بقلم : يسري عبد الغني عبد الله*
مدخل :
في هذه السطور نحاول أن نفرق بين التدابير الاحترازية والعقوبة وبمعنى آخر نوضح أوجه الاختلاف بينهما ، ثم نشرح كيف يكون العقاب هو النتيجة المنطقية لارتكاب الجريمة ، وبعد ذلك نتحدث عن النظام العقابي في نطاق الشريعة الإسلامية ، موضحين أن للعقاب أهدافاً ووظائف ، والمقصود بأهداف العقاب هو البحث في أساس مشروعية حق العقاب ، ومن وظائف العقوبة : الوظيفة الأخلاقية ، والوظيفة النفعية الاجتماعية ، وقد عقدنا مقارنة بين ذلك وبين ما جاء في نطاق الشريعة الإسلامية .
مؤكدين على أن العقوبة في الشريعة الإسلامية لها خصائص منها : أن العقوبة جزاء ومسؤولية ، وأنه لا جريمة ولا عقوبة بغير نص صريح واضح .
بين التدابير الاحترازية والعقوبة :
التدابير الاحترازية هي إجراءات تتخذ حيال الجاني بهدف إزالة أسباب الإجرام لديه ، وتأهيله اجتماعياً ، وهذه التدابير تطبق في الحالات التي تستحيل فيها تطبيق عقوبة على المجرم ، لعدم توافر شروط المسؤولية الجنائية تجاهه ، أو في حالات أخرى تكمل العقوبة ، وذلك في الحالات التي لا تجدي فيها العقوبة في إصلاح المحكوم عليه ، وتهذيبه .
أوجه الاختلاف :
وهناك أوجه للاختلاف بين التدابير الاحترازية ، والعقوبة ، يمكن لنا أن نوضحها فيما يلي : -
أولاً : - العقوبة تتضمن عنصري الزجر والإيلام ، بينما التدابير الاحترازية تهدف فقط إلى إزالة أسباب الإجرام ، وبالتالي فهي : علاجية أو وقائية تعبر عن مضمون تربوي أو إصلاحي أو تهذيبي ،بينما تعبر العقوبة عن مضمون أخلاقي .
ثانياً : - عند توافر المسؤولية الجنائية تطبق العقوبة ، حيث تعتبر العقوبة نتيجة قانونية لارتكاب الجرم ، أما التدابير الاحترازية فهي تطبق عادة في حالات انعدام المسؤولية ، وتطبق بمناسبة الجريمة المرتكبة ، وليس بسببها .
ثالثاً : - العقوبة تكون محددة المدة ، أما التدابير الاحترازية فتتوقف مدتها على درجة تأهيل المذنب ، وعلاجه من أسباب الإجرام .
رابعاً : - لا يعد التدبير سابقة جنائية ، على العكس من ذلك العقوبة حيث يتحمل المحكوم عليه آثار جنائية في الحاضر والمستقبل.
خامساً : - الدعوى الجنائية علنية ، أما بالنسبة للحكم بالتدبير فيمكن أن تقيد علانية جلسات نظر الدعوى بالقدر الذي يتلاءم مع الظروف النفسية للجاني . (1)
العقاب نتيجة منطقية للجريمة :
العقاب هو النتيجة المنطقية لثبوت الجريمة ، أو بمعنى آخر هو الجزاء الجنائي للجريمة .
وعليه تكون وظيفة العقاب وظيفة أخلاقية ، أي أن الجزاء إنما وضع لتحقيق العدالة ، وذلك لأنه مقابل الذنب الذي اقترفه المجرم بارتكابه جريمة عن قصد أو اختيار ( أي عن إدراك ووعي ) .
وقد أقرت المدرسة التقليدية القيمة النفعية للعقاب ، وأنه يصلح لمنع المجرم من العودة إلى الإجرام .
وعلى العكس من ذلك نجد المدرسة الوضعية تنكر حرية الاختيار ، وبالتالي تنكر فكرة العقاب ، وأخذت بما يسمى ( تدابير الأمن ) كوسيلة لمكافحة الإجرام سواء كان الجاني مسئولاً مسؤولية جنائية ، أو كان عديم الأهلية ، أو ناقصها ، وبذلك لم تأخذ بفكرة العدالة في المجال الجنائي ، وإنما أخذت بما يسمى ( الحماية الجنائية ) .
أما المدارس التوفيقية التي تلت المدرسة الوضعية ، فقد أخذت بالتوفيق بين فكرتي العقاب والتدابير ، فاحتفظت بالعقوبات للمجرمين المسئولين مسؤولية جنائية ، بينما اختصت غير المسئولين جنائياً ، وناقصي الأهلية بنظام التدابير الملائمة لكل طائفة منهم .
ونذكر هنا أن المؤتمر الدولي للدفاع الاجتماعي الذي عقد في العاصمة البلجيكية ( بروكسل ) سنة 1910 م ، أقر فكرة الازدواج ، بين العقوبات والتدابير ، وذلك بالنسبة إلى طوائف معينة من المجرمين الشواذ من الناحية العقلية ، ومعتادي الإجرام ، فالعقوبة تستوفي أغراض العدالة ، وبالتدابير تتحقق الغايات النفعية أي أغراض الدفاع الاجتماعي . (2)
النظام العقابي في نطاق الشريعة الإسلامية :
الشريعة الإسلامية تعتمد على حرية الاختيار في محاسبة المجرم عن الجرم الذي اقترفه ، ولذلك فهي تتخذ من العقوبة أداة رادعة كي لا يعود المجرم مرة أخرى للإجرام ، وكذلك ردع غيره مما تسول له نفسه اقتراف مثل هذا الجرم أو غيره ، أي يتحقق الردع الخاص ، ومعه الردع العام .
وبمعنى آخر أن الشريعة الإسلامية تتوخى من العقوبة غرضها في الردع الخاص ، والردع العام ، ومن أجل هذا قررت العقوبات البدنية ، وجعلتها محوراً للنظام العقابي ، حتى يرتدع بها الجاني فلا يعود ، وغير الجاني فلا يقدم على الجرم ابتداءً .
يقول المولى سبحانه وتعالى : { من قتل نفساً بغير نفس ، أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً . } [ المائدة : 32 ] .
والمعنى : أنه من قتل نفساً بغير أن تكون قتلت نفساً ، أو بغير أن تفسد في الأرض فساداً يستوجب القتل ، كمن قتل الناس جميعاً، ومن أحياها أي ومن كان سبباً في إحيائها ، كان كأنه أحيا الناس جميعاً .(3).
ويقول جل شأنه : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، فمن عفا له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ، وأداء إليه بإحسان ،ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } [ البقرة : 178 - 179 ] .
والمعنى : يا أيها المؤمنون كتب الله عليكم في القتلى القصاص ، أو القود وهو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه ، ففي حالة العفو ، وإبدال الدية بالقصاص ، على من عفا أن يحسن المطالبة بها ، وعلى المعفو عنه أن يحسن أداءها ، ذلك التخيير بين الاقتصاص ، وقبول الدية تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن تعدى ذلك له العذاب الأليم .
قال الأصوليون : قوله الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، لا يدل على منع قتل الحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ، والمؤمن بالكافر ، وإنما نزلت الآية الكريمة لما تحاكم حيان من العرب إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت بينهما حروب ، فأقسم أحد الحيين أن يقتل بكل عبد حراً ، وبكل أنثى ذكراً ، فنزلت الآية تأمرهم بأن يكون الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى . (4)
وفي سن القصاص حياة للناس ، لأنه يرد العادين ، فلا يشيع القتل بين العالمين .
أي أن من يقتص منه ، يكون عبرة لمن يحاول قتل الآخرين ، فلا يفكر في ذلك الباتة .
العقاب بين الأهداف والوظائف :
المقصود بالهدف من العقاب هو البحث في أساس مشروعية حق العقاب .
وقد ذهبت المدرسة التقليدية إلى القول بأن الهدف من العقوبة هو : تطهير المجرم من إثمه ، وتكفيره عن خطيئته ، وتهدئة شعور السخط العام ، وتحقيق العدالة ، وفي النهاية يؤدي إلى حماية المجتمع من الانحراف .
ويمكن لنا أن نحصر الوظائف التقليدية للعقوبة في وظيفتين رئيسيتين : -
الوظيفة الأولى : وظيفة أخلاقية :
مقتضاها التكفير والتطهير من جهة ، وتحقيق العدالة الإنسانية من جهة أخرى ، أي يكفر الجاني عن إثمه الذي ارتكبه من جهة ، وإرضاء الشعور العام من جهة أخرى ، وهذا يقتضي أن تنطوي العقوبة على معنى الإيلام ، وأن تكون متناسبة في شدتها مع درجة المسلك الإجرامي .
الوظيفة الثانية : وظيفة نفعية للمجتمع :
وهي الدفاع الاجتماعي ، أي حماية المجتمع من شرور الإجرام والانحراف ، وذلك عن طريق منع المجرم ذاته من العودة إلى الإجرام ، بزجره أو بإصلاحه حتى لا يعود إلى طريق الانحراف ، وبالتالي منع غير المجرم من أن يقتدي بمرتكب الجريمة عن طريق الترهيب والردع العام ، وبذلك يجب أن تكون العقوبة متناسبة في شدتها مع درجة جسامة الجريمة المقترفة .
والوظيفتان السابقتان تدعوان إلى ضرورة وأهمية محاولة إصلاح وتقويم المجرم ، أي تحويله إلى عضو صالح في المجتمع ، لأن التكفير عن الذنب يجب أن يقترن في فحواه بمحاولة التقويم والإصلاح .(5)
أهداف ووظائف العقوبة في نطاق الشريعة الإسلامية :
وفي نطاق الشريعة الإسلامية نجد استناد العقوبة إلى معنى المنفعة الاجتماعية ، والعدالة .
فالحدود التي هي العقوبة المقررة حقاً لله عز وجل . فيها حق الله تعالى غالب على حق العباد ، ولذلك فالعدوان عليها هو عدوان على الصالح العام ، وذلك كحد السرقة ، وحد الزنا ، وحد الحرابة ، وحد البغي ، وحد الردة ، فالعقوبة في هذه الحدود تستند إلى معنى المنفعة الاجتماعية ، والتي هدفها الأول حماية المجتمع من الانحراف والإجرام .
فالقصاص على سبيل المثال يستند في أصله إلى معنى العدالة ، فهو يتمثل في مقابلة ضرر تضرر مثله ، وفي ذلك إرضاء لشعور المجني عليه أو لذويه ، أو إرضاء للشعور العام ، وهو مقابل عادل برد فعل جريمة لدى كل منهما .
يقول المولى جل شأنه : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو كفارة له ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون .} [ المائدة : 45 ]
والمعنى هنا : لقد أنزل الله تعالى التوراة فيها هداية إلى الحق ، وفرض على اليهود فيها أن النفس تقتل بالنفس ، والعين تقلع بالعين . . . إلخ ، وأن الجروح قصاص ، أي ذات قصاص ، أي يقتص من جانبها بأن يفعل به مثل ما فعله بالمجني عليه إن أمكن ، فإذا عفا صاحب الحق فهذا كفارة للجاني يسقط عنه به ما لزمه .(6)
وهذا هو أروع صور العدالة في العقاب ، فلعلنا نعي ذلك جيداً وندركه .
وبذلك نستطيع القول : إن هناك اتفاقاً بين الشريعة الإسلامية ، وبين القوانين الجنائية الوضعية ، من أن العقاب هو العدالة .
خصائص العقوبة :
وبعد أن تحدثنا عن أهداف ووظائف العقوبة ، وكيف كانت في نطاق الشريعة الإسلامية ، نجد أنه من المفيد أن نختتم كلامنا بحديث موجز عن خصائص العقوبة : -
أولاً : العقوبة جزاء :
في تعبر عن مقابل جريمة معينة ، ومسؤولية مجرم عن هذه الجريمة ، وهذا يقتضي ألا توقع عقوبة بالمعنى إلا حيث توجد جريمة لها أركانها ، ونص عليها القانون ، وحيث ثبت قيام مسؤولية المتهم بهذه الجريمة جنائياً ، كما تقتضي أن تقاس العقوبة من حيث شدتها بما يتناسب مع مقدار حجم الجريمة ، ودرجة مسؤولية المجرم عنها .
ثانياً : شرعية العقوبة :
بمعنى أنه لا جريمة ، ولا عقوبة بغير نص صريح واضح ، ويلزم في شرعية العقوبة أن تكون واحدة بالنسبة لجميع المجرمين ، بمعنى أن الجميع يتساوون عند تشابه ظروف الجريمة ، والمسؤولية في الخضوع لذات العقوبة ، دون اعتبار لتفاوتهم من حيث المكانة الاجتماعية ، ويعتبر هذا مظهر عام من مظاهر مبدأ مساواة الناس أمام القانون . (7)
ثالثاً : شخصية العقوبة :
بمعنى أنها لا تصيب إلا شخص المجرم الذي ثبتت إدانته بالأدلة القاطعة التي لاشك فيها ، تصيبه هو فقط دون غيره من الناس ، وذلك لأن الإنسان لا يسأل إلا عما جنت يداه ، أي ما أحدثه هو بنشاطه الواعي ، وإرادته الكاملة ، من الوقائع الإجرامية ، وفي هذا احترام لمبدأ الحرية الفردية ، ما دام العقاب لا ينبغي أن ينال شخصاً آخر غير الجاني . (
وكل هذه الخصائص للعقوبة نجدها واضحة ، صريحة في نطاق الشريعة الإسلامية .
والله ولي التوفيق ،
ــــــــــــــــ
الأسانيد و الهوامش
(1) نادرة محمود سالم ، السياسة الجنائية المعاصرة ومبادئ الدفاع الاجتماعي من منظور إسلامي ، مكتبة النهضة العربية ، القاهرة ، 1995 م ، ص 101 ، وما بعدها بتصرف من عندنا .
(2) الأمم المتحدة ، مؤتمر الدفاع الاجتماعي ، المنعقد في بروكسل ، سنة 1910 م ، فاعليات المؤتمر ، ضمن مطبوعات الأمم المتحدة ، بمكتبة كاتب السطور .
(3) محمد فريد وجدي ، المصحف المفسر ، مكتبة دار الشعب ، القاهرة ، 1974 م ، تفسير سورة المائدة .
(4) محمد فريد وجدي ، مرجع سابق ، تفسير سورة البقرة .
(5) نادرة محمود سالم ، مرجع سابق ، ص 104 ، وما بعدها ، بتصرف من عندنا .
(6) محمد فريد وجدي ، مرجع سابق ، تفسير سورة المائدة .
(7) نادرة محمود سالم ، مرجع سابق ، ص 106 ، وما بعدها ، بتصرف من عندنا .
( عبد المهيمن بكر ، القسم الخاص في قانون العقوبات ، القاهرة ، 1999 م ، ص 15 ، وما بعدها ، بتصرف من عندنا .
ـــــــــــ
*باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية وخبير في الدفاع الاجتماعي
ayusri_a@hotmail.com
--------------------
هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
مدخل :
في هذه السطور نحاول أن نفرق بين التدابير الاحترازية والعقوبة وبمعنى آخر نوضح أوجه الاختلاف بينهما ، ثم نشرح كيف يكون العقاب هو النتيجة المنطقية لارتكاب الجريمة ، وبعد ذلك نتحدث عن النظام العقابي في نطاق الشريعة الإسلامية ، موضحين أن للعقاب أهدافاً ووظائف ، والمقصود بأهداف العقاب هو البحث في أساس مشروعية حق العقاب ، ومن وظائف العقوبة : الوظيفة الأخلاقية ، والوظيفة النفعية الاجتماعية ، وقد عقدنا مقارنة بين ذلك وبين ما جاء في نطاق الشريعة الإسلامية .
مؤكدين على أن العقوبة في الشريعة الإسلامية لها خصائص منها : أن العقوبة جزاء ومسؤولية ، وأنه لا جريمة ولا عقوبة بغير نص صريح واضح .
بين التدابير الاحترازية والعقوبة :
التدابير الاحترازية هي إجراءات تتخذ حيال الجاني بهدف إزالة أسباب الإجرام لديه ، وتأهيله اجتماعياً ، وهذه التدابير تطبق في الحالات التي تستحيل فيها تطبيق عقوبة على المجرم ، لعدم توافر شروط المسؤولية الجنائية تجاهه ، أو في حالات أخرى تكمل العقوبة ، وذلك في الحالات التي لا تجدي فيها العقوبة في إصلاح المحكوم عليه ، وتهذيبه .
أوجه الاختلاف :
وهناك أوجه للاختلاف بين التدابير الاحترازية ، والعقوبة ، يمكن لنا أن نوضحها فيما يلي : -
أولاً : - العقوبة تتضمن عنصري الزجر والإيلام ، بينما التدابير الاحترازية تهدف فقط إلى إزالة أسباب الإجرام ، وبالتالي فهي : علاجية أو وقائية تعبر عن مضمون تربوي أو إصلاحي أو تهذيبي ،بينما تعبر العقوبة عن مضمون أخلاقي .
ثانياً : - عند توافر المسؤولية الجنائية تطبق العقوبة ، حيث تعتبر العقوبة نتيجة قانونية لارتكاب الجرم ، أما التدابير الاحترازية فهي تطبق عادة في حالات انعدام المسؤولية ، وتطبق بمناسبة الجريمة المرتكبة ، وليس بسببها .
ثالثاً : - العقوبة تكون محددة المدة ، أما التدابير الاحترازية فتتوقف مدتها على درجة تأهيل المذنب ، وعلاجه من أسباب الإجرام .
رابعاً : - لا يعد التدبير سابقة جنائية ، على العكس من ذلك العقوبة حيث يتحمل المحكوم عليه آثار جنائية في الحاضر والمستقبل.
خامساً : - الدعوى الجنائية علنية ، أما بالنسبة للحكم بالتدبير فيمكن أن تقيد علانية جلسات نظر الدعوى بالقدر الذي يتلاءم مع الظروف النفسية للجاني . (1)
العقاب نتيجة منطقية للجريمة :
العقاب هو النتيجة المنطقية لثبوت الجريمة ، أو بمعنى آخر هو الجزاء الجنائي للجريمة .
وعليه تكون وظيفة العقاب وظيفة أخلاقية ، أي أن الجزاء إنما وضع لتحقيق العدالة ، وذلك لأنه مقابل الذنب الذي اقترفه المجرم بارتكابه جريمة عن قصد أو اختيار ( أي عن إدراك ووعي ) .
وقد أقرت المدرسة التقليدية القيمة النفعية للعقاب ، وأنه يصلح لمنع المجرم من العودة إلى الإجرام .
وعلى العكس من ذلك نجد المدرسة الوضعية تنكر حرية الاختيار ، وبالتالي تنكر فكرة العقاب ، وأخذت بما يسمى ( تدابير الأمن ) كوسيلة لمكافحة الإجرام سواء كان الجاني مسئولاً مسؤولية جنائية ، أو كان عديم الأهلية ، أو ناقصها ، وبذلك لم تأخذ بفكرة العدالة في المجال الجنائي ، وإنما أخذت بما يسمى ( الحماية الجنائية ) .
أما المدارس التوفيقية التي تلت المدرسة الوضعية ، فقد أخذت بالتوفيق بين فكرتي العقاب والتدابير ، فاحتفظت بالعقوبات للمجرمين المسئولين مسؤولية جنائية ، بينما اختصت غير المسئولين جنائياً ، وناقصي الأهلية بنظام التدابير الملائمة لكل طائفة منهم .
ونذكر هنا أن المؤتمر الدولي للدفاع الاجتماعي الذي عقد في العاصمة البلجيكية ( بروكسل ) سنة 1910 م ، أقر فكرة الازدواج ، بين العقوبات والتدابير ، وذلك بالنسبة إلى طوائف معينة من المجرمين الشواذ من الناحية العقلية ، ومعتادي الإجرام ، فالعقوبة تستوفي أغراض العدالة ، وبالتدابير تتحقق الغايات النفعية أي أغراض الدفاع الاجتماعي . (2)
النظام العقابي في نطاق الشريعة الإسلامية :
الشريعة الإسلامية تعتمد على حرية الاختيار في محاسبة المجرم عن الجرم الذي اقترفه ، ولذلك فهي تتخذ من العقوبة أداة رادعة كي لا يعود المجرم مرة أخرى للإجرام ، وكذلك ردع غيره مما تسول له نفسه اقتراف مثل هذا الجرم أو غيره ، أي يتحقق الردع الخاص ، ومعه الردع العام .
وبمعنى آخر أن الشريعة الإسلامية تتوخى من العقوبة غرضها في الردع الخاص ، والردع العام ، ومن أجل هذا قررت العقوبات البدنية ، وجعلتها محوراً للنظام العقابي ، حتى يرتدع بها الجاني فلا يعود ، وغير الجاني فلا يقدم على الجرم ابتداءً .
يقول المولى سبحانه وتعالى : { من قتل نفساً بغير نفس ، أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً . } [ المائدة : 32 ] .
والمعنى : أنه من قتل نفساً بغير أن تكون قتلت نفساً ، أو بغير أن تفسد في الأرض فساداً يستوجب القتل ، كمن قتل الناس جميعاً، ومن أحياها أي ومن كان سبباً في إحيائها ، كان كأنه أحيا الناس جميعاً .(3).
ويقول جل شأنه : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، فمن عفا له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ، وأداء إليه بإحسان ،ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } [ البقرة : 178 - 179 ] .
والمعنى : يا أيها المؤمنون كتب الله عليكم في القتلى القصاص ، أو القود وهو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه ، ففي حالة العفو ، وإبدال الدية بالقصاص ، على من عفا أن يحسن المطالبة بها ، وعلى المعفو عنه أن يحسن أداءها ، ذلك التخيير بين الاقتصاص ، وقبول الدية تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن تعدى ذلك له العذاب الأليم .
قال الأصوليون : قوله الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، لا يدل على منع قتل الحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ، والمؤمن بالكافر ، وإنما نزلت الآية الكريمة لما تحاكم حيان من العرب إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت بينهما حروب ، فأقسم أحد الحيين أن يقتل بكل عبد حراً ، وبكل أنثى ذكراً ، فنزلت الآية تأمرهم بأن يكون الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى . (4)
وفي سن القصاص حياة للناس ، لأنه يرد العادين ، فلا يشيع القتل بين العالمين .
أي أن من يقتص منه ، يكون عبرة لمن يحاول قتل الآخرين ، فلا يفكر في ذلك الباتة .
العقاب بين الأهداف والوظائف :
المقصود بالهدف من العقاب هو البحث في أساس مشروعية حق العقاب .
وقد ذهبت المدرسة التقليدية إلى القول بأن الهدف من العقوبة هو : تطهير المجرم من إثمه ، وتكفيره عن خطيئته ، وتهدئة شعور السخط العام ، وتحقيق العدالة ، وفي النهاية يؤدي إلى حماية المجتمع من الانحراف .
ويمكن لنا أن نحصر الوظائف التقليدية للعقوبة في وظيفتين رئيسيتين : -
الوظيفة الأولى : وظيفة أخلاقية :
مقتضاها التكفير والتطهير من جهة ، وتحقيق العدالة الإنسانية من جهة أخرى ، أي يكفر الجاني عن إثمه الذي ارتكبه من جهة ، وإرضاء الشعور العام من جهة أخرى ، وهذا يقتضي أن تنطوي العقوبة على معنى الإيلام ، وأن تكون متناسبة في شدتها مع درجة المسلك الإجرامي .
الوظيفة الثانية : وظيفة نفعية للمجتمع :
وهي الدفاع الاجتماعي ، أي حماية المجتمع من شرور الإجرام والانحراف ، وذلك عن طريق منع المجرم ذاته من العودة إلى الإجرام ، بزجره أو بإصلاحه حتى لا يعود إلى طريق الانحراف ، وبالتالي منع غير المجرم من أن يقتدي بمرتكب الجريمة عن طريق الترهيب والردع العام ، وبذلك يجب أن تكون العقوبة متناسبة في شدتها مع درجة جسامة الجريمة المقترفة .
والوظيفتان السابقتان تدعوان إلى ضرورة وأهمية محاولة إصلاح وتقويم المجرم ، أي تحويله إلى عضو صالح في المجتمع ، لأن التكفير عن الذنب يجب أن يقترن في فحواه بمحاولة التقويم والإصلاح .(5)
أهداف ووظائف العقوبة في نطاق الشريعة الإسلامية :
وفي نطاق الشريعة الإسلامية نجد استناد العقوبة إلى معنى المنفعة الاجتماعية ، والعدالة .
فالحدود التي هي العقوبة المقررة حقاً لله عز وجل . فيها حق الله تعالى غالب على حق العباد ، ولذلك فالعدوان عليها هو عدوان على الصالح العام ، وذلك كحد السرقة ، وحد الزنا ، وحد الحرابة ، وحد البغي ، وحد الردة ، فالعقوبة في هذه الحدود تستند إلى معنى المنفعة الاجتماعية ، والتي هدفها الأول حماية المجتمع من الانحراف والإجرام .
فالقصاص على سبيل المثال يستند في أصله إلى معنى العدالة ، فهو يتمثل في مقابلة ضرر تضرر مثله ، وفي ذلك إرضاء لشعور المجني عليه أو لذويه ، أو إرضاء للشعور العام ، وهو مقابل عادل برد فعل جريمة لدى كل منهما .
يقول المولى جل شأنه : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو كفارة له ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون .} [ المائدة : 45 ]
والمعنى هنا : لقد أنزل الله تعالى التوراة فيها هداية إلى الحق ، وفرض على اليهود فيها أن النفس تقتل بالنفس ، والعين تقلع بالعين . . . إلخ ، وأن الجروح قصاص ، أي ذات قصاص ، أي يقتص من جانبها بأن يفعل به مثل ما فعله بالمجني عليه إن أمكن ، فإذا عفا صاحب الحق فهذا كفارة للجاني يسقط عنه به ما لزمه .(6)
وهذا هو أروع صور العدالة في العقاب ، فلعلنا نعي ذلك جيداً وندركه .
وبذلك نستطيع القول : إن هناك اتفاقاً بين الشريعة الإسلامية ، وبين القوانين الجنائية الوضعية ، من أن العقاب هو العدالة .
خصائص العقوبة :
وبعد أن تحدثنا عن أهداف ووظائف العقوبة ، وكيف كانت في نطاق الشريعة الإسلامية ، نجد أنه من المفيد أن نختتم كلامنا بحديث موجز عن خصائص العقوبة : -
أولاً : العقوبة جزاء :
في تعبر عن مقابل جريمة معينة ، ومسؤولية مجرم عن هذه الجريمة ، وهذا يقتضي ألا توقع عقوبة بالمعنى إلا حيث توجد جريمة لها أركانها ، ونص عليها القانون ، وحيث ثبت قيام مسؤولية المتهم بهذه الجريمة جنائياً ، كما تقتضي أن تقاس العقوبة من حيث شدتها بما يتناسب مع مقدار حجم الجريمة ، ودرجة مسؤولية المجرم عنها .
ثانياً : شرعية العقوبة :
بمعنى أنه لا جريمة ، ولا عقوبة بغير نص صريح واضح ، ويلزم في شرعية العقوبة أن تكون واحدة بالنسبة لجميع المجرمين ، بمعنى أن الجميع يتساوون عند تشابه ظروف الجريمة ، والمسؤولية في الخضوع لذات العقوبة ، دون اعتبار لتفاوتهم من حيث المكانة الاجتماعية ، ويعتبر هذا مظهر عام من مظاهر مبدأ مساواة الناس أمام القانون . (7)
ثالثاً : شخصية العقوبة :
بمعنى أنها لا تصيب إلا شخص المجرم الذي ثبتت إدانته بالأدلة القاطعة التي لاشك فيها ، تصيبه هو فقط دون غيره من الناس ، وذلك لأن الإنسان لا يسأل إلا عما جنت يداه ، أي ما أحدثه هو بنشاطه الواعي ، وإرادته الكاملة ، من الوقائع الإجرامية ، وفي هذا احترام لمبدأ الحرية الفردية ، ما دام العقاب لا ينبغي أن ينال شخصاً آخر غير الجاني . (
وكل هذه الخصائص للعقوبة نجدها واضحة ، صريحة في نطاق الشريعة الإسلامية .
والله ولي التوفيق ،
ــــــــــــــــ
الأسانيد و الهوامش
(1) نادرة محمود سالم ، السياسة الجنائية المعاصرة ومبادئ الدفاع الاجتماعي من منظور إسلامي ، مكتبة النهضة العربية ، القاهرة ، 1995 م ، ص 101 ، وما بعدها بتصرف من عندنا .
(2) الأمم المتحدة ، مؤتمر الدفاع الاجتماعي ، المنعقد في بروكسل ، سنة 1910 م ، فاعليات المؤتمر ، ضمن مطبوعات الأمم المتحدة ، بمكتبة كاتب السطور .
(3) محمد فريد وجدي ، المصحف المفسر ، مكتبة دار الشعب ، القاهرة ، 1974 م ، تفسير سورة المائدة .
(4) محمد فريد وجدي ، مرجع سابق ، تفسير سورة البقرة .
(5) نادرة محمود سالم ، مرجع سابق ، ص 104 ، وما بعدها ، بتصرف من عندنا .
(6) محمد فريد وجدي ، مرجع سابق ، تفسير سورة المائدة .
(7) نادرة محمود سالم ، مرجع سابق ، ص 106 ، وما بعدها ، بتصرف من عندنا .
( عبد المهيمن بكر ، القسم الخاص في قانون العقوبات ، القاهرة ، 1999 م ، ص 15 ، وما بعدها ، بتصرف من عندنا .
ـــــــــــ
*باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية وخبير في الدفاع الاجتماعي
ayusri_a@hotmail.com
--------------------
هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها