الرباط: إبراهيم الخشباني
مشروع الإصلاح الدستوري الذي أعلنه العاهل المغربي الملك محمد السادس مؤخراً، واقترح فيه نص دستور «يوطد دعائم نظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية»، أثار ردود فعل متباينة، حيث اعتبره مراقبون خطوة في اتجاه إعادة التوازن إلى السلطات، بينما رآه آخرون غير كافٍ، واختلف فريق ثالث بشأن المدى الذي يمكن أن تصل إليه الإصلاحات، بالقياس إلى ما أثارته ثورتا مصر وتونس من آمال.. ورأى محللون أن الملك تحرك باتجاه إعادة التوازن إلى السلطات، مع منح صلاحيات أكبر لرئيس الوزراء، غير أنه لم يتخلَّ عن أيٍّ من صلاحياته في مشروع الإصلاح الدستوري الذي عرضه. وكان الفقيهان الدستوريان: «عبداللطيف المنوني» رئيس لجنة مراجعة الدستور، و«محمد معتصم» مستشار الملك، قد قدّما - في شهر مايو الماضي بالديوان الملكي - الخطوطَ العريضة للدستور الجديد لمختلف الأحزاب السياسية، وهكذا تعرف الفاعلون السياسيون والجمعويون على ملامح السلطات الثلاث في الدستور المقبل.. وقد بادر «المنوني» إلى إعلان أن السلطة العسكرية والدينية ستبقيان ضمن الاختصاص الملكي الصرف.. ويقتضي الإصلاح الدستوري الجديد أن يكون البرلمان صاحب اختصاص التشريع في كل الميادين بدون استثناء، أما الحكومة فيقودها رئيس للوزراء يتولى السلطة التنفيذية كاملة ويرأس المجلس الوزاري. «المنوني» حمل في عرضه حول السلطة القضائية بشائر جعلت بعض أعضاء الآلية السياسية للتتبع والتشاور يعلنون أن الدستور الجديد سينتصر لمبدأ فصل السلطات؛ ذلك أن وزير العدل لن يرأس مستقبلاً «المجلس الأعلى للقضاء»، الذي سيتغير اسمه إلى «المجلس الأعلى للسلطة القضائية»، بصلاحيات واسعة وتركيبة جديدة. توزيع السلطات وحسب مسودة الدستور الجديد، سوف تتوزع السلطات كما يلي: < السلطة العسكرية والدينية: يأتي جهاز مجلس الأمن، الذي سيرأسه الملك، على رأس المؤسسات الجديدة في الوثيقة الدستورية المرتقبة.. ولن تقتصر اختصاصات الجهاز الجديد على المسائل العسكرية والأمنية كما توحي بذلك تسميته، بل ستوكل إليه مهمة النظر في جميع القضايا ذات البعد الإستراتيجي. وفي جواب على سؤال مستقبل «الفصل 19» المثير للكثير من الجدل ضمن الدستور المرتقب، أعلنت مصادر من داخل الآلية السياسية بأن تدخلات الحاضرين أجمعت على الشرعية الدينية التاريخية للمؤسسة الملكية، مع ما يعنيه ذلك من تضمين سموّ مؤسسة «إمارة المؤمنين» في الدستور، خاصة على مستوى المجالين الديني والعسكري، والتنصيص عليهما كاختصاص ملكي بامتياز يحتكر الملك سلطة التقرير والتعيين فيهما. < السلطة التنفيذية: سيكون «عباس الفاسي» آخر الوزراء الأولين في المغرب، فهذا المنصب سيتحول مع الدستور الجديد إلى رئيس للحكومة، وذلك على غرار ما عليه الأمر في إسبانيا، حكومة تمارس وحدها السلطة التنفيذية. ولن تقف مهام رئيس الحكومة المنتظر عند حدود تعيين وإقالة باقي الوزراء، بل ستمتد صلاحياته لتشمل التعيين والإقالة في صفوف رجال الإدارة الترابية للمملكة من ولاة وعمال (محافظين)، ونفس الشيء على الصعيد الدبلوماسي بتعيين سفراء المملكة في الخارج، وهذه صلاحيات كانت في السابق كلها في يد الملك. < السلطة التشريعية: يعد الدستور المقبل بإعادة الاعتبار للمؤسسة التشريعية؛ خاصة «مجلس النواب»، على اعتبار أنه التعبير عن إرادة الأمة ومنتخب باقتراع مباشر من أفراد الشعب الذي يمثله. وتفادى «المنوني» الخوض في إصلاح الغرفة الثانية، التي طالب الكثيرون بإلغائها، أو تقليص صلاحياتها التي كانت في السابق هي نفس صلاحيات الغرفة الأولى تقريباً؛ مما كان يتسبب في عرقلة لصلاحيات مجلس النواب سواء في المراقبة أو التشريع، وهو ما وصفه حينها البعض بحصان يمتطي صهوته رئيس مجلس النواب (الغرفة الأولى) ولكن لجامه يمسك به رئيس مجلس المستشارين (الغرفة الثانية).. غير أن بعض أعضاء الآلية السياسية للتتبع والتشاور نقلوا عن المنوني أن مجلس النواب ستكون صلاحياته أكبر من مجلس المستشارين، وسيتولى التشريع وحده في كافة الميادين على الصعيد الوطني. وبلغة الأرقام، أوضح «المنوني» لممثلي الأحزاب السياسية أن مجال السلطة التشريعية وتحديداً مجلس النواب سينتقل من تسعة مجالات إلى أربعين مجالاً تشريعياً. < السلطة القضائية: ظل مبدأ فصل السلطات عملة رائجة في سوق المطالب الإصلاحية السياسية والدستورية في المغرب، وملامح الدستور الجديد ستحمل استجابة لهذا المطلب.. فقد أوضح «المنوني» لأعضاء الآلية السياسية للتتبع والتشاور أن الحكومة سترفع يدها عن القضاء، فوزير العدل لن يعود يترأس المجلس الأعلى للقضاء كما كان في السابق، وهذا المجلس سيتغير اسمه إلى مجلس أعلى للسلطة القضائية. وليس الاسم فحسب هو الذي سيتغير، فتركيبة المجلس بدورها خضعت للتعديل، ورغم بقائه تحت رئاسة الملك؛ فإن تركيبته ستعرف - بالإضافة إلى أعضاء يعيِّنهم الملك - عضوية كل من رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ورئيس مؤسسة الوسيط.. كما سيتم إعمال لائحة نسائية لضمان تمثيل القاضيات. < القضاء الدستوري: لأن العدالة الدستورية لا تتحقق داخل النظام الديمقراطي بمنطق الأغلبية والمعارضة وحده، كان لا بد من تطوير المغرب لقضائه الدستوري.. ومع الدستور الجديد سيعلن المغرب انتهاء تجربة المجلس الدستوري، وسيطورها إلى إنشاء المحكمة الدستورية العليا، كما ستتغير هيكلته، بما أن العضوية في المحكمة الجديدة ستميل نحو الاستقلالية، وشروطها سوف تتجه نحو صرامة أكثر، إذ ستتكون من فقهاء دستوريين مارسوا التدريس الجامعي في الاختصاص المذكور لمدة لا تقل عن 16 عاماً. كما أن باب اللجوء إليها لن يبقى حكراً على المؤسسات وحدها، فالمواطن بدوره يمكنه اللجوء إلى هذه المحكمة الدستورية العليا بعد استنفاده كل آجال التقاضي للطعن في دستورية بعض الأحكام، وفي هذا يعلن المغرب عن توجه في الأنظمة الديمقراطية التي لا ترى في القضاء الدستوري ضامناً لنصوص الدستور فقط، ومدى احترام المؤسسات له، ولكن مؤسسة ضامنة لحقوق الأفراد وحرياتهم. كل ما سبق يبشر فعلاً بدخول المغرب عهد الديمقراطية الحقيقية، كما هي ممارسة في الأنظمة الملكية البرلمانية والدستورية، وكان موضع ترحيب من الجميع، خصوصاً أنها تغييرات تجاوزت حتى مقترحات أحزاب من أقصى الطيف المعارض. هوية الدولة لكن بؤرة الخلاف هي الغموض الذي لفّ التعاطي مع مقتضيات الفصل السادس من الدستور الحالي، والذي ظل دائماً هو الأساس الذي قامت عليه جميع الدساتير التي عرفتها المملكة، والذي يقول: «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية»، وهذا النص بهذه الصيغة كان كافياً لتحديد هوية الدولة. ويبدو أن الجلسة لم تتطرق بشكل واضح لموضوع هوية الدولة، ولكن رغم أن الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» قد أكد أن قضايا الهوية واللغة «لم تُطرح أمام أعضاء الآلية السياسية»، ورغم أن «عبدالإله بن كيران» قال بعد حضوره جلسة الاستماع شفوياً إلى مسودة الدستور الجديد: «فيما يخص قضايا الهوية والمرجعية فقد قيل لنا بأنه لم يحصل عليها أي تعديل في المشروع المرتقب».. فإنه يبدو كذلك أن هناك توجساً للإسلاميين من حدوث تراجع في هذا الأمر. صيغة تحذيرية وقد جاءت افتتاحية جريدة «التجديد» (لسان حركة التوحيد والإصلاح) - يوم التاسع من مايو الماضي - في صيغة تحذيرية، تقول بقلم مدير تحريرها «مصطفى الخلفي»: إن «التوجس من حصول تراجع على المكتسبات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية الحالية أمر مشروع، خاصة في ظل التناقضات التي ظهرت من المذكرات المقدمة للجنة الاستشارية لتعديل الدستور، ومن هذه القضايا نذكر ما يهم عناصر تجسيد الحقيقة المجتمعية الراسخة المتعلقة بكون المغرب دولة إسلامية.. وتعويم هذا المعطى ضمن خليط من الروافد الهلامية، أو بحديث مشوش عن حرية المعتقد، وذلك عوض صيغة ضمان الحريات الدينية التي كانت واضحة وقوية، أو ما يتعلق بمدونة الأسرة أو عدم التنصيص على ما يهم تنزيل مقتضيات النص على رسمية اللغة العربية، أو إضعاف روابط الانتماء التاريخي والحضاري للمغرب والتي جعلت منه جزءاً من العالم العربي والإسلامي، وهي قضايا من بين أخرى تمثل الصياغة المعتمدة فيها محدداً مفصلياً لتدقيق المقصود؛ وبالتالي التمكين من بلورة موقف إيجابي أو سلبي من الدستور المعدل». وأضافت الافتتاحية: «قد يكون من المجازفة القول: إن المرجعية الإسلامية مهددة بأن تكون الخاسر الأكبر في هذه المراجعة، لكن التنبيه على مثل هذه المآلات ضروري حتى لا تتم الاستهانة بلحظة المدارسة الحالية على مستوى الآلية السياسية، وذلك حتى لا تكون الوثيقة القادمة حاملة لتراجعات على مكتسبات تضمنتها كل الدساتير التي عرفها المغرب وحصل التخلي عنها دون أن يكون هناك ما يسنده في الواقع المغربي، اللهم إلا ابتزاز الخارج أو ضغوط جماعات المصالح الأيديولوجية النخبوية». بل إن «الخلفي» ذهب إلى حد التحذير من مآلات الإقدام على أي تراجع في هذا المجال، بقوله: «إن المغرب مؤهل ومرشح لكسب رهان ملكية ديمقراطية قائمة على فصل سلطات حقيقي، وربط فعلي للمسؤولية بالمحاسبة، وبأفق يتجاوز الدول التي شهدت ثورات، ورغم ذلك فإنها لا تزال تتعثر في بناء إطار دستوري ديمقراطي واسع.. لكن التخوف هو أن يقع التشويش على ذلك بتراجعات لا تحفظ على الأقل مكتسبات الدساتير السابقة». ومن جهته، صرح المهندس «محمد الحمداوي» رئيس حركة التوحيد والإصلاح قائلاً: «إننا نعتبر المرجعية الإسلامية أحد الخطوط الحمراء التي لا ينبغي المساس بها أو بمكانتها، باعتبارها أحد الثوابت التي أجمع عليها المجتمع وبُنيت عليها الدولة المغربية.. ونحن نعتبر أن المس بالمرجعية الإسلامية أو مكانتها في الدستور لن ترفضه فقط حركة التوحيد والإصلاح، بل إن الرفض سيكون عاماً وواسعاً، على اعتبار أن المس بالدين ومكانته في الدستور يعني عموم المغاربة، لسبب بسيط هو أننا لسنا في مرحلة المد الإلحادي أو في مرحلة استئساد الاستئصاليين واستقوائهم بالخارج على الداخل، بل إننا اليوم في مرحلة الربيع الديمقراطي العربي، الذي جعل عنوانه الكبير «الشعب يريد» بمعنى تحقيق إرادة الشعوب، وضرورة رجوع الأنظمة إلى الثوابت وتصالحها مع القيم المجتمعية الراسخة لاختياراتهم». وحول التعامل الممكن للحركة مع الدستور الجديد في حال التراجع عن وضوح الهوية الإسلامية للدولة، قال الحمداوي: إن «موقف الحركة من الوثيقة الدستورية سوف يحدده مجلس الشورى، والذي بدوره سيبني قراره على دراسة مشروع الدستور حينما يكون بين أيدينا في بنوده وتفاصيله وحيثياته، وبالتالي فإن جميع الاحتمالات واردة بناء على ما سيرد في هذا المشروع». فهل ينتظر المغرب صيفاً ملتهباً، قد تتواجه خلاله مرجعيتان: مرجعية إسلامية، وأخرى تدعو إلى سيادة المواثيق الدولية على القوانين الوطنية، بما فيها هوية الدولة التي تأسست عليها منذ أكثر من اثني عشر قرناً؟ وهل تصل المواجهة إلى حد الخروج إلى الشوارع على غرار ما حدث منذ أكثر من عشر سنوات في قضية «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، عندما اقتسمت شوارع العاصمتين الإدارية والاقتصادية للمملكة مسيرتان متناقضتان في المرجعية؟
مشروع الإصلاح الدستوري الذي أعلنه العاهل المغربي الملك محمد السادس مؤخراً، واقترح فيه نص دستور «يوطد دعائم نظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية»، أثار ردود فعل متباينة، حيث اعتبره مراقبون خطوة في اتجاه إعادة التوازن إلى السلطات، بينما رآه آخرون غير كافٍ، واختلف فريق ثالث بشأن المدى الذي يمكن أن تصل إليه الإصلاحات، بالقياس إلى ما أثارته ثورتا مصر وتونس من آمال.. ورأى محللون أن الملك تحرك باتجاه إعادة التوازن إلى السلطات، مع منح صلاحيات أكبر لرئيس الوزراء، غير أنه لم يتخلَّ عن أيٍّ من صلاحياته في مشروع الإصلاح الدستوري الذي عرضه. وكان الفقيهان الدستوريان: «عبداللطيف المنوني» رئيس لجنة مراجعة الدستور، و«محمد معتصم» مستشار الملك، قد قدّما - في شهر مايو الماضي بالديوان الملكي - الخطوطَ العريضة للدستور الجديد لمختلف الأحزاب السياسية، وهكذا تعرف الفاعلون السياسيون والجمعويون على ملامح السلطات الثلاث في الدستور المقبل.. وقد بادر «المنوني» إلى إعلان أن السلطة العسكرية والدينية ستبقيان ضمن الاختصاص الملكي الصرف.. ويقتضي الإصلاح الدستوري الجديد أن يكون البرلمان صاحب اختصاص التشريع في كل الميادين بدون استثناء، أما الحكومة فيقودها رئيس للوزراء يتولى السلطة التنفيذية كاملة ويرأس المجلس الوزاري. «المنوني» حمل في عرضه حول السلطة القضائية بشائر جعلت بعض أعضاء الآلية السياسية للتتبع والتشاور يعلنون أن الدستور الجديد سينتصر لمبدأ فصل السلطات؛ ذلك أن وزير العدل لن يرأس مستقبلاً «المجلس الأعلى للقضاء»، الذي سيتغير اسمه إلى «المجلس الأعلى للسلطة القضائية»، بصلاحيات واسعة وتركيبة جديدة. توزيع السلطات وحسب مسودة الدستور الجديد، سوف تتوزع السلطات كما يلي: < السلطة العسكرية والدينية: يأتي جهاز مجلس الأمن، الذي سيرأسه الملك، على رأس المؤسسات الجديدة في الوثيقة الدستورية المرتقبة.. ولن تقتصر اختصاصات الجهاز الجديد على المسائل العسكرية والأمنية كما توحي بذلك تسميته، بل ستوكل إليه مهمة النظر في جميع القضايا ذات البعد الإستراتيجي. وفي جواب على سؤال مستقبل «الفصل 19» المثير للكثير من الجدل ضمن الدستور المرتقب، أعلنت مصادر من داخل الآلية السياسية بأن تدخلات الحاضرين أجمعت على الشرعية الدينية التاريخية للمؤسسة الملكية، مع ما يعنيه ذلك من تضمين سموّ مؤسسة «إمارة المؤمنين» في الدستور، خاصة على مستوى المجالين الديني والعسكري، والتنصيص عليهما كاختصاص ملكي بامتياز يحتكر الملك سلطة التقرير والتعيين فيهما. < السلطة التنفيذية: سيكون «عباس الفاسي» آخر الوزراء الأولين في المغرب، فهذا المنصب سيتحول مع الدستور الجديد إلى رئيس للحكومة، وذلك على غرار ما عليه الأمر في إسبانيا، حكومة تمارس وحدها السلطة التنفيذية. ولن تقف مهام رئيس الحكومة المنتظر عند حدود تعيين وإقالة باقي الوزراء، بل ستمتد صلاحياته لتشمل التعيين والإقالة في صفوف رجال الإدارة الترابية للمملكة من ولاة وعمال (محافظين)، ونفس الشيء على الصعيد الدبلوماسي بتعيين سفراء المملكة في الخارج، وهذه صلاحيات كانت في السابق كلها في يد الملك. < السلطة التشريعية: يعد الدستور المقبل بإعادة الاعتبار للمؤسسة التشريعية؛ خاصة «مجلس النواب»، على اعتبار أنه التعبير عن إرادة الأمة ومنتخب باقتراع مباشر من أفراد الشعب الذي يمثله. وتفادى «المنوني» الخوض في إصلاح الغرفة الثانية، التي طالب الكثيرون بإلغائها، أو تقليص صلاحياتها التي كانت في السابق هي نفس صلاحيات الغرفة الأولى تقريباً؛ مما كان يتسبب في عرقلة لصلاحيات مجلس النواب سواء في المراقبة أو التشريع، وهو ما وصفه حينها البعض بحصان يمتطي صهوته رئيس مجلس النواب (الغرفة الأولى) ولكن لجامه يمسك به رئيس مجلس المستشارين (الغرفة الثانية).. غير أن بعض أعضاء الآلية السياسية للتتبع والتشاور نقلوا عن المنوني أن مجلس النواب ستكون صلاحياته أكبر من مجلس المستشارين، وسيتولى التشريع وحده في كافة الميادين على الصعيد الوطني. وبلغة الأرقام، أوضح «المنوني» لممثلي الأحزاب السياسية أن مجال السلطة التشريعية وتحديداً مجلس النواب سينتقل من تسعة مجالات إلى أربعين مجالاً تشريعياً. < السلطة القضائية: ظل مبدأ فصل السلطات عملة رائجة في سوق المطالب الإصلاحية السياسية والدستورية في المغرب، وملامح الدستور الجديد ستحمل استجابة لهذا المطلب.. فقد أوضح «المنوني» لأعضاء الآلية السياسية للتتبع والتشاور أن الحكومة سترفع يدها عن القضاء، فوزير العدل لن يعود يترأس المجلس الأعلى للقضاء كما كان في السابق، وهذا المجلس سيتغير اسمه إلى مجلس أعلى للسلطة القضائية. وليس الاسم فحسب هو الذي سيتغير، فتركيبة المجلس بدورها خضعت للتعديل، ورغم بقائه تحت رئاسة الملك؛ فإن تركيبته ستعرف - بالإضافة إلى أعضاء يعيِّنهم الملك - عضوية كل من رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ورئيس مؤسسة الوسيط.. كما سيتم إعمال لائحة نسائية لضمان تمثيل القاضيات. < القضاء الدستوري: لأن العدالة الدستورية لا تتحقق داخل النظام الديمقراطي بمنطق الأغلبية والمعارضة وحده، كان لا بد من تطوير المغرب لقضائه الدستوري.. ومع الدستور الجديد سيعلن المغرب انتهاء تجربة المجلس الدستوري، وسيطورها إلى إنشاء المحكمة الدستورية العليا، كما ستتغير هيكلته، بما أن العضوية في المحكمة الجديدة ستميل نحو الاستقلالية، وشروطها سوف تتجه نحو صرامة أكثر، إذ ستتكون من فقهاء دستوريين مارسوا التدريس الجامعي في الاختصاص المذكور لمدة لا تقل عن 16 عاماً. كما أن باب اللجوء إليها لن يبقى حكراً على المؤسسات وحدها، فالمواطن بدوره يمكنه اللجوء إلى هذه المحكمة الدستورية العليا بعد استنفاده كل آجال التقاضي للطعن في دستورية بعض الأحكام، وفي هذا يعلن المغرب عن توجه في الأنظمة الديمقراطية التي لا ترى في القضاء الدستوري ضامناً لنصوص الدستور فقط، ومدى احترام المؤسسات له، ولكن مؤسسة ضامنة لحقوق الأفراد وحرياتهم. كل ما سبق يبشر فعلاً بدخول المغرب عهد الديمقراطية الحقيقية، كما هي ممارسة في الأنظمة الملكية البرلمانية والدستورية، وكان موضع ترحيب من الجميع، خصوصاً أنها تغييرات تجاوزت حتى مقترحات أحزاب من أقصى الطيف المعارض. هوية الدولة لكن بؤرة الخلاف هي الغموض الذي لفّ التعاطي مع مقتضيات الفصل السادس من الدستور الحالي، والذي ظل دائماً هو الأساس الذي قامت عليه جميع الدساتير التي عرفتها المملكة، والذي يقول: «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية»، وهذا النص بهذه الصيغة كان كافياً لتحديد هوية الدولة. ويبدو أن الجلسة لم تتطرق بشكل واضح لموضوع هوية الدولة، ولكن رغم أن الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» قد أكد أن قضايا الهوية واللغة «لم تُطرح أمام أعضاء الآلية السياسية»، ورغم أن «عبدالإله بن كيران» قال بعد حضوره جلسة الاستماع شفوياً إلى مسودة الدستور الجديد: «فيما يخص قضايا الهوية والمرجعية فقد قيل لنا بأنه لم يحصل عليها أي تعديل في المشروع المرتقب».. فإنه يبدو كذلك أن هناك توجساً للإسلاميين من حدوث تراجع في هذا الأمر. صيغة تحذيرية وقد جاءت افتتاحية جريدة «التجديد» (لسان حركة التوحيد والإصلاح) - يوم التاسع من مايو الماضي - في صيغة تحذيرية، تقول بقلم مدير تحريرها «مصطفى الخلفي»: إن «التوجس من حصول تراجع على المكتسبات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية الحالية أمر مشروع، خاصة في ظل التناقضات التي ظهرت من المذكرات المقدمة للجنة الاستشارية لتعديل الدستور، ومن هذه القضايا نذكر ما يهم عناصر تجسيد الحقيقة المجتمعية الراسخة المتعلقة بكون المغرب دولة إسلامية.. وتعويم هذا المعطى ضمن خليط من الروافد الهلامية، أو بحديث مشوش عن حرية المعتقد، وذلك عوض صيغة ضمان الحريات الدينية التي كانت واضحة وقوية، أو ما يتعلق بمدونة الأسرة أو عدم التنصيص على ما يهم تنزيل مقتضيات النص على رسمية اللغة العربية، أو إضعاف روابط الانتماء التاريخي والحضاري للمغرب والتي جعلت منه جزءاً من العالم العربي والإسلامي، وهي قضايا من بين أخرى تمثل الصياغة المعتمدة فيها محدداً مفصلياً لتدقيق المقصود؛ وبالتالي التمكين من بلورة موقف إيجابي أو سلبي من الدستور المعدل». وأضافت الافتتاحية: «قد يكون من المجازفة القول: إن المرجعية الإسلامية مهددة بأن تكون الخاسر الأكبر في هذه المراجعة، لكن التنبيه على مثل هذه المآلات ضروري حتى لا تتم الاستهانة بلحظة المدارسة الحالية على مستوى الآلية السياسية، وذلك حتى لا تكون الوثيقة القادمة حاملة لتراجعات على مكتسبات تضمنتها كل الدساتير التي عرفها المغرب وحصل التخلي عنها دون أن يكون هناك ما يسنده في الواقع المغربي، اللهم إلا ابتزاز الخارج أو ضغوط جماعات المصالح الأيديولوجية النخبوية». بل إن «الخلفي» ذهب إلى حد التحذير من مآلات الإقدام على أي تراجع في هذا المجال، بقوله: «إن المغرب مؤهل ومرشح لكسب رهان ملكية ديمقراطية قائمة على فصل سلطات حقيقي، وربط فعلي للمسؤولية بالمحاسبة، وبأفق يتجاوز الدول التي شهدت ثورات، ورغم ذلك فإنها لا تزال تتعثر في بناء إطار دستوري ديمقراطي واسع.. لكن التخوف هو أن يقع التشويش على ذلك بتراجعات لا تحفظ على الأقل مكتسبات الدساتير السابقة». ومن جهته، صرح المهندس «محمد الحمداوي» رئيس حركة التوحيد والإصلاح قائلاً: «إننا نعتبر المرجعية الإسلامية أحد الخطوط الحمراء التي لا ينبغي المساس بها أو بمكانتها، باعتبارها أحد الثوابت التي أجمع عليها المجتمع وبُنيت عليها الدولة المغربية.. ونحن نعتبر أن المس بالمرجعية الإسلامية أو مكانتها في الدستور لن ترفضه فقط حركة التوحيد والإصلاح، بل إن الرفض سيكون عاماً وواسعاً، على اعتبار أن المس بالدين ومكانته في الدستور يعني عموم المغاربة، لسبب بسيط هو أننا لسنا في مرحلة المد الإلحادي أو في مرحلة استئساد الاستئصاليين واستقوائهم بالخارج على الداخل، بل إننا اليوم في مرحلة الربيع الديمقراطي العربي، الذي جعل عنوانه الكبير «الشعب يريد» بمعنى تحقيق إرادة الشعوب، وضرورة رجوع الأنظمة إلى الثوابت وتصالحها مع القيم المجتمعية الراسخة لاختياراتهم». وحول التعامل الممكن للحركة مع الدستور الجديد في حال التراجع عن وضوح الهوية الإسلامية للدولة، قال الحمداوي: إن «موقف الحركة من الوثيقة الدستورية سوف يحدده مجلس الشورى، والذي بدوره سيبني قراره على دراسة مشروع الدستور حينما يكون بين أيدينا في بنوده وتفاصيله وحيثياته، وبالتالي فإن جميع الاحتمالات واردة بناء على ما سيرد في هذا المشروع». فهل ينتظر المغرب صيفاً ملتهباً، قد تتواجه خلاله مرجعيتان: مرجعية إسلامية، وأخرى تدعو إلى سيادة المواثيق الدولية على القوانين الوطنية، بما فيها هوية الدولة التي تأسست عليها منذ أكثر من اثني عشر قرناً؟ وهل تصل المواجهة إلى حد الخروج إلى الشوارع على غرار ما حدث منذ أكثر من عشر سنوات في قضية «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، عندما اقتسمت شوارع العاصمتين الإدارية والاقتصادية للمملكة مسيرتان متناقضتان في المرجعية؟