه "المدخل على عمل المولد" فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصلُه مدح ما كان فيه من إظهار شعارٍ هو شكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومُنْكَرات، فمن ذلك قوله: وإن كان النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يَزِدْ فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات، وما ذاك إلا لرحمته، صلى الله عليه وسلم، لأمته ورفقه بهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، كان يترك العمل خشيةَ أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين: "ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه"، فتشريف هذا اليوم مُتَضَمِّن لتشريف هذا الشهر الذي وُلِد فيه، فينبغي أن نحترمَه غايةَ الاحترام ونُفَضِّلَه بما فَضَّل الله به الأشهر الفاضلة. وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خَصَّها الله به من العبادات التي تُفْعَل فيها لِما قد عُلِمَ أن الأمكنة والأزمنة لا تَشْرُف لذاتها، وإنما يَحْصُل لها التشريف بما خُصَّتْ به من المعاني، فانظر إلى ما خَصَّ الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم، لأنه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ فيه.
فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يُكَرَّم ويُعَظَّم ويُحتَرم الاحترام اللائق به اتباعا له صلى الله عليه وسلم، في كونه كان يَخُصُّ الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البِر فيها وكثرة الخيرات.
فإن قال قائل: قد التزم النبي صلى الله عليه وسلم، في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد عُلِم، ولم يَلْتَزِم في هذا الشهر ما التزمه في غيره.
فالجواب أن ذلك لِما عُلِم من عاداته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه. ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام، حرم المدينة مثلما حَرَّم إبراهيمُ مكة، ومع ذلك لم يَشْرَع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم، فكان ينظر إلى ما هو من جهته، وإن كان فاضلاً في نفسه، فيتركه تخفيفا عنهم. فعلى هذا تعظيمُ هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القُرُبات، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يَحْرُم عليه، ويَسْكُن له تعظيمًا لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احترامًا، كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرام.
وقد سُئِلَ شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المَوْلِد بدعة لم تُنْقَل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابع التابعين، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدِّها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا.
قال الحافظ السيوطي: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى. فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نِقْمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سَنَة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأية نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبيّ، نبيّ الرحمة في ذلك اليوم.
الأستاذ: البشير المحمودي، خطيب بمراكش: الاحتفال بمولد الرسول هو احتفال وتذكر لنعم الله
يقول الأستاذ: البشير المحمودي، الخطيب والواعظ بمدينة مراكش، في محاضرة ألقاها بمقر المجلس العلمي بمراكش بتاريخ:6/7/2000 ، في موضوع:"الاحتفال بذكرى المولد النبوي بين فتاوى التشريع وفتاوى التبديع"، بعد ما جرد أقوال المختلفة في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف خلص إلى التأكيد ما يلي:
" إن الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس لذاته الجسمية، وإنما هو لروحه، فنحن لا نحب النبي صلى الله عليه وسلم لذاته وإنما نحبه لربه. ولا نحبه لأنه محمد بن عبد الله ولكننا نحبه لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحبه لأنه مبلغ عن الله تعالى، وأنه حبيب الله عز وجل، ونحبه لأن محبته طاعة لله سبحانه وتعالى.
إن الاحتفال بمولد الرسول هو احتفال وتذكر لنعم الله كما أمر الله أن نتذكرها ونشكرها. ولذا ينبغي أن يكون هذا الاحتفال مصحوبا بالدروس والعظات والمحاضرات والندوات والعلم والذكر والقرآن والبر والإنفاق والإحسان والتصافح والتسامح بين الإخوان ولا ينبغي بل ولا يجوز أن تصحبه منكرات وكل ما يتنافى مع الدين.
وخلاصة القول:
1. أن الاحتفال بالمولد مسألة خلافية، و الخلاف-كما سبق- فقه و علم فلا يجوز الإنكار على المسائل المختلف فيها كما قرر ذلك علماء السلف.
2. أن تجاهل الرأي المخالف ليس من فقه الدعوة ولا من أخلاق الداعية وإنما الواجب أن نتعاون في ما نتفق عليه وأن يعذر بعضنا بعضا في ما نختلف فيه، وشعار العلماء "نختلف ولا نفترق "، فالاختلاف في الآراء والفهوم لا ينبغي إذ يؤدي إلى الاختلاف في القلوب وبالأحرى إلى التبديع أو التكفير. ولنسم باختلافاتنا فى مثل هذه الجزئيات إلى خلاف التابعين والأئمة المجتهدين الذين كانوا يختلفون وفي نفس الوقت كانوا يتحابون ويتراحمون.
3. أن الاحتفال بالمولد أجازه كثير من العلماء الأعلام وفقهاء الإسلام باعتباره عادة حسنة أو بدعة مستحسنة استمر العمل به عند المسلمين منذ القرن الرابع الهجري إلى الآن".
الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا
قال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "وقد أتى القرن التاسع والناس بين مجيز ومانع، واستحسنه السيوطي وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، مع إنكارهم لما لصق به من البدع، ورأيهم مستمد من آية (وذكِّرهم بأيام الله).
أخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام: بنعم الله وآلائه، وولادة النبى نعمة كبرى.
وفي صحيح مسلم عن أبى قتادة الأنصاري قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن صوم يوم الاثنين فقال "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أُنزل علىَّ فيه"، فالرسول صلى الله عليه وسلم نص على أن يوم ولادته له مزية على بقية الأيام، وللمؤمن أن يطمع فى تعظيم أجره بموافقته ليوم فيه بركة، وتفضيل العمل بمصادفته لأوقات الامتنان الإِلهي معلوم قطعا من الشريعة، ولذا يكون الاحتفال بذلك اليوم، وشكر الله على نعمته علينا بولادة النبى وهدايتنا لشريعته مما تقره الأصول، لكن بشرط ألا يتخذ له رسم مخصوص، بل ينشر المسلم البشر فيما حوله، ويتقرب إلى الله بما شرعه، ويعرِّف الناس بما فيه من فضل، ولا يخرج بذلك إلى ما هو محرم شرعا. أما عادات الأكل فهي مما يدخل تحت قوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) انتهى.
ورأيي أنه لا بأس بذلك في هذا العصر الذى كاد الشباب ينسى فيه دينه وأمجاده، فى غمرة الاحتفالات الأخرى التى كادت تطغى على المناسبات الدينية، على أن يكون ذلك بالتفقه فى السيرة، وعمل آثار تخلد ذكرى المولد، كبناء مسجد أو معهد أو أي عمل خيري يربط من يشاهده برسول اللّه وسيرته.
فإذا غلبت المخالفات كان من الخير منع الاحتفالات درءًا للمفسدة كما تدل عليه أصول التشريع. وإذا زادت الإِيجابيات والمنافع المشروعة فلا مانع من إقامة هذه الاحتفالات مع التوعية والمراقبة لمنع السلبيات أو الحد منها بقدر المستطاع، ذلك أن كثيرا من أعمال الخير تشوبها مخالفات ولو إلى حد ما، والكل مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوسائل المشروعة ".
وبخصوص صيام يوم مولده عليه الصلاة والسلام يقول الشيخ عطية صقر:"...فمن أراد أن يشكر الله على نعمة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته فليشكره بأية طاعة تكون، بصلاة أو صدقة أو صيام أو نحوها، وليس لذلك يوم مُعين في السُّنة، وإن كان يوم الإثنين من كلِّ أسبوع أفضل، للاتباع على الأقل، فالخلاصة أن يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ليس فيه عبادة خاصة بهذه المناسبة، وليس للصوم فيه فضل على الصوم في أي يوم آخر، والعبادة أساسها الاتباع، وحبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم يكون باتِّباع ما جاء به كما قال فيما رواه البخاري ومسلم "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنتي فليس مني" وفيما رواه أبو يعلى بإسناد حسن" من أحبني فليستن بسنتي ".
والله أعلم
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
هناك من المسلمين من يعتبرون أي احتفاء أو أي اهتمام أو أي حديث بالذكريات الإسلامية، أو بالهجرة النبوية، أو بالإسراء والمعراج، أو بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغزوة بدر الكبرى، أو بفتح مكة، أو بأي حدث من أحداث سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أي حديث عن هذه الموضوعات يعتبرونه بدعة في الدين، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، إنما الذي ننكره في هذه الأشياء الاحتفالات التي تخالطها المنكرات، وتخالطها مخالفات شرعية وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، كما يحدث في بعض البلاد في المولد النبوي، ولكن إذا انتهزنا هذه الفرصة للتذكير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشخصية هذا النبي العظيم، وبرسالته العامة الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين، فأي بدعة في هذا وأية ضلالة؟! إننا حينما نتحدث عن هذه الأحداث نذكر الناس بنعمة عظيمة، والتذكير بالنعم مشروع ومحمود ومطلوب، والله تعالى أمرنا بذلك في كتابه (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرًا، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت
الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا)، يذكر بغزوة الخندق أو غزوة الأحزاب حينما غزت قريش وغطفان وأحابيشهما النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين في عقر دارهم، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وأرادوا إبادة خضراء المسلمين واستئصال شأفتهم، وأنقذهم الله من هذه الورطة، وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يرها الناس من الملائكة، يذكرهم الله بهذا، اذكروا لا تنسوا هذه الأشياء، معناها أنه يجب علينا أن نذكر هذه النعم ولا ننساها. ذكر النعمة مطلوب إذن، نتذكر نعم الله في هذا، ونذكر المسلمين بهذه الأحداث وما فيها من عبر وما يستخلص منها من دروس، أيعاب هذا ؟ أيكون هذا بدعة وضلالة.
الشيخ عبد الخالق الشريف أحد الدعاة بمصر
بمناسبة قرب مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم، فإننا جميعًا نحب رسول الله الذي أوجب الله علينا طاعته، وألزمنا بمحبته، وجعل طاعتنا له صلى الله عليه وسلم سببًا في حب الله، وعلامة على حب الله، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ...) آل عمران.
والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته لم يحتفل بمولده ولا الخلفاء من بعده احتفلوا بمثل ذلك؛ لأن الأصل أن أمة الإسلام في احتفال دائم بهذا الدين، تطبيقًا لا مجرد كلمات، ودعوة لا مجرد انتساب، واعتزازًا بهذا الدين الذي فضلهم الله به. وما يقوم به الناس من احتفال إذا كان بقصد التذكير وإعطاء العظات والعبر والدعوة إلى التزام منهجه، فيرى البعض أنه لا بأس بذلك بهذا القصد، وإن كان المفترض أن يكون دومًا.
أما ما يحدث في الموالد من رقص واختلاط بين الرجال والنساء، ولعب القمار، وغير ذلك فهذا كله حرام سواء أكان في مناسبة أو بدون مناسبة.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف: شبهات وردود
اعتاد المسلمون مشرقاً ومغرباً الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وإظهار الفرح والسرور، والبهجة والحبور، في شهر ربيع الأنوار، الشهر الذي منّ الله به على المسلمين، بالنعمة العظمى، والرحمة المهداة، سيد الوجود والكائنات، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات.
لكن أفراداً من الناس؛ ومنهم من ينسب إلى العلم؛ يمنعون الناس من الحضور إلى مجالس الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويصدرون فتاوى تحشر كل المحتفلين بهذه الذكرى العطرة في مصاف المبتدعة الضالين المضلين، الذين أحدثوا في الدين، وخالفوا شرع رب العالمين، مستندين في موقفهم على شبهات، يسمونها أدلة وبراهين، ومن أهم هذه الشبهات التي يحرمون من أجلها الاحتفال بالمولد الشريف ويحذرون منه:
الشبهة الأولى: لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا الصحابة الكرام ولا أهل القرون الثلاثة الأولى الاحتفال بالمولد أو الأمر به أوالترغيب فيه.
لم يحتفل النبي صلى الله عليه وسلم بمولده بالطريقة المعهودة في عصرنا، هذا أمر مسلّم، أما أنه لم يحتفل بذكرى مولده فهذا أبطل باطل، ودونك تعليله صيام يوم الإثنين: “فيه ولدت، وفيه أنزل علي” 1، فالنبي كان يعظم يوم مولده ويحتفل به أسبوعياً، وكان يحتفل بالصيام؛ وهو عبادة؛ ونحن نحتفل بتلاوة القرآن وذكر الله والصدقات وإطعام الطعام… وهذه كلها عبادات، فلم التفريق بين المتماثلات؟!
وعلى فرض أن النبي لم يحتفل بمولده، فما المنكر في احتفالنا؟
معلوم أن النبي لم يفعل كل المباحات لكثرتها، إذ لايستطيع بشر استيعابها عدّاً فضلاً عن تناولها .
ومعلوم كذلك أن النبي لم يفعل جميع المندوبات، واكتفى بالنصوص العامة الشاملة للمندوبات بجميع أنواعها منذ جاء الإسلام إلى قيام الساعة، مثل “وما تفعلوا من خير يعلمه الله”سورة البقرة: 196 “من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها” سورة الأنعام: 161 “وافعلوا الخير لعلكم تفلحون” سورة الحج: 75 “ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا” الشورى: 21 “فمن يعمل مثقال ذرة خيراًيره” سورة الزلزلة: 8… فمن زعم في فعل خير مستحدث أنه بدعة مذمومة، فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله، حيث ذم ما ندبا إليه في عمومات الكتاب والسنة 3.
إذا تقرر عدم فعل النبي لجميع المباحات والمندوبات، فإن تركه لها لايعد حجة، ولا يقتضي تحريماً وحظراً، إذ الترك لا يفيد المنع كما نص على ذلك غير واحد من العلماء؛ منهم الإمام الصنعاني في قوله: “ولادليل في الترك على حكم معين” 4، وقريب منه كلام الإمام الشوكاني في تعليقه على القائلين بتحريم قراءة القرآن على الجنب إذ قال: “ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب ليس فيه ما يدل على التحريم، لأن غايته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك القراءة حال الجنابة، ومثله لا يصلح متمسكاً للكراهة، فكيف يستدل به على التحريم؟” 5, وممن نص على أن الترك ليس بدليل العلامة المحقق ابن دقيق العيد6، وقد نظم ذلك العلامة الشريف السيد عبد الله بن الصديق رحمه الله في مستهل رسالته “حسن التفهم والدرك لمسألة الترك” فقال:
الترك ليس بحجة في شرعنا لايقتضي منعاً ولا إيجاباً
فمن ابتغى حظراً بترك نبينا ورآه حكماً صادقاً وصوابا
قد ضل عن نهج الأدلة كلها بل أخطأ الحكم الصحيح وخابا
لاحظر يمكن إلا إن نهي أتى متوعداً لمخالفيه عذابا
أو ذم فعل مؤذن بعقوبة أو لفظ تحريم يواكب عابا
فترك النبي للاحتفال بمولده بنفس الطريقة التي يحتفل بها المسلمون اليوم لا يدل على التحريم والحظر كما تم بيانه، وإنما يدل على الجواز ورفع الحرج، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم”7 ، ولم يقل: وما تركته فاتركوه أو اجتنبوه.
وما قيل في ترك النبي نقوله من باب أولى في ترك الصحابة وأهل القرون الثلاثة الأولى في تركهم للاحتفال بالمولد.
الشبهة الثانية: الاحتفال بالمولد النبوي من المحدثات التي حذر منها النبي بقوله “وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة”8، والمحتفل بالمولد مبتدع ضال، لأنه مشمول بعموم هذا الحديث.
لكن جمهور العلماء على أن حديث “كل بدعة ضلالة” هو من قبيل العام المخصوص9، ومعناه: كل أمر محدث لا أصل له في الشرع فهو ضلالة وشر، وكل أمر محدث له أصل في الشرع فهو من الدين، بل هو من قبيل السنة الحسنة المنصوص عليها في الحديث، لهذا قال الحافظ ابن حجر: “والمراد بقوله: كل بدعة ضلالة، ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام”10، وقال ابن العربي: “ليس البدعة والمحدث مذموماً للفظ بدعة ومحدث ولا معناهما، وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى الضلالة”11.
الشبهة الثالثة: المحتفل بالمولد غير مأجور على عمله، بل عمله مردود عليه، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”12.
المتأمل في هذا الحديث؛ وهو من أقوى حجج المانعين للاحتفال بالمولد؛ يجده حجة للمحتفل لا حجة عليه كما يتوهم، بل “هذا الحديث مخصص لحديث: كل بدعة ضلالة، ومبين للمراد منه كما هو واضح، إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء لقال الحديثمن أحدث في أمرنا هذا شيئاً فهو رد)، لكن لما قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أفاد أن المحدَث نوعان:
- ما ليس من الدين؛ بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله؛ فهو مردود، وهو البدعة الضلالة.
- وما هو من الدين؛ بأن شهد له أصل أو أيده دليل؛ فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة”13.
ومما يشهد لهذا أن النبي رأى بلالاً في المنام وسمع خشف نعليه في الجنة، فسأله: “حدّثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام؟ قال: ما عملت في الإسلام أرجى عندي أني لم أطهّر طهوراً تاماً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت لربي ما كتب لي أن أصلي”14.
فالله عز وجل أثاب هذا الصحابي قبل إقرار النبي له، فلماذا أثيب بلال وقد أحدث في الدين؟ لكن، هل أحدث فيه ما ليس منه؟ لا. لقد أحدث فيه ما هو منه. أي ما يشهد له الشرع؛ لهذا قال الحافظ ابن حجر عند كلامه على حديث “من أحدث في أمرنا…”: “من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه”15 ، بمعنى أن من اخترع في الدين ما شهد له أصل من أصول الشرع يلتفت إليه؛ فبلال فعل شيئاً ورد في الشرع، إذ صنيعه محصور في الوضوء وصلاة النافلة، وكلاهما وارد في الشرع.
وهذا شأن المحتفلين بالمولد، فعملهم محصور في قراءة القرآن وإطعام الطعام والأذكار وإنشاد المدائح في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا وارد في الشرع ولا يتعارض مع دلائله. قال الحافظ العراقي: “إطعام الطعام مستحب في كل وقت، فكيف إذا انضم لذلك السرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف؟!” 16
الشبهة الرابعة: عمل المحتفلين بالمولد يقتضي أنهم أكثر حباً للنبي من الصحابة والتابعين، وهذا قدح فيهم وحط من قدرهم.
وهذه شبهة لادليل عليها سوى تطبيق مفهوم المخالفة في غير موضعه، فلو طبقوه على حديث “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” لكان قولهم صواباً، ورأيهم سديداً، ولإبطال دعواهم نسوق المثال التالي:
ورد أن النبي كان يصوم الإثنين فرحاً وتعظيماً ليوم مولده، ولم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يصومون يوم الإثنين من كل أسبوع، فكان منهم الصائم والمفطر، فإذا ما التزم شخص ما بصيام كل إثنين، أننهاه عن هذا الصوم بدعوى أن عمله هذا يقتضي أنه أكثر حباً للنبي من الصحابة؟ هذا ما لا يقوله عاقل. فكيف يكون حجة ودليلاً لمن ينكر عمل المولد؟!.
الشبهة الخامسة: ادعى من ينكر مشروعية الاحتفال بالمولد أن المحتفلين يقعون في منكر عظيم، وهو الغلو في رسول الله، وفيه مخالفة لحديث “لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم”. 17
والواقع خلاف ذلك، إذ لا أحد من المحتفلين يؤله سيدنا محمدا كما ألّهت النصارى سيدنا عيسى، بأن قالت: إنه ابن الله؟ فمن بالغ في مدح النبي وأخرجه من بشريته إلى درجة الألوهية فقد أطراه كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، “أما من مدحه ووصفه بما لا يخرجه عن حقيقة البشرية معتقداً أنه عبد الله ورسوله، مبتعداً عن معتقد النصارى، فإنه ولا شك من أكمل الناس توحيداً”18 . وتمييز النبي عن غيره ورفعه عن عامة البشر، له أصل في الدين، قال تعالى: “لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا” سورة النور: 61. فوجب تمييز دعاء النبي عن دعاء عامة الناس.
أما من يعتبر احتفال الناس بذكرى المولد غلواً في النبي، فما عساه أن يقول في الصحابة الكرام الذين كانوا يتسابقون على نخامة النبي ويدلكون بها وجوههم، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه, ويجمعون عرقه الشريف في قوارير ويجعلونها أطيب الطيب، بل منهم من شرب دمه الزكي بعد الحجامة، ومنهم من شرب بوله صلى الله عليه وآله وسلم. فكل ما يصنعه المحتفلون بمولده اليوم هو أدنى بكثير مما فعله الصحابة الكرام. فأين المبالغة والغلو المؤدي إلى الشرك؟!.
من أدلة مشروعية الاحتفال بالمولد:
- شهر المولد، شهر نزول الرحمة الإلهية بالولادة المحمدية، وولادة النبي من أعظم النعم ولاشك، فكان لابد من الشكر، والشكر يكون بالفعل والعمل، “اعملوا آل داوود شكراً” سورة سبأ: 13، ومن عملِ الشكر الاجتماعُ والذكر وقراءة القرآن وإطعام الطعام…
- قال الله عز وجل: “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا” سورة يونس: 58، فالمسلم مأمور بالفرح بالرحمة، والنبي عين الرحمة “إنما أنا رحمة مهداة” . فهذا دليل على جواز الفرح والاحتفال بمولد النبي/ الرحمة.
- كان اليهود يصومون عاشوراء شكراً لله على غرق فرعون ونجاة موسى، وأعجِب النبي بصنيعهم هذا. كذلك المسلمون إن فرحوا وابتهجوا في ذكرى مولد نبيهم، فهو من شكرهم لله على ما منّ به عليهم في ذلك اليوم العظيم.
- قد يشرف المكان بما يحدث فيه من أحداث ووقائع. قال الله تعالى: “كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا. قال يا مريم أنى لك هذا. قالت هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكرياء ربه. قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء” آل عمران: 38. ما معنى “هنالك دعا”؟ إنها إشارة إلى المكان الذي اعتقد سيدنا زكرياء شرفه، فالتمس بركته ولم يتوجه إلى الله بالدعاء في غيره من الأماكن، بل “هنالك”.
وكذلك الزمان، يفضل بما يقع فيه من أحداث، فليلة القدر ليست كسائر الليالي، ويوم عرفة ليس كسائر الأيام، وكذلك يوم المولد النبوي؛ يوم مولد الرحمة والهدى؛ لذلك يغتنمه المسلمون، فيبادرون إلى فعل الخير والبر، طمعاً في تعظيم أجره ونيل بركته.
ما يجب التذكير به أثناء الاحتفال بالمولد:
يجب على المشرفين على حفلات المولد والقائمين عليها أن يعرّفوا الناشئة بنبيهم، لأن التعرف على أحواله وسيرته العطرة واجب شرعاً، والمرء عدو ما يجهل، وللأسف الشديد، كثير من أبناء المسلمين – من مثقفين وعوام – يجهلون عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرفون.
وزّعتُ مرة على تلاميذ فصل من الفصول الدراسية في سلك الثانوي استمارة قصد الإجابة عن أسئلتها البسيطة جداً، وكلها متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، من قبيل: ما اسم النبي صلى
الله عليه وسلم؟ ما اسم أبيه؟ ما اسم أمه؟ ما اسم مرضعته؟ متى توفي؟ أين قبره الشريف؟… ولما اطلعت على إجاباتهم تألمت غاية الألم، تلاميذ مسلمون أباً عن جد، وفي بلد مسلم، وفي سلك الثانوي، ولم يعبئ الاستمارة بالأجوبة الصحيحة إلا تلميذ واحد. أما البقية فمنهم من أجاب عن سؤالين، ومنهم من أجاب عن ثلاثة أسئلة، ومنهم من اكتفى بالإجابة عن السؤال الأول. أتدرون لماذا؟ ببساطة، إنهم لايعرفون عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا الاسم!!. أهناك كارثة تهدد الأمة أخطر من هذه؟ لتفادي هذا الخطر، كان الصحابة يعلمون أبناءهم – وهم قريبو عهد بالنبي- مغازي رسول الله كما يعلمونهم السورة من القرآن.
فلابد من استثمار مناسبة المولد للتعريف بالنبي وسيرته العطرة، وأيامه الخالدة، وصفاته العليا، وأخلاقه السنية، وتذكير الناس بما عاناه في تبليغ الدعوة، وما قام به من جهد من أجل توحيد الناس وتعليمهم وتربيتهم. وأن يكون الهدف الأسمى إحياء حب النبي في قلوب المسلمين كما كان عند الصحابة ومن بعدهم من فضلاء الأمة وصلحائها، لتتحقق لنا معيته يوم القيامة، حيث يكون المرء مع من أحب.
أشكال الاحتفال بالمولد:
أحدث المسلمون الاحتفال بالمولد بالطريقة المعهودة (الاجتماع في المساجد والبيوت لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة على النبي …)، وما أحوجنا اليوم إلى تطوير طرق الاحتفال، وأن لا نبقى حبيسي المساجد والبيوت، بل لابد من الخروج إلى الساحات الشعبية والقاعات العمومية، بأنشطة وفعاليات مختلفة، و تنظيم مسابقات في السيرة النبوية العطرة وحفظ الأحاديث النبوية.
خيراً فعَلَت الجالية المسلمة بمدينة روتردام ( العاصمة الاقتصادية لهولندا) عندما احتفلت بالمولد النبوي في أكبر مسارح المدينة الموجود بالقرب من محطة القطارات، حيث يبدؤون احتفالهم – الذي تحول إلى تقليد سنوي – بتوزيع المشرفين على الحفل للورود على كافة المسافرين بالقطار في ذلك اليوم، بغض النظر عن لونهم أو معتقدهم، مع تذكيرهم بأن ذلك يحدث بمناسبة ولادة نبي الإسلام.
1 رواه الإمام أحمد والإمام مسلم.
2 إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة. لأبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري: 5.
3 إتقان الصنعة: 6
4 سبل السلام شرح بلوغ المرام: 1/157.
5 نيل الأوطار: 1/271.
6 إحكام الأحكام: 1/188. وقال أيضاً: “فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه” 1/205.
7 رواه البخاري.
8 رواه الإمام مسلم وابن ماجه.
9 شرح النووي على صحيح مسلم: 6/154.
10 فتح الباري: 13/254.
11 تشنيف الأذان بأدلة استحباب السيادة عند اسمه عليه الصلاة والسلام في الصلاة والإقامة والأذان. لأبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري: 186. نقلا عن سنن المهتدين للمواق.
12 متفق عليه.
13 إتقان الصنعة: 13.
14 فضائل الصحابة للإمام النسائي. تحقيق الدكتور فاروق حمادة: 132.
15 فتح الباري: 5/302
16 تشنيف الأذان: 189.
17 رواه الإمام البخاري والإمام أحمد.
18 مفاهيم يجب أن تصحح: 122.
19 رواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما.
بقلم: ذ. عبد الله الجباري/مراكش بريس 2010
حقيقة الاحتفال بالمولد النبوي
الاختلاف حول الاحتفال بالمولد النبوي ليس اختلافاً بين من يحب الرسول ويعظمه وبين من يبغضه ويهمل شأنه بل الأمر على العكس من ذلك تماماً.
- الفاطميون الإسماعيليون هم أول من ابتدع بدعة الاحتفال بالمولد النبوي.
- (الحقيقة المحمدية) في الفكر الصوفي تختلف تماماً عما نؤمن به نحو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
مقدمة
اطلعت على بعض المقالات التي يروج أصحابها لفكرة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، واتخاذ يوم ولادته عيداً ليكون ملتقى روحياً للمسلمين - على حد تعبيرهم - ومحاسبة النفس على مدى الاتباع والتمسك بالدين الإسلامي كما يزعمون..
وبالرغم من أن هذا الموضوع قديم، وقد كتب فيه المؤيدون والمعارضون، ولن يزال الخلاف فيه - إلا ما شاء الله - إلا أنني رأيت من واجبي تجلية بعض الحقائق التي تغيب عن جمهور الناس عند نقاش هذه القضية.. وهذا الجمهور هو الذي يهمني الآن أن أضع مجموعة من الحقائق بين يديه ليعلم حقيقة الدعوة إلى الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.. ولماذا ترفض هذه الدعوى من أهل التوحيد والدين الخالص والإسلام الصحيح.
ماذا يريد الدعاة إلى الاحتفال بالمولد النبوي على التحديد؟
يصور دعاة الاحتفال والاحتفاء بيوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه هو مقتضى المحبة والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يوم مولده يوم مبارك ففيه أشرقت شمس الهداية، وعم النور هذا الكون، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين، ولما سئل عن ذلك قال: «هذا يوم ولدت فيه وترفع الأعمال إلى الله فيه، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»، وأنه إذا كان العظماء يحتفل بمولدهم ومناسباتهم فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أعظم العظماء وأشرف القادة..
ويعرض دعاة الاحتفال بالمولد هذه القضية على أنها خصومة بين أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه وخلاف بين من يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقدرونه وينتصرون له، وبين من يهملونه، ولا يحبونه ولا يضعونه في الموضع اللائق به.
ولا شك أن عرض القضية على هذا النحو هو من أعظم التلبيس وأكبر الغش لجمهور الناس، وعامة المسلمين، فالقضية ليست على هذا النحو بتاتاً فالذين لا يرون جواز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً من الإبتداع في الدين هم أسعد الناس حظاً بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، فهم أكثر الناس تمسكاً بسنته، واقتفاءاً لآثاره، وتتبعاً لحركاته وسكناته، وإقتداء به في كل أعماله صلى الله عليه وسلم، وهم كذلك أعلم الناس بسنته وهديه ودينه الذي أرسل به، وأحفظ الناس لحديثه، وأعرف الناس بما صح عنه وما افتراه الكذابون عليه، ومن أجل ذلك هم الذابون عن سنته، والمدافعون في كل عصر عن دينه وملته وشريعته بل إن رفضهم للإحتفال بيوم مولده وجعله عيداً إنما ينبع من محبتهم وطاعتهم له فهم لا يريدون مخالفة أمره، ولا الإفتئات عليه، ولا الإستدراك على شريعته لأنهم يعلمون جازمين أن إضافة أي شيء إلى الدين إنما هو استدراك على الرسول صلى الله عليه وسلم لأن معني ذلك أنه لم يكمل الدين، ولم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كل ما أنزل الله إليه أو أنه استحيا أن يبلغ الناس بمكانته ومنزلته، وما ينبغي له، وهذا أيضا نقص فيه، لأن وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكانته من الدين الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه وقد فعل صلى الله عليه وسلم، فقد بين ما يجب على الأمة نحوه أتم البيان فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [أخرجه البخاري ومسلم].
وقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: «لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال - أي عمر - : فأنت الآن أحب إلي من نفسي، فقال: «الآن يا عمر» [أخرجه البخاري]..
والشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من بيان الحق، ولا يجوز له كتمانه، ولا شك أن من أعظم الحق أن يشرح للناس واجبهم نحوه، وحقه عليهم، ولو كان من هذا الحق الذي له أن يحتفلوا بيوم مولده لبينه وأرشد الأمة إليه.
وأما كونه كان يصوم يوم الاثنين وأنه علل ذلك أنه يوم ولد فيه، ويوم ترفع الأعمال إلي الله فيه، فإن أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم على الحقيقة يصومون هذا اليوم من كل أسبوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وأما أولئك الملبسون فإنهم يجعلون الثاني عشر من ربيع الأول يوم عيد ولو كان خميساً أو ثلاثاءً أو جمعةً.
وهذا لم يقله ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت أنه صام الثاني عشر من ربيع الأول، ولا أمر بصيامه.
فاستنادهم إلى إحياء ذكرى المولد، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول عيداً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين تلبيس على عامة الناس وتضليل لهم.
والخلاصة: أن الذين يُتهمون بأنهم أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ومنكرو فضله، وجاحدوا نعمته، كما يدّعي الكذابون هم أسعد الناس حظا بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته، وهم الذين علموا دينه وسنته على الحقيقة.
وأما أولئك الدعاة إلي الاحتفال بالمولد فدعوتهم هذه نفسها هي أول الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الكذب عليه، والاستهانة بحقه.
لأنها مزاحمةٌ له في التشريع واتهام له أنه ما بيّن الدين كما ينبغي، وترك منه ما يستحسن، وأهمل ما كان ينبغي ألا يغفل عنه من شعائر محبته وتعظيمه وتوقيره، وهذا أبلغ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه نقطة الفصل في هذه القضية، وبداية الطريق لمعرفة من اهتدى ومن ضل فيها.
فدعاة المولد - بدعوتهم إليه - مخالفون لأمره صلى الله عليه وسلم، مفتئتون عليه، مستدركون على شريعته، ونفاة المولد متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم، متابعون لسنته، محبون له، معظمون لأمره غاية التعظيم متهيبون أن يستدركوا عليه ما لم يأمر به، لأنه هو نفسه صلى الله عليه وسلم حذرهم من ذلك فقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» [أخرجه البخاري ومسلم] و«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» [أخرجه البخاري ومسلم].
مَنْ هَؤُلاَءِ؟ ومَنْ هَؤُلاَءِ؟
وهنا يأتي السؤال من الداعون إلى المولد ومن الرافضون له؟ والجواب أن الرافضين للمولد هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الكرام، ونقول الرافضين - تجوزاً - فالمولد هذا ما كان في عصرهم قط، ولم يعرفوه أبدا، ولا خطر ببالهم أصلا، وعلى هذا كان التابعون وتابعوهم وأئمة السلف جميعاً ومنهم الأئمة الأربعة أعلام المذاهب الفقهية المشهورة.
وعلماء الحديث قاطبةً إلا من شذ منهم في عصور متأخرة عن القرون الثلاثة الأولى قرون الخير، وكل من سار على دربهم ومنوالهم إلى يومنا هذا.
وهؤلاء هم السلف والأمة المهتدية الذين أمرنا الله باتباعهم والترضي عنهم، وفيهم الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» [أخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) والترمذي وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية وصححه الألباني].
فهل كان هؤلاء من جعل يوم مولده عيداً، ومن خصه بشيء من العبادات أو العادات أو التذكير أو الخطب، أو المواعظ.
وإذا كانت الأمة الصالحة هي ما ذكرنا وهي التي لم تحتفل بيوم مولده، وتركت ذلك تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم لا إهانة له، ومعرفة بحقه لا جحوداً لحقه، فمن إذن الذين ابتدعوا الاحتفال بمولده، وأرادوا - في زعمهم - أن يعظموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما يعظمه به سلف الأمة الصالح، وأرادوا أن يحيُّوُهُ صلى الله عليه وسلم بما لم يُحَيِّه به الله؟
والجواب: أن أول من ابتدع ذلك هم ملوك الدولة الفاطمية في القرن الرابع الهجري ومن تسمى منهم باسم (المعز لدين الله) ومعلوم أنه وقومه جميعا إسماعيليون زنادقة، متفلسفون. أدعياء للنسب النبوي الشريف، فهم من ذرية عبد الله بن ميمون القداح اليهودي الباطني وقد ادعوا المهدية وحكموا المسلمين بالتضليل والغواية، وحولوا الدين إلى كفر وزندقة وإلحاد، فهذا الذي تسمى (بالحاكم بأمر الله)، هو الذي ادعى الألوهية وأسس جملة من المذاهب الباطنية الدرزية، وأرغم المصريين على سب أبي بكر وعمر وعائشة وعلق ذلك في مساجد المسلمين ومنع المصريين من صلاة التراويح، ومن العمل نهاراً إلى العمل ليلاً ونشر الرعب والقتل واستحل الأموال وأفسد في الأرض، مما تعجز المجلدات عن الإحاطة به. وفي عهد هؤلاء الفاطميين أيضا وبإفسادهم في الأرض أكل المصريون القطط والكلاب وأكلوا الموتى، بل وأكلوا أطفالهم.
وفي عهد هؤلاء الذين ابتدعوا بدعة المولد تمكن الفاطميون والقرامطة من قتل الحجاج وتخريب الحج، وخلع الحجر الأسود.
والخلاصة: أن بدعة المولد نشأت من هنا، وهل يقول عاقل أن هؤلاء الزنادقة الملحدون قد اهتدوا إلي شيء من الحق لم يعرفه الصديق والفاروق وعثمان وعلي والصحابة والسلف الأئمة وأهل الحديث؟ هل يكون كل هؤلاء على باطل وأولئك الكفرة الملاعين على الحق؟ وإذا كان قد اغتر بدعوتهم بعض من أهل الصلاح والتقوى وظن - جهلاً منه - أن المولد تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة له هل يكون الجاهلون المغفلون حجة في دين الله؟!
ماذا في المولد؟ وما الذي يصنع فيه؟
ونأتي الآن إلى سؤال هام: وماذا في المولد؟ وما الذي يصنع فيه؟
والجواب: أن الذين يحتفلون بالمولد هم في أحسن أحوالهم مبتدعون، مفتئتون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستدركون عليه. مجهلون لسلف الأمة وأئمتها. هذا في أحسن الأحوال إذا صنعوا معروفا في الأصل لتذكر لنعمة الله بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة في سيرته وصلاةٍ وسلامٍ عليه، وإظهارٍ للفرح والسرور بمبعثه، ونحو ذلك مما هو من الدين في الجملة ولكنه لم يشرع في هذه المناسبة. ولكن الحق أن أهل الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم هم في العموم ليسوا على شيء من هذا أصلا.
فالمولد عندهم بدعة أنشأت بدعاً منكرة، بل شركاً وزندقة، فالاحتفال بالمولد عند أهله المبتدعين نظام وتقليد معين، واحتفال مخصوص بشعائر مخصوصة وأشعار تقرأ على نحو خاص، وهذه الأشعار تتضمن الشرك الصريح، والكذب الواضح، وعند مقاطع مخصوصة من هذا الشعر يقوم القوم قياماً على أرجلهم زاعمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل عليهم في هذه اللحظة ويمدون أيديهم للسلام عليه، وبعضهم يُطفئ الأنوار، ويضعون كذلك كأساً للرسول صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فهم يضيفونه في هذه الليلة!! ويضعون مكاناً خاصاً له ليجلس فيه بزعمهم - إما وسط الحلقة، وإما بجانب كبيرهم.. الذي يدَّعي بدوره أنه من نسله...
ثم يقوم (الذِكر) فيهم علي نظام مخصوص بهز الرأس والجسم يميناً وشمالاً وقوفاً على أرجلهم، وفي أماكن كثيرة يدخل حلقات (الذِكر) هذه الرجال والنساء جميعاً.
وتذكر المرأة هزاً على ذلك النحو حتى تقع في وسط الجميع ويختلط الحابل بالنابل، حتى أن شعوباً كثيرة ممن ابتليت بهذه البدعة المنكرة اذا أرادت أن تصف أمرا بالفوضى وعدم النظام يقولون (مولد) يعنون أن هذا الأمر في الفوضى وعدم النظام يشبه الموالد.
والعجيب أن هذه الزندقة التي ابتلي به العالم الإسلامي منذ الفاطميين وإلى يومنا هذا - وإن كان قد خف شرها كثيراً - والتي ابتدعها القوم تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم في زعمهم لم يقصروها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جعلوا لكل أفاكٍ منهم مولداً، ولكل زنديق مدع للولاية مولداً، وبعض هؤلاء يعظم مولد هؤلاء ما لا يعظمون مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا مولد من يسمى (بالسيد البدوي) الذي لا يعرف له اسم ولا نسب والذي لم يثبت قط أنه صلى جمعة أو جماعة والذي لا يعرف أيضاً أكان ذكراً أم أنثى حيث أنه لم يكشف وجهه قط!! وكان ملثماً أبداً!! هذا (السيد البدوي) والذي أنكر أهل مكة أن يكون منهم أو يعرفوه - يحتفل بمولده أعظم من الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإلى اليوم يجتمع بمولده في أسبوع واحد أكثر من سبعة ملايين شخص وهو عدد أعظم من العدد الذي يجتمع في الحج.
فإذا كان أمثال هؤلاء تُعظم موالدهم واحتفالاتهم على نحو ذلك، فهل يكون هذا أيضاً من تعظيم الرسول؟!
وهل من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل (المعز الفاطمي) وهو الذي ابتدع بدعة المولد النبوي. لنفسه مولداً كمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل أراد تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته حقا؟! وإذا كانوا قد نافسوه في هذه العظمة بل احتفلوا بغيره أعظم من احتفالهم به صلى الله عليه وسلم فهل هذا دليل محبتهم وتوقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فليتهم اذا ابتدعوا بدعة المولد أن يكونوا قد حرموها على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصروها عليه لمنزلته ومكانته، ولكنهم ابتدعوه قنطرة يقفزون عليها لتعظيم أنفسهم واتباع أهوائهم، وجعل هذا مناسبة لترويج مذاهب بعينها وعقائد مخصوصة يعرفها من قرأ شيئا عن الفكر الصوفي والفكر الباطني..
عقيدة الأمة في الرسول غير عقيدة هؤلاء!
والحق أن عقيدة الأمة الإسلامية المهتدية في الرسول صلى الله عليه وسلم غير عقيدة هؤلاء المبتدعين.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم عند المسلم الحقيقي هو النبي والرسول الذي تجب طاعته قبل كل أحد وبعد كل أحد، ولا تجوز معصيته، والذي يجب محبته فوق كل أحد والذي لا دخول للجنة إلا بمحبته وطاعته واقتفاء أثره، وأنه النبي الخاتم الذي جاء بالتوحيد والإيمان والدين الصحيح الذي يعبد به الله وحده لا شريك له..
وأما أولئك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم غير ذلك تماما فالرسول صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء هو أول من خلق الله من الهباء - في زعمهم - وهو المستوي على عرش الله، والذي من نوره هُوَ خلق العرش والكرسي والسموات والأرض، والملائكة والجن والإنس وسائر المخلوقات وهذه عقيدة ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات المكية، واقرأ في ذلك (الذهب الإبريز لعبد العزيز بن مبارك السجلماسي) وانظر كتابنا (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة) باب: (الحقيقة المحمدية) (ص 151) وانظر فيه ما قاله محمد عبده البرهامي في كتابه (تبرئة الذمة في نصح الأمة)!!
والذي يدعي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل من يأتيك بالوحي يا جبريل؟ فقال جبريل تمتد يد من خلف الحجاب فتعطني الآيات فآتيك بها.. فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم في زعمهم - عن يده وقال مثل هذه يا جبريل؟! فقال جبريل متعجبا: (منك وإليك يا محمد) فانظر هذه هي عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أنزل الوحي من السماء وتلقاه في الأرض.
وقد فصَّل هذه العقيدة عبد الكريم الجيلي الصوفي الزنديق في كتابه (الإنسان الكامل).. ف
تلقى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي - رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين - استفساراً من أحد القراء يقول فيه: شيخي الجليل يعلم الله أني أحبك في الله، وبمناسبة قرب مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم ما حكم الاحتفال بهذه المناسبة؟ وما واجبنا تجاه الحبيب صلى الله عليه وسلم؟
وقد أجاب فضيلته على السائل بقوله: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهناك لون من الاحتفال يمكن أن نقره ونعتبره نافعاً للمسلمين، ونحن نعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يحتفلون بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بالهجرة النبوية ولا بغزوة بدر، لماذا؟
لأن هذه الأشياء عاشوها بالفعل، وكانوا يحيون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً في ضمائرهم، لم يغب عن وعيهم، كان سعد بن أبي وقاص يقول: كنا نروي أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفِّظهم السورة من القرآن، بأن يحكوا للأولاد ماذا حدث في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وفي غزوة الخندق وفي غزوة خيبر، فكانوا يحكون لهم ماذا حدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا إذن في حاجة إلى تذكّر هذه الأشياء.
ثم جاء عصر نسي الناس هذه الأحداث وأصبحت غائبة عن وعيهم، وغائبة عن عقولهم وضمائرهم، فاحتاج الناس إلى إحياء هذه المعاني التي ماتت والتذكير بهذه المآثر التي نُسيت، صحيح اتُخِذت بعض البدع في هذه الأشياء ولكنني أقول إننا نحتفل بأن نذكر الناس بحقائق السيرة النبوية وحقائق الرسالة المحمدية، فعندما أحتفل بمولد الرسول فأنا أحتفل بمولد الرسالة، فأنا أذكِّر الناس برسالة رسول الله وبسيرة رسول الله.
وفي هذه المناسبة أذكِّر الناس بهذا الحدث العظيم وبما يُستفاد به من دروس، لأربط الناس بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب 21] لنضحي كما ضحى الصحابة، كما ضحى علِيّ حينما وضع نفسه موضع النبي صلى الله عليه وسلم، كما ضحت أسماء وهي تصعد إلى جبل ثور، هذا الجبل الشاق كل يوم، لنخطط كما خطط النبي للهجرة، لنتوكل على الله كما توكل على الله حينما قال له أبو بكر: والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال: "يا أبا بكر ما ظنك في اثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا".
نحن في حاجة إلى هذه الدروس فهذا النوع من الاحتفال تذكير الناس بهذه المعاني، أعتقد أن وراءه ثمرة إيجابية هي ربط المسلمين بالإسلام وربطهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذوا منه الأسوة والقدوة، أما الأشياء التي تخرج عن هذا فليست من الاحتفال؛ ولا نقر أحدًا عليها.
علماء من المغرب والمشرق قديما وحديثا يؤكدون: لا بأس بالاحتفال بالمولد النبوي في عصر كاد الشباب ينسى فيه دينه وأمجاده
لا شك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين، وإن هذه المحبة تعتبر من أصول الدين ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فليس من أمته.
إلا أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يجب أن يجاوز الحد المشروع، ويجاوز حد ما أمرنا به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يشتمل على شيء محرم أو منكرات، وذلك تعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال بهذا علماء أجلاء في القديم أمثال: ابن الحاج من المالكية، وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني، وجلال الدين السيوطيّ، والشيخ محمد الفاضل بن عاشور، ومن المحدثين الشيخ عبد الله الصديق الغماري، والأستاذ البشير المحمودي من علماء مراكش، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبد الخالق الشريف من مصر، والشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا. وبالمناسبة نقدم مختارات من فتاوى علماء المغرب والمشرق تضئ جوانب من المسألة.
الشيخ عبد الله الصديق الغماري، رحمه الله (من علماء المغرب): الأمكنة والأزمنة لا تَشْرُف لذاتها، وإنما بما خُصَّتْ به من المعاني
* ما حكم العادات التي جرى عليها الناس في الاحتفال من إقامة الحفلات وتقديم الحلوى وغير ذلك؟
" لقد تكلم أبو عبد الله بن الحاج، من المالكية في كتابه "المدخل على عمل المولد" فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصلُه مدح ما كان فيه من إظهار شعارٍ هو شكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومُنْكَرات، فمن ذلك قوله: وإن كان النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يَزِدْ فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات، وما ذاك إلا لرحمته، صلى الله عليه وسلم، لأمته ورفقه بهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، كان يترك العمل خشيةَ أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين: "ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه"، فتشريف هذا اليوم مُتَضَمِّن لتشريف هذا الشهر الذي وُلِد فيه، فينبغي أن نحترمَه غايةَ الاحترام ونُفَضِّلَه بما فَضَّل الله به الأشهر الفاضلة. وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خَصَّها الله به من العبادات التي تُفْعَل فيها لِما قد عُلِمَ أن الأمكنة والأزمنة لا تَشْرُف لذاتها، وإنما يَحْصُل لها التشريف بما خُصَّتْ به من المعاني، فانظر إلى ما خَصَّ الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم، لأنه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ فيه.
فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يُكَرَّم ويُعَظَّم ويُحتَرم الاحترام اللائق به اتباعا له صلى الله عليه وسلم، في كونه كان يَخُصُّ الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البِر فيها وكثرة الخيرات.
فإن قال قائل: قد التزم النبي صلى الله عليه وسلم، في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد عُلِم، ولم يَلْتَزِم في هذا الشهر ما التزمه في غيره.
فالجواب أن ذلك لِما عُلِم من عاداته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه. ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام، حرم المدينة مثلما حَرَّم إبراهيمُ مكة، ومع ذلك لم يَشْرَع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم، فكان ينظر إلى ما هو من جهته، وإن كان فاضلاً في نفسه، فيتركه تخفيفا عنهم. فعلى هذا تعظيمُ هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القُرُبات، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يَحْرُم عليه، ويَسْكُن له تعظيمًا لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احترامًا، كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرام.
وقد سُئِلَ شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المَوْلِد بدعة لم تُنْقَل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابع التابعين، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدِّها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا.
قال الحافظ السيوطي: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى. فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نِقْمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سَنَة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأية نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبيّ، نبيّ الرحمة في ذلك اليوم.
الأستاذ: البشير المحمودي، خطيب بمراكش: الاحتفال بمولد الرسول هو احتفال وتذكر لنعم الله
يقول الأستاذ: البشير المحمودي، الخطيب والواعظ بمدينة مراكش، في محاضرة ألقاها بمقر المجلس العلمي بمراكش بتاريخ:6/7/2000 ، في موضوع:"الاحتفال بذكرى المولد النبوي بين فتاوى التشريع وفتاوى التبديع"، بعد ما جرد أقوال المختلفة في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف خلص إلى التأكيد ما يلي:
" إن الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس لذاته الجسمية، وإنما هو لروحه، فنحن لا نحب النبي صلى الله عليه وسلم لذاته وإنما نحبه لربه. ولا نحبه لأنه محمد بن عبد الله ولكننا نحبه لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحبه لأنه مبلغ عن الله تعالى، وأنه حبيب الله عز وجل، ونحبه لأن محبته طاعة لله سبحانه وتعالى.
إن الاحتفال بمولد الرسول هو احتفال وتذكر لنعم الله كما أمر الله أن نتذكرها ونشكرها. ولذا ينبغي أن يكون هذا الاحتفال مصحوبا بالدروس والعظات والمحاضرات والندوات والعلم والذكر والقرآن والبر والإنفاق والإحسان والتصافح والتسامح بين الإخوان ولا ينبغي بل ولا يجوز أن تصحبه منكرات وكل ما يتنافى مع الدين.
وخلاصة القول:
1. أن الاحتفال بالمولد مسألة خلافية، و الخلاف-كما سبق- فقه و علم فلا يجوز الإنكار على المسائل المختلف فيها كما قرر ذلك علماء السلف.
2. أن تجاهل الرأي المخالف ليس من فقه الدعوة ولا من أخلاق الداعية وإنما الواجب أن نتعاون في ما نتفق عليه وأن يعذر بعضنا بعضا في ما نختلف فيه، وشعار العلماء "نختلف ولا نفترق "، فالاختلاف في الآراء والفهوم لا ينبغي إذ يؤدي إلى الاختلاف في القلوب وبالأحرى إلى التبديع أو التكفير. ولنسم باختلافاتنا فى مثل هذه الجزئيات إلى خلاف التابعين والأئمة المجتهدين الذين كانوا يختلفون وفي نفس الوقت كانوا يتحابون ويتراحمون.
3. أن الاحتفال بالمولد أجازه كثير من العلماء الأعلام وفقهاء الإسلام باعتباره عادة حسنة أو بدعة مستحسنة استمر العمل به عند المسلمين منذ القرن الرابع الهجري إلى الآن".
الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا
قال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "وقد أتى القرن التاسع والناس بين مجيز ومانع، واستحسنه السيوطي وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، مع إنكارهم لما لصق به من البدع، ورأيهم مستمد من آية (وذكِّرهم بأيام الله).
أخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام: بنعم الله وآلائه، وولادة النبى نعمة كبرى.
وفي صحيح مسلم عن أبى قتادة الأنصاري قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن صوم يوم الاثنين فقال "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أُنزل علىَّ فيه"، فالرسول صلى الله عليه وسلم نص على أن يوم ولادته له مزية على بقية الأيام، وللمؤمن أن يطمع فى تعظيم أجره بموافقته ليوم فيه بركة، وتفضيل العمل بمصادفته لأوقات الامتنان الإِلهي معلوم قطعا من الشريعة، ولذا يكون الاحتفال بذلك اليوم، وشكر الله على نعمته علينا بولادة النبى وهدايتنا لشريعته مما تقره الأصول، لكن بشرط ألا يتخذ له رسم مخصوص، بل ينشر المسلم البشر فيما حوله، ويتقرب إلى الله بما شرعه، ويعرِّف الناس بما فيه من فضل، ولا يخرج بذلك إلى ما هو محرم شرعا. أما عادات الأكل فهي مما يدخل تحت قوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) انتهى.
ورأيي أنه لا بأس بذلك في هذا العصر الذى كاد الشباب ينسى فيه دينه وأمجاده، فى غمرة الاحتفالات الأخرى التى كادت تطغى على المناسبات الدينية، على أن يكون ذلك بالتفقه فى السيرة، وعمل آثار تخلد ذكرى المولد، كبناء مسجد أو معهد أو أي عمل خيري يربط من يشاهده برسول اللّه وسيرته.
فإذا غلبت المخالفات كان من الخير منع الاحتفالات درءًا للمفسدة كما تدل عليه أصول التشريع. وإذا زادت الإِيجابيات والمنافع المشروعة فلا مانع من إقامة هذه الاحتفالات مع التوعية والمراقبة لمنع السلبيات أو الحد منها بقدر المستطاع، ذلك أن كثيرا من أعمال الخير تشوبها مخالفات ولو إلى حد ما، والكل مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوسائل المشروعة ".
وبخصوص صيام يوم مولده عليه الصلاة والسلام يقول الشيخ عطية صقر:"...فمن أراد أن يشكر الله على نعمة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته فليشكره بأية طاعة تكون، بصلاة أو صدقة أو صيام أو نحوها، وليس لذلك يوم مُعين في السُّنة، وإن كان يوم الإثنين من كلِّ أسبوع أفضل، للاتباع على الأقل، فالخلاصة أن يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ليس فيه عبادة خاصة بهذه المناسبة، وليس للصوم فيه فضل على الصوم في أي يوم آخر، والعبادة أساسها الاتباع، وحبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم يكون باتِّباع ما جاء به كما قال فيما رواه البخاري ومسلم "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنتي فليس مني" وفيما رواه أبو يعلى بإسناد حسن" من أحبني فليستن بسنتي ".
والله أعلم
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
هناك من المسلمين من يعتبرون أي احتفاء أو أي اهتمام أو أي حديث بالذكريات الإسلامية، أو بالهجرة النبوية، أو بالإسراء والمعراج، أو بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغزوة بدر الكبرى، أو بفتح مكة، أو بأي حدث من أحداث سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أي حديث عن هذه الموضوعات يعتبرونه بدعة في الدين، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، إنما الذي ننكره في هذه الأشياء الاحتفالات التي تخالطها المنكرات، وتخالطها مخالفات شرعية وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، كما يحدث في بعض البلاد في المولد النبوي، ولكن إذا انتهزنا هذه الفرصة للتذكير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشخصية هذا النبي العظيم، وبرسالته العامة الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين، فأي بدعة في هذا وأية ضلالة؟! إننا حينما نتحدث عن هذه الأحداث نذكر الناس بنعمة عظيمة، والتذكير بالنعم مشروع ومحمود ومطلوب، والله تعالى أمرنا بذلك في كتابه (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرًا، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت
الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا)، يذكر بغزوة الخندق أو غزوة الأحزاب حينما غزت قريش وغطفان وأحابيشهما النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين في عقر دارهم، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وأرادوا إبادة خضراء المسلمين واستئصال شأفتهم، وأنقذهم الله من هذه الورطة، وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يرها الناس من الملائكة، يذكرهم الله بهذا، اذكروا لا تنسوا هذه الأشياء، معناها أنه يجب علينا أن نذكر هذه النعم ولا ننساها. ذكر النعمة مطلوب إذن، نتذكر نعم الله في هذا، ونذكر المسلمين بهذه الأحداث وما فيها من عبر وما يستخلص منها من دروس، أيعاب هذا ؟ أيكون هذا بدعة وضلالة.
الشيخ عبد الخالق الشريف أحد الدعاة بمصر
بمناسبة قرب مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم، فإننا جميعًا نحب رسول الله الذي أوجب الله علينا طاعته، وألزمنا بمحبته، وجعل طاعتنا له صلى الله عليه وسلم سببًا في حب الله، وعلامة على حب الله، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ...) آل عمران.
والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته لم يحتفل بمولده ولا الخلفاء من بعده احتفلوا بمثل ذلك؛ لأن الأصل أن أمة الإسلام في احتفال دائم بهذا الدين، تطبيقًا لا مجرد كلمات، ودعوة لا مجرد انتساب، واعتزازًا بهذا الدين الذي فضلهم الله به. وما يقوم به الناس من احتفال إذا كان بقصد التذكير وإعطاء العظات والعبر والدعوة إلى التزام منهجه، فيرى البعض أنه لا بأس بذلك بهذا القصد، وإن كان المفترض أن يكون دومًا.
أما ما يحدث في الموالد من رقص واختلاط بين الرجال والنساء، ولعب القمار، وغير ذلك فهذا كله حرام سواء أكان في مناسبة أو بدون مناسبة.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف: شبهات وردود
اعتاد المسلمون مشرقاً ومغرباً الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وإظهار الفرح والسرور، والبهجة والحبور، في شهر ربيع الأنوار، الشهر الذي منّ الله به على المسلمين، بالنعمة العظمى، والرحمة المهداة، سيد الوجود والكائنات، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات.
لكن أفراداً من الناس؛ ومنهم من ينسب إلى العلم؛ يمنعون الناس من الحضور إلى مجالس الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويصدرون فتاوى تحشر كل المحتفلين بهذه الذكرى العطرة في مصاف المبتدعة الضالين المضلين، الذين أحدثوا في الدين، وخالفوا شرع رب العالمين، مستندين في موقفهم على شبهات، يسمونها أدلة وبراهين، ومن أهم هذه الشبهات التي يحرمون من أجلها الاحتفال بالمولد الشريف ويحذرون منه:
الشبهة الأولى: لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا الصحابة الكرام ولا أهل القرون الثلاثة الأولى الاحتفال بالمولد أو الأمر به أوالترغيب فيه.
لم يحتفل النبي صلى الله عليه وسلم بمولده بالطريقة المعهودة في عصرنا، هذا أمر مسلّم، أما أنه لم يحتفل بذكرى مولده فهذا أبطل باطل، ودونك تعليله صيام يوم الإثنين: “فيه ولدت، وفيه أنزل علي” 1، فالنبي كان يعظم يوم مولده ويحتفل به أسبوعياً، وكان يحتفل بالصيام؛ وهو عبادة؛ ونحن نحتفل بتلاوة القرآن وذكر الله والصدقات وإطعام الطعام… وهذه كلها عبادات، فلم التفريق بين المتماثلات؟!
وعلى فرض أن النبي لم يحتفل بمولده، فما المنكر في احتفالنا؟
معلوم أن النبي لم يفعل كل المباحات لكثرتها، إذ لايستطيع بشر استيعابها عدّاً فضلاً عن تناولها .
ومعلوم كذلك أن النبي لم يفعل جميع المندوبات، واكتفى بالنصوص العامة الشاملة للمندوبات بجميع أنواعها منذ جاء الإسلام إلى قيام الساعة، مثل “وما تفعلوا من خير يعلمه الله”سورة البقرة: 196 “من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها” سورة الأنعام: 161 “وافعلوا الخير لعلكم تفلحون” سورة الحج: 75 “ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا” الشورى: 21 “فمن يعمل مثقال ذرة خيراًيره” سورة الزلزلة: 8… فمن زعم في فعل خير مستحدث أنه بدعة مذمومة، فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله، حيث ذم ما ندبا إليه في عمومات الكتاب والسنة 3.
إذا تقرر عدم فعل النبي لجميع المباحات والمندوبات، فإن تركه لها لايعد حجة، ولا يقتضي تحريماً وحظراً، إذ الترك لا يفيد المنع كما نص على ذلك غير واحد من العلماء؛ منهم الإمام الصنعاني في قوله: “ولادليل في الترك على حكم معين” 4، وقريب منه كلام الإمام الشوكاني في تعليقه على القائلين بتحريم قراءة القرآن على الجنب إذ قال: “ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب ليس فيه ما يدل على التحريم، لأن غايته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك القراءة حال الجنابة، ومثله لا يصلح متمسكاً للكراهة، فكيف يستدل به على التحريم؟” 5, وممن نص على أن الترك ليس بدليل العلامة المحقق ابن دقيق العيد6، وقد نظم ذلك العلامة الشريف السيد عبد الله بن الصديق رحمه الله في مستهل رسالته “حسن التفهم والدرك لمسألة الترك” فقال:
الترك ليس بحجة في شرعنا لايقتضي منعاً ولا إيجاباً
فمن ابتغى حظراً بترك نبينا ورآه حكماً صادقاً وصوابا
قد ضل عن نهج الأدلة كلها بل أخطأ الحكم الصحيح وخابا
لاحظر يمكن إلا إن نهي أتى متوعداً لمخالفيه عذابا
أو ذم فعل مؤذن بعقوبة أو لفظ تحريم يواكب عابا
فترك النبي للاحتفال بمولده بنفس الطريقة التي يحتفل بها المسلمون اليوم لا يدل على التحريم والحظر كما تم بيانه، وإنما يدل على الجواز ورفع الحرج، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم”7 ، ولم يقل: وما تركته فاتركوه أو اجتنبوه.
وما قيل في ترك النبي نقوله من باب أولى في ترك الصحابة وأهل القرون الثلاثة الأولى في تركهم للاحتفال بالمولد.
الشبهة الثانية: الاحتفال بالمولد النبوي من المحدثات التي حذر منها النبي بقوله “وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة”8، والمحتفل بالمولد مبتدع ضال، لأنه مشمول بعموم هذا الحديث.
لكن جمهور العلماء على أن حديث “كل بدعة ضلالة” هو من قبيل العام المخصوص9، ومعناه: كل أمر محدث لا أصل له في الشرع فهو ضلالة وشر، وكل أمر محدث له أصل في الشرع فهو من الدين، بل هو من قبيل السنة الحسنة المنصوص عليها في الحديث، لهذا قال الحافظ ابن حجر: “والمراد بقوله: كل بدعة ضلالة، ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام”10، وقال ابن العربي: “ليس البدعة والمحدث مذموماً للفظ بدعة ومحدث ولا معناهما، وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى الضلالة”11.
الشبهة الثالثة: المحتفل بالمولد غير مأجور على عمله، بل عمله مردود عليه، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”12.
المتأمل في هذا الحديث؛ وهو من أقوى حجج المانعين للاحتفال بالمولد؛ يجده حجة للمحتفل لا حجة عليه كما يتوهم، بل “هذا الحديث مخصص لحديث: كل بدعة ضلالة، ومبين للمراد منه كما هو واضح، إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء لقال الحديثمن أحدث في أمرنا هذا شيئاً فهو رد)، لكن لما قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أفاد أن المحدَث نوعان:
- ما ليس من الدين؛ بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله؛ فهو مردود، وهو البدعة الضلالة.
- وما هو من الدين؛ بأن شهد له أصل أو أيده دليل؛ فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة”13.
ومما يشهد لهذا أن النبي رأى بلالاً في المنام وسمع خشف نعليه في الجنة، فسأله: “حدّثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام؟ قال: ما عملت في الإسلام أرجى عندي أني لم أطهّر طهوراً تاماً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت لربي ما كتب لي أن أصلي”14.
فالله عز وجل أثاب هذا الصحابي قبل إقرار النبي له، فلماذا أثيب بلال وقد أحدث في الدين؟ لكن، هل أحدث فيه ما ليس منه؟ لا. لقد أحدث فيه ما هو منه. أي ما يشهد له الشرع؛ لهذا قال الحافظ ابن حجر عند كلامه على حديث “من أحدث في أمرنا…”: “من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه”15 ، بمعنى أن من اخترع في الدين ما شهد له أصل من أصول الشرع يلتفت إليه؛ فبلال فعل شيئاً ورد في الشرع، إذ صنيعه محصور في الوضوء وصلاة النافلة، وكلاهما وارد في الشرع.
وهذا شأن المحتفلين بالمولد، فعملهم محصور في قراءة القرآن وإطعام الطعام والأذكار وإنشاد المدائح في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا وارد في الشرع ولا يتعارض مع دلائله. قال الحافظ العراقي: “إطعام الطعام مستحب في كل وقت، فكيف إذا انضم لذلك السرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف؟!” 16
الشبهة الرابعة: عمل المحتفلين بالمولد يقتضي أنهم أكثر حباً للنبي من الصحابة والتابعين، وهذا قدح فيهم وحط من قدرهم.
وهذه شبهة لادليل عليها سوى تطبيق مفهوم المخالفة في غير موضعه، فلو طبقوه على حديث “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” لكان قولهم صواباً، ورأيهم سديداً، ولإبطال دعواهم نسوق المثال التالي:
ورد أن النبي كان يصوم الإثنين فرحاً وتعظيماً ليوم مولده، ولم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يصومون يوم الإثنين من كل أسبوع، فكان منهم الصائم والمفطر، فإذا ما التزم شخص ما بصيام كل إثنين، أننهاه عن هذا الصوم بدعوى أن عمله هذا يقتضي أنه أكثر حباً للنبي من الصحابة؟ هذا ما لا يقوله عاقل. فكيف يكون حجة ودليلاً لمن ينكر عمل المولد؟!.
الشبهة الخامسة: ادعى من ينكر مشروعية الاحتفال بالمولد أن المحتفلين يقعون في منكر عظيم، وهو الغلو في رسول الله، وفيه مخالفة لحديث “لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم”. 17
والواقع خلاف ذلك، إذ لا أحد من المحتفلين يؤله سيدنا محمدا كما ألّهت النصارى سيدنا عيسى، بأن قالت: إنه ابن الله؟ فمن بالغ في مدح النبي وأخرجه من بشريته إلى درجة الألوهية فقد أطراه كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، “أما من مدحه ووصفه بما لا يخرجه عن حقيقة البشرية معتقداً أنه عبد الله ورسوله، مبتعداً عن معتقد النصارى، فإنه ولا شك من أكمل الناس توحيداً”18 . وتمييز النبي عن غيره ورفعه عن عامة البشر، له أصل في الدين، قال تعالى: “لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا” سورة النور: 61. فوجب تمييز دعاء النبي عن دعاء عامة الناس.
أما من يعتبر احتفال الناس بذكرى المولد غلواً في النبي، فما عساه أن يقول في الصحابة الكرام الذين كانوا يتسابقون على نخامة النبي ويدلكون بها وجوههم، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه, ويجمعون عرقه الشريف في قوارير ويجعلونها أطيب الطيب، بل منهم من شرب دمه الزكي بعد الحجامة، ومنهم من شرب بوله صلى الله عليه وآله وسلم. فكل ما يصنعه المحتفلون بمولده اليوم هو أدنى بكثير مما فعله الصحابة الكرام. فأين المبالغة والغلو المؤدي إلى الشرك؟!.
من أدلة مشروعية الاحتفال بالمولد:
- شهر المولد، شهر نزول الرحمة الإلهية بالولادة المحمدية، وولادة النبي من أعظم النعم ولاشك، فكان لابد من الشكر، والشكر يكون بالفعل والعمل، “اعملوا آل داوود شكراً” سورة سبأ: 13، ومن عملِ الشكر الاجتماعُ والذكر وقراءة القرآن وإطعام الطعام…
- قال الله عز وجل: “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا” سورة يونس: 58، فالمسلم مأمور بالفرح بالرحمة، والنبي عين الرحمة “إنما أنا رحمة مهداة” . فهذا دليل على جواز الفرح والاحتفال بمولد النبي/ الرحمة.
- كان اليهود يصومون عاشوراء شكراً لله على غرق فرعون ونجاة موسى، وأعجِب النبي بصنيعهم هذا. كذلك المسلمون إن فرحوا وابتهجوا في ذكرى مولد نبيهم، فهو من شكرهم لله على ما منّ به عليهم في ذلك اليوم العظيم.
- قد يشرف المكان بما يحدث فيه من أحداث ووقائع. قال الله تعالى: “كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا. قال يا مريم أنى لك هذا. قالت هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكرياء ربه. قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء” آل عمران: 38. ما معنى “هنالك دعا”؟ إنها إشارة إلى المكان الذي اعتقد سيدنا زكرياء شرفه، فالتمس بركته ولم يتوجه إلى الله بالدعاء في غيره من الأماكن، بل “هنالك”.
وكذلك الزمان، يفضل بما يقع فيه من أحداث، فليلة القدر ليست كسائر الليالي، ويوم عرفة ليس كسائر الأيام، وكذلك يوم المولد النبوي؛ يوم مولد الرحمة والهدى؛ لذلك يغتنمه المسلمون، فيبادرون إلى فعل الخير والبر، طمعاً في تعظيم أجره ونيل بركته.
ما يجب التذكير به أثناء الاحتفال بالمولد:
يجب على المشرفين على حفلات المولد والقائمين عليها أن يعرّفوا الناشئة بنبيهم، لأن التعرف على أحواله وسيرته العطرة واجب شرعاً، والمرء عدو ما يجهل، وللأسف الشديد، كثير من أبناء المسلمين – من مثقفين وعوام – يجهلون عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرفون.
وزّعتُ مرة على تلاميذ فصل من الفصول الدراسية في سلك الثانوي استمارة قصد الإجابة عن أسئلتها البسيطة جداً، وكلها متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، من قبيل: ما اسم النبي صلى
الله عليه وسلم؟ ما اسم أبيه؟ ما اسم أمه؟ ما اسم مرضعته؟ متى توفي؟ أين قبره الشريف؟… ولما اطلعت على إجاباتهم تألمت غاية الألم، تلاميذ مسلمون أباً عن جد، وفي بلد مسلم، وفي سلك الثانوي، ولم يعبئ الاستمارة بالأجوبة الصحيحة إلا تلميذ واحد. أما البقية فمنهم من أجاب عن سؤالين، ومنهم من أجاب عن ثلاثة أسئلة، ومنهم من اكتفى بالإجابة عن السؤال الأول. أتدرون لماذا؟ ببساطة، إنهم لايعرفون عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا الاسم!!. أهناك كارثة تهدد الأمة أخطر من هذه؟ لتفادي هذا الخطر، كان الصحابة يعلمون أبناءهم – وهم قريبو عهد بالنبي- مغازي رسول الله كما يعلمونهم السورة من القرآن.
فلابد من استثمار مناسبة المولد للتعريف بالنبي وسيرته العطرة، وأيامه الخالدة، وصفاته العليا، وأخلاقه السنية، وتذكير الناس بما عاناه في تبليغ الدعوة، وما قام به من جهد من أجل توحيد الناس وتعليمهم وتربيتهم. وأن يكون الهدف الأسمى إحياء حب النبي في قلوب المسلمين كما كان عند الصحابة ومن بعدهم من فضلاء الأمة وصلحائها، لتتحقق لنا معيته يوم القيامة، حيث يكون المرء مع من أحب.
أشكال الاحتفال بالمولد:
أحدث المسلمون الاحتفال بالمولد بالطريقة المعهودة (الاجتماع في المساجد والبيوت لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة على النبي …)، وما أحوجنا اليوم إلى تطوير طرق الاحتفال، وأن لا نبقى حبيسي المساجد والبيوت، بل لابد من الخروج إلى الساحات الشعبية والقاعات العمومية، بأنشطة وفعاليات مختلفة، و تنظيم مسابقات في السيرة النبوية العطرة وحفظ الأحاديث النبوية.
خيراً فعَلَت الجالية المسلمة بمدينة روتردام ( العاصمة الاقتصادية لهولندا) عندما احتفلت بالمولد النبوي في أكبر مسارح المدينة الموجود بالقرب من محطة القطارات، حيث يبدؤون احتفالهم – الذي تحول إلى تقليد سنوي – بتوزيع المشرفين على الحفل للورود على كافة المسافرين بالقطار في ذلك اليوم، بغض النظر عن لونهم أو معتقدهم، مع تذكيرهم بأن ذلك يحدث بمناسبة ولادة نبي الإسلام.
1 رواه الإمام أحمد والإمام مسلم.
2 إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة. لأبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري: 5.
3 إتقان الصنعة: 6
4 سبل السلام شرح بلوغ المرام: 1/157.
5 نيل الأوطار: 1/271.
6 إحكام الأحكام: 1/188. وقال أيضاً: “فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه” 1/205.
7 رواه البخاري.
8 رواه الإمام مسلم وابن ماجه.
9 شرح النووي على صحيح مسلم: 6/154.
10 فتح الباري: 13/254.
11 تشنيف الأذان بأدلة استحباب السيادة عند اسمه عليه الصلاة والسلام في الصلاة والإقامة والأذان. لأبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري: 186. نقلا عن سنن المهتدين للمواق.
12 متفق عليه.
13 إتقان الصنعة: 13.
14 فضائل الصحابة للإمام النسائي. تحقيق الدكتور فاروق حمادة: 132.
15 فتح الباري: 5/302
16 تشنيف الأذان: 189.
17 رواه الإمام البخاري والإمام أحمد.
18 مفاهيم يجب أن تصحح: 122.
19 رواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما.
بقلم: ذ. عبد الله الجباري/مراكش بريس 2010
حقيقة الاحتفال بالمولد النبوي
الاختلاف حول الاحتفال بالمولد النبوي ليس اختلافاً بين من يحب الرسول ويعظمه وبين من يبغضه ويهمل شأنه بل الأمر على العكس من ذلك تماماً.
- الفاطميون الإسماعيليون هم أول من ابتدع بدعة الاحتفال بالمولد النبوي.
- (الحقيقة المحمدية) في الفكر الصوفي تختلف تماماً عما نؤمن به نحو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
مقدمة
اطلعت على بعض المقالات التي يروج أصحابها لفكرة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، واتخاذ يوم ولادته عيداً ليكون ملتقى روحياً للمسلمين - على حد تعبيرهم - ومحاسبة النفس على مدى الاتباع والتمسك بالدين الإسلامي كما يزعمون..
وبالرغم من أن هذا الموضوع قديم، وقد كتب فيه المؤيدون والمعارضون، ولن يزال الخلاف فيه - إلا ما شاء الله - إلا أنني رأيت من واجبي تجلية بعض الحقائق التي تغيب عن جمهور الناس عند نقاش هذه القضية.. وهذا الجمهور هو الذي يهمني الآن أن أضع مجموعة من الحقائق بين يديه ليعلم حقيقة الدعوة إلى الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.. ولماذا ترفض هذه الدعوى من أهل التوحيد والدين الخالص والإسلام الصحيح.
ماذا يريد الدعاة إلى الاحتفال بالمولد النبوي على التحديد؟
يصور دعاة الاحتفال والاحتفاء بيوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه هو مقتضى المحبة والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يوم مولده يوم مبارك ففيه أشرقت شمس الهداية، وعم النور هذا الكون، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين، ولما سئل عن ذلك قال: «هذا يوم ولدت فيه وترفع الأعمال إلى الله فيه، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»، وأنه إذا كان العظماء يحتفل بمولدهم ومناسباتهم فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أعظم العظماء وأشرف القادة..
ويعرض دعاة الاحتفال بالمولد هذه القضية على أنها خصومة بين أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه وخلاف بين من يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقدرونه وينتصرون له، وبين من يهملونه، ولا يحبونه ولا يضعونه في الموضع اللائق به.
ولا شك أن عرض القضية على هذا النحو هو من أعظم التلبيس وأكبر الغش لجمهور الناس، وعامة المسلمين، فالقضية ليست على هذا النحو بتاتاً فالذين لا يرون جواز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً من الإبتداع في الدين هم أسعد الناس حظاً بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، فهم أكثر الناس تمسكاً بسنته، واقتفاءاً لآثاره، وتتبعاً لحركاته وسكناته، وإقتداء به في كل أعماله صلى الله عليه وسلم، وهم كذلك أعلم الناس بسنته وهديه ودينه الذي أرسل به، وأحفظ الناس لحديثه، وأعرف الناس بما صح عنه وما افتراه الكذابون عليه، ومن أجل ذلك هم الذابون عن سنته، والمدافعون في كل عصر عن دينه وملته وشريعته بل إن رفضهم للإحتفال بيوم مولده وجعله عيداً إنما ينبع من محبتهم وطاعتهم له فهم لا يريدون مخالفة أمره، ولا الإفتئات عليه، ولا الإستدراك على شريعته لأنهم يعلمون جازمين أن إضافة أي شيء إلى الدين إنما هو استدراك على الرسول صلى الله عليه وسلم لأن معني ذلك أنه لم يكمل الدين، ولم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كل ما أنزل الله إليه أو أنه استحيا أن يبلغ الناس بمكانته ومنزلته، وما ينبغي له، وهذا أيضا نقص فيه، لأن وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكانته من الدين الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه وقد فعل صلى الله عليه وسلم، فقد بين ما يجب على الأمة نحوه أتم البيان فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [أخرجه البخاري ومسلم].
وقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: «لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال - أي عمر - : فأنت الآن أحب إلي من نفسي، فقال: «الآن يا عمر» [أخرجه البخاري]..
والشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من بيان الحق، ولا يجوز له كتمانه، ولا شك أن من أعظم الحق أن يشرح للناس واجبهم نحوه، وحقه عليهم، ولو كان من هذا الحق الذي له أن يحتفلوا بيوم مولده لبينه وأرشد الأمة إليه.
وأما كونه كان يصوم يوم الاثنين وأنه علل ذلك أنه يوم ولد فيه، ويوم ترفع الأعمال إلي الله فيه، فإن أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم على الحقيقة يصومون هذا اليوم من كل أسبوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وأما أولئك الملبسون فإنهم يجعلون الثاني عشر من ربيع الأول يوم عيد ولو كان خميساً أو ثلاثاءً أو جمعةً.
وهذا لم يقله ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت أنه صام الثاني عشر من ربيع الأول، ولا أمر بصيامه.
فاستنادهم إلى إحياء ذكرى المولد، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول عيداً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين تلبيس على عامة الناس وتضليل لهم.
والخلاصة: أن الذين يُتهمون بأنهم أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ومنكرو فضله، وجاحدوا نعمته، كما يدّعي الكذابون هم أسعد الناس حظا بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته، وهم الذين علموا دينه وسنته على الحقيقة.
وأما أولئك الدعاة إلي الاحتفال بالمولد فدعوتهم هذه نفسها هي أول الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الكذب عليه، والاستهانة بحقه.
لأنها مزاحمةٌ له في التشريع واتهام له أنه ما بيّن الدين كما ينبغي، وترك منه ما يستحسن، وأهمل ما كان ينبغي ألا يغفل عنه من شعائر محبته وتعظيمه وتوقيره، وهذا أبلغ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه نقطة الفصل في هذه القضية، وبداية الطريق لمعرفة من اهتدى ومن ضل فيها.
فدعاة المولد - بدعوتهم إليه - مخالفون لأمره صلى الله عليه وسلم، مفتئتون عليه، مستدركون على شريعته، ونفاة المولد متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم، متابعون لسنته، محبون له، معظمون لأمره غاية التعظيم متهيبون أن يستدركوا عليه ما لم يأمر به، لأنه هو نفسه صلى الله عليه وسلم حذرهم من ذلك فقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» [أخرجه البخاري ومسلم] و«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» [أخرجه البخاري ومسلم].
مَنْ هَؤُلاَءِ؟ ومَنْ هَؤُلاَءِ؟
وهنا يأتي السؤال من الداعون إلى المولد ومن الرافضون له؟ والجواب أن الرافضين للمولد هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الكرام، ونقول الرافضين - تجوزاً - فالمولد هذا ما كان في عصرهم قط، ولم يعرفوه أبدا، ولا خطر ببالهم أصلا، وعلى هذا كان التابعون وتابعوهم وأئمة السلف جميعاً ومنهم الأئمة الأربعة أعلام المذاهب الفقهية المشهورة.
وعلماء الحديث قاطبةً إلا من شذ منهم في عصور متأخرة عن القرون الثلاثة الأولى قرون الخير، وكل من سار على دربهم ومنوالهم إلى يومنا هذا.
وهؤلاء هم السلف والأمة المهتدية الذين أمرنا الله باتباعهم والترضي عنهم، وفيهم الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» [أخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) والترمذي وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية وصححه الألباني].
فهل كان هؤلاء من جعل يوم مولده عيداً، ومن خصه بشيء من العبادات أو العادات أو التذكير أو الخطب، أو المواعظ.
وإذا كانت الأمة الصالحة هي ما ذكرنا وهي التي لم تحتفل بيوم مولده، وتركت ذلك تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم لا إهانة له، ومعرفة بحقه لا جحوداً لحقه، فمن إذن الذين ابتدعوا الاحتفال بمولده، وأرادوا - في زعمهم - أن يعظموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما يعظمه به سلف الأمة الصالح، وأرادوا أن يحيُّوُهُ صلى الله عليه وسلم بما لم يُحَيِّه به الله؟
والجواب: أن أول من ابتدع ذلك هم ملوك الدولة الفاطمية في القرن الرابع الهجري ومن تسمى منهم باسم (المعز لدين الله) ومعلوم أنه وقومه جميعا إسماعيليون زنادقة، متفلسفون. أدعياء للنسب النبوي الشريف، فهم من ذرية عبد الله بن ميمون القداح اليهودي الباطني وقد ادعوا المهدية وحكموا المسلمين بالتضليل والغواية، وحولوا الدين إلى كفر وزندقة وإلحاد، فهذا الذي تسمى (بالحاكم بأمر الله)، هو الذي ادعى الألوهية وأسس جملة من المذاهب الباطنية الدرزية، وأرغم المصريين على سب أبي بكر وعمر وعائشة وعلق ذلك في مساجد المسلمين ومنع المصريين من صلاة التراويح، ومن العمل نهاراً إلى العمل ليلاً ونشر الرعب والقتل واستحل الأموال وأفسد في الأرض، مما تعجز المجلدات عن الإحاطة به. وفي عهد هؤلاء الفاطميين أيضا وبإفسادهم في الأرض أكل المصريون القطط والكلاب وأكلوا الموتى، بل وأكلوا أطفالهم.
وفي عهد هؤلاء الذين ابتدعوا بدعة المولد تمكن الفاطميون والقرامطة من قتل الحجاج وتخريب الحج، وخلع الحجر الأسود.
والخلاصة: أن بدعة المولد نشأت من هنا، وهل يقول عاقل أن هؤلاء الزنادقة الملحدون قد اهتدوا إلي شيء من الحق لم يعرفه الصديق والفاروق وعثمان وعلي والصحابة والسلف الأئمة وأهل الحديث؟ هل يكون كل هؤلاء على باطل وأولئك الكفرة الملاعين على الحق؟ وإذا كان قد اغتر بدعوتهم بعض من أهل الصلاح والتقوى وظن - جهلاً منه - أن المولد تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة له هل يكون الجاهلون المغفلون حجة في دين الله؟!
ماذا في المولد؟ وما الذي يصنع فيه؟
ونأتي الآن إلى سؤال هام: وماذا في المولد؟ وما الذي يصنع فيه؟
والجواب: أن الذين يحتفلون بالمولد هم في أحسن أحوالهم مبتدعون، مفتئتون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستدركون عليه. مجهلون لسلف الأمة وأئمتها. هذا في أحسن الأحوال إذا صنعوا معروفا في الأصل لتذكر لنعمة الله بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة في سيرته وصلاةٍ وسلامٍ عليه، وإظهارٍ للفرح والسرور بمبعثه، ونحو ذلك مما هو من الدين في الجملة ولكنه لم يشرع في هذه المناسبة. ولكن الحق أن أهل الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم هم في العموم ليسوا على شيء من هذا أصلا.
فالمولد عندهم بدعة أنشأت بدعاً منكرة، بل شركاً وزندقة، فالاحتفال بالمولد عند أهله المبتدعين نظام وتقليد معين، واحتفال مخصوص بشعائر مخصوصة وأشعار تقرأ على نحو خاص، وهذه الأشعار تتضمن الشرك الصريح، والكذب الواضح، وعند مقاطع مخصوصة من هذا الشعر يقوم القوم قياماً على أرجلهم زاعمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل عليهم في هذه اللحظة ويمدون أيديهم للسلام عليه، وبعضهم يُطفئ الأنوار، ويضعون كذلك كأساً للرسول صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فهم يضيفونه في هذه الليلة!! ويضعون مكاناً خاصاً له ليجلس فيه بزعمهم - إما وسط الحلقة، وإما بجانب كبيرهم.. الذي يدَّعي بدوره أنه من نسله...
ثم يقوم (الذِكر) فيهم علي نظام مخصوص بهز الرأس والجسم يميناً وشمالاً وقوفاً على أرجلهم، وفي أماكن كثيرة يدخل حلقات (الذِكر) هذه الرجال والنساء جميعاً.
وتذكر المرأة هزاً على ذلك النحو حتى تقع في وسط الجميع ويختلط الحابل بالنابل، حتى أن شعوباً كثيرة ممن ابتليت بهذه البدعة المنكرة اذا أرادت أن تصف أمرا بالفوضى وعدم النظام يقولون (مولد) يعنون أن هذا الأمر في الفوضى وعدم النظام يشبه الموالد.
والعجيب أن هذه الزندقة التي ابتلي به العالم الإسلامي منذ الفاطميين وإلى يومنا هذا - وإن كان قد خف شرها كثيراً - والتي ابتدعها القوم تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم في زعمهم لم يقصروها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جعلوا لكل أفاكٍ منهم مولداً، ولكل زنديق مدع للولاية مولداً، وبعض هؤلاء يعظم مولد هؤلاء ما لا يعظمون مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا مولد من يسمى (بالسيد البدوي) الذي لا يعرف له اسم ولا نسب والذي لم يثبت قط أنه صلى جمعة أو جماعة والذي لا يعرف أيضاً أكان ذكراً أم أنثى حيث أنه لم يكشف وجهه قط!! وكان ملثماً أبداً!! هذا (السيد البدوي) والذي أنكر أهل مكة أن يكون منهم أو يعرفوه - يحتفل بمولده أعظم من الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإلى اليوم يجتمع بمولده في أسبوع واحد أكثر من سبعة ملايين شخص وهو عدد أعظم من العدد الذي يجتمع في الحج.
فإذا كان أمثال هؤلاء تُعظم موالدهم واحتفالاتهم على نحو ذلك، فهل يكون هذا أيضاً من تعظيم الرسول؟!
وهل من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل (المعز الفاطمي) وهو الذي ابتدع بدعة المولد النبوي. لنفسه مولداً كمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل أراد تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته حقا؟! وإذا كانوا قد نافسوه في هذه العظمة بل احتفلوا بغيره أعظم من احتفالهم به صلى الله عليه وسلم فهل هذا دليل محبتهم وتوقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فليتهم اذا ابتدعوا بدعة المولد أن يكونوا قد حرموها على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصروها عليه لمنزلته ومكانته، ولكنهم ابتدعوه قنطرة يقفزون عليها لتعظيم أنفسهم واتباع أهوائهم، وجعل هذا مناسبة لترويج مذاهب بعينها وعقائد مخصوصة يعرفها من قرأ شيئا عن الفكر الصوفي والفكر الباطني..
عقيدة الأمة في الرسول غير عقيدة هؤلاء!
والحق أن عقيدة الأمة الإسلامية المهتدية في الرسول صلى الله عليه وسلم غير عقيدة هؤلاء المبتدعين.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم عند المسلم الحقيقي هو النبي والرسول الذي تجب طاعته قبل كل أحد وبعد كل أحد، ولا تجوز معصيته، والذي يجب محبته فوق كل أحد والذي لا دخول للجنة إلا بمحبته وطاعته واقتفاء أثره، وأنه النبي الخاتم الذي جاء بالتوحيد والإيمان والدين الصحيح الذي يعبد به الله وحده لا شريك له..
وأما أولئك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم غير ذلك تماما فالرسول صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء هو أول من خلق الله من الهباء - في زعمهم - وهو المستوي على عرش الله، والذي من نوره هُوَ خلق العرش والكرسي والسموات والأرض، والملائكة والجن والإنس وسائر المخلوقات وهذه عقيدة ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات المكية، واقرأ في ذلك (الذهب الإبريز لعبد العزيز بن مبارك السجلماسي) وانظر كتابنا (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة) باب: (الحقيقة المحمدية) (ص 151) وانظر فيه ما قاله محمد عبده البرهامي في كتابه (تبرئة الذمة في نصح الأمة)!!
والذي يدعي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل من يأتيك بالوحي يا جبريل؟ فقال جبريل تمتد يد من خلف الحجاب فتعطني الآيات فآتيك بها.. فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم في زعمهم - عن يده وقال مثل هذه يا جبريل؟! فقال جبريل متعجبا: (منك وإليك يا محمد) فانظر هذه هي عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أنزل الوحي من السماء وتلقاه في الأرض.
وقد فصَّل هذه العقيدة عبد الكريم الجيلي الصوفي الزنديق في كتابه (الإنسان الكامل).. ف