محمد النّوري
يعد التعامل مع البورصة أي سوق الأوراق المالية والبضائع، من المسائل التي لا تزال بحاجة إلى تمحيص و تدقيق. والبورصة، أو المصفق، هي سوق تعقد فيها صفقات الأوراق المالية كالأسهم و السندات أو البضائع بالإضافة إلى العملات والنقود. وتوسعت وظائف البورصة أخيرا لتشمل ما يسمى بالاختيارات (options) والمستقبليات (futures) التي سيأتي شرحها لاحقا (1).
و المسلمون في أوروبا بحاجة ماسة إلى فقه البورصة و معاملاتها باعتبارهم جزء لا يتجزأ من المجتمعات الغربية و مطلوب منهم - أكثر من أي وقت مضى - الاندماج الإيجابي في تلك المجتمعات، اندماجا شاملا دون ذوبان، يحقق لهم مزيدا من الفعل والفاعلية وينمي ثقلهم البشري والاجتماعي و يجنبهم التهميش والإقصاء والتبعية.
كما أن البورصة أصبحت يوما بعد يوم - في ظل هيمنة العولمة الليبرالية - وتوسع الرأسمالية المالية بالنسبة للنظام الاقتصادي, بمثابة الرئة للإنسان ومقياس لدرجة حرارة الاقتصاد. فهي سوق - تعدت كل الأسواق الأخرى - لها خصائصها ووظائفها وإيجابياتها الاقتصادية والمالية كما لها من السلبيات والمخاطر، ما يدعو - المسلمين خاصة في هذه الديار - إلى الفهم العميق لهذه الظاهرة قبل التسرع في التكييف الشرعي للصور المستحدثة التي ألقت بها البورصة عليهم بملابستها المختلفة.
إن الرؤية المنهجية المطلوبة للتعامل مع قضايا البورصة و مستجداتها هي التي تسعى للمواءمة بين الجائز والمطلوب في أحكام البورصة ولا تكتفي بتطويع النصوص الفقهية أو البحث عن مخارج شرعية لإشكاليات لها أبعاد خطيرة ومتعددة على الفرد والأسرة والمجتمع.
في هذا الإطار, تحرص هذه الورقة على إبراز الأسس المنهجية التي تلائم بين الجائز والمطلوب في فقه المعاملات المالية في مثل هذه السوق وذلك انطلاقا من تحديد الأولويات الاقتصادية للمسلمين في أوروبا من خلال فهم خصوصيات الواقع الأوروبي والأقليات المسلمة المتواجدة به من جهة، وضرورة ترشيد التصرفات المالية والاقتصادية لتلك الأقليات من أجل الخروج من مرحلة التهميش الاقتصادي إلى مرحلة التأسيس والبناء الإيجابي.
إن فقه الترخيص لا يكفى لوحده لتحقيق الاندماج الإيجابي والواعي للمسلمين في المجتمعات الأوروبية لأنه لا يتجاوز رفع الحرج الشرعي – نسبيا - عن الأفراد في معاملاتهم المالية، ربما يساهم في توطين بعض الأفراد في تلك المجتمعات و لكنه لا يساهم في توطين المشروع الإسلامي بأبعاده المختلفة وفي مقدماتها البعد الاقتصادي الذي جعل من أقلية الأقليات (الجالية اليهودية) في هذه الديار تتحكم في دواليب النظام الاقتصادي وتوجهه الوجهة التي تخدم مصالحها الإستراتجية في الداخل والخارج.
لقد كان بوسع علماء اليهودية في الديار الغربية أن يجدوا في ثنايا ديانتهم على سبيل المثال ما يجيز ذبائح غيرهم من أهل الكتاب لمزيد الاندماج والانصهار ولكن ذلك لم يحصل، بل حرص اليهود على التميز في هذا المجال وإبراز خصوصيتهم(casher) على كل المستويات والأصعدة مما ساهم في تركيز بنية اقتصادية تشكل مصدرا رئيسيا من مصادر التمويل والاستثمار.
تسعى هذه الورقة بعد ذلك إلى عرض وتحليل النشاطات الحديثة للبورصة وإبراز الإيجابيات والمنافع والسلبيات والمخاطر و كذلك التمييز بين الحاجة والضرورة في العلاقة بمثل هذه الأمور أي تحديد الحاجة الحقيقية للمسلمين في أوروبا للتعامل مع نشاطات البورصة.
ثم نستعرض أحكام البورصة في الفقه الإسلامي الحديث بالتركيز على نقاط الاتفاق والاختلاف بين الفقهاء ثم نختم بخلاصة حول بعض الموجهات الضرورية لترشيد الفتوى الشرعية في مثل هذه القضايا الحساسة وهي بمثابة المرتكزات العملية لفقه التأسيس.
1/ الأولويات الاقتصادية للمسلمين في أوروبا:
إن الواقع الجديد للوجود الإسلامي بأوروبا أصبح يطرح على نفسه مهام جديدة تختلف دون ريب عن مهام العقود الأولى من مرحلة الهجرة الطارئة والوجود العابر.
إن المسلمين في ارو ربا يتطلعون إلى المساهمة الفاعلة في البناء الحضاري و صناعة المستقبل المشترك للإنسان في الضفتين الإسلامية و الأوروبية وهي مهمة ثقيلة تقتضي منهجا جديدا في التحقيق يتجاوز الفتاوى الجزئية والآراء العارضة والحلول الظرفية الخاصة، ويؤسس للتفاعل الحضاري على أصول من التقصي الشامل والاستشراف المستقبلي بنظر عميق يستجلي الواقع ويرسم الآفاق ويقود إلى تفعيل الوجود الإسلامي وتأهيله لهذا الدور الحضاري الكبير. (2)
ويقتضي هذا المنهج تحديد الأولويات وضبط الأهداف الإستراتجية المتعلقة بالوجود الإسلامي بأوروبا ومستقبل تطوره.
وانطلاقا من المقول الرائجة "المال قوام الأعمال", فان الأولوية الاقتصادية تأتي في مقدمة أولويات هذا المشروع الاستراتيجي لأنه بدون التفكير في سبل تحقيق وجود اقتصادي فاعل سيظل الوجود البشري وجودا هامشيا كما هو لحد الآن.
أ- خصائص الوجود الإسلامي بأوروبا:
يواجه الحضور الإسلامي في أوروبا تطورات واضحة خلال العقود الأربعة الماضية لعل في مقدمتها تنامي العنصر الشبابي ونزوعه إلى التدين كردة فعل على الأزمة المجتمعية التي تعاني منها مجمل الأقطار الأوروبية بما في ذلك انتشار الفوارق الاجتماعية والبطالة وتفشي الإدمان على المخدرات و العجز عن تحقيق التنمية العادلة.
بالإضافة إلى تلك الخاصية البشرية التي تحتاج إلى لفتة خاصة في بعديها الاقتصادي والاجتماعي, هناك أيضا خاصية الكفاءات العلمية التي تشكل شريحة هامة من الوجود الإسلامي بأوروبا وتمثل رصيدا بشريا وعلميا لا يستهان بوزنه ولا بدوره في تفعيل الوجود الاقتصادي الإسلامي. وتضم هذه الشريحة عددا هائلا من الكفاءات المهاجرة التي استقرت اختيارا أو اضطرار بأوروبا وكذلك بمجموعة من العقول المتخرجة من الجامعات الأوروبية التي تساهم في عملية التنمية الإقتصادية في هذه البلاد.
لكن في المقابل, تعاني الأقليات المسلمة في أوروبا من تفشي البطالة خاصة في أوساط الشباب مما أدى إلى وقوع العديد منهم في مستنقع الانحراف والجريمة وارتياد السجون.
ب- ضرورة ترشيد التصرّفات الماليّة في أوروبا:
يحتاج المسلمون في أوروبا إلى رؤيا استراتيجية تنبني عليها تصرفاتهم المالية وسلوكياتهم الاقتصادية على غرار ما انتهجته الأقليات العرقية والدينية الأخرى التي استطاعت بفضل وعي وتخطيط محكم من قبل قياداتهم الفكرية و الدينية و السياسية أن تحتل موقعا مركزيا في النسيج الاقتصادي والمالي بالبلدان الأوروبية.
لكن الأقليات المسلمة، نظرا لحالة الفوضى المؤسساتية وتشتت القيادات والمنظمات، لم تولي المجال الاقتصادي والمالي أهمية تذكر وترك الأمر للتصرفات الفردية التي تتسم بالعفوية والارتجال و تغليب المنفعة الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة للمجموعات البشرية التي تكون جسم الأقليات المذكورة.
لقد آن الأوان أمام هذه المجموعات أن تقطع مع أساليب المرحلة السابقة وأن تنظر نظرة استشرافية استراتيجية لتحديد الخطوط الكبرى لتحديات المرحلة القادمة مرحلة التوطين والاندماج والمساهمة في البناء المستقبلي للمجتمعات التي تعيش فيها.
وهذا لا يعني بحال التقوقع والانزواء والاندماج داخل تجمعات صغيرة منغلقة على ذاتها وإنما الانطلاق من الخصوصيات الذاتية لبناء بنية تحتية اقتصادية تستجيب لحاجيات المسلمين و تعمل على ترقيتهم اقتصاديا و اجتماعيا وتساهم في الآن نفسه في التنمية الاقتصادية للمجتمعات الأوروبية.
إن ترشيد التصرفات المالية والاقتصادية للمسلمين في أوروبا يقتضي الانطلاق من هذه الرؤية الاستراتيجية وتلك الأولويات من أجل توجيه الطاقات البشرية والإمكانيات المالية لتحقيق نقلة نوعية في الحضور الاقتصادي للمسلمين في هذه الديار.
ويأتي في مقدمة الأولويات ترشيد الاستثمار وتوجيهه الوجهة المطلوبة لتلبية الحاجيات الاقتصادية والتنموية للوجود الإسلامي بتأسيس المشاريع الإنتاجية والخدمية التي تولي العنصر البشري أهمية قصوى على حساب الاعتبارات الأخرى. من هنا تأتي أهمية فقه البورصة وضرورة الفصل فيه بين الجائز والمطلوب، بين المصلحة الفردية والمصلحة الاستراتيجية العامة والنظر إلى مآلات الفتوى فيه دون الاقتصار على الإجابات الجزئية المنفصلة عن واقع المجموعة.
ج- فقه التأسيس و فقه الترخيص:
في هذا الإطار لا بد لفقه التأسيس أن يأخذ مكانه في سلم الأوليات المطروحة على الفكر الإسلامي وفقه الأقليات بشكل خاص٠ لا مناص من تأسيس رؤية استراتيجية للوجود الإسلامي بأوروبا تقطع مع العفوية والارتجال والبحث عن الرخص أو "الحيل" الشرعية لا سيما في مجال المعاملات وتتمحور حول معاجلة شؤون الوجود الإسلامي بفقه خاص ينتمي إلى الفقه الإسلامي العام ولكنه يتفرد بخصوصيات تقتضيها خصوصيات الوجود الإسلامي بأوروبا (3). لا يهدف فقه التأسيس إلى الترقية الاقتصادية والتنموية لهذا الوجود فحسب و لكنه يطمح في معالجة مشاكل المجتمع الأوروبي والانتفاع بما جاء به الإسلام من خير وقيم روحية ومبادئ أخلاقية وأحكام منظمة للاقتصاد والمجتمع تخفف من غلواء الأزمة الاقتصادية وطغيان المادية في ظل هيمنة الليبرالية المتوحشة. إن فقه التأسيس يجب أن يقود فقه الترخيص لا أن يتخلف عنه أو أن ينقاد إلى استتباعاته و تداعياته.
فالفقه الإسلامي يزخر بالعديد من الاجتهادات والرخص التي شملت كل مناحي الحياة وإشكالات الواقع المتطور عبر التاريخ الطويل للبشرية. وليس من الصعب العثور في خضم هذه الثروة الفقهية المتراكمة على إجابات ومخارج شرعية للقضايا المستحدثة في الواقع المعاصر. ولكن التحدي الأهم هو كيف يمكن أن نجعل من فقه الترخيص جزءا مكملا لفقه التأسيس لا مهيمنا عليه وموجها له.
في هذا الإطار يمكن تحليل النشاطات الحديثة للبورصة والتحديات التي تطرحها على الفقه الإسلامي لا سيما في ديار الغرب في ظل الموجهات العامة التي تم عرضها.
2/ النشاطات الحديثة للبورصة:
تحولت البورصة في ظل ثورة المعلومات والإنترنيت من سوق بمثابة الطلسم الذي تجهله الأغلبية الساحقة من الناس ولا يفقه كنهه إلا المتعاملين فيه إلى سوق مفتوحة تدخل البيوت بدون استئذان وتدفع الأفراد إليها دفعا طمعا في تحصيل الربح دون جهد ومعاناة، حتى أضحى عدد المرتادين إلى "البورصة المباشرة" من أطفال ونساء وغيرهم يفوق عدد المتعاملين مع نشاطات البورصة من خلال الوسائط و المتعهدين.
وتشير الإحصائيات في هذا الصدد أن عدد المتعاملين مع البورصة عبر شبكة الأنترنيت تجاوز 71% عام 1999 وهو يزداد يوما بعد يوم. وبلغ 8 مليون شخص من المتعاملين مع الشبكة من مكاتبهم و6 مليون من منازلهم. وتشير التقديرات أن هذا العدد تضاعف 4 مرات بحلول عام 2002. ولم تعد البورصة حكرا على المحترفين فقط بل أصبحت في متناول الجميع عبر آلية الاستثمار اليومي (day-trading) وهو يعني البيع والشراء للأسهم في نفس اليوم الواحد بفضل السرعة التي توفرها الإنترنت في المعاملات مع تكاليف السمسرة المنخفضة. (4)
ويمكن تخليص نشاط البورصة في الأعمال التالية:
أ-الأسهم (Actions):
وهي عبارة عن حصص من رأسمال الشركات المسجلة في سوق الأوراق المالية. و الأسهم بهذا المعنى هي جزء مشاع في تلك الشركات. ومن اشترى أسهما في البورصة أصبح شريكا في الشركة المعنية.
وليست كلّ شركة مسجلة في البورصة، إلا إذا كان رأس المال الشركة كبيرا. فهناك اكتتاب لرأسمال شركات تحت التأسيس وهناك شراء وبيع أسهم شركات قائمة بالفعل ويتم تداول أسهمها في البورصة. وهناك شركات تريد أن تزيد في رأسمالها فتصدر أسهما جديدة وكل ذلك يتم بالنسبة للشركات الكبيرة في سوق الأوراق المالية أي البورصة.
ب-السندات (Obligations):
هي عبارة عن قروض قصيرة أو طويلة الأجل تصدرها الحكومات والشركات الهامة وتكون ضامنة لتسديدها عند الأجل مقابل فائدة سنوية محددة. فهي قروض بزيادة في مقابل الزمن، بينما الأسهم جزء مشاع في الشركة.
ج- صناديق الادخار الجماعية : (OPCVM = Titres des Organismes de Placement collectif en Valeur Mobilière)
وهي من أهم وسائل الإدخارالجديدة التي تشهد إقبالا كبيرا من طرف المدخرين الذين يخافون من دخول البورصة شخصيا. فيلجئون إلى أختصاصيين ماليين مثل البنوك وشركات التأمين للتخلّص من مشاكل التسيير. ويقوم الوسطاء بعرض سندات هذه الصناديق إلى المعنيين. ويشتمل نشاط هذه الصناديق على صنفين من السندات:
- سندات لشركات الاستثمار ذات رأس المال المتغير = (SICAV)
- سندات صناديق الادخار الجماعية = ((FCP
د/ الاختيارات: = ((OPTIONS
وهي نوع من المنتوجات المالية المتداولة حديثا في البورصات الدولية. وهي عبارة عن عقود مضاربة بالبيع الآجل بناء على توقعات لصعود الأسعار أو هبوطها بالنسبة للأسهم أو السندات أو السلع أو العملات. ولا يتم فيها القبض أو التسديد.
فالاختيارات هي عقد أتفاق بين طرفين يتم بموجبه إسناد حق الشراء (call) أو البيع (Put)دون الإلزام لسلعة أو سند أو سهم أو عملة معينة بسعر محدد، لمدة زمنية محددة مقابل مبلغ محدد لحق الشراء أو البيع.
ه/ المستقبليات = ((FUTURES
وهي أيضا نوع من عقود المضاربة ((Speculation أي المقامرة بالبيع الآجل بين طرفين ويعطي الحق مع الإلزام غير القابل للرد للمشتري لإتمام الصفقة بالسعر المحدد والوقت المحدد.
وبعد العقد يستطيع المشتري لتسلم البضاعة أو التفويت في موقعه قبل ذلك لطرف ثالث مقابل تعويض يتفق عليه. وتقوم هذه العقود المستقلبية على المضاربة على أسعار الفائدة أو العملات أو مؤشرات البورصات الدولية أو القيم المنقولة أو المواد الأولية.
3/ منافع البورصة ومخاطرها :
لقد أثارت البورصة ولا تزال جدلا كبيرا بين الاقتصاديين وكذالك بين الفقهاء المعاصرين والسبب في ذلك أنها حولت النشاط الاقتصادي من اقتصاد إنتاجي يرتكز على العمل و رأس المال إلى اقتصاد رمزي يقوم على المضاربة (speculation)أي المقامرة على صعود الأسعار وهبوطها دون بذل جهد يذكر لتحقيق الأرباح.
لقد كانت البورصة ولا تزال وراء العديد من الأزمات والهزات المالية التي عصفت باقتصاديات برمتها وساهمت في ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير بينما أدت إلى حصول أرباح فاحشة دون جهد لبعض المرابين. وقد طالب بعض الاقتصاديين بإلغاء هذه السوق نظرا للمخاطر التي تنجم عنها.
ويمكن إجمال ايجابيات البورصة ومخاطرها في النقاط التالية:
أ- الايجابيات أو المنافع:
• تشكل البورصة سوقا دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشترين ويقوم فيها العقود العاجلة والآجلة على الأسهم والسنوات والعملات والبضائع.
• تساهم في تسهيل عملية التمويل للمؤسسات والشركات وتوفر السيولة المطلوبة عند الحاجة عن طريق بيع الأسهم والسندات.
• تمثل أداة لمعرفة تقلبات الأسعار عن طريق حركة العرض والطلب.
ب- السلبيات أو المخاطر:
• التأثير السلبي على النشاط الاقتصادي من جراء هيمنة مجموعة من المحترفين والمرابين والمحتكرين للسلع والأوراق المالية واستخدامهم للحيل والإشاعات وشتى وسائل الخداع و التضليل من أجل التحكم في الأسعار وتحقيق المزيد من الأرباح على حساب الغافلين من صغار التجار والممولين.
• إن العقود الآجلة التي تجري في البورصة ليست في معظمها بيعا حقيقيا ولا شراء حقيقيا بحكم غياب التقابض الفعلي في العرضين أو في أحدهما.
• إن البيع في هذه السوق غالبا هو بيع وهمي أي بيع إرادة ومشيئة وليس بيع سلعة أو حق مالي حقيقي. فهو بيع ما لا يملك الإنسان من عملات وأسهم وسندات وبضائع على أمل شرائه في السوق في الموعد دون قبض الثمن عند العقد. (5)
4/ موقف الفقه الإسلامي من البورصة:
أ- نقاط الاتفاق بين الفقهاء:
• لا خلاف بين الفقهاء على تحريم شراء ة بيع السندات لأنها قرض بزيادة في مقابل الثمن وهذا هو ربا الديون الذي حرمه الإسلام باستثناء الشيخ محمد عبده والأستاذ عبد الوهاب خلاف الذين أجازا التعامل بالسندات بالاعتماد على أن تحديد الفائدة أو الربح أصبح ضرويا لعموم البلوى وفساد ذمم كثير من الناس.
• لا خلاف أيضا على جواز العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها التقابض الفوري، ما لم تكن عقودا على سلع محرمة شرعا.
• لا خلاف أيضا على شراء وبيع أسهم الشركات و المؤسسات حين تكون الأسهم في ملك البائع، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضع تعاملها أو مجال نشاطها محرم شرعا.
ب- نقاط الاختلاف:
• أسهم الشركات التي أصل نشاطها حلال ولكن يشوبه شيء من الحرام، كالتعامل بالربا أو ما شابه ذلك. وقد أجاز البعض شراء وبيع الأسهم في مثل هذه الحالة بشروط منها:
- أن لا تزيد ديون الشركة عن النصف.
- أن لا تزيد نسبة التعامل الربوي لهذه الشركة عن الثلث.
- أن لا تزيد نسبة الفائدة إلى مجمل الأرباح عن 10%.
وهذه الشروط لا تنطبق على الشركات والمؤسسات الأوروبية لأن نسبة التعامل الربوي تصل إلى مئة في المئة والديون قد تصل إلى نفس النسبة أيضا.
• الاختيارات و المستقبليات: وهي العقود الآجلة بأنواعها المختلفة، وفيها أقوال:
- هناك من الفقهاء من يعتبرها تندرج ضمن حكم بيع الإنسان ما لا يملك لحديث الرسول صلى الله عليه و سلم عن حزام بن حكيم "لا تبع ما ليس عندك" وتدخل فيه أحكام فقهية متعددة منها بيع المعدوم وبيع الغرر و بيع معجوز التسليم.
- هناك من الفقهاء من يعتبر هذه العقود تدخل ضمن بيع الكاليء بالكاليء أو الدين بالدين وهو بيع غير جائز لأنه ليس فيه قبض لا سلعة ولا ثمن ولا يندرج ضمن بيع السلم.
- هناك من العلماء من اعتبر هذه العقود تدخل ضمن باب بيع الشيء المملوك دون قبضه من آخر وقد أجمعوا على عدم جواز هذا البيع باستثناء المالكية الذين قصروا المنع على بيع الطعام أما غير الطعام فيجوز بيعها قبل قبضها.
- هناك من العلماء من اعتبر هذه العقود الآجلة تدخل في باب البيع دون تحديد السعر (أو البيع بما ينقطع غليه السعر) وهو البيع الحالي في البورصة حيث تباع السلع الحاضرة بثمن السوق في يوم محدد أو في فترة محددة هي فترة التصفية.
وقد اتفق العلماء على عدم جواز هذا العقد باستثناء الإمام أحمد بن حنبل ورأي ابن تيمية وابن القيم في إجازة البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد لتعارف الناس و لتعاملهم به في كل زمان و مكان وهو ما يسمى ببيع الاستجرار. والمقصود بذلك سعر السوق وقت البيع لا أي سعر في المستقبل.
5/ خلاصة واستنتاجات:
نخلص مما سبق إلى أنّ الاتجاه العام لموقف الفقهاء هو إجازة التعامل مع البورصة فيما يتعلّق بـ:
- أسهم الشركات وصناديق الادخار الجماعية التي لا يغلب على نشاطها الحرام ضمن شروط محددة.
- عقود الاختيارات والمستقبليات إذا كانت تندرج في إطار عقد بيع الاستجرار (أي سعر السوق وقت البيع).
أمّا السندات فهي موضع خلاف والرأي الغالب لحدّ الآن هو عدم إجازتها لأنها تنطوي على فائدة ثابتة.
والمتأمل في آلية عمل البورصة وخاصة في المجتمعات الأوروبية يدرك صعوبة التمييز بين الحلال والحرام في نشاطات الشركات والمؤسسات ونوعية الأسهم التي تتوفر فيها الشروط الشرعية للتعامل بها. كما أنّ الوسطاء والمصارف لا تستطيع تقديم الاستشارات الضرورية في هذا المجال لمن يطلبها. وبالتالي يحتاج الفرد إلى تفقّه حقيقي ودراية دقيقة بالمعاملات المالية في هذه البلدان حتى يستطيع التعامل مع البورصة وتجنّب الحرام قدر الامكان.
وإذا نظرنا إلى واقع الوجود الإسلامي بأوروبا وحاجة المسلمين فيه إلى البورصة يتراءى إلينا مباشرة طرح التساؤلات التالية:
أولا – ما مدى حاجة الوجود الإسلامي بأوروبا فعلا إلى التعامل مع البورصة ؟ أي هل مناك حاجة ماسة للتعامل مع البورصة ؟ وهل هناك من المسامين الذين لهم قدرة مالية وفائض مالي حتى يوجهه إلى الاستثمار في البورصة؟ وإن وجد مثل هؤلاء، كم عددهم وما هي نسبتهم مع مجموع المسلمين في البلاد الأوروبيّة؟
ثانيا- هل يجوز حقيقة توجيه الرأسمال الإسلامي بأوروبا إلى مثل هذه الأسواق والحال أن الوجود الإسلامي ليس له بنية اقتصادية تذكر وهو بحاجة إلى مشروعات تحتيّة أساسية أولا وقبل كل شيء وتعاني أعداد هائلة من شبابه وكهوله حالة من البطالة والعيش عالة على المجتمع الأوروبي، ولولا المنح العائليّة والتغطية الاجتماعية التي توفرها الحكومات الأوروبية لتحوّلت تلك الجموع البشريّة إلى صف المشرّدين والمصنفين بدون مأوى ((SDF ؟
ثالثا- هل يجوز التوسع في فتاوى البورصة ونشاطاتها القائمة على المضاربة (بمعنى المقامرة) في الوقت الذي ينادي فيه أصوات أوروبية وغربية عديدة بضرورة إلغاء هذه السوق الوحشية التي سببت في انهيار أوضاع اقتصادية وعملات محليّة ومؤسسات كبرى بين عشيّة وضحاها نتيجة تآمر حفنة من المرابين والمحتكرين ؟
رابعا- هل يجوز فتح الباب على مصراعيه أمام الأطفال والشباب وربات البيوت الذين دخلت البورصة عليهم وما تفتأ تسلّط إغراءاتها في تحقيق الأرباح السهلة دون جهد ومعاناة مما يؤثر سلبا على الحياة الفرديّة والأسريّة؟
خامسا- هل هناك مؤسسات أوروبيّة بالبورصة يتوافر فيها الحدّ الأدنى من الضوابط الشرعيّة حتّى نبيح التعامل معها وشراء أسهم فيها؟
وبناء عليه يجدر الحثّ على توجيه الاستثمار في القطاعات الإنتاجية بدل المضاربة الماليّة التي لا تخفى أخطارها على الفرد والأسرة والمجتمع. وهو ما يحتاج إلى وعي استثماري جديد يضع في الاعتبار المصالح الاستراتيجية للوجود الإسلامي في هذه الديار.
ومما لا شك فيه أن هذا الوعي تساهم في تشكله في المقام الأول فتاوى العلماء واجتهاداتهم.
والله ولي التوفيق
هوامش:
(1) البورصة هي مكان للتبادل، وفيها يمكن تبادل كل شيء. ففيها يتم بيع وشراء المواد الغذائية (مثل البن والأرز و الذرة...)، والمواد الأولية ( مثل البترول والقطن والنحاس...)، والسندات المالية( مثل سندات الأسهم والالتزامات...)، والعملات (مثل الدولار والين واليورو...)، وحتى معدلات الفائدة. كل شيء قابل للتبادل والمتاجرة.
(2) انظر: البحث في الشأن الإسلامي بأوروبا - سلسلة الدراسات المنهجية - د. عبد المجيد النجار – مركز البحوث والدراسات بالمهد الأوروبي للعلوم الإنسانية- فرنسا.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) www.home4arab.com
(5) انظر: قرار المجمع الفقهي الإسلامي حول البورصة - الدورة السابعة 1404 هـ.
يعد التعامل مع البورصة أي سوق الأوراق المالية والبضائع، من المسائل التي لا تزال بحاجة إلى تمحيص و تدقيق. والبورصة، أو المصفق، هي سوق تعقد فيها صفقات الأوراق المالية كالأسهم و السندات أو البضائع بالإضافة إلى العملات والنقود. وتوسعت وظائف البورصة أخيرا لتشمل ما يسمى بالاختيارات (options) والمستقبليات (futures) التي سيأتي شرحها لاحقا (1).
و المسلمون في أوروبا بحاجة ماسة إلى فقه البورصة و معاملاتها باعتبارهم جزء لا يتجزأ من المجتمعات الغربية و مطلوب منهم - أكثر من أي وقت مضى - الاندماج الإيجابي في تلك المجتمعات، اندماجا شاملا دون ذوبان، يحقق لهم مزيدا من الفعل والفاعلية وينمي ثقلهم البشري والاجتماعي و يجنبهم التهميش والإقصاء والتبعية.
كما أن البورصة أصبحت يوما بعد يوم - في ظل هيمنة العولمة الليبرالية - وتوسع الرأسمالية المالية بالنسبة للنظام الاقتصادي, بمثابة الرئة للإنسان ومقياس لدرجة حرارة الاقتصاد. فهي سوق - تعدت كل الأسواق الأخرى - لها خصائصها ووظائفها وإيجابياتها الاقتصادية والمالية كما لها من السلبيات والمخاطر، ما يدعو - المسلمين خاصة في هذه الديار - إلى الفهم العميق لهذه الظاهرة قبل التسرع في التكييف الشرعي للصور المستحدثة التي ألقت بها البورصة عليهم بملابستها المختلفة.
إن الرؤية المنهجية المطلوبة للتعامل مع قضايا البورصة و مستجداتها هي التي تسعى للمواءمة بين الجائز والمطلوب في أحكام البورصة ولا تكتفي بتطويع النصوص الفقهية أو البحث عن مخارج شرعية لإشكاليات لها أبعاد خطيرة ومتعددة على الفرد والأسرة والمجتمع.
في هذا الإطار, تحرص هذه الورقة على إبراز الأسس المنهجية التي تلائم بين الجائز والمطلوب في فقه المعاملات المالية في مثل هذه السوق وذلك انطلاقا من تحديد الأولويات الاقتصادية للمسلمين في أوروبا من خلال فهم خصوصيات الواقع الأوروبي والأقليات المسلمة المتواجدة به من جهة، وضرورة ترشيد التصرفات المالية والاقتصادية لتلك الأقليات من أجل الخروج من مرحلة التهميش الاقتصادي إلى مرحلة التأسيس والبناء الإيجابي.
إن فقه الترخيص لا يكفى لوحده لتحقيق الاندماج الإيجابي والواعي للمسلمين في المجتمعات الأوروبية لأنه لا يتجاوز رفع الحرج الشرعي – نسبيا - عن الأفراد في معاملاتهم المالية، ربما يساهم في توطين بعض الأفراد في تلك المجتمعات و لكنه لا يساهم في توطين المشروع الإسلامي بأبعاده المختلفة وفي مقدماتها البعد الاقتصادي الذي جعل من أقلية الأقليات (الجالية اليهودية) في هذه الديار تتحكم في دواليب النظام الاقتصادي وتوجهه الوجهة التي تخدم مصالحها الإستراتجية في الداخل والخارج.
لقد كان بوسع علماء اليهودية في الديار الغربية أن يجدوا في ثنايا ديانتهم على سبيل المثال ما يجيز ذبائح غيرهم من أهل الكتاب لمزيد الاندماج والانصهار ولكن ذلك لم يحصل، بل حرص اليهود على التميز في هذا المجال وإبراز خصوصيتهم(casher) على كل المستويات والأصعدة مما ساهم في تركيز بنية اقتصادية تشكل مصدرا رئيسيا من مصادر التمويل والاستثمار.
تسعى هذه الورقة بعد ذلك إلى عرض وتحليل النشاطات الحديثة للبورصة وإبراز الإيجابيات والمنافع والسلبيات والمخاطر و كذلك التمييز بين الحاجة والضرورة في العلاقة بمثل هذه الأمور أي تحديد الحاجة الحقيقية للمسلمين في أوروبا للتعامل مع نشاطات البورصة.
ثم نستعرض أحكام البورصة في الفقه الإسلامي الحديث بالتركيز على نقاط الاتفاق والاختلاف بين الفقهاء ثم نختم بخلاصة حول بعض الموجهات الضرورية لترشيد الفتوى الشرعية في مثل هذه القضايا الحساسة وهي بمثابة المرتكزات العملية لفقه التأسيس.
1/ الأولويات الاقتصادية للمسلمين في أوروبا:
إن الواقع الجديد للوجود الإسلامي بأوروبا أصبح يطرح على نفسه مهام جديدة تختلف دون ريب عن مهام العقود الأولى من مرحلة الهجرة الطارئة والوجود العابر.
إن المسلمين في ارو ربا يتطلعون إلى المساهمة الفاعلة في البناء الحضاري و صناعة المستقبل المشترك للإنسان في الضفتين الإسلامية و الأوروبية وهي مهمة ثقيلة تقتضي منهجا جديدا في التحقيق يتجاوز الفتاوى الجزئية والآراء العارضة والحلول الظرفية الخاصة، ويؤسس للتفاعل الحضاري على أصول من التقصي الشامل والاستشراف المستقبلي بنظر عميق يستجلي الواقع ويرسم الآفاق ويقود إلى تفعيل الوجود الإسلامي وتأهيله لهذا الدور الحضاري الكبير. (2)
ويقتضي هذا المنهج تحديد الأولويات وضبط الأهداف الإستراتجية المتعلقة بالوجود الإسلامي بأوروبا ومستقبل تطوره.
وانطلاقا من المقول الرائجة "المال قوام الأعمال", فان الأولوية الاقتصادية تأتي في مقدمة أولويات هذا المشروع الاستراتيجي لأنه بدون التفكير في سبل تحقيق وجود اقتصادي فاعل سيظل الوجود البشري وجودا هامشيا كما هو لحد الآن.
أ- خصائص الوجود الإسلامي بأوروبا:
يواجه الحضور الإسلامي في أوروبا تطورات واضحة خلال العقود الأربعة الماضية لعل في مقدمتها تنامي العنصر الشبابي ونزوعه إلى التدين كردة فعل على الأزمة المجتمعية التي تعاني منها مجمل الأقطار الأوروبية بما في ذلك انتشار الفوارق الاجتماعية والبطالة وتفشي الإدمان على المخدرات و العجز عن تحقيق التنمية العادلة.
بالإضافة إلى تلك الخاصية البشرية التي تحتاج إلى لفتة خاصة في بعديها الاقتصادي والاجتماعي, هناك أيضا خاصية الكفاءات العلمية التي تشكل شريحة هامة من الوجود الإسلامي بأوروبا وتمثل رصيدا بشريا وعلميا لا يستهان بوزنه ولا بدوره في تفعيل الوجود الاقتصادي الإسلامي. وتضم هذه الشريحة عددا هائلا من الكفاءات المهاجرة التي استقرت اختيارا أو اضطرار بأوروبا وكذلك بمجموعة من العقول المتخرجة من الجامعات الأوروبية التي تساهم في عملية التنمية الإقتصادية في هذه البلاد.
لكن في المقابل, تعاني الأقليات المسلمة في أوروبا من تفشي البطالة خاصة في أوساط الشباب مما أدى إلى وقوع العديد منهم في مستنقع الانحراف والجريمة وارتياد السجون.
ب- ضرورة ترشيد التصرّفات الماليّة في أوروبا:
يحتاج المسلمون في أوروبا إلى رؤيا استراتيجية تنبني عليها تصرفاتهم المالية وسلوكياتهم الاقتصادية على غرار ما انتهجته الأقليات العرقية والدينية الأخرى التي استطاعت بفضل وعي وتخطيط محكم من قبل قياداتهم الفكرية و الدينية و السياسية أن تحتل موقعا مركزيا في النسيج الاقتصادي والمالي بالبلدان الأوروبية.
لكن الأقليات المسلمة، نظرا لحالة الفوضى المؤسساتية وتشتت القيادات والمنظمات، لم تولي المجال الاقتصادي والمالي أهمية تذكر وترك الأمر للتصرفات الفردية التي تتسم بالعفوية والارتجال و تغليب المنفعة الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة للمجموعات البشرية التي تكون جسم الأقليات المذكورة.
لقد آن الأوان أمام هذه المجموعات أن تقطع مع أساليب المرحلة السابقة وأن تنظر نظرة استشرافية استراتيجية لتحديد الخطوط الكبرى لتحديات المرحلة القادمة مرحلة التوطين والاندماج والمساهمة في البناء المستقبلي للمجتمعات التي تعيش فيها.
وهذا لا يعني بحال التقوقع والانزواء والاندماج داخل تجمعات صغيرة منغلقة على ذاتها وإنما الانطلاق من الخصوصيات الذاتية لبناء بنية تحتية اقتصادية تستجيب لحاجيات المسلمين و تعمل على ترقيتهم اقتصاديا و اجتماعيا وتساهم في الآن نفسه في التنمية الاقتصادية للمجتمعات الأوروبية.
إن ترشيد التصرفات المالية والاقتصادية للمسلمين في أوروبا يقتضي الانطلاق من هذه الرؤية الاستراتيجية وتلك الأولويات من أجل توجيه الطاقات البشرية والإمكانيات المالية لتحقيق نقلة نوعية في الحضور الاقتصادي للمسلمين في هذه الديار.
ويأتي في مقدمة الأولويات ترشيد الاستثمار وتوجيهه الوجهة المطلوبة لتلبية الحاجيات الاقتصادية والتنموية للوجود الإسلامي بتأسيس المشاريع الإنتاجية والخدمية التي تولي العنصر البشري أهمية قصوى على حساب الاعتبارات الأخرى. من هنا تأتي أهمية فقه البورصة وضرورة الفصل فيه بين الجائز والمطلوب، بين المصلحة الفردية والمصلحة الاستراتيجية العامة والنظر إلى مآلات الفتوى فيه دون الاقتصار على الإجابات الجزئية المنفصلة عن واقع المجموعة.
ج- فقه التأسيس و فقه الترخيص:
في هذا الإطار لا بد لفقه التأسيس أن يأخذ مكانه في سلم الأوليات المطروحة على الفكر الإسلامي وفقه الأقليات بشكل خاص٠ لا مناص من تأسيس رؤية استراتيجية للوجود الإسلامي بأوروبا تقطع مع العفوية والارتجال والبحث عن الرخص أو "الحيل" الشرعية لا سيما في مجال المعاملات وتتمحور حول معاجلة شؤون الوجود الإسلامي بفقه خاص ينتمي إلى الفقه الإسلامي العام ولكنه يتفرد بخصوصيات تقتضيها خصوصيات الوجود الإسلامي بأوروبا (3). لا يهدف فقه التأسيس إلى الترقية الاقتصادية والتنموية لهذا الوجود فحسب و لكنه يطمح في معالجة مشاكل المجتمع الأوروبي والانتفاع بما جاء به الإسلام من خير وقيم روحية ومبادئ أخلاقية وأحكام منظمة للاقتصاد والمجتمع تخفف من غلواء الأزمة الاقتصادية وطغيان المادية في ظل هيمنة الليبرالية المتوحشة. إن فقه التأسيس يجب أن يقود فقه الترخيص لا أن يتخلف عنه أو أن ينقاد إلى استتباعاته و تداعياته.
فالفقه الإسلامي يزخر بالعديد من الاجتهادات والرخص التي شملت كل مناحي الحياة وإشكالات الواقع المتطور عبر التاريخ الطويل للبشرية. وليس من الصعب العثور في خضم هذه الثروة الفقهية المتراكمة على إجابات ومخارج شرعية للقضايا المستحدثة في الواقع المعاصر. ولكن التحدي الأهم هو كيف يمكن أن نجعل من فقه الترخيص جزءا مكملا لفقه التأسيس لا مهيمنا عليه وموجها له.
في هذا الإطار يمكن تحليل النشاطات الحديثة للبورصة والتحديات التي تطرحها على الفقه الإسلامي لا سيما في ديار الغرب في ظل الموجهات العامة التي تم عرضها.
2/ النشاطات الحديثة للبورصة:
تحولت البورصة في ظل ثورة المعلومات والإنترنيت من سوق بمثابة الطلسم الذي تجهله الأغلبية الساحقة من الناس ولا يفقه كنهه إلا المتعاملين فيه إلى سوق مفتوحة تدخل البيوت بدون استئذان وتدفع الأفراد إليها دفعا طمعا في تحصيل الربح دون جهد ومعاناة، حتى أضحى عدد المرتادين إلى "البورصة المباشرة" من أطفال ونساء وغيرهم يفوق عدد المتعاملين مع نشاطات البورصة من خلال الوسائط و المتعهدين.
وتشير الإحصائيات في هذا الصدد أن عدد المتعاملين مع البورصة عبر شبكة الأنترنيت تجاوز 71% عام 1999 وهو يزداد يوما بعد يوم. وبلغ 8 مليون شخص من المتعاملين مع الشبكة من مكاتبهم و6 مليون من منازلهم. وتشير التقديرات أن هذا العدد تضاعف 4 مرات بحلول عام 2002. ولم تعد البورصة حكرا على المحترفين فقط بل أصبحت في متناول الجميع عبر آلية الاستثمار اليومي (day-trading) وهو يعني البيع والشراء للأسهم في نفس اليوم الواحد بفضل السرعة التي توفرها الإنترنت في المعاملات مع تكاليف السمسرة المنخفضة. (4)
ويمكن تخليص نشاط البورصة في الأعمال التالية:
أ-الأسهم (Actions):
وهي عبارة عن حصص من رأسمال الشركات المسجلة في سوق الأوراق المالية. و الأسهم بهذا المعنى هي جزء مشاع في تلك الشركات. ومن اشترى أسهما في البورصة أصبح شريكا في الشركة المعنية.
وليست كلّ شركة مسجلة في البورصة، إلا إذا كان رأس المال الشركة كبيرا. فهناك اكتتاب لرأسمال شركات تحت التأسيس وهناك شراء وبيع أسهم شركات قائمة بالفعل ويتم تداول أسهمها في البورصة. وهناك شركات تريد أن تزيد في رأسمالها فتصدر أسهما جديدة وكل ذلك يتم بالنسبة للشركات الكبيرة في سوق الأوراق المالية أي البورصة.
ب-السندات (Obligations):
هي عبارة عن قروض قصيرة أو طويلة الأجل تصدرها الحكومات والشركات الهامة وتكون ضامنة لتسديدها عند الأجل مقابل فائدة سنوية محددة. فهي قروض بزيادة في مقابل الزمن، بينما الأسهم جزء مشاع في الشركة.
ج- صناديق الادخار الجماعية : (OPCVM = Titres des Organismes de Placement collectif en Valeur Mobilière)
وهي من أهم وسائل الإدخارالجديدة التي تشهد إقبالا كبيرا من طرف المدخرين الذين يخافون من دخول البورصة شخصيا. فيلجئون إلى أختصاصيين ماليين مثل البنوك وشركات التأمين للتخلّص من مشاكل التسيير. ويقوم الوسطاء بعرض سندات هذه الصناديق إلى المعنيين. ويشتمل نشاط هذه الصناديق على صنفين من السندات:
- سندات لشركات الاستثمار ذات رأس المال المتغير = (SICAV)
- سندات صناديق الادخار الجماعية = ((FCP
د/ الاختيارات: = ((OPTIONS
وهي نوع من المنتوجات المالية المتداولة حديثا في البورصات الدولية. وهي عبارة عن عقود مضاربة بالبيع الآجل بناء على توقعات لصعود الأسعار أو هبوطها بالنسبة للأسهم أو السندات أو السلع أو العملات. ولا يتم فيها القبض أو التسديد.
فالاختيارات هي عقد أتفاق بين طرفين يتم بموجبه إسناد حق الشراء (call) أو البيع (Put)دون الإلزام لسلعة أو سند أو سهم أو عملة معينة بسعر محدد، لمدة زمنية محددة مقابل مبلغ محدد لحق الشراء أو البيع.
ه/ المستقبليات = ((FUTURES
وهي أيضا نوع من عقود المضاربة ((Speculation أي المقامرة بالبيع الآجل بين طرفين ويعطي الحق مع الإلزام غير القابل للرد للمشتري لإتمام الصفقة بالسعر المحدد والوقت المحدد.
وبعد العقد يستطيع المشتري لتسلم البضاعة أو التفويت في موقعه قبل ذلك لطرف ثالث مقابل تعويض يتفق عليه. وتقوم هذه العقود المستقلبية على المضاربة على أسعار الفائدة أو العملات أو مؤشرات البورصات الدولية أو القيم المنقولة أو المواد الأولية.
3/ منافع البورصة ومخاطرها :
لقد أثارت البورصة ولا تزال جدلا كبيرا بين الاقتصاديين وكذالك بين الفقهاء المعاصرين والسبب في ذلك أنها حولت النشاط الاقتصادي من اقتصاد إنتاجي يرتكز على العمل و رأس المال إلى اقتصاد رمزي يقوم على المضاربة (speculation)أي المقامرة على صعود الأسعار وهبوطها دون بذل جهد يذكر لتحقيق الأرباح.
لقد كانت البورصة ولا تزال وراء العديد من الأزمات والهزات المالية التي عصفت باقتصاديات برمتها وساهمت في ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير بينما أدت إلى حصول أرباح فاحشة دون جهد لبعض المرابين. وقد طالب بعض الاقتصاديين بإلغاء هذه السوق نظرا للمخاطر التي تنجم عنها.
ويمكن إجمال ايجابيات البورصة ومخاطرها في النقاط التالية:
أ- الايجابيات أو المنافع:
• تشكل البورصة سوقا دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشترين ويقوم فيها العقود العاجلة والآجلة على الأسهم والسنوات والعملات والبضائع.
• تساهم في تسهيل عملية التمويل للمؤسسات والشركات وتوفر السيولة المطلوبة عند الحاجة عن طريق بيع الأسهم والسندات.
• تمثل أداة لمعرفة تقلبات الأسعار عن طريق حركة العرض والطلب.
ب- السلبيات أو المخاطر:
• التأثير السلبي على النشاط الاقتصادي من جراء هيمنة مجموعة من المحترفين والمرابين والمحتكرين للسلع والأوراق المالية واستخدامهم للحيل والإشاعات وشتى وسائل الخداع و التضليل من أجل التحكم في الأسعار وتحقيق المزيد من الأرباح على حساب الغافلين من صغار التجار والممولين.
• إن العقود الآجلة التي تجري في البورصة ليست في معظمها بيعا حقيقيا ولا شراء حقيقيا بحكم غياب التقابض الفعلي في العرضين أو في أحدهما.
• إن البيع في هذه السوق غالبا هو بيع وهمي أي بيع إرادة ومشيئة وليس بيع سلعة أو حق مالي حقيقي. فهو بيع ما لا يملك الإنسان من عملات وأسهم وسندات وبضائع على أمل شرائه في السوق في الموعد دون قبض الثمن عند العقد. (5)
4/ موقف الفقه الإسلامي من البورصة:
أ- نقاط الاتفاق بين الفقهاء:
• لا خلاف بين الفقهاء على تحريم شراء ة بيع السندات لأنها قرض بزيادة في مقابل الثمن وهذا هو ربا الديون الذي حرمه الإسلام باستثناء الشيخ محمد عبده والأستاذ عبد الوهاب خلاف الذين أجازا التعامل بالسندات بالاعتماد على أن تحديد الفائدة أو الربح أصبح ضرويا لعموم البلوى وفساد ذمم كثير من الناس.
• لا خلاف أيضا على جواز العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها التقابض الفوري، ما لم تكن عقودا على سلع محرمة شرعا.
• لا خلاف أيضا على شراء وبيع أسهم الشركات و المؤسسات حين تكون الأسهم في ملك البائع، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضع تعاملها أو مجال نشاطها محرم شرعا.
ب- نقاط الاختلاف:
• أسهم الشركات التي أصل نشاطها حلال ولكن يشوبه شيء من الحرام، كالتعامل بالربا أو ما شابه ذلك. وقد أجاز البعض شراء وبيع الأسهم في مثل هذه الحالة بشروط منها:
- أن لا تزيد ديون الشركة عن النصف.
- أن لا تزيد نسبة التعامل الربوي لهذه الشركة عن الثلث.
- أن لا تزيد نسبة الفائدة إلى مجمل الأرباح عن 10%.
وهذه الشروط لا تنطبق على الشركات والمؤسسات الأوروبية لأن نسبة التعامل الربوي تصل إلى مئة في المئة والديون قد تصل إلى نفس النسبة أيضا.
• الاختيارات و المستقبليات: وهي العقود الآجلة بأنواعها المختلفة، وفيها أقوال:
- هناك من الفقهاء من يعتبرها تندرج ضمن حكم بيع الإنسان ما لا يملك لحديث الرسول صلى الله عليه و سلم عن حزام بن حكيم "لا تبع ما ليس عندك" وتدخل فيه أحكام فقهية متعددة منها بيع المعدوم وبيع الغرر و بيع معجوز التسليم.
- هناك من الفقهاء من يعتبر هذه العقود تدخل ضمن بيع الكاليء بالكاليء أو الدين بالدين وهو بيع غير جائز لأنه ليس فيه قبض لا سلعة ولا ثمن ولا يندرج ضمن بيع السلم.
- هناك من العلماء من اعتبر هذه العقود تدخل ضمن باب بيع الشيء المملوك دون قبضه من آخر وقد أجمعوا على عدم جواز هذا البيع باستثناء المالكية الذين قصروا المنع على بيع الطعام أما غير الطعام فيجوز بيعها قبل قبضها.
- هناك من العلماء من اعتبر هذه العقود الآجلة تدخل في باب البيع دون تحديد السعر (أو البيع بما ينقطع غليه السعر) وهو البيع الحالي في البورصة حيث تباع السلع الحاضرة بثمن السوق في يوم محدد أو في فترة محددة هي فترة التصفية.
وقد اتفق العلماء على عدم جواز هذا العقد باستثناء الإمام أحمد بن حنبل ورأي ابن تيمية وابن القيم في إجازة البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد لتعارف الناس و لتعاملهم به في كل زمان و مكان وهو ما يسمى ببيع الاستجرار. والمقصود بذلك سعر السوق وقت البيع لا أي سعر في المستقبل.
5/ خلاصة واستنتاجات:
نخلص مما سبق إلى أنّ الاتجاه العام لموقف الفقهاء هو إجازة التعامل مع البورصة فيما يتعلّق بـ:
- أسهم الشركات وصناديق الادخار الجماعية التي لا يغلب على نشاطها الحرام ضمن شروط محددة.
- عقود الاختيارات والمستقبليات إذا كانت تندرج في إطار عقد بيع الاستجرار (أي سعر السوق وقت البيع).
أمّا السندات فهي موضع خلاف والرأي الغالب لحدّ الآن هو عدم إجازتها لأنها تنطوي على فائدة ثابتة.
والمتأمل في آلية عمل البورصة وخاصة في المجتمعات الأوروبية يدرك صعوبة التمييز بين الحلال والحرام في نشاطات الشركات والمؤسسات ونوعية الأسهم التي تتوفر فيها الشروط الشرعية للتعامل بها. كما أنّ الوسطاء والمصارف لا تستطيع تقديم الاستشارات الضرورية في هذا المجال لمن يطلبها. وبالتالي يحتاج الفرد إلى تفقّه حقيقي ودراية دقيقة بالمعاملات المالية في هذه البلدان حتى يستطيع التعامل مع البورصة وتجنّب الحرام قدر الامكان.
وإذا نظرنا إلى واقع الوجود الإسلامي بأوروبا وحاجة المسلمين فيه إلى البورصة يتراءى إلينا مباشرة طرح التساؤلات التالية:
أولا – ما مدى حاجة الوجود الإسلامي بأوروبا فعلا إلى التعامل مع البورصة ؟ أي هل مناك حاجة ماسة للتعامل مع البورصة ؟ وهل هناك من المسامين الذين لهم قدرة مالية وفائض مالي حتى يوجهه إلى الاستثمار في البورصة؟ وإن وجد مثل هؤلاء، كم عددهم وما هي نسبتهم مع مجموع المسلمين في البلاد الأوروبيّة؟
ثانيا- هل يجوز حقيقة توجيه الرأسمال الإسلامي بأوروبا إلى مثل هذه الأسواق والحال أن الوجود الإسلامي ليس له بنية اقتصادية تذكر وهو بحاجة إلى مشروعات تحتيّة أساسية أولا وقبل كل شيء وتعاني أعداد هائلة من شبابه وكهوله حالة من البطالة والعيش عالة على المجتمع الأوروبي، ولولا المنح العائليّة والتغطية الاجتماعية التي توفرها الحكومات الأوروبية لتحوّلت تلك الجموع البشريّة إلى صف المشرّدين والمصنفين بدون مأوى ((SDF ؟
ثالثا- هل يجوز التوسع في فتاوى البورصة ونشاطاتها القائمة على المضاربة (بمعنى المقامرة) في الوقت الذي ينادي فيه أصوات أوروبية وغربية عديدة بضرورة إلغاء هذه السوق الوحشية التي سببت في انهيار أوضاع اقتصادية وعملات محليّة ومؤسسات كبرى بين عشيّة وضحاها نتيجة تآمر حفنة من المرابين والمحتكرين ؟
رابعا- هل يجوز فتح الباب على مصراعيه أمام الأطفال والشباب وربات البيوت الذين دخلت البورصة عليهم وما تفتأ تسلّط إغراءاتها في تحقيق الأرباح السهلة دون جهد ومعاناة مما يؤثر سلبا على الحياة الفرديّة والأسريّة؟
خامسا- هل هناك مؤسسات أوروبيّة بالبورصة يتوافر فيها الحدّ الأدنى من الضوابط الشرعيّة حتّى نبيح التعامل معها وشراء أسهم فيها؟
وبناء عليه يجدر الحثّ على توجيه الاستثمار في القطاعات الإنتاجية بدل المضاربة الماليّة التي لا تخفى أخطارها على الفرد والأسرة والمجتمع. وهو ما يحتاج إلى وعي استثماري جديد يضع في الاعتبار المصالح الاستراتيجية للوجود الإسلامي في هذه الديار.
ومما لا شك فيه أن هذا الوعي تساهم في تشكله في المقام الأول فتاوى العلماء واجتهاداتهم.
والله ولي التوفيق
هوامش:
(1) البورصة هي مكان للتبادل، وفيها يمكن تبادل كل شيء. ففيها يتم بيع وشراء المواد الغذائية (مثل البن والأرز و الذرة...)، والمواد الأولية ( مثل البترول والقطن والنحاس...)، والسندات المالية( مثل سندات الأسهم والالتزامات...)، والعملات (مثل الدولار والين واليورو...)، وحتى معدلات الفائدة. كل شيء قابل للتبادل والمتاجرة.
(2) انظر: البحث في الشأن الإسلامي بأوروبا - سلسلة الدراسات المنهجية - د. عبد المجيد النجار – مركز البحوث والدراسات بالمهد الأوروبي للعلوم الإنسانية- فرنسا.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) www.home4arab.com
(5) انظر: قرار المجمع الفقهي الإسلامي حول البورصة - الدورة السابعة 1404 هـ.