قتل المرحمة EUTHANASIE
بين القوانين الوضعية والفقه الإسلامي
أ / الدكتور محمد الهواري
مدخل:
أمكن للتقدم العلمي في السنوات الأخيرة وخاصة في مجال صحة الحياة وكذلك التطور المذهل للتقنية الطبية أن يؤدي لأن تطول الأعمار بصورة واضحة جداً. ويلاحظ كذلك أن التقدم الطبي وخاصة في البلاد المتطورة، استطاع أن يحافظ على الحياة الاصطناعية للمرضى الواقعين تحت تأثير الغيبوبة، لفترة طويلة من الزمن قد تستمر في بعض الأحيان لعدة سنوات.ومع التطور الاجتماعي وتفكك الروابط الأسرية وارتفاع نفقات العلاج الطبي اختلفت النظرة الطبية لمثل هؤلاء المرضى اختلافا بيّناً. فقد يصدف أن يصاب بعض المرضى بآفات لا يرجى شفاؤها، كبعض آفات السرطان أو الإيدز وغيرها، وقد تتصاحب هذه الآفات بآلام شديدة غير محتملة مما يدفع الهيئة الطبية المعالجة أو المريض نفسه أو من يتولى أمره أن يبحث عن طريقة تنتهي بواسطتها حياة المريض رحمة به وشفقة عليه. وأدى هذا الموقف إلى نشوء ما يسمى بقتل الرحمة أو تيسير الموت أو ما يعرف باللغات الأوربية باسم (الأوتانازيا Euthanasia ). وهو وسيلة أثارت جدلاً عنيفاً بين الأوساط الطبية والقانونية والأخلاقية والدينية لم تنتهي آثارها حتى يومنا هذا.
تعريف قتل المرحمة أو الأوتانازيا:
كلمة الـ ( Euthanasia ) كلمة إغريقية الأصل وتتألف من مقطعين:
- السابقة EU وتعني الحَسَن أو الطيب أو الرحيم أو الميسر.
- واللاحقة TATHANOS وتعني الموت أو القتل.
وعليه فإن كلمة الأوتانازيا تعني لغوياً الموت أو القتل الرحيم أو الموت الحسَن أو الموت الميسر.
أما في التعبير العلمي المعاصر فتعني كلمة الأوتانازيا "تسهيل موت الشخص المريض الميؤوس من شفائه بناء على طلب مُلِحٍ منه مقدم للطبيب المعالج ".
ومع الزمن نشأت صور تطبيقية مختلفة للأوتانازيا نلخصها فيما يلي:
1- القتل الفعال Euthanasie Directe أو القتل المباشر أو المتعمد:
ويتم بإعطاء المريض جرعة قاتلة من دواء كالمورفين أوالكورارCurare أوالباربيتوريات Barbiturates أو غيرها من مشتقات السيانيدCyanide بنيّة القتل.
وهو على ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: الحالة الاختيارية أو الإرادية حيث تتم العملية بناء على طلب ملحٍّ من المريض الراغب في الموت وهو في حالة الوعي أو بناء على وصية مكتوبة مسبقاً.
الحالة الثانية: الحالة اللاإرادية وهي حالة المريض البالغ العاقل الذي فقد الوعي، حينئذ تتم العملية بتقدير الطبيب الذي يعتقد بأن القتل في صالح المريض، أو بناء على قرار من ولي أمر المريض أو أقربائه الذين يرون أن القتل في صالح المريض.
الحالة الثالثة: وهي حالة لا إرادية يكون فيها المريض غير عاقل، صبياً كان أو معتوهاً، وتتم بناء على قرار من الطبيب المعالج.
2- المساعدة على الانتحار:Aide au suicide:
وفي هذه الحالة يقوم المريض بعملية القتل بنفسه بناء على توجيهات قدمت إليه من شخص آخر الذي يوفر له المعلومات أو الوسائل التي تساعده على الموت.
3- القتل غير المباشر: Euthanasie Indirecte :
ويتم بإعطاء المريض جرعات من عقاقير مسكنة لتهدئة الآلام المبرحة، وبمرور الوقت يضطر الطبيب المعالج إلى مضـاعفة الجرعات للسيطرة على الآلام، وهو عمل يستحسنه القائمون على العلاج الطبي، إلا أن الجرعات الكبيرة قد تؤدي إلى إحباط التنفس وتراجع عمل عضلة القلب فتفضي إلى الموت الذي لم يكن مقصوداً بذاته ولو أنه متوقع مسبقاً.
4- القتل غير الفعال أو المنفعل Euthanasie Passive:
ويتم برفض أو إيقاف العلاج اللازم للمحافظة على الحياة ويلحق به رفع أجهزة التنفس الاصطناعي عن المريض الموجود في غرفة الإنعاش والذي حُكِمَ بموت دماغه، ولا أمل في أن يستعيد وعيه.
الجدل القانوني والأخلاقي حول قتل المرحمة
يقول الدكتور عصام الشربيني بأن قتل المرحمة وافد غريب على عالم الطب والأطباء، بصوره المختلفة أو أسمائه المتعددة أو وسائله المتباينة، فلم يزل الأطباء يلتزمون بالمحافظة على الحياة الإنسانية من بدء الحمل إلى نهاية الموت، منذ قَسَم أبقراط أقدم ما عرف، إلى الدستور الإسلامي للمهن الطبية أحدث ما صدر.
ويعتقد بأن ظاهرة قتل المرحمة بدأت بالظهور بصورة منظمة في الربع الثاني من القرن الماضي، ثم أخذ الداعون إليه يزدادون وينشئون الجمعيات تحت أسماء مختلفة، لعلها تكون أكثر قبولاً أو أقل استثارة للمعارضة والنفور. وقد أنشئت الجمعية الأمريكية لقتل الرحمة سنة 1930 ثم عدلت اسمها سنة 1970م إلى: " جمعية حق الإنسان في الموت ". وعقدت الجمعية البريطانية لقتل الرحمة أول اجتماع لها عام 1936م وقدمت مشروعا لمجلس اللوردات يجعل قتل الرحمة أمراً يبيحه القانون، فلما رفضه المجلس تكررت المحاولات مرات عديدة على مرّ السنين.
ومع أن التقاليد الطبية السائدة في بلدان العالم والكثرة الغالبة من الأطباء ما زالت ترفض وتنفر بشدة مما يسمى قتل الرحمة، ومع أن القوانين السارية في معظم بلدان العالم تعتبر قتل الإنسان بأي صورة ولأي سبب جريمة يعاقب عليها القانون، إلا أن قتل الرحمة أخذ يُمارس بصورة متزايدة في عدد من البلدان الأوروبية مستترا في صدور الأطباء الذين مارسوه ثم اعترفوا به في مناسبات مختلفة، وقد يكون لا يزال ضائعاً في أروقة المستشفيات وسجلاتها تحت أسماء مضللة تجعل السلطات تغض الطرف عنها أو تمتنع المحاكم من إيقاع العقوبات القانونية في حق مرتكبيها. وتكاد هذه الأمور تصبح ممارسة يومية في بلد كهولندا، إلى أن أصبح الأمر مقننا من قبل السلطات التشريعية.
وكما تطورت الأسماء من "جمعية قتل الرحمة" إلى "جمعية حق الإنسان في الموت" إلى "حق الإنسان في الموت في وقار وإجلال"، كذلك تطورت الأهداف من علاجية إلى وقائية، أي من إنهاء الألم بقتل المتألم إلى " الوقاية من الطفولة المعوقة " والمطالبة بتشريع يبيح للأطباء قتل الأطفال المعوقين خلال ( 72 ) ساعة من ولادتهم.
ومما لا شك فيه أن الاهتمام في مسألة القتل الرحيم تزايد في الثمانينيات المنصرمة، ونظن أن ذلك يرجع إلى أمور من أهمها:
أ) اهتمام دوائر الإعلام ونشر ممارسـة القتل الرحيم بشـكل واسـع في هولندا.
ب) استفحال بعض الأوبئة واستعصائها على العلاج كبعض أنواع السرطانات ومرض الإيدز.
ت) نشوء جمعيات وهيئات ذات تأثير كبير في الضغط على السلطات الحكومية لأجل إصدار تشريعات حول القتل الرحيم.
انقسمت الآراء حول القتل الرحيم بين مؤيدين ومعارضين وبين مؤيدين بشروط صارمة. ومن بين الحجج التي يبديها المؤيدون للقتل الرحيم نذكر ما يلي:
أولاً) مصلحة المريض:
يرى البعض أن اللجوء إلى القتل الرحيم هو في مصلحة المريض الذي يعاني من الآلام الجسـدية والنفسية التي لا يطيق تحملها، ويقدمون لتدعيم موقفهم الحجج التالية:
1- حرية التقرير الذاتي: Autonomie
يرى هؤلاء بأن الإنسان حرٌّ في تقرير مصيره وله الحق في التصرف بجسده كيف يشاء. ويؤكدون بأن القتل الرحيم هو نوع من المساعدة على الانتحار المشروع والذي لا تعاقب عليه القوانين الوضعية. ولذا ينصحون بأن يكتب المريض وصية للتصرف بحياته عند دخوله المستشفى للمعالجة وهو لا يزال في كامل وعيه وقدرته على التصرف، فإذا ما تعرض لمرض ميؤوس من شفائه فيرى أن على الطبيب المعالج أن يتوقف عن علاجه وأن لا يحاول المحافظة على حياته سدىً.
2- الحقوق الذاتية :
يرى المؤيدون أن للمريض حقوقا ذاتية يجب احترامها وتتلخص فيما يلي:
- طالما أن الموت أمر محتوم ومقدر لكل إنسان، فللإنسـان الذي يتعرض لآلام طويلة الحـق إذن في أن يمـوت أو أن يحـيا بالصورة الكريمة التي يتمناها.
- وبناءً على ذلك فله الحق في أن يُقتَلَ إذا طَلبَ ذلك.
3- الرحمة والشفقة بالمريض:
يرى المؤيدون للقتل الرحيم بأن من شأنه أن يُريح المريض ويخلصه من المعاناة والعذاب والآلام التي لا يطيق الصبر عليها.
4- نوعية الحياةQualité de vie :
تقاس قيمة الحياة بمنظور المؤيدين للقتل الرحيم بما يمكن أن يساهم الإنسان في المجتمع من إنتاج وإبداع، فإذا ما أصبحت الحياة تعتمد على الغير في قضاء الحوائج وأن يصبح الإنسان كتلة لحمية لا نفع لها، حينئذ تتساوى الحياة مع الموت ، بل إن الموت أولى.
ثانياً) مصلحة الآخرين ( مصلحة الأهل والأصدقاء والمجتمع):
1- الرحمة والشفقة:
وإذا خففنا الآلام الجسمية عن المريض الميؤوس من شفائه، فإن آلامه النفسية مستمرة لشعوره بأنه عبءٌ ثقيل على سواه ممن يتولون رعايته، ولا مفرّ - بعد قليل أو كثير – من تبرّمهم وتمرّدهم على ما يشقّ عليهم من أمره.
وإذا لم يكن في حالة من الوعي يشعر معها بهذه الآلام، فهي واقعة بلا شك على أهله الأقربين، وأصدقائه الأدنيْن ( وهنا نلاحظ الانتقال من الرحمة بالمريض إلى الرحمة بأهله وأصدقائه الأصحاء ) .
2- العامل الاقتصادي:
ولا شك أن وراء كل هذه الحجج والأسباب عاملاً يظللها جميعاً بظله، سواء ذكر صراحة، أو لم يذكر، وهو التكاليف المادية والأعباء الاقتصادية التي تتحملها الأسرة أو المجتمع، وفي التخلص من المرضى الميؤوس من شفائهم توفير مادي على المجتمع والدولة والعائلة.
3- منطق العقوبة:
يقول المؤيدون للقتل الرحيم بأنه من الواجب أن يتخلص المجتمع من العناصر الطفيلية والضارّة في المجتمع، فمرضـى الإيدز مثلاً يشكلون خطراً كبيراً على المجتمع في إمكانية نشرهم لهذا الوباء إضافة إلى تحمّل المجتمع نفقات معالجتهم الباهظة والتي لا نفع يرجى منها حتى اليوم.
هذا ويبدو أن هولندا كانت من الدول السباقة في إصدار التشريعات التي تبيح القتل الرحيم، كما أجازت الزواج المثلي للشاذين جنسياً من قبل. وقد أعلن أن هيئة المجلس التشريعي العليا في البرلمان الهولندي وافقت على مشروع قانون لما يسمى " القتل الرحيم " بأغلبية (48) صوتا مقابل (28) صوتا معارضاً، في الوقت الذي تظاهر فيه الآلاف من المعارضين لهذا القرار أمام البرلمان وهم يرددون الترانيم الدينية وإقامة الصلوات مؤكدين أن الحياة نعمة وهِبة من الله فلا يحق لأحد أن يستلبها إلا بالحق.
ويؤكد وزير الصحة الهولندي بأن القانون فيه كثيرٌ من الاحتياطات لضمان عدم استغلاله استغلالاً سيئاً، كأن تكون هناك علاقة طويلة بين المريض والطبيب تسبق القرار في القتل الرحيم، وأن يأتي القرار من المريض بكامل وعيه، فلا يحق للطبيب أن يقترح القتل الرحيم كأحد الخيارات الناجمة عن فشل المعالجة، كما لا بد أن يكون المريض يعاني من عذاب أليم ناتج عن مرض مزمن لا يرجى شفاؤه، ولا بدّ أن يلح المريض في الطلب مع التأكد من سلامة قواه العقلية. وتذكر وسائل الإعلام بأن ( 90 % )من الهولنديين موافقون على هذا القانون.
المعارضون للقتل الرحيم:
يشمل الطرف المعارض للقتل الرحيم المجموعات الدينية ومجموعات الحق في الحياة. وقد كان الفاتيكان من أشد المعترضين على المشاريع الرامية لتقنين الموت الرحيم، وعلّق أحد أعضاء الاتحاد المسيحي في هولندا على مشروع القانون بأنه خطأ تاريخي ولا ينبغي لهولندا أن تكون فخورة به، وقد هاجم وزير العدل الألماني هذا القانون الجديد بقوله" إنه ينبغي علينا التركيز على تطوير أنواع العلاج التي تزيل الألم".
ويرى كثير من الأطباء أن يزداد الاهتمام بطب المسنين وتحسين مستوى الخدمات الصحية والاعتناء بالخدمات الشخصية للمرضى المزمنين وأن تتابع الأبحاث العلمية في تطوير المسكنات، وأن يعطى المريض خيارات كثيرة تجعل حياته أكثر راحة، كل هذا بدلاً من المضي في إصدار تشريعات تبيح القتل الرحيم.
وقد أبدت بعض الهيئات تخوّفها من أن تضع مثل هذه القوانين كبارَ السن في وضع حرج تجاه ذوبهم الذين قد يعتقدون أنهم أصبحوا عبئاً عليهم، وبالتالي يلجأ ون إلى هذا الخيار تحت هذا الضغط النفسي.
وفي مقال مناهض للقتل الرحيم صدر عن المنظمة البريطانية للحق في الحياة، استشهد كاتبه في دفاعه بالأديب الألماني (غوتة Goethe) الذي قال: " إن الدور الوحيد للطبيب هو الحفاظ على الحياة بصرف النظر عن قيمة الحياة في نظره، إذ إن ذلك ليس من اختصاصه، فإذا تَركَ الطبيب لنفسه تقييمَ قيمة حياة مريضه مرةً واحدة، فإنه سيصبح بلا شك أخطر رجل في الدولة".
الموقف العملي
لبعض الدول من القتل الرحيم
يبدو بأن الدانمرك وبعض المقاطعات السويسرية وما يزيد عن نصف الولايات الأسترالية وجميع الولايات الأمريكية قد تبنّت تشريعات تعترف بحق كل فرد في أن يرفض أي إصرار على العلاج الدوائي.
ويسمح قانون ممارسة المهنة الطبية الدانمركي للأطباء بعدم السعي للمحافظة على حياة مريض ميؤوس من شفائه وغير قادر على التعبير عن إرادته، حتى لو لم يسبق للمريض أن أبدى رغبته بعدم الاستمرار في العلاج.
وأجازت ولاية أوريغون Oregon الأمريكية حديثا تشريعا يبيح المساعدة على الانتحار.
وسبق للولايات الشمالية الأسترالية أن أصدرت في عام 1996 تشريعات لتقننين القتل الرحيم، غير أن الحكومة الفيدرالية ألغت هذا القانون عام 1998 بعد الاعتراض الشديد الذي قادته الكنيسة والسكان الأصليون في القارة الأسترالية.
ويعترف كثير من الدول بحق كل فرد في أن يرفض أي علاج طبي يهدف إلى إطالة حياته بدون جدوى.وبالمقابل يختلف الموقف حينما يفقد المريض القدرة العقلية التي تسمح له باتخاذ القرار، ولهذا أباحت بعض الدول للمريض أن يعبّر عن قراره بصورة مسبقة وأن يكتب في وصيته ما يدعو إلى رفضه أيّ علاج دوائي يطيل حياته بدون فائدة ترجى. كما يحق له أن يتخذ وصياً عليه يحق له اتخاذ القرار المناسب بدلاً عنه في حال وقوعه في العجز عن اتخاذ القرار. وهذا هو موقف كل من الدانمرك وبعض الولايات الأسترالية وعدد من المقاطعات السويسرية وجميع الولايات الأمريكية ما عدا ولاية ألاسكا التي تنص على وجوب الالتزام بالوصية، وكذلك كل من ولاية نيويورك وماساتشوسيتس وميتشيغان التي تنص على وجوب اتخاذ وصي على المريض يُفوّض باتخاذ القرار، أما الولايات الأخرى فتقبل بالصورتين المختلفتين.
وفي كثير من الدول يُمارس القتل الرحـيم غير الفعال (أو المنفعل) والقتل الرحيم غير المباشر لإنهاء حياة مريض ميؤوس من شفائه دون أن تكون هناك تشريعات تقنن ذلك، كما هي الحال في الدانمرك وهولندا وألمانيا وأمريكا وسويسرا وبريطانيا وأستراليا وغيرها. ويتم الأمر برفع أجهزة التنفس الاصطناعي أو بإعطاء المريض جرعات متزايدة من المسكنات التي تسرّع في إنهاء حياته.
وفي ألمانيا على الخصوص لا يتداول تعبير القتل الرحيم Euthanasia بل يستعمل بدلاً عنه تعبير المساعدة على الموت Sterbehilfe. وحتى اليوم لا توجد تشريعات تبيح القتل الرحيم الفعال بل إن ممارسته تعرض الفاعل للعقوبات القانونية. وبالمقابل فإن القتل غير الفعال أو المنفعل يعتبر مرغوباً فيه بل يشجع على القيام به، كما أن قانون الممارسة الطبية يقبل بالقتل غير المباشر بالشروط المعروفة. وتدل الإحصاءات على أن الألمان يتراجعون بصورة واضحة عن قبول القتل الرحيم بسبب تطور العلاج الطبي المعاصر.
أما في بريطانيا فلا يعتبر القتل الرحيم الفعال عملاً إجرامياً بل يعتبره القانون مماثلا للانتحار الإرادي، ولا تزال السلطات الحكومية والهيئات الطبية تعارض إصدار أي تشريعات بهذا الخصوص.
وبالمقابل ترفض التشريعات القتل الرحيم بالمساعدة على الانتحار ويعرض الفاعل للمساءلة القانونية. إضافة إلى هذا تقبل التشريعات القتل الرحيم غير المباشر والقتل المنفعل.
وفي الدانمرك يعاقب القانون المساعدة على الانتحار في حين يجيز القتل الرحيم بصوره المختلفة الأخرى. ويحق للطبيب أن يمتنع عن معالجة أي مريض يرى أنه ميؤوس من شفائه.
وبالنسبة لهولندا فإن القانون يعاقب على القتل الرحيم الفعال والمساعدة على الانتحار، إلا أن التشريعات القانونية تقبل أن يُقدِمَ الطبيبُ على القتل الرحيم في حالات خاصة تضعه في مواجهة القيام بواجبه في الحفاظ على حياةٍ ميؤوس منها وبين إنهاء هذه الحياة غير المحتملة. وتقنيناً لهذا صدرت تشريعات عام 1993 وضعت نظاماً كثير التعقيد يحمي الأطباء الممارسين للقتل الرحيم من المساءلة القانونية.
وفي سويسرا يحمي القانون الجنائي حق الحياة بصورة مطلقة ويعاقب على القتل الرحيم الفعال حتى لو تمّ بناءً على طلب ملح من المريض.
وبالمقابل فإن القانون يبيح المساعدة على الانتحار بشرط أن لا يكون في ذلك مصلحة لغير المريض. وعلى الرغم من عدم وجود أي تشريعات واضحة إلا أن القتل الرحيم غير الفعال يمارس بشكل عملي في جميع المقاطعات السويسرية.
وفي الولايات المتحدة لا يزال القتل الرحيم الفعال غير مسموح به قانوناً بل يعاقب فاعله بمسؤولية القتل العمد. والمساعدة على الانتحار يعاقب عليها في أكثر الولايات الأمريكية. وقد أجازت ولاية أوريغون Oregon مؤخراً (عام 1997) أن يعطى المريض الميؤوس من شفائه حقنة قاتلة بناء على طلبه. وتجيز التشريعات حق رفض الاستمرار في المعالجة أو حق رفع الأجهزة الاصطناعية في حالة القتل الرحيم غير المنفعل.
والأمر في فرنسا شبيه بما سبق، فلا يجيز القانون القتل الرحيم الفعال، ويسمح بالقتل غير المنفعل و يحق المريض في رفض الاستمرار في العلاج.
موقف علماء المسلمين
من القتل الرحيم
درست بعض المجامع الفقهية وبعض المنظمات الإسلامية الطبية وكثير من علماء المسلمين قضية القتل الرحيم وكانت آراؤهم في معظمها متشابهة من حيث النتيجة برفض الجميع القتلَ الرحيم الفعال وقبول القتل الرحيم غير المنفعل.
وبما أن الأمر في اللجوء إلى القتل غير المنفعل يعتمد بالدرجة الأساسية على اعتبار أن المريض في حالة ميؤوس منها أو بحكم الميت، فكان لا بد من التحدث مسبقا عن نهاية الحياة الإنسانية، أو بتعبير آخر: ما هو الموت الحقيقي؟.
كانت هذه القضية وما زالت محلّ اهتمام علماء الشريعة والطب نتيجة للزيادة المطردة بين مصابي الحوادث ومرضى الغيبوبة العميقة الذين يطلق عليهم اسم " ميّتي المخ".
ومما لا ريب فيه أن الموتَ نقيضُ الحياة ولهذا فإنهما لا يجتمعان في بدن واحد، ولا يرتفعان عنه في نفس الوقت، وإذا كان الموت هو مفارقة الروح للجسد، فإن هذه المفارقة لا تُدرك بالحس، لأن الروح عَرَض ولا يمكن إدراكها بالحواس. إلا أن لمفارقتها البدن بالموت علاماتٍ استدلّ بها الفقهاء على موت من ظهرت عليه.
وللأخ الأستاذ الدكتور محمد هيثم الخياط دراسة حول نهاية الحياة الإنسانية أقتبس منها ما يلي :
لم يرد في القرآن الكريم أو السنة المطهرة نصٌّ على علامات يعرف بها انتهاء الحياة الإنسانية، بل تُركَ ذلك – والله أعلم – للتطوّر مع ما يستجد للناس من معارف. ولكننا نجد في القرآن الكريم تعريفاً دقيقاً للموت. إذ يُعَرَّفُ الموت بأنه لحظة "اللاعودة " ؛ فيقول عزّ من قائل: " حَتَّى إذَا جَاءَ أحَدَهُمُ المَوتُ قالَ ربِّ ارجِعُونِ لعلّي أعمَلُ صَالِحَاً فيما ترَكتُ ... كلا "[ سورة المؤمنون : 100] ويقول سبحانه وتعالى : " اللهُ يَتَوفَّى الأنفُسَ حينَ مَوْتِهَا، والتي لمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ التي قَضَى عليْهَا الموت " [ سورة الزمر: 42]
فما هو العضو الذي يؤدي توقفه عن العمل إلى مرحلة "اللاعودة " ؟ أهو القلب، أم الرئتان؟ أم الكلى؟ أم الدماغ؟
أما القلب، فيمكن أن يقف بضع ثوانٍ، يعود بعدها إلى النَّبَضان بعد تدليك القلب أو إحداث صدمة كهربائية له. وقد يُوقَفُ عن العمل عدة ساعات في أثناء جراحة القلب، ويستعاض عنه بمضخة اصطناعية، ثم يعود إلى النبضان.
وأما الرئتان، فيمكن أن تقِفَا عن العمل، ثم تعودا إليه بعد إجراء التنفس الاصطناعي، أو يُستعاض عنهما بأجهزة الإنعاش الاصطناعي، التي يمكن أن يظلَّ المرءُ مُتَنَفِّسَاً بها مدة تطول أو تقصر.
وأما الكليتان، فيمكن أن تفشلا، فيقوم مقامَهُما (الدِّيَال Dialyze) أو جهاز الغسل الكلوي، ريثما يُستعاض عن إحداهما بكلية مزروعة.
وأما الدماغ، فإذا توقف عن عمله أربع دقائق على الأكثر من جرّاء نقص توارد الدم – بما فيه من أوكسيجين وسكر – إليه، فإنه سرعان ما يتحلل ويتخرّب إلى غير عودة، ولا يمكن أن يُستعاض عنه بشيء. ويحدث له مثل ذلك إذا تعرّضَ إلى إصابة أو أذيّة نتيجة حادثة من الحوادث، أو أصيب بنزف جسيم أو ورم.
فموت الدماغ إذن يمثل الموت الحقيقي لأنه يمثل اللاعودة. ومتى مات الدماغ- قِشْرُهُ و جِذْعُهُ – تَوَقَّفَ القلبُ والتنفس بما أن مركزيهما الناظمَيْن لهما يستقران في جذع الدماغ. ولا تفلح أجهزة الإنعاش الاصطناعي عندئذ إلا في إطالة مظاهر حياةٍ انتهت إلى غير رجعة بتحلل الدماغ.
فإذا لم يكن المرء موضوعاً على أجهزة الإنعاش الإصطناعي، فإن في وُسعِ الطبيب أن يستدل على موته من توقف القلب عن النبضان، أو توقف الرئتين عن التنفس، أو غير ذلك من العلائم التي تدل على موت الدماغ من اتّساع الحدَقَتَيْن وعدم تفاعلهما للنور، ثم من برودة جسم الميت، وشحوب وجهه، وانخساف صُدغَيه، وميل أنف، وانفراج شفتيه، واسترخاء رجليه وامتداد جلدة وجهه، وتقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة، إلى غير ذلك مما هو مذكور أيضاً في كتب الفقه.
أما إذا كان موضوعاً على أجهزة الإنعاش الإصطناعي، وعُلِمَ موتُ دماغه أو جذع دماغه من إحدى القرائن التي أجمع عليها الأطباء، فإن وقفَ أجهزة الإنعاش هذه وعدم عودة المرء إلى التنفس التلقائي بعدها، يؤلف أمارةً إضافية تنضاف إلى تلك القرائن. وأصدق هذه القرائن توقّف الدم عن الدماغ، ويُعرف ذلك بتصوير الشرايين الأربعة التي توصل الدم إلى الدماغ بعد حقن الشرايين أو الأوردة بمادة ملونة، أو بتحري دوران الدم في الشرايين الدماغية بواسطة الأمواج فوق الصوتية، أو بالرنين المغناطيسي، أو بحقن مواد مشعة في الدورة الدموية ثم البحث عنها في النسيج الدماغي.
أما الأمارات الظاهرة فهي:
1- انعدام الإبصار والحركة الاختيارية، أما الحركة الاضطرارية كحركة المذبوح فقد تبقى بل قد تشتدّ بعد موت الدماغ، لأن مصدرها النخاع الشوكي وقد زالت سيطرة الدماغ الذي كان يكبحها.
2- انقطاع النَّفَس انقطاعاً تاماً
3- توسع الحدقتين وعدم تفاعلهما للنور
4- انعدام منعكس قرنية العين
5- انعدام المنعكس العيني الدماغي
6- عدم حصول الرأرأة ( اهتزاز مقلة العين ) عند التنبيه الحراري للأذن
7- انعدام المنعكسات التي تدل على سلامة الأعصاب القحفية
8- انخفاض متزايد في درجة حرارة الجسم.
ولا بد لتشخيص توقف وظائف الدماغ وجذعه توقفاً كاملاً لا رجعة فيه مما يلي:
1- غيبوبة عميقة مترافقة بانعدام الإدراك وانعدام الاستجابة
2- العلامات السريرية ( الإكلينيكية ) لتوقف وظائف جذع الدماغ
3- انعدام قدرة المرء على التنفس التلقائي بالاختبار المعتمد، أثناء توقف مضخة التنفس فترة محددة.
ونعني بالغيبوبة حالة من فقد الوعي لا يمكن إيقاظ المريض منها وهي تنجم عن أسباب متعددة منها السموم التي يتناولها المرء من الخارج أو التي تتولد في جسمه بسبب المرض، ومنها بعض الأمراض والإصابات. لذلك كان لا بدّ من التأكد من أن سبب الغيبوبة العميقة هو حدوث تلف شديد في بنية الدماغ بسبب إصابة شديدة ( مثل رضّ شديد على الرأس أو نزف جسيم داخل الدماغ )، أو في أعقاب جراحة على الرأس، أو ورم كبير داخل الجمجمة، أو انقطاع التروية الدموية عن الدماغ لأي سبب كان، وتأكيد ذلك بالوسائل التشخيصية اللازمة. كذلك لا بدّ من أن تكون قد مضت ست ساعات على الأقل من دخول المرء في غيبوبة وأن لا توجد لدى المصاب أي محاولة للتنفس التلقائي.
ولا بدّ كذلك من استبعاد كون المرء تحت تأثير المهدئات أو المواد المخدرة أو السموم أو مُرْخِيَات العضلات، وكذا استبعاد هبوط حرارة الجسم إلى ما دون (33 ْ ) درجة مئوية، أو أن يكون المصاب في حالة صدمة قلبية وعائية لم تعالج. كما أنه لا بدّ كذلك من استبعاد الاضطرابات الاستقلابية ( الأيضية ) أو الغديّة التي يمكن لها أن تؤدي إلى تلك الغيبوبة.
ثم ينبغي التأكد من استمرار التوقف الكلي في وظائف الدماغ فترة من الزمن يبقى المرء فيها تحت الملاحظة والمعالجة وهي ( 12 ) ساعة منذ تشخيص غيبوبة اللاعودة، أو ( 24 ) ساعة حين يكون سبب الغيبوبة هو الانقطاع الشامل في الدورة الدموية ( كما يحدث في توقف القلب مثلاً )، أو أطول من ذلك في الأطفال دون السنة الأولى من العمر.
ويشترط في الفريق المخوّل إليه تقرير موت الدماغ أن يتكون من طبيبين مختصين على الأقل، من ذوي الخبرة في تشخيص حالات موت الدماغ، ويفضل استشارة طبيب ثالث مختص في الأمراض العصبية عند الحاجة. كما ينبغي أن يكون أحد الطبيبين على الأقل مختصاً بالأمراض العصبية أو جراحة الدماغ والأعصاب أو العناية المركزة.
ودرءاً لأية شبهة أو مصلحة خاصة قد تؤثر على القرار، يُستبعد من هذا الفريق أيُّ فرد من فريق زرع الأعضاء، وأيّ فرد من عائلة المصاب، وأيّ فرد آخر له مصلحة خاصة في إعلان موت المصاب ( كأن يكون له إرث أو وصية مثلاً )، وكلُّ من ادعى عليه ذوو المصاب بإساءة التصرف المهني تجاه المصاب.
هذا وقد انعقدت ندوتان بالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبيبة بالكويت الأولى عام 1985 عن "الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها" والثانية عام 1996 عن "التعريف الطبيّ للموت" وكلتاهما اعتبرت الإنسان ميتًا إذا توقفت وظائف دماغه بأجمعها نهائيًّا، بما في ذلك جذع المخّ، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلاميّ الدولي المنعقد بعمان / الأردن 1986م.
رأي بعض فقهاء المسلمين
في القتل الرحيم
رفض الدكتور محمد سيد طنطاوي -شيخ الأزهر- في لقاء جمعه بأطباء وقضاة في القاهرة كل ما يثار عن قتل الرحمة مؤكدًا أن قتل المريض الميئوس من شفائه ليس قرارًا متاحًا من الناحية الشرعية للطبيب أو لأسرة المريض أو للمريض نفسه، غير أن شيخ الأزهر أكَّد إلى جانب ذلك أن الأمر قد يختلف فيما يتعلَّق بحالات الوفاة المخية، حيث يجوز للطبيب أن يفصل الأجهزة الطبية عن المريض ليتوقَّف قلبه إذا تأكَّد أن عودته للحياة مستحيلة.
وأضاف شيخ الأزهر في الجلسة التي عقدت خلال المؤتمر الدولي السنوي الثالث والعشرين لكلية طب عين شمس تحت عنوان "الطب المتكامل"، والذي عقد في الفترة من 21-24 فبراير 2000م أن حياة الإنسان أمانة يجب أن يحافظ عليها، وأن يحافظ على بدنه ولا يلقي بنفسه إلى التهلكة لقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، وحرَّم الإسلام قتل النفس لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، ونهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أن يقتل الإنسان نفسه نهيًا شديدًا، وتوعَّد من يفعلون ذلك بسوء المصير في الدنيا والآخرة، فقد أكَّدت شريعة الإسلام على التداوي من أجل أن يحيا الإنسان حياة طيبة، كما أمرت الشريعة الإسلامية الأطباء بأن يهتموا بالمريض، وأن يبذلوا نهاية جهدهم للعناية به، وعلى الطبيب والمريض أن يتركا النتيجة على الله -سبحانه وتعالى-، وعلى الطبيب ألا يستجيب لطلب المريض في إنهاء حياته، وإذا استجاب يكون خائنًا للأمانة؛ سواء بطلب المريض أو بغير طلبه، والعقاب للطبيب في هذه الحالة يكون حسبما يراه القاضي لكل حالة على حدةٍ.
وطرح الأطباء على شيخ الأزهر خلال الجلسة عدة حالات يحتار فيها الطبيب؛ منها رفض مريض السرطان أخذ العلاج لإدراكه أن أيامه قليلة، وطلب الأسر في بعض الحالات المتأخرة خروج المريض من المستشفى الموجود به الأجهزة التي تساعده على الحياة لعدم استطاعتها سدَّ نفقات العلاج بالمستشفى، وحالة المرضى الذين ماتوا مُخيًّا لكن قلبهم ما زال ينبض، في حين أن فرص عودتهم للحياة معدومة، فهل من حق الطبيب أو الأهل أن يطالبوا بمنع هذه الأجهزة عن المريض؛ إما لحاجة مريض آخر فرصته في الشفاء أعلى من المريض الأول، أو للتقليل من النفقات التي قد لا تؤدي إلى نتيجة؟!
وكان ردّ شيخ الأزهر على هذه الأسئلة: "هو أن الموت هو مفارقة الحياة، ومن يحكم بمفارقة الحياة هم الأطباء، وليس رجال الدين، فإذا رأى الطبيب أن المريض الذي ينبض قلبه ومات مخّه ميتًا فهذا شأن الطبيب، لكن لا يجوز للأسرة إخراج المريض من المستشفى لتحرمه من الشفاء، أما في حالة أن بقاء قلب المريض ينبض مرتبط بوجوده على الأجهزة ومخه قد مات أصلاً فلا بأس من أن تطلب الأسرة منع الأجهزة عنه؛ لعدم استطاعتهم الوفاء بمصروفات هذه الأجهزة، ويرضون بقضاء الله، أما المريض الذي يطلب موت الشفقة أو موت الرحمة أو غير ذلك من المسميات لينتهي من عذاب الآلام.. فلا يجوز له ذلك".
وفي سؤال حول قتل المريض الميؤوس من حياته وجّه إلى دار الإفتاء بالكويت بتاريخ 13/8/2001 م هذا نصه:
"هل يجوز إيقاف العلاج في الحالات الميئوس منها أو يجب مواصلته إلى أن يموت المريض أو يتم إنقاذه ؟ و هل يجوز القتل بدافع الرحمة الإنسانية،وقياس ذلك على قتل الحصان الذي بلغ سنة معينة" .
كان نص الإجابة كما يلي :
بسم الله ، والحمد لله ،والصلاة والسلام على رسول الله،وبعد:
" التخلص من المريض بأية وسيلة محرم قطعاً، ومن يقوم بذلك يكون قاتلاً عمداً، لأنه لا يباح دم امرئ مسلم صغيراً أو مريضاً إلا بإحدى ثلاث حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « لا يحلّ دمُ امرئ مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفسُ بالنفس، والثيّبُ الزاني، والمارقُ من الدين التارك للجماعة » أخرجه البخاري، وهذا القتل ليس من هؤلاء الثلاثة، والنص القرآني قاطع في الدلالة على أن قتل النفس محرم قطعاً لقوله تعالى: { ولا تقتلوا النفسَ التي حرّمَ الله إلا بالحق } ويشترك في الإثم والعقوبة من أمر بهذا أو حرص عليه، وقياس هذا القتل على قتل الحصان الميئوس من شفائه فيه امتهان لكرامة الإنسان، إذا الحصان يجوز ذبحه حتى ولو كان صحيحاً، بخلاف الإنسان فإنه معصوم الدم، ووصف الرصاصة القاتلة للحصان برصاصة الرحمة وصف لم يقم عليه دليل شرعي، فكيف نسمي الحقنة القاتلة للإنسان بهذا الاسم، وأما بالنسبة للمريض بمرض ميئوس منه إذا طرأ عليه مرض آخر قابل للعلاج ويؤدي للوفاة إذا أهمل فإنه يطبق عليه الحكم الأصلي للتداوي، وهو عدم الوجوب من جهة الشرع، لأن حصول الشفاء بالتداوي أمر ظني، وهو مطلوب على سبيل الترغيب لا على سبيل الوجوب، أما من جهة التعليمات الطبية والقرارات الرسمية المنظمة للمهنة فينبغي شرعاً العمل بما تقضي به فيما لا يتنافى مع الشرع".
والله أعلم.
وجوابا على سؤال حول جواز قتل المريض المصاب بفقد المناعة ( الإيدز ) أجاب الشيخ عطية صقر بما يلي:
"من المقرّر شرعًا وعقلاًً أن قتل النفس جريمة من أكبر الجرائم ما دام لا يوجد مبرِّر لذلك، والنصوص في ذلك أشهر من أن تُذكَر، يكفي منها قوله تعالى عن الشرائع السابقة (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (سورة المائدة : 32) وقوله تعالى (ولا تَقْتُلوا النَّفْسَ التِي حَرَّم اللهُ إِلا بِالحَقِّ) (سورة الأنعام:151 والإسراء : 33) وقوله تعالى: (ومَنْ يَقتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُه جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (سورة النساء : 93).
والقتل الجائِز هو ما كان بالحقّ، كالدفاع عن النفس والمال والعِرض والدِّين والجهاد في سبيل الله، وما نصَّ عليه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقارِبة "لا يَحِلُّ دَمُ امرئ مُسلم إلا بإحدى ثلاث، الثَّيِّبُ الزّاني والنَّفْس بالنَّفْس، والتّارِك لدِينِه المُفارِق للجَماعة" وهناك مسائلُ أخرى يجوز فيها القتل تُطْلب من مَظانِّها.
والمريض أيًّا كان مرضُه وكيف كانت حالة مرضِه لا يجوز قتله لليأس من شفائِه أو لمنع انتقال مرضِه إلى غيره، ففي حالة اليأس من الشّفاء ـ مع أن الآجال بيد الله، وهو سبحانه قادر على شفائه ـ يحرُم على المريض أن يقتُل نفسَه ويحرُم على غيره أن يقتلَه حتى لو أُذِنَ له في قتلِه، فالأول انتحار والثاني عدوان على الغير بالقتل، وإذنه لا يحلِّل الحرام، فهو لا يملِك رُوحَه حتّى يأذَنَ لغيره أو أن يقضيَ عليها، والحديث معروف في تحريم الانتحار عامّة، فالمُنتحِر يُعذَّب في النار بالصّورة التي انتحر بها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، إن استحلّ ذلك فقد كفر وجزاؤه الخلود في العذاب، وإن لم يستحلّه عُذِّب عذابًا شديدًا، جاء التعبير عنه بهذه الصورة للتنفير منه. روى البخاري ومسلم أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "كان فيمن قبلَكم رجل به جُرح فجَزِع فأخذ سكِّينًا فحزَّ به يده، فما رَقَأ الدّم حتى ماتَ" قال الله تعالى: "بادَرني عبدي بنفسِه، حَرَّمْتُ عليه الجَنَّة"وفي رواية لهما أنّ رجلاً مسلمًا قاتَل في خيبر قتالاً شديدًا ومات، فلما أُخبر به الرسولُ قال: "إنّه من أهل النار" فعجِب الصّحابة لذلك، ثم عَرَفوا أنّه كان به جُرح شديد فلم يصبِرْ عليه، فوضَع نصلَ سيفِه بالأرض وجعل ذُبابَه ـ أي طرفَه ـ بين ثديَيه ثم تحامَل على نفسه حتّى مات، وتقول الرواية إنّ الرسول أمر بلالاً أن ينادِيَ في النّاس أنّه لا يدخل الجنّة إلا نفس مُسلمة، وأنّ الله يؤيِّد هذا الدّين بالرجل الفاجر.
وقد أُلِّفت في إنجلترا جمعيّة باسم "القتل بدافع الرّحمة" طالبت السلطات سنة 1936م بإباحة الإجهاز على المريض الميؤوس من شفائه، وتكرّر الطلب فرُفِضَ، كما تكونت جمعيّة لهذا الغرض في أمريكا وباءَ مشروعُها بالفشل سنة 1938، وما زالت هذه الدعوة تكسِب أنصارًا في هذه البلاد.
فالخُلاصة أنّ قتل المريض الميؤوس من شفائه حرام شرعًا حتّى لو كان بإذنه، فهو انتحار بطريق مباشر أو غير مباشر، أو عُدوان على الغير إن كان بدون إذنِه، والرُّوح مِلك لله لا يُضحَّى بها إلا فيما شرعه الله من الجهاد ونحوه ممّا سبق ذكره.
أما المريض الذي يخشى انتقال مرضِه إلى غيره بالعدوى حتى لو كان ميؤوسًا من شفائه فلا يجوز قتله من أجل منع ضررِه، ذلك لأنّ هناك وسائل أخرى لمنع الضّرر أخفُّ من القتل ومنها العزل، ومنع الاختلاط به على وجه يَنقل المرض، فوسائل انتقال المرض متنوعة وتختلف من مرض إلى مرض، وليس كل اختلاط بالمريض بفَقد المناعة "الإيدز" محقِّقًا للعدوى، فهي لا تكون إلا باختلاط معيَّن، كما ذكره المختصُّون، فالإجراء الذي يُتَّخذ معه هو منع هذه الاتصالات الخاصة، مع المحافظة على حياته كآدمي يقدّم إليه الغِذاء حتّى يَقضِيَ الله أمرًا كان مفعولاً.
وعدم الاختلاط بالمريض مرضًا مُعْدِيًا، أي العزل أو الحجر الصِّحِّيّ، مبدأ إسلامي جاء فيه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "فِرّ من المجذوم فِرارَك مِنَ الأسَدَ" رواه البخاري وقوله "إذا سمِعْتُم بالطّاعون في أرض فلا تدخُلُوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرُجوا منها" والله سبحانه يقول (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ( سورة النساء : 71) وفي الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن "لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ".
فالمريض بالإيدز على فرض اليأس من شفائه ـ لا يجوز قتله منعًا لضرره عن الغير، فمنع الضّرر له وسائلُ أخرى غير القتل، ولا يقال إنه يَستحِقُّ القتلَ؛ لأنه ارتكب مُنكرًا نَقَل إليه هذا المرض، فليس كل مُنكر حتى لو كان اتِّصالاً محرَّمًا يوجِب القتل ، فهناك شروط موضوعة لإقامة حدِّ الرَّجم "القتل" على مرتكب الفاحِشة، كما أن هناك وسائل لانتقال المرض إليه ليست مُحرَّمة وربما لا يكون له فيها اختيار، كنقل دَمِ مريض به دون عِلم، أو غير ذلك.
وعلى العموم لا يصِحُّ قتل المريض بالإيدز أو بغيره، لا لليأس من شفائه، ولا لمنع انتقال المرض منه إلى غيره، فالله على كل شيء قدير، ووسائل الوقاية متعدِّدة، وقد يكون بريئًا من ارتكاب ما سبَّب له المرضَ، فهو يستحِق العطفَ والرحمةَ، ومداوَمة العِلاج بالقدر المُستطاع، جاء في الحديث الذي رواه الترمذي "يا عبادَ الله تداوَوْا، فإنّ الله لم يضَعْ داء إلا وَضَع له دواءً " وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم "ما أنزلَ الله من داءِ إلا أنزلَ له شفاءً " وفي الحديث الذي رواه أحمد "إنّ الله لم يُنزِّل داءً إلا أنزل له شفاءً، عَلِمَه مَن عَلِمَه وجهِله مَن جهِله " وجاء في بعض روايات أحمد استثناء "الهَرَم" فإنه ليس له شفاءٌ.
وهذه الأحاديث تُعطينا أملاً في اكتشاف دواء لهذا المرض، كما اكتشفت أدوية لأمراض ظنَّ الناس أن شفاءَها ميؤوس منه، فلا يصِحُّ قتل حامله لليأس من شفائه، ولا لمنع الضّرر عن الأصِحّاء، حيث لم يتعيّن القتل وسيلة له، فالوسائِل المُباحة موجودة، وعليه فليست هناك ضرورة أو حاجة مُلِحّة حتّى يُباح لها المحظور، ولا محلّ أيضًا لقياس قتلِه على إلقاء أحد رُكّاب السفينة في البحر لإنقاذ حياة الباقين، تقديمًا لحقِّ الجَماعة على حقّ الفرد، أو على قتل المُسلِم الذي تَترَّسَ به العدو للتوصُّل إلى قتله. فذلك وأمثالُه تحتّم الإغراقُ والقتلُ وسيلة، فأُبيحَ للّضرورة، والأمر في منع العَدْوى ليس كذلك.
ومن الفتاوى الجامعة في هذا الموضوع فتوى للعلامة الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي حول أسئلة وجهت إليه من قبل منظمة الطب الإسلامي لجنوب أفريقيا من ضمن أسئلة عن الطب الإسلامي وأحكامه وآدابه جاء في السؤال الأول منها ما يلي :
قتل الرحمة (تيسير الموت):
التعريف: تسهيل موت الشخص بدون ألم بسبب الرحمة لتخفيف معاناة المريض سواء بطرق فعالة أو منفعلة.
تيسير الموت الفعال: يتخذ الطبيب إجراءات فعالة لإنهاء حياة المريض.
أمثلة:
1- مريض مصاب بالسرطان يعاني من الألم والإغماء ويعتقد الطبيب بأنه سيموت بأي حال من الأحوال ويعطيه جرعة عالية من علاج قاتل للألم الذي يوقف تنفسه.
2- مريض في حالة إغماء لفترة طويلة مثلاً بعد إصابته بالتهاب السحايا أو بإصابة شديدة في رأسه، ومن الممكن أن يبقى حيًا باستعمال منفِّسة (جهاز إنعاش) ويعتقد الطبيب بعدم وجود أي أمل بشفائه، والمنفِّسة تضخّ الهواء للرئتين، وتديم تنفسه "أوتوماتيكيا". فإذا ما أوقف المنفسة لن يتمكن المريض من إدامة تنفسه، فمن الممكن إبقاء هذا المريض حيًا بواسطة هذه المنفسة الصناعية التي تديم فعالياته الحيوية، ولكن لكل الاعتبارات الأخرى يعتبر مثل هذا المريض "ميتًا" وغير قادر على السيطرة على وظائفه وإيقاف هذه المنفسة يعتبر تيسيرًا فعالاً للموت.
تيسير الموت المنفعل:
هنا لا تتخذ خطوات فعالة لإنهاء حياة المريض بل يترك للمرض أن يأخذ أدواره بدون إعطاء المريض أي علاج لإطالة حياته.
أمثلة:
1- مريض نهائي بالسرطان أو الإغماء من إصابة بالرأس أو التهاب سحائي ولا يرجى شفاؤه منه، ومصاب بالتهاب الرئة التي إن لم تعالج - وهي ممكنة العلاج - يمكن أن تقتل المريض وإيقاف العلاج من الممكن أن يعجل بموت المريض.
2- طفل مشوه تشويها شديدًا بتصلب أشرم - شوكة مشقوقة - أو بشلل مخي يمكن أن يترك من دون علاج إذا أصيب بالتهاب الرئتين أو بالتهاب السحايا، ويمكن أن يموت الطفل من هذه الالتهابات.
والتصلب الأشرم - الشوكة المشقوقة - هي حالة غير طبيعية للعمود الفقري تؤدي إلى شلل الساقين وفقدان السيطرة على المثانة والأمعاء الغليظة والطفل المريض بهذا الداء يكون مشلولا يحتاج إلى عناية خاصة طيلة حياته.
أما الشلل المخي فهي حالة تلف في المخ خلال الولادة تسبب تخلفًا عقليًا وشللا في الأطراف بدرجات متفاوتة، ومثل هذا الطفل يكون مشلولا جسميًا وعقليًا ويحتاج لعناية خاصة طيلة حياته.
في الأمثلة السابقة "إيقاف العلاج" هو نوع من أنواع تيسير الموت المنفعل وبصورة عامة لا يعيش هؤلاء الأطفال عمرًا طويلاً، وإيقاف العلاج وتيسير الموت المنفعل يمنع إطالة معاناة الطفل المريض أو والديه.
الأسئلة:
1- هل تيسير الموت الفعال مسموح به في الإسلام؟
2- هل تيسير الموت المنفعل مسموح به في الإسلام؟
وقد أجاب فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي بما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
تيسير الموت الفعال:
1- تيسير الموت الفعال في المثال رقم (1) لا يجوز شرعاً؛ لأن فيه عملا إيجابيًا من الطبيب بقصد قتل المريض، والتعجيل بموته، بإعطائه تلك الجرعة العالية من الدواء المتسبب في الموت، فهو قتل على أي حال. سواء كان بهذه الوسيلة أم بإعطاء مادة سمية سريعة التأثير، أم بصعقة كهربائية أم بآلة حادة، كله قتل، وهو محرم، بل هو من الكبائر الموبقة. ولا يزيل عنه صفة القتل أن دافعه هو الرحمة بالمريض، وتخفيف المعاناة عنه. فليس الطبيب أرحم به ممن خلقه. وليترك أمره إلى الله تعالى، فهو الذي وهب الحياة للإنسان وهو الذي يسلبها في أجلها المسمى عنده.
2- أما المثال رقم (2) من أمثلة تيسير الموت الفعال، فنؤخر الحديث عنه بعد الحديث عن تيسير الموت المنفعل.
تيسير الموت المنفعل (بإيقاف العلاج):
وأما تيسير الموت "بالطرق المنفعلة" كما في السؤال. فإنها تدور كلها سواء في المثال (1) أم (2) على "إيقاف العلاج" عن المريض، والامتناع عن إعطائه الدواء، الذي يوقن الطبيب أنه لا جدوى منه، ولا رجاء فيه للمريض، وفق سنن الله تعالى، وقانون الأسباب والمسببات.
ومن المعروف لدى علماء الشرع: أن العلاج أو التداوي من الأمراض ليس بواجب عند جماهير الفقهاء، وأئمة المذاهب. بل هو في دائرة المباح عندهم. وإنما أوجبه طائفة قليلة، كما قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية. (الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/260طـ. مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة) وبعضهم استحبه.
بل قد تنازع العلماء: أيهما أفضل: التداوي أم الصبر؟ فمنهم من قال الصبر أفضل، لحديث ابن عباس في الصحيح عن الجارية التي كانت تصرع - يصيبها الصرع - وسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لها، فقال: "إن أحببت أن تصبري ولك الجنة، وإن أحببت دعوت الله أن يشفيك" فقالت: بل اصبر، ولكنى أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها ألا تتكشف. (متفق عليه. رواه البخاري في كتاب المرضى ومسلم في البر والصلة 2265).
ولأن خلقًا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض، كأبي ابن كعب، وأبي ذر - رضي الله عنهما - ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي. (الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/260ط. مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة).
وقد عقد الإمام أبو حامد الغزالي في "كتاب التوكل" من "الإحياء" بابًا في الرد على من قال ترك التداوي أفضل بكل حال. (انظر: إحياء علوم الدين 4/290 وما بعدها).
هذا هو رأي فقهاء الأمة في العلاج أو التداوي للمريض. فأكثرهم يجعلونه من قسم المباح، وأقلهم يجعلونه من المستحب، والأقل منهم يجعلونه واجبًا. وأنا مع الذين يوجبونه في حالة ما إذا كان الألم شديدًا، والدواء ناجحًا، والشفاء مرجوًا منه وفق سنة الله تعالى.
وهو الموافق لهَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تداوى وأمر أصحابه بالتداوي، كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم في هديه -صلى الله عليه وسلم- في "زاد المعاد" (انظر: الجزء الثالث من (زاد المعاد) طـ. الرسالة ببيروت). وأدنى ما يدل عليه ذلك هو السنية والاستحباب.
ومن هنا يكون العلاج أو التداوي حيث يرجى للمريض الشفاء مستحبًا أو واجبًا، أما إذا لم يكن يرجى له الشفاء، وفق سنن الله في الأسباب والمسببات التي يعرفها أهلها وخبراؤها من أرباب الطب والاختصاص، فلا يقول أحد باستحباب ذلك فضلاً عن وجوبه.
وإذا كان تعريض المريض للعلاج بأي صورة كانت - شربًا أو حقنًا أو تغذية بالجلوكوز ونحوه، أو توصيلاً بأجهزة التنفس والإنعاش الصناعي، أو غير ذلك مما وصل إليه الطب الحديث، ومما قد يصل إليه بعد - يطيل عليه مدة المرض، ويبقى عليه الآلام زمنا أطول، فمن باب أولى ألا يكون ذلك واجبًا ولا مستحبًا، بل لعل عكسه هو الواجب أو المستحب.
فهذا النوع من تيسير الموت - إن صحت التسمية - لا ينبغي أن يدخل في مسمى "قتل الرحمة"، لعدم وجود فعل إيجابي من قبل الطبيب، إنما هو ترك لأمر ليس بواجب ولا مندوب، حتى يكون مؤاخذًا على تركه.
وهو إذن أمر جائز ومشروع، إن لم يكن مطلوبًا، وللطبيب أن يمارسه، طلبًا لراحة المريض وراحة أهله. ولا حرج عليه إن شاء الله.
تيسير الموت بإيقاف أجهزة الإنعاش:
بقي الجواب عن المثال الثاني في النوع الأول، الذي اعتبره السؤال من تيسير الموت بالطرق الفعالة لا المنفعلة. وهو يقوم على إيقاف المنفسة الصناعية أو ما يسمونه "أجهزة الإنعاش الصناعي" عن المريض، الذي يعتبر في نظر الطب "ميتًا" أو "في حكم الميت" وذلك لتلف جذع الدماغ، أو المخ، الذي به يحيًا الإنسـان ويحس ويشعر
وإذا كان عمل الطبيب مجرد إيقاف أجهزة العلاج، فلا يخرج