كتب / محمود المنير :
الإنسان بما وهبه الله تعالى من مواهب وطاقات هو الصانع الحقيقي لخطة التنمية في كل نهضة قامت على مر التاريخ، و الله تعالى جعل أركان الإسلام الخمسة منطلقات لبناء هذا الإنسان القائم على تنفيذ هذه النهضة عبر خطط التنمية التي تضعها الدول والمؤسسات والهيئات لتحقيق تقدمها في شتى المجالات ، والحج الركن الخامس من أركان الإسلام مدرسة تربوية يتعلم فيها كل حاج أسس كثيرة إذا ما أتقنها وتخلق بها أجاد تنفيذ كل خطط التنمية التي من شأنها أن ترفع شأنه وشأن أمته ومجتمعه , فما أن ينتهي من أداء هذا الركن إلا وقد حاز على الكثير من القيم وجنى العديد من الثمار بتنقله وتقلبه بين مشاعر الحج.
وفى هذه السطور نطرح جملة من المقاصد التنموية التي يغرسها الحج فيمن يحج إلى بيت الله الحرام لأداء هذا الركن العظيم ليصبح فارسا من فرسان التنمية في حياته.
التوقيف والالتزام بالخطة :
لنجاح أي خطة تنموية تضعها دولة أو مؤسسة من المؤسسات ينبغي الالتزام بجداولها التشغيلية ومراحها بدقة التي رسمت وفق الإطار الزمني التي حدد لتنفيذ مشاريعها والحج يعلمنا ذلك فالحج عبادة توقيفية فلا اجتهاد فيها مع النصوص الشرعية فهي حق لله عزوجل لا حق لأحد فيها فهو المشرع لهذه العبادات وحده كما قال تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)( الشورى:21), وهذا نراه جلياً وواضحاً في الحج , فالطواف والسعي سبعة أشواط والرمي بسبع حصيات والوقوف بعرفة في يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة إلى غير ذلك.
ولا حق لأحد أن يغير أو يبدل ما شرعه الله وهذا يغرس في النفس صدق العبادة وإخلاصها لله عز وجل وكمال التسليم لأمره وأن الشرع ما شرعه الله لا تلك البدع والضلالات التي هي من صنع البشر .
التعلق بالهدف المقصود من العمل :
فنحاج العمل يكون بتعلق وتركيز المنفذ بمقصوده وتشبثه به والوصول إليه وتحقيق مقاصده والحج يُؤصل معنى مهم في قلب كل حاج فمنذ شروع الحاج في بداية الحج بلبس ملابس الإحرام وهو يؤكد في نفسه صلته بالله وحده ومرجعه إليه وأن لا معبود سواه يُعبَد بحق فله يصرف جميع العبادات وإليه يتقرب بجميع الطاعات والقربات.
وإذا تأملنا باقي المناسك من طواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي الجمار وغيرها لوجدناها تؤكد ذلك المعنى وتؤكد حقيقة قول الله تعالى قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام: 162)
ولترسيخ هذا المقصد كذلك كان توحيد شعار الحج (لبيك اللهم لبيك) شعار التوحيد , يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم: (فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)(صحيح مسلم ج2/ ص887), فهي تربية للنفس على توحيد الله والإخلاص له ونبذ كل من سواه من المعبودات الباطلة .
ولذا يقول ابن القيم في معنى هذه التلبية " أخلصت لبي وقلبي لك وجعلت لك لبي وخالصتي". (حاشية ابن القيم على سنن أبي داود ج5/ص176).
التوازن في السير بالأهداف :
فمن الأسباب الداعية لنجاح تحقيق خطط التنمية التوازن في السير بأهدافها ومراحلها وفى رحلة الحج يتعلم الحاج كيف يجمع بين مصالحه الدنيوية من بيع وشراء وغيرها وبين مقاصد هذه العبادة من ذكر وصلاة ودعاء وغير ذلك .
والمتأمل في رحلة الحج يجد أن الحاج يعيش بين مباحات لا غنى له عنها وواجبات لابد له من عملها ومحرمات يحرم عليه فعلها وقد منع منها اختباراً وابتلاء على صبره عنها .
وفي أيام الحج تتأصل هذه المبادئ وترسخ ليعيش المسلم متوازناً في حياته بلا إجحاف ولا تقصير.
تحقيق مبدأ المساواة :
فخطة التنمية التي لا تحقق المساواة وتؤسس تكافؤ الفرص وتكافئ المحسن وتعاقب المخطئ هي خطط فاشلة ولن تحقق أهدافها وستكون مرتعا للواسطة والمحسوبية وأرباب الفساد وفى الحج يتجلى مبدأ المساواة واضحاً حيث يجتمع المسلمون من كل جنس ولغة ولون ووطن في صعيد واحد لباسهم واحد وعملهم واحد ومكانهم واحد ووقتهم واحد وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر , وحدة في الهدف , ووحدة في العمل , ووحدة في القول.
عن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال:"إن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى" (مسند أحمد بن حنبل ج5:ص).
وللحديث بقية مع الحج وقيم التنمية ...
قيم التنمية البشرية التي يغرسها الحج في نفوس حجاج بيت الله الحرام ، وهى قيم أحوج ما تكون لها الأمة لاسيما وأن الملايين يفدون كل عام على الله لأخذ هذه الدورة في التنمية البشرية راقية القيم والمفاهيم التي من شانها أن تحدث نهضة مستدامة في أمة التوحيد وتسير بها نحو آفاق ريادة البشرية من جديد ومن جملة هذه القيم :
المداومة على العبادة طريق النهضة :
من أبرز ما يغرسه الحج في الحاج ؛ الدوام والاستمرار في العبادة بعد الحج فالحاج في خلال هذه الأيام القلائل يتنقل من عبادة إلى عبادة فما أن تنتهي عبادة إلا وتبدأ عبادة أخرى.
وبهذه الأعمال تتربى النفس على العبادة والتي سرعان ما تصبح صفة وخلق يتحول إلى ديمومته في إصلاح مجتمعة واستئناف العمل بجد في تحقيق نهضة أمته وهو سر لطيف حبذا لو أدركه من حج إلى بيت الله الحرام ليخرج من الحج وقد أصبح ذا عزم في مواصلة الاستمرار على العبادة والإصلاح والعمل من أجل نهضة أمته وكلها ألوان من ألوان العبادة إذا ما سبقتها النية الخالصة لله رب العالمين .
وما هذه المواسم من حج وصيام رمضان وغيرها من العبادات إلا ليتجدد في نفس المؤمن إيمانه وليكون دائم الصلة بربه لكي يأخذ الزاد لتحقيق سعادته ونهضة أمته في الدنيا وفوزه وسعادته في الآخرة.
غرس أخلاق المسلم النهضوي :
فالحج مدرسة الأخلاق وميدان تربية النفس على معالي الأخلاق, والتباعد والتجافي عن سيء الأخلاق ورديئها .
والحج يربى المسلم على أخلاق رواد النهضة يحدوه في ذلك خلق صاحب النهضة الحضارية ومؤسسها الأول النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان مناراً لكل رواد النهضة والمصلحين في تاريخ البشرية .
ومن أهم هذه الصفات والأخلاق التي يغرسها الحج ليخلق من المسلم صاحب مشروع يسعى ليستعيد نهضة أمته صفة الصبر والحلم والرحمة والشفقة والإيثار والتعاون وهذه الصفات وغيرها تغرسها كثير من أعمال الحج وتنبذ القبيح والرديء والسيئ من الأخلاق كما قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ..) (البقرة: 197).
قيمة : ( إنما المؤمنون إخوة ):
فمن قيم التنمية البشرية التي تحتاجها الأمم الناهضة توثيق أواصر شعوبها لأن تفرقهم كان عنصر سيادة أعدائها عليها والحج يؤصل قيمة الأخوة فحينما يقصد الحجاج من كل بلاد الدنيا مكاناً واحداً في وقت واحد على هيئة واحدة ويؤدون منسكاً واحداً يتحقق في النفوس أخوة الدين التي جمعتنا ينادي كل أخ أخاه ويحاكيه متذكراً تلك الأخوة التي عاشها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتي كانت من أول الأعمال التي قام بها حين قدم المدينة مهاجراً فآخى بين المهاجرين والأنصار فتحقق بذلك أخوة الدين ورابطة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) تلك الرابطة التي ارتضاها الله عزوجل لأهل الإيمان وهى كفيلة بترسيخ دعائم نهضة الأمة على عدوها بدلا من تشرذمها وتشتتها.
قيمة التعارف تبادل الخبرات :
في الحج تتحقق تلك القيمة الرفيعة كما أخبر الله بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) وإن اختلفت اللغات والأوطان والمشارب فالتعارف وتبادل الخبرات بين أبناء الأمة العربية والإسلامية بمختلف مشاربهم وثقافيتهم وألوانهم وعاداتهم وخبراتهم هو أبرز وأهم مسارات النهضة المنشودة ولا عبادة في الإسلام تحقق هذه القيمة التنموية مثل الحج والذي يتلقى فيه الملايين من أبناء هذه الأمة في صعيد واحد في عرفات .
قيمة الانضباط والنظام :
إن مما تحتاجه الأمم الناهضة في تنظيم حياتها أن تعتاد شعوبها على النظام في حياتهم والذي من شأنه حل الكثير من أزماتها , فما نراه من تلك الأنانية والفوضوية في مجتمعاتنا لهي أكبر دليل على بعدنا عن المنهج الرباني الذي يضمن السعادة للبشرية وهذا ما يراه الحاج جليا ويتربى عليه في مناسك الحج.
فحينما يكثر عدد الحجيج في مكان واحد يتجلى لنا ذلك المقصد بكل أبعاده وتظهر لنا حقيقة وحكمة أن يتربى أهل الإسلام خصوصاً على اعتياد النظام في حياتهم .
فالطواف حول الكعبة مع شدة الزحام,وتقبيل الحجر الأسود وكثرة من يقصد تقبيله لا يستطيع أن يتقدم أحد على من كان قبله وكذا رمي الجمرات واصطفاف الحجاج أفواجاً بسير واحد وجهة واحدة ومرمى واحد بترتيب ونظام, كل ذلك من أكبر الوسائل على تربية المسلم ليكون في نفسه حب النظام والبعد عن تلك الأنانية وتلك الفوضوية, فما أروعه من مقصد.
أضف إلى ذلك منظومة وقيمة الانضباط التي يغرسها الحج والذي يأتي كل عام في وقت محدد مؤقت يربي المسلم على أن يكون منضبطاً في حياته ويزداد ذلك حينما يكون في أيام فاضلة كأيام الحج يتنقل فيها الحاج من عبادة إلى عبادة ليعود المسلم نفسه على أن يكون منضبطاً فلا يقدم شهر الحج عن شهره ولا يوم عرفة عن يومها ولا الرمي عن وقته ولا الطواف عن موعده.
وأخيرا وليس آخرا فإن الحج بمقاصده التي لا يمكن حصرها في مثل هذا المقال ولا عشرات المقالات إذا ما تحققت فينا من شأنها أن تحقق لنا النهضة المنشودة ، نسأل الله العلى القدير أن نكون من ورادها إنه أهل ذلك والقادرعليه .
الإنسان بما وهبه الله تعالى من مواهب وطاقات هو الصانع الحقيقي لخطة التنمية في كل نهضة قامت على مر التاريخ، و الله تعالى جعل أركان الإسلام الخمسة منطلقات لبناء هذا الإنسان القائم على تنفيذ هذه النهضة عبر خطط التنمية التي تضعها الدول والمؤسسات والهيئات لتحقيق تقدمها في شتى المجالات ، والحج الركن الخامس من أركان الإسلام مدرسة تربوية يتعلم فيها كل حاج أسس كثيرة إذا ما أتقنها وتخلق بها أجاد تنفيذ كل خطط التنمية التي من شأنها أن ترفع شأنه وشأن أمته ومجتمعه , فما أن ينتهي من أداء هذا الركن إلا وقد حاز على الكثير من القيم وجنى العديد من الثمار بتنقله وتقلبه بين مشاعر الحج.
وفى هذه السطور نطرح جملة من المقاصد التنموية التي يغرسها الحج فيمن يحج إلى بيت الله الحرام لأداء هذا الركن العظيم ليصبح فارسا من فرسان التنمية في حياته.
التوقيف والالتزام بالخطة :
لنجاح أي خطة تنموية تضعها دولة أو مؤسسة من المؤسسات ينبغي الالتزام بجداولها التشغيلية ومراحها بدقة التي رسمت وفق الإطار الزمني التي حدد لتنفيذ مشاريعها والحج يعلمنا ذلك فالحج عبادة توقيفية فلا اجتهاد فيها مع النصوص الشرعية فهي حق لله عزوجل لا حق لأحد فيها فهو المشرع لهذه العبادات وحده كما قال تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)( الشورى:21), وهذا نراه جلياً وواضحاً في الحج , فالطواف والسعي سبعة أشواط والرمي بسبع حصيات والوقوف بعرفة في يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة إلى غير ذلك.
ولا حق لأحد أن يغير أو يبدل ما شرعه الله وهذا يغرس في النفس صدق العبادة وإخلاصها لله عز وجل وكمال التسليم لأمره وأن الشرع ما شرعه الله لا تلك البدع والضلالات التي هي من صنع البشر .
التعلق بالهدف المقصود من العمل :
فنحاج العمل يكون بتعلق وتركيز المنفذ بمقصوده وتشبثه به والوصول إليه وتحقيق مقاصده والحج يُؤصل معنى مهم في قلب كل حاج فمنذ شروع الحاج في بداية الحج بلبس ملابس الإحرام وهو يؤكد في نفسه صلته بالله وحده ومرجعه إليه وأن لا معبود سواه يُعبَد بحق فله يصرف جميع العبادات وإليه يتقرب بجميع الطاعات والقربات.
وإذا تأملنا باقي المناسك من طواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي الجمار وغيرها لوجدناها تؤكد ذلك المعنى وتؤكد حقيقة قول الله تعالى قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام: 162)
ولترسيخ هذا المقصد كذلك كان توحيد شعار الحج (لبيك اللهم لبيك) شعار التوحيد , يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم: (فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)(صحيح مسلم ج2/ ص887), فهي تربية للنفس على توحيد الله والإخلاص له ونبذ كل من سواه من المعبودات الباطلة .
ولذا يقول ابن القيم في معنى هذه التلبية " أخلصت لبي وقلبي لك وجعلت لك لبي وخالصتي". (حاشية ابن القيم على سنن أبي داود ج5/ص176).
التوازن في السير بالأهداف :
فمن الأسباب الداعية لنجاح تحقيق خطط التنمية التوازن في السير بأهدافها ومراحلها وفى رحلة الحج يتعلم الحاج كيف يجمع بين مصالحه الدنيوية من بيع وشراء وغيرها وبين مقاصد هذه العبادة من ذكر وصلاة ودعاء وغير ذلك .
والمتأمل في رحلة الحج يجد أن الحاج يعيش بين مباحات لا غنى له عنها وواجبات لابد له من عملها ومحرمات يحرم عليه فعلها وقد منع منها اختباراً وابتلاء على صبره عنها .
وفي أيام الحج تتأصل هذه المبادئ وترسخ ليعيش المسلم متوازناً في حياته بلا إجحاف ولا تقصير.
تحقيق مبدأ المساواة :
فخطة التنمية التي لا تحقق المساواة وتؤسس تكافؤ الفرص وتكافئ المحسن وتعاقب المخطئ هي خطط فاشلة ولن تحقق أهدافها وستكون مرتعا للواسطة والمحسوبية وأرباب الفساد وفى الحج يتجلى مبدأ المساواة واضحاً حيث يجتمع المسلمون من كل جنس ولغة ولون ووطن في صعيد واحد لباسهم واحد وعملهم واحد ومكانهم واحد ووقتهم واحد وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر , وحدة في الهدف , ووحدة في العمل , ووحدة في القول.
عن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال:"إن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى" (مسند أحمد بن حنبل ج5:ص).
وللحديث بقية مع الحج وقيم التنمية ...
قيم التنمية البشرية التي يغرسها الحج في نفوس حجاج بيت الله الحرام ، وهى قيم أحوج ما تكون لها الأمة لاسيما وأن الملايين يفدون كل عام على الله لأخذ هذه الدورة في التنمية البشرية راقية القيم والمفاهيم التي من شانها أن تحدث نهضة مستدامة في أمة التوحيد وتسير بها نحو آفاق ريادة البشرية من جديد ومن جملة هذه القيم :
المداومة على العبادة طريق النهضة :
من أبرز ما يغرسه الحج في الحاج ؛ الدوام والاستمرار في العبادة بعد الحج فالحاج في خلال هذه الأيام القلائل يتنقل من عبادة إلى عبادة فما أن تنتهي عبادة إلا وتبدأ عبادة أخرى.
وبهذه الأعمال تتربى النفس على العبادة والتي سرعان ما تصبح صفة وخلق يتحول إلى ديمومته في إصلاح مجتمعة واستئناف العمل بجد في تحقيق نهضة أمته وهو سر لطيف حبذا لو أدركه من حج إلى بيت الله الحرام ليخرج من الحج وقد أصبح ذا عزم في مواصلة الاستمرار على العبادة والإصلاح والعمل من أجل نهضة أمته وكلها ألوان من ألوان العبادة إذا ما سبقتها النية الخالصة لله رب العالمين .
وما هذه المواسم من حج وصيام رمضان وغيرها من العبادات إلا ليتجدد في نفس المؤمن إيمانه وليكون دائم الصلة بربه لكي يأخذ الزاد لتحقيق سعادته ونهضة أمته في الدنيا وفوزه وسعادته في الآخرة.
غرس أخلاق المسلم النهضوي :
فالحج مدرسة الأخلاق وميدان تربية النفس على معالي الأخلاق, والتباعد والتجافي عن سيء الأخلاق ورديئها .
والحج يربى المسلم على أخلاق رواد النهضة يحدوه في ذلك خلق صاحب النهضة الحضارية ومؤسسها الأول النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان مناراً لكل رواد النهضة والمصلحين في تاريخ البشرية .
ومن أهم هذه الصفات والأخلاق التي يغرسها الحج ليخلق من المسلم صاحب مشروع يسعى ليستعيد نهضة أمته صفة الصبر والحلم والرحمة والشفقة والإيثار والتعاون وهذه الصفات وغيرها تغرسها كثير من أعمال الحج وتنبذ القبيح والرديء والسيئ من الأخلاق كما قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ..) (البقرة: 197).
قيمة : ( إنما المؤمنون إخوة ):
فمن قيم التنمية البشرية التي تحتاجها الأمم الناهضة توثيق أواصر شعوبها لأن تفرقهم كان عنصر سيادة أعدائها عليها والحج يؤصل قيمة الأخوة فحينما يقصد الحجاج من كل بلاد الدنيا مكاناً واحداً في وقت واحد على هيئة واحدة ويؤدون منسكاً واحداً يتحقق في النفوس أخوة الدين التي جمعتنا ينادي كل أخ أخاه ويحاكيه متذكراً تلك الأخوة التي عاشها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتي كانت من أول الأعمال التي قام بها حين قدم المدينة مهاجراً فآخى بين المهاجرين والأنصار فتحقق بذلك أخوة الدين ورابطة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) تلك الرابطة التي ارتضاها الله عزوجل لأهل الإيمان وهى كفيلة بترسيخ دعائم نهضة الأمة على عدوها بدلا من تشرذمها وتشتتها.
قيمة التعارف تبادل الخبرات :
في الحج تتحقق تلك القيمة الرفيعة كما أخبر الله بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) وإن اختلفت اللغات والأوطان والمشارب فالتعارف وتبادل الخبرات بين أبناء الأمة العربية والإسلامية بمختلف مشاربهم وثقافيتهم وألوانهم وعاداتهم وخبراتهم هو أبرز وأهم مسارات النهضة المنشودة ولا عبادة في الإسلام تحقق هذه القيمة التنموية مثل الحج والذي يتلقى فيه الملايين من أبناء هذه الأمة في صعيد واحد في عرفات .
قيمة الانضباط والنظام :
إن مما تحتاجه الأمم الناهضة في تنظيم حياتها أن تعتاد شعوبها على النظام في حياتهم والذي من شأنه حل الكثير من أزماتها , فما نراه من تلك الأنانية والفوضوية في مجتمعاتنا لهي أكبر دليل على بعدنا عن المنهج الرباني الذي يضمن السعادة للبشرية وهذا ما يراه الحاج جليا ويتربى عليه في مناسك الحج.
فحينما يكثر عدد الحجيج في مكان واحد يتجلى لنا ذلك المقصد بكل أبعاده وتظهر لنا حقيقة وحكمة أن يتربى أهل الإسلام خصوصاً على اعتياد النظام في حياتهم .
فالطواف حول الكعبة مع شدة الزحام,وتقبيل الحجر الأسود وكثرة من يقصد تقبيله لا يستطيع أن يتقدم أحد على من كان قبله وكذا رمي الجمرات واصطفاف الحجاج أفواجاً بسير واحد وجهة واحدة ومرمى واحد بترتيب ونظام, كل ذلك من أكبر الوسائل على تربية المسلم ليكون في نفسه حب النظام والبعد عن تلك الأنانية وتلك الفوضوية, فما أروعه من مقصد.
أضف إلى ذلك منظومة وقيمة الانضباط التي يغرسها الحج والذي يأتي كل عام في وقت محدد مؤقت يربي المسلم على أن يكون منضبطاً في حياته ويزداد ذلك حينما يكون في أيام فاضلة كأيام الحج يتنقل فيها الحاج من عبادة إلى عبادة ليعود المسلم نفسه على أن يكون منضبطاً فلا يقدم شهر الحج عن شهره ولا يوم عرفة عن يومها ولا الرمي عن وقته ولا الطواف عن موعده.
وأخيرا وليس آخرا فإن الحج بمقاصده التي لا يمكن حصرها في مثل هذا المقال ولا عشرات المقالات إذا ما تحققت فينا من شأنها أن تحقق لنا النهضة المنشودة ، نسأل الله العلى القدير أن نكون من ورادها إنه أهل ذلك والقادرعليه .