بقلم: محمد عبده
من أهم عوامل تحطيم الصف والفرد على حدٍّ سواء المبالغة في المدح والثناء على الآخرين في وجوههم، والمبالغة في تضخيم أعمالهم من باب التشجيع والتحفيز، وكذلك إسناد المسئوليات لمن ظهرت عليه أعراض حب الظهور والتعالي على الآخرين والإعجاب بالنفس، والاعتداد بالرأي، حتى تضخم ذاته وتكبر لديه لدرجة يُستحال معها التوجيه، ويتخذ من نفسه صنمًا كبيرًا يُعبد من دون الله.
ونقصد في كلامنا المدح والثناء (غير المنضبطين) أو (المبالغ فيهما)- حيث إننا لا نُنكر أبدًا فوائد التشجيع والمدح المتوازنين، يقول تعالى: ?أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ? (الجاثية: من الآية 23) فالاعتداد بالرأي والتمسك به، وعدم الانصياع والرضا بالرأي الآخر مرض خطير قد يُصيب العاملين في حقل العمل الإسلامي، سببه المباشر الكبر كما يقول صلى الله عليه وسلم: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".
ونعني بذلك عدم الاحتواء التربوي لأصحاب الاحتياجات الخاصة، ومنهم المعتد برأيه، المُعجب بنفسه، المتعالي على الآخرين، المحب للظهور والشهرة، فيترك دونما مراعاة تربوية، أو توجيهات إيمانية خاصة، فيكون الانحراف والضياع للفرد والقلاقل والاضطرابات للدعوة.
فلقد حدث وسمعنا عن أشخاصٍ خرجوا عن أطر الحركة الإسلامية المعاصرة ولم يسمعوا لإخوانهم؛ لأنهم لم ينفذوا لهم أمرًا، أو يسيروا وفق توجيهاتهم وتعليماتهم، أو لأنهم اختلفوا معهم على أمرٍ هو في الأساس أمرًا خلافيًّا، ويتسع المجال فيه لأكثر من رأي.
فيا ترى ما الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذا الخلل، والتي تجعل الفرد أي فرد يضحي بالعمل الجماعي مؤثرًا العمل الفردي في سبيل تمسكٍ مذمومٍ بالرأي حتى وإن كان هو أصوب الآراء ما دام أن المجال يتسع للرأي الآخر.
كيف تبدأ المشكلة؟
تبدأ المشكلة بالمدح والثناء (المبالغ فيهما) على الآخرين، فالعمل للإسلام من الأعمال العلنية والتي فيها يحتك العاملون بالآخرين.
فبالأعمال والأنشطة الدعوية العامة والخاصة تظهر المواهب وتُكتشف القدرات وتتباين مظاهر الإبداع، وكلما كانت الأعمال كثيرة والأنشطة مختلفة والاحتكاك بالآخرين مُتعدد يتعرض المُبدعون والموهوبون وأصحاب الكفاءات الخاصة للمدح والثناء من الآخرين فيجد الشيطان لدى الممدوح طريقًا يتسلل من خلاله إلى قلبه، فتبدأ النفس بالتحدث عن ذاتها، وتلتفت إلى إمكاناتها، وتترقب آراء الآخرين وانتظار الثناء منهم فيتعرض العمل للمحق، وصاحب الموهبة والإبداع إلى الاغترار بالنفس وتظهر عليه علامات التعالي على الآخرين، ويحدث التمرد والخروج عن الصف.
والحركة الإسلامية إن لم تنتبه لمثل هذه العلل وتوليها جزءًا كبيرًا من اهتمامها وعنايتها سيحدث ما نسمع به بين الحين والآخر من أمورٍ لا تسرنا نتيجة تمكُّن تلك العلل من البعض والذي يطلب الانصياع التام لأوامره وتوجيهاته وآرائه، وإلا فالقطيعة والانزواء هو الحل الأمثل، وحينها ينسى المسكين أنه أضرَّ بنفسه قبل أن يضر بغيره، فلقد فارق الجماعة وتُرك لنفسه بلا ناصحٍ أو مُعين، ولو أنه تمهَّل وتريث لوجد أن الشورى أولى بالاتباع، وما ضره في أن يأخذوا برأيه أم لا، ولو أنه فكَّر وقارن بين عدم الأخذ برأيه (خاصةً إذا كان أمرًا خلافيًّا) وبين القطيعة بالتأكيد لو كان هناك إخلاص لله وتواضع للآخرين وعدم الإعجاب بالذات والنفس لاختار الأولى وبقي وسط إخوانه يفيدهم ويستفيد منهم.
أين الخلل؟
إن التهاون في معالجة أصحاب تلك العلل لهو من أهم الأسباب التي تُفضي في النهاية إلى مثل هذه الأحداث، ولو تم التعامل معه بحزم وحسم لكان ذلك في صالح الفرد والجماعة، والواقع يؤيد ما نقول.
فالعُجب بالنفس مرض خطير يُفضي إلى الكبر والذي بدوره يُفضي إلى طلب الزعامة والرياسة وحب الظهور.. والعُجب بالنفس والكِبر مرضان خطيران يُصيبان القلب ويسيطران عليه ويتحكمان فيه ويتولد عنهما الكثير من الأمراض، ويكفيه خطورة أن مَن اتصف بهما لا يدخل الجنة "لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" صحيح مسلم ح(247).
وكذلك فإن الله تعالى يصرفه عن الطاعة وعن الهداية يقول تعالى ?سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ? (الأعراف: من الآية 146).
فالشخص المُعجب بنفسه قلما يرضخ للحق ويرضى به، وكثيرًا ما يزدري الآخرين ويستحقرهم ويُقلل من شأنهم يقول صلى الله عليه وسلم "الكبر بطر الحق وغمط الناس".
والكبر والعُجب بالنفس صفتان ذميمتان لا ينبغي لمسلم عادي، فضلاً عن داعية يحمل راية الدعوة أن يتصف بهما.
ولعل أخطر ما في الكبر والعُجب بالنفس من نتيجة هو إحساس صاحبه بالأولوية المطلقة للتصدر للمسئولية والقيادة والإلحاح في طلبها والحرص عليها، وقد يُبتلى الصف ببعض النماذج بدرجاتٍ متفاوتةٍ من تمكن المرض، فالبعض قد رأى في قدراته وإمكاناته، وبذله وتضحيته، ومواهبه، وعطاءاته للدعوة الأحقية في التصدر للقيادة وتحمل المسئولية والحرص عليها بل وطلبها في بعض الأحيان.
وهناك صنف قد اتخذ من اجتهاده في العبادة، وحرصه عليها، وتميزه بطاعاته واجتهاده فيها، بابًا للتعالي على من حوله فبدأ ينظر لهم من عليّ، ووضع نفسه في برجٍ عالٍ ينقُد من حوله ويتهمهم بالنفاق، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، ويظن أنه هو الصواب دائمًا وأن غيره على خطأ، فلا يقبل النصح من الآخرين، أو التوجيه منهم.
الدعوة وعلة حب الظهور والعُجب بالنفس والكبر:
الحركة الإسلامية تعمل لله ومن أجل إقامة شرع الله، وتدعو إلى تعبيد الناس لله لا لغيره ولو كان الغير هو النفس وحبها ورؤية مكانتها، فلا يختلف اثنان على أن التجرد في الأعمال ونزع حظوظ النفس من النفس وجعل الأمر أوله ومنتهاه لله من أهم دلالات الإخلاص.
ومما لا شك فيه أيضًا أن الحركة الإسلامية دعوة ربانية قائمة على إنكار الذات، فهي من الله وبالله وإلى الله، وهي في طريقها نحو الوصول إلى أهدافها لا بد وأن يكون على مراد الله، وفق شريعة الله، ووفق ما يحب الله.
من هنا فإننا إذا أردنا الوصول إلى أهدافنا وإلى الله (فالله غايتنا) لا بد وأن نخلع من كل تصرفاتنا ومناهجنا ووسائلنا كل ما من شأنه أن يكون منافيًا لإخلاص العمل لله، حتى وإن كان فيه مصلحة قريبة للدعوة.
وما من شكٍ في أنَّ مَن طلبَ الإمارة أو سعى إليها، أو حرص عليها أو استشرفها فيه شبهة رياء وإعجاب بالنفس وبالقدرات، مما يجعل العمل مُعرضًا لمحو البركة منه وفي نتائجه من الله تعالى، بالإضافةِ إلى خطورته على الفرد- وهذا أهم نقطة يجب الانتباه إليها- وخطورة ذلك على الحركة الإسلامية من جهةٍ أخرى.
والحركة الإسلامية غير الممكنة والتي يتربص بها أعداؤها لا تتحمل المخاطرة بنتائج الدفع بأشخاصٍ غير مؤهلين تربويًّا لمواقع المسئولية والقيادة، وإذا تمَّ ذلك فإن العواقب تكون غير مأمونةٍ دائمًا.
كيف نتعامل مع المُعجبين بأنفسهم؟
أخطر ما يُفضي إليه العُجب بالنفس الكِبْر، ومن ثَمَّ التعالي على الآخرين، والإحساس الدائم بالتميز عنهم، وقبل أن نُبين كيفية التعامل معهم ينبغي أن نعرف كيف نُشخص الحالة حتى لا نتهم الآخرين أو نظن بهم غير الحق.
التشخيص:
وهناك علامات ودلالات تُعتبر مؤشرًا على الإصابة بهذا المرض العضال والتي تساعدنا على تشخيص حالته، ومن ثم البدء معه في مراحل الاحتواء التربوي والمعاملة الخاصة حتى يتجاوز تلك المحنة بأمان، وأهم تلك الأعراض:-
1- الرغبة في التصدر للأعمال التي فيها مسئولية جماهيرية.
2- الطلب المباشر للمسئولية سواء كان ذلك بالتصريح أو التلميح، أو بالحرص عليها.
3- الشعور بالأحقية للمسئولية دون الغير.
4- التقليل من شأن الآخرين والانتقاص من حقوقهم.
5- كثرة التحدث عن الذات وإظهار القدرات.
6- النقد اللاذع والمتكرر للآخرين، وإظهار طوق النجاة في اقتراحاته وأفكاره دائمًا.
7- الاعتداد بالرأي والتمسك به.
والأسباب المفضية إلى ذلك:-
1- المدح والثناء (المُبالغ فيه) في الوجه.
2- إسناد المسئولية دون إعدادٍ تربوي.
3- الاهتمام بالعمل على حساب الفرد، أي الاهتمام بإنجاز وتنفيذ الأعمال دون الالتفاتِ إلى احتياجات الشخص القائم بالعمل.
4- التساهل في التعامل مع الحالة من البداية خوفًا على مصلحة العمل مما يؤدي إلى تضخم المشكلة وصعوبة الحل.
5- عدم توظيف القدرات بشكلٍ جماعي والاعتماد بشكلٍ فردي على أفرادٍ بعينهم مما يُعرِّضهم للإصابة بالغرور والانتفاخ، ويكون في الصف في موقع الإملاء عليها والتحكم فيها، لشعوره بأنه على ثغرةٍ لا يسدها غيره.
خطوات العلاج:
أولاً: العلاج الإيماني
1- النصح والتوجيه:
وهذا ما يؤكد العلاج القرآني بأمثلته الغنية في تلك المسألة، فالنصح، والتوجيه، والإرشاد، كان بداية الطريق في قصة صاحب الجنتين الذي أُعجب بهما واغتر بنعمة الله عليه، وتعالى على صاحبه، والذي توجَّه إليه بالنصح محاولاً تصحيح المسار عنده ?قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)? (الكهف).
2- التذكير الدائم بالنعم وحق المنعم:
وهي من الأسباب التي تحمل صاحبها على التواضع خوفًا من أن تُسحب منه النعمة التي ليس له فيها أدنى فضل فهي من الله.. ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ? (الكهف: من الآية 39) ثم التذكير بعاقبة عدم شكر المنعم، فالذي حباك مواهبك وإمكاناتك وطاقاتك قادرٌ على سحبها منك متى شاء ? فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)? (الكهف).
هكذا نصحه صاحبه المتواضع وذكَّره بنعم الله عليه وذكَّره بنشأته المهينة من ماءٍ وطين، وبعد أن وجهه صاحبه إلى كيفية الأدب الواجب في حق المنعم وبعد أن أنذره عاقبة البطر والكبر.. وهذا ما يجب أن يسبق مرحلة سحب مادة الافتخار والتعالي على الآخرين من النصح والتوجيه والإرشاد.. حتى إذا فشلت كل الوسائل بدأت المرحلة الثانية وهي الأشد مرارة.
ثانيًا : العلاج الحركي
وأُولى مراحل العلاج تبدأ بعدم إسناد المُعجب بنفسه أو المتعالي على الآخرين أي مسئولية ما دام ظهر عليه الشغف بها والحرص عليها؛ خوفًا عليه ومساعدةً له على تخطي أزمته، وحفاظًا على الصف من القلاقل، ففي إسناد المسئوليات له تحقيق لرغبات نفسه، وزيادة لقدسيتها لديه، وإعانة للشيطان عليه، إذ إن ذلك سيزيد من إعجابه بنفسه، فهو من البداية مُعجبٌ بها وبقدراتها دون أن تُسند له مهمة، فكيف إذا نالت نفسه ما تتطلع إليه، ونجح وازداد تفوقه، فهل نتوقع أن يراجع نفسه ويُصحح تصوراته، ويُقوِّم مساره، نعتقد أن ذلك لن يحدث، وكيف يحدث وقد جاءت الفرصة والتي قد لا تتكرر لإثبات الوجود، والإعلان للجميع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أنكم أخطأتم لأنكم تأخرتم في اختياري في موضع المسئولية، فها هي أعمالي الناجحة أمام أعينكم.
والمنادين بإسناد المسئولية- لمُعجب بنفسه المتصدر للزعامة- حتى يتسنى توجيهه ونفسه مستقرة لا تشعر بالقهر أو الظلم أو الحرمان، يجب أن ينتبهوا إلى أن هذا لا يُعتبر في صالحه على الإطلاق.. فإنسان لا يسمع لنصيحة الآخرين، وهذا هو واقع المُعجب بنفسه المتعالي على الآخرين دائمًا، فكيف حين تُسند إليه مسئولية، ويُشار إليه بالبنان، والكل يشهد بنجاحه وتفوقه؟!.
هل سيقبل أن يتنازل عن هذا الوضع والذي اقتنع تمام الاقتناع أنه وصل إليه عن جدارةٍ واستحقاق؟.. وماذا لو لم يستجب للعلاج والنصح والتوجيه بعد توليه المنصب أو تصدره للمسئولية؟ أظن أن الخسائر ستكون جسيمة على الفرد والحركة الدعوية.
نموذج قرآني لسحب مادة الافتخار:
نبقى قليلاً مع صاحب الجنتين الذي ظلم نفسه وتعالى على أخيه بما حباه الله من نعمٍ اختصه بها دون غيره، فهنا يؤكد العلاج القرآني في هذا النموذج على مسألة سحب مادة الافتخار والاستعلاء على الآخرين من بين يدي المُعجب بها؛ لأنه لم يحفظ تلك النعمة بشكر المُنعم، ولعل في نزعها منه دعوة للتأمل وإعادة الحسابات مرة ثانية.
فبعد أن نصحه صاحبه المتواضع وذكَّره بنعم الله عليه ذكَّره بنشأته المهينة من ماءٍ وطين، وبعد أن وجهه صاحبه إلى كيفية الأدب الواجب في حق المنعم وبعد أن أنذره عاقبة البطر والكبر.. وهذا ما يجب أن يسبق مرحلة سحب مادة الافتخار والتعالي على الآخرين من النصح والتوجيه والإرشاد.. حتى إذا فشلت كل الوسائل بدأت المرحلة الثانية وهي الأشد مرارةً بسحب المادة الحية من بين يديه والتي غالبًا ما تؤتي ثمارها الفعالة فصاحب الجنة الذي هو منذ قليل لم يستجب لنصح صاحبه، ولم يعبأ بتوجيهه له، بل زاده نصحه كبرًا وتعاليًا لدرجة أنه أنكر الساعة وأنكر أن تزول جنته.. ?مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً?.. ثم الادعاء بالمكانة العُليا في الآخرة إذا كان هناك بعث وعودة إلى الله ? وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا? (الكهف).
هذا الرجل الذي تعالى على أخيه ولم يسمع له بدأ يراجع نفسه، ويعيد حساباته عندما وجد مادة تفاخره وبطره وغروره خاويةً على عروشها، فحينها فقط عاد إلى رشده وصوابه وندم على ما فعل ?وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)? (الكهف).
علاج قاس ولكن:
ورغم قسوة العلاج ومرارته وخسائره الفادحة على الشخص إلا أن ذلك صبَّ في النهاية في مصلحته، وهذا هو المراد الحقيقي من العلاج، فليس المراد هو التخلص من إلحاحه المستمر، وطلبه الذي ينقطع للصدارة والإمارة، وليس المراد كذلك هو التودد والتقرب إليه على حساب دينه والتزامه وعلاقته بربه، فإعطاء المسكنات لا تُسمن ولا تُغني من علاج، فصاحب الجنتين رغم مرارة تجربته وقسوتها عليه عاد في النهاية إلى رشده واعترف بربوبية ووحدانية مولاه، وهذا هو عين الفلاح.
غزوة حنين:
والمسلمون في غزوة حنين مثال حي أمام أعيننا، ونموذج قرآني آخر لعلاج العُجب بالنفس والاغترار بقدراتها وإمكاناتها، فالمسلمون في هذه الغزوة قد أُعجبوا بكثرتهم وإمكاناتهم فكيف يُهزموا وهم كثير، وقد انتصروا في بدر وهم قلة ?وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ? (التوبة)، ولك أن تتخيل مدى الصدمة وشدتها على المسلمين فهم لم يتخيلوا الهزيمة ولم يتوقعوها، ولم يتخيلوا أن يخذلهم ربهم الذي وكلهم إلى كثرتهم التي أُعجبوا بها ?فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ? (التوبة: من الآية 25).
فالعقل البشري القاصر يقول لو أن الله نصرهم على عدوهم وبعد انتهاء المعركة يوجههم ويربيهم حقنًا للدماء وتوفيرًا للهرج والمرج الذي حدث في المعركة.
والعقل البشري يعجز عن أن يتخيل علاجًا تربويًا تُزهق فيه الأرواح، ويُهزم فيه جيشًا قائده الحبيب صلى الله عليه وسلم.
نعم.. إن العقل البشري يرى فيه الخذلان، ويرى فيه السطحيون القسوة، ولكن التجربة أثبتت أنه كان العلاج الفعَّال، ونهايته إصلاحًا للقلوب، وتقويمًا لها بعدم التعلق بغير الله.
وكيف لو انتصر المسلمون في هذه المعركة.. وزاد إعجابهم بكثرتهم وقوتهم ونسوا فضل الله عليهم، أو على أفضل تقدير سيكون فضل الله ومعيته ونصره في مرتبة بعد الاقتناع التام بأن الكثرةَ كانت وراء السبب في الانتصار.. إن الهزيمة الأولية والخسائر في الأرواح خيرٌ من نصرٍ سريعٍ يُعجب فيه المسلمون بكثرتهم ويُنسب الفضل لغير الله.
القاعدة النبوية:
ثم تأتي القاعدة النبوية في وضوحٍ وصراحةٍ لتبين للجميع عدم إجازة تَولية مَن طلب الإمارة أو حرص عليها، ففي حديث أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك. فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله أو أحدًا حرص عليه" (متفق عليه).
وأخيرًا دفع شبهة
المنع هو الحب:
يخشى البعض من أن المنع من إسناد المسئولية لمَن ينتظرها ويتمناها أو مَن يتصف بعلة العُجب بإمكاناته وقدراته سيضر بالدعوة وسيحرمها من طاقات أفرادها وإمكاناتهم، وسيضر بالعلاقات الاجتماعية، وستنفر الناس من الدعوة، أو يُفسر على أنه كره وبغض، وقتل للمواهب والإبداعات.
والواقع أن منع الإمارة أو المسئولية لمَن يستشرفها أو يطلبها أو يحرص عليها دافعه الحب له لا الحرمان أو التعنت، فالمنع في هذه الحالة أمرٌ تربوي يُفضي في النهاية رغم مرارته إلى مراجعة الشخص لنفسه مرةً ثانيةً عندما يجد نفسه محرومة مما تشتهيه.
واختيار وسيلة المنع رغم أن ظاهِرَهُ حرمان للجماعة المسلمة من نصرٍ قريب، أو كفاءة عالية، أو نجاح مُعين، إلا أنه في النهاية سيصبُّ في مصلحةِ العمل ككل، خاصةً إذا حدث انحراف متوقع من شخصية مُتعالية أو معحبة بنفسها عندها استشراف وحرص على المسئولية، بالإضافة إلى أن الأصل هو الحب والخوف على الآخر من فتنة الولاية والمسئولية.
فمع الصحابة الذين جاءوا النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألونه الولاية والإمارة، كيف كان تصرفه صلى الله عليه وسلم معهم فهذا سيدنا عبد الرحمن بن سمرة- رضي الله عنه-: "يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها..." (متفق عليه).
وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر "يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأّمَّرَنَّ على اثنين ولا تولَّيَنَّ مال يتيم"، وهكذا يجب أن يكون حبنا لإخواننا الذين نتعاطف معهم ونرفق بهم لا يكون دافعًا للاستجابة لطلباتهم بتوليتهم المسئولية فنزيدهم فتنة وابتلاء.
نعم.. الهداية من عند الله، ولكن للهداية أسباب، ولا يُعالج كل سبب إلا بنقيضه، فإنسان مُعجب بنفسه مُتكبر على الآخرين لا بد من مساعدته على تكلف التواضع، لا تعريضه للمزيد من الأضواء الفاتنة، والكاميرات المُكبرة والشهرة بين الناس.
من الواقع:
يقول الأستاذ فتحي يكن: أعرف إنسانًا تسلق جدار الدعوة بدون جدارةٍ وأصبح داعية قبل الأوان.. وكان يشكو ويعاني من عللٍ وأمراضٍ شتى.. أقلها العجب ومنها الصلف والفظاظة.. ولما علت منزلته وارتفعت درجته وارتفع معها عجبه وصلفه وفظاظته لم يعد من الممكن السيطرة عليه وضبطه؛ مما أدى في النهاية إلى سقوطه وخسارته
من أهم عوامل تحطيم الصف والفرد على حدٍّ سواء المبالغة في المدح والثناء على الآخرين في وجوههم، والمبالغة في تضخيم أعمالهم من باب التشجيع والتحفيز، وكذلك إسناد المسئوليات لمن ظهرت عليه أعراض حب الظهور والتعالي على الآخرين والإعجاب بالنفس، والاعتداد بالرأي، حتى تضخم ذاته وتكبر لديه لدرجة يُستحال معها التوجيه، ويتخذ من نفسه صنمًا كبيرًا يُعبد من دون الله.
ونقصد في كلامنا المدح والثناء (غير المنضبطين) أو (المبالغ فيهما)- حيث إننا لا نُنكر أبدًا فوائد التشجيع والمدح المتوازنين، يقول تعالى: ?أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ? (الجاثية: من الآية 23) فالاعتداد بالرأي والتمسك به، وعدم الانصياع والرضا بالرأي الآخر مرض خطير قد يُصيب العاملين في حقل العمل الإسلامي، سببه المباشر الكبر كما يقول صلى الله عليه وسلم: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".
ونعني بذلك عدم الاحتواء التربوي لأصحاب الاحتياجات الخاصة، ومنهم المعتد برأيه، المُعجب بنفسه، المتعالي على الآخرين، المحب للظهور والشهرة، فيترك دونما مراعاة تربوية، أو توجيهات إيمانية خاصة، فيكون الانحراف والضياع للفرد والقلاقل والاضطرابات للدعوة.
فلقد حدث وسمعنا عن أشخاصٍ خرجوا عن أطر الحركة الإسلامية المعاصرة ولم يسمعوا لإخوانهم؛ لأنهم لم ينفذوا لهم أمرًا، أو يسيروا وفق توجيهاتهم وتعليماتهم، أو لأنهم اختلفوا معهم على أمرٍ هو في الأساس أمرًا خلافيًّا، ويتسع المجال فيه لأكثر من رأي.
فيا ترى ما الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذا الخلل، والتي تجعل الفرد أي فرد يضحي بالعمل الجماعي مؤثرًا العمل الفردي في سبيل تمسكٍ مذمومٍ بالرأي حتى وإن كان هو أصوب الآراء ما دام أن المجال يتسع للرأي الآخر.
كيف تبدأ المشكلة؟
تبدأ المشكلة بالمدح والثناء (المبالغ فيهما) على الآخرين، فالعمل للإسلام من الأعمال العلنية والتي فيها يحتك العاملون بالآخرين.
فبالأعمال والأنشطة الدعوية العامة والخاصة تظهر المواهب وتُكتشف القدرات وتتباين مظاهر الإبداع، وكلما كانت الأعمال كثيرة والأنشطة مختلفة والاحتكاك بالآخرين مُتعدد يتعرض المُبدعون والموهوبون وأصحاب الكفاءات الخاصة للمدح والثناء من الآخرين فيجد الشيطان لدى الممدوح طريقًا يتسلل من خلاله إلى قلبه، فتبدأ النفس بالتحدث عن ذاتها، وتلتفت إلى إمكاناتها، وتترقب آراء الآخرين وانتظار الثناء منهم فيتعرض العمل للمحق، وصاحب الموهبة والإبداع إلى الاغترار بالنفس وتظهر عليه علامات التعالي على الآخرين، ويحدث التمرد والخروج عن الصف.
والحركة الإسلامية إن لم تنتبه لمثل هذه العلل وتوليها جزءًا كبيرًا من اهتمامها وعنايتها سيحدث ما نسمع به بين الحين والآخر من أمورٍ لا تسرنا نتيجة تمكُّن تلك العلل من البعض والذي يطلب الانصياع التام لأوامره وتوجيهاته وآرائه، وإلا فالقطيعة والانزواء هو الحل الأمثل، وحينها ينسى المسكين أنه أضرَّ بنفسه قبل أن يضر بغيره، فلقد فارق الجماعة وتُرك لنفسه بلا ناصحٍ أو مُعين، ولو أنه تمهَّل وتريث لوجد أن الشورى أولى بالاتباع، وما ضره في أن يأخذوا برأيه أم لا، ولو أنه فكَّر وقارن بين عدم الأخذ برأيه (خاصةً إذا كان أمرًا خلافيًّا) وبين القطيعة بالتأكيد لو كان هناك إخلاص لله وتواضع للآخرين وعدم الإعجاب بالذات والنفس لاختار الأولى وبقي وسط إخوانه يفيدهم ويستفيد منهم.
أين الخلل؟
إن التهاون في معالجة أصحاب تلك العلل لهو من أهم الأسباب التي تُفضي في النهاية إلى مثل هذه الأحداث، ولو تم التعامل معه بحزم وحسم لكان ذلك في صالح الفرد والجماعة، والواقع يؤيد ما نقول.
فالعُجب بالنفس مرض خطير يُفضي إلى الكبر والذي بدوره يُفضي إلى طلب الزعامة والرياسة وحب الظهور.. والعُجب بالنفس والكِبر مرضان خطيران يُصيبان القلب ويسيطران عليه ويتحكمان فيه ويتولد عنهما الكثير من الأمراض، ويكفيه خطورة أن مَن اتصف بهما لا يدخل الجنة "لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" صحيح مسلم ح(247).
وكذلك فإن الله تعالى يصرفه عن الطاعة وعن الهداية يقول تعالى ?سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ? (الأعراف: من الآية 146).
فالشخص المُعجب بنفسه قلما يرضخ للحق ويرضى به، وكثيرًا ما يزدري الآخرين ويستحقرهم ويُقلل من شأنهم يقول صلى الله عليه وسلم "الكبر بطر الحق وغمط الناس".
والكبر والعُجب بالنفس صفتان ذميمتان لا ينبغي لمسلم عادي، فضلاً عن داعية يحمل راية الدعوة أن يتصف بهما.
ولعل أخطر ما في الكبر والعُجب بالنفس من نتيجة هو إحساس صاحبه بالأولوية المطلقة للتصدر للمسئولية والقيادة والإلحاح في طلبها والحرص عليها، وقد يُبتلى الصف ببعض النماذج بدرجاتٍ متفاوتةٍ من تمكن المرض، فالبعض قد رأى في قدراته وإمكاناته، وبذله وتضحيته، ومواهبه، وعطاءاته للدعوة الأحقية في التصدر للقيادة وتحمل المسئولية والحرص عليها بل وطلبها في بعض الأحيان.
وهناك صنف قد اتخذ من اجتهاده في العبادة، وحرصه عليها، وتميزه بطاعاته واجتهاده فيها، بابًا للتعالي على من حوله فبدأ ينظر لهم من عليّ، ووضع نفسه في برجٍ عالٍ ينقُد من حوله ويتهمهم بالنفاق، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، ويظن أنه هو الصواب دائمًا وأن غيره على خطأ، فلا يقبل النصح من الآخرين، أو التوجيه منهم.
الدعوة وعلة حب الظهور والعُجب بالنفس والكبر:
الحركة الإسلامية تعمل لله ومن أجل إقامة شرع الله، وتدعو إلى تعبيد الناس لله لا لغيره ولو كان الغير هو النفس وحبها ورؤية مكانتها، فلا يختلف اثنان على أن التجرد في الأعمال ونزع حظوظ النفس من النفس وجعل الأمر أوله ومنتهاه لله من أهم دلالات الإخلاص.
ومما لا شك فيه أيضًا أن الحركة الإسلامية دعوة ربانية قائمة على إنكار الذات، فهي من الله وبالله وإلى الله، وهي في طريقها نحو الوصول إلى أهدافها لا بد وأن يكون على مراد الله، وفق شريعة الله، ووفق ما يحب الله.
من هنا فإننا إذا أردنا الوصول إلى أهدافنا وإلى الله (فالله غايتنا) لا بد وأن نخلع من كل تصرفاتنا ومناهجنا ووسائلنا كل ما من شأنه أن يكون منافيًا لإخلاص العمل لله، حتى وإن كان فيه مصلحة قريبة للدعوة.
وما من شكٍ في أنَّ مَن طلبَ الإمارة أو سعى إليها، أو حرص عليها أو استشرفها فيه شبهة رياء وإعجاب بالنفس وبالقدرات، مما يجعل العمل مُعرضًا لمحو البركة منه وفي نتائجه من الله تعالى، بالإضافةِ إلى خطورته على الفرد- وهذا أهم نقطة يجب الانتباه إليها- وخطورة ذلك على الحركة الإسلامية من جهةٍ أخرى.
والحركة الإسلامية غير الممكنة والتي يتربص بها أعداؤها لا تتحمل المخاطرة بنتائج الدفع بأشخاصٍ غير مؤهلين تربويًّا لمواقع المسئولية والقيادة، وإذا تمَّ ذلك فإن العواقب تكون غير مأمونةٍ دائمًا.
كيف نتعامل مع المُعجبين بأنفسهم؟
أخطر ما يُفضي إليه العُجب بالنفس الكِبْر، ومن ثَمَّ التعالي على الآخرين، والإحساس الدائم بالتميز عنهم، وقبل أن نُبين كيفية التعامل معهم ينبغي أن نعرف كيف نُشخص الحالة حتى لا نتهم الآخرين أو نظن بهم غير الحق.
التشخيص:
وهناك علامات ودلالات تُعتبر مؤشرًا على الإصابة بهذا المرض العضال والتي تساعدنا على تشخيص حالته، ومن ثم البدء معه في مراحل الاحتواء التربوي والمعاملة الخاصة حتى يتجاوز تلك المحنة بأمان، وأهم تلك الأعراض:-
1- الرغبة في التصدر للأعمال التي فيها مسئولية جماهيرية.
2- الطلب المباشر للمسئولية سواء كان ذلك بالتصريح أو التلميح، أو بالحرص عليها.
3- الشعور بالأحقية للمسئولية دون الغير.
4- التقليل من شأن الآخرين والانتقاص من حقوقهم.
5- كثرة التحدث عن الذات وإظهار القدرات.
6- النقد اللاذع والمتكرر للآخرين، وإظهار طوق النجاة في اقتراحاته وأفكاره دائمًا.
7- الاعتداد بالرأي والتمسك به.
والأسباب المفضية إلى ذلك:-
1- المدح والثناء (المُبالغ فيه) في الوجه.
2- إسناد المسئولية دون إعدادٍ تربوي.
3- الاهتمام بالعمل على حساب الفرد، أي الاهتمام بإنجاز وتنفيذ الأعمال دون الالتفاتِ إلى احتياجات الشخص القائم بالعمل.
4- التساهل في التعامل مع الحالة من البداية خوفًا على مصلحة العمل مما يؤدي إلى تضخم المشكلة وصعوبة الحل.
5- عدم توظيف القدرات بشكلٍ جماعي والاعتماد بشكلٍ فردي على أفرادٍ بعينهم مما يُعرِّضهم للإصابة بالغرور والانتفاخ، ويكون في الصف في موقع الإملاء عليها والتحكم فيها، لشعوره بأنه على ثغرةٍ لا يسدها غيره.
خطوات العلاج:
أولاً: العلاج الإيماني
1- النصح والتوجيه:
وهذا ما يؤكد العلاج القرآني بأمثلته الغنية في تلك المسألة، فالنصح، والتوجيه، والإرشاد، كان بداية الطريق في قصة صاحب الجنتين الذي أُعجب بهما واغتر بنعمة الله عليه، وتعالى على صاحبه، والذي توجَّه إليه بالنصح محاولاً تصحيح المسار عنده ?قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)? (الكهف).
2- التذكير الدائم بالنعم وحق المنعم:
وهي من الأسباب التي تحمل صاحبها على التواضع خوفًا من أن تُسحب منه النعمة التي ليس له فيها أدنى فضل فهي من الله.. ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ? (الكهف: من الآية 39) ثم التذكير بعاقبة عدم شكر المنعم، فالذي حباك مواهبك وإمكاناتك وطاقاتك قادرٌ على سحبها منك متى شاء ? فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)? (الكهف).
هكذا نصحه صاحبه المتواضع وذكَّره بنعم الله عليه وذكَّره بنشأته المهينة من ماءٍ وطين، وبعد أن وجهه صاحبه إلى كيفية الأدب الواجب في حق المنعم وبعد أن أنذره عاقبة البطر والكبر.. وهذا ما يجب أن يسبق مرحلة سحب مادة الافتخار والتعالي على الآخرين من النصح والتوجيه والإرشاد.. حتى إذا فشلت كل الوسائل بدأت المرحلة الثانية وهي الأشد مرارة.
ثانيًا : العلاج الحركي
وأُولى مراحل العلاج تبدأ بعدم إسناد المُعجب بنفسه أو المتعالي على الآخرين أي مسئولية ما دام ظهر عليه الشغف بها والحرص عليها؛ خوفًا عليه ومساعدةً له على تخطي أزمته، وحفاظًا على الصف من القلاقل، ففي إسناد المسئوليات له تحقيق لرغبات نفسه، وزيادة لقدسيتها لديه، وإعانة للشيطان عليه، إذ إن ذلك سيزيد من إعجابه بنفسه، فهو من البداية مُعجبٌ بها وبقدراتها دون أن تُسند له مهمة، فكيف إذا نالت نفسه ما تتطلع إليه، ونجح وازداد تفوقه، فهل نتوقع أن يراجع نفسه ويُصحح تصوراته، ويُقوِّم مساره، نعتقد أن ذلك لن يحدث، وكيف يحدث وقد جاءت الفرصة والتي قد لا تتكرر لإثبات الوجود، والإعلان للجميع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أنكم أخطأتم لأنكم تأخرتم في اختياري في موضع المسئولية، فها هي أعمالي الناجحة أمام أعينكم.
والمنادين بإسناد المسئولية- لمُعجب بنفسه المتصدر للزعامة- حتى يتسنى توجيهه ونفسه مستقرة لا تشعر بالقهر أو الظلم أو الحرمان، يجب أن ينتبهوا إلى أن هذا لا يُعتبر في صالحه على الإطلاق.. فإنسان لا يسمع لنصيحة الآخرين، وهذا هو واقع المُعجب بنفسه المتعالي على الآخرين دائمًا، فكيف حين تُسند إليه مسئولية، ويُشار إليه بالبنان، والكل يشهد بنجاحه وتفوقه؟!.
هل سيقبل أن يتنازل عن هذا الوضع والذي اقتنع تمام الاقتناع أنه وصل إليه عن جدارةٍ واستحقاق؟.. وماذا لو لم يستجب للعلاج والنصح والتوجيه بعد توليه المنصب أو تصدره للمسئولية؟ أظن أن الخسائر ستكون جسيمة على الفرد والحركة الدعوية.
نموذج قرآني لسحب مادة الافتخار:
نبقى قليلاً مع صاحب الجنتين الذي ظلم نفسه وتعالى على أخيه بما حباه الله من نعمٍ اختصه بها دون غيره، فهنا يؤكد العلاج القرآني في هذا النموذج على مسألة سحب مادة الافتخار والاستعلاء على الآخرين من بين يدي المُعجب بها؛ لأنه لم يحفظ تلك النعمة بشكر المُنعم، ولعل في نزعها منه دعوة للتأمل وإعادة الحسابات مرة ثانية.
فبعد أن نصحه صاحبه المتواضع وذكَّره بنعم الله عليه ذكَّره بنشأته المهينة من ماءٍ وطين، وبعد أن وجهه صاحبه إلى كيفية الأدب الواجب في حق المنعم وبعد أن أنذره عاقبة البطر والكبر.. وهذا ما يجب أن يسبق مرحلة سحب مادة الافتخار والتعالي على الآخرين من النصح والتوجيه والإرشاد.. حتى إذا فشلت كل الوسائل بدأت المرحلة الثانية وهي الأشد مرارةً بسحب المادة الحية من بين يديه والتي غالبًا ما تؤتي ثمارها الفعالة فصاحب الجنة الذي هو منذ قليل لم يستجب لنصح صاحبه، ولم يعبأ بتوجيهه له، بل زاده نصحه كبرًا وتعاليًا لدرجة أنه أنكر الساعة وأنكر أن تزول جنته.. ?مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً?.. ثم الادعاء بالمكانة العُليا في الآخرة إذا كان هناك بعث وعودة إلى الله ? وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا? (الكهف).
هذا الرجل الذي تعالى على أخيه ولم يسمع له بدأ يراجع نفسه، ويعيد حساباته عندما وجد مادة تفاخره وبطره وغروره خاويةً على عروشها، فحينها فقط عاد إلى رشده وصوابه وندم على ما فعل ?وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)? (الكهف).
علاج قاس ولكن:
ورغم قسوة العلاج ومرارته وخسائره الفادحة على الشخص إلا أن ذلك صبَّ في النهاية في مصلحته، وهذا هو المراد الحقيقي من العلاج، فليس المراد هو التخلص من إلحاحه المستمر، وطلبه الذي ينقطع للصدارة والإمارة، وليس المراد كذلك هو التودد والتقرب إليه على حساب دينه والتزامه وعلاقته بربه، فإعطاء المسكنات لا تُسمن ولا تُغني من علاج، فصاحب الجنتين رغم مرارة تجربته وقسوتها عليه عاد في النهاية إلى رشده واعترف بربوبية ووحدانية مولاه، وهذا هو عين الفلاح.
غزوة حنين:
والمسلمون في غزوة حنين مثال حي أمام أعيننا، ونموذج قرآني آخر لعلاج العُجب بالنفس والاغترار بقدراتها وإمكاناتها، فالمسلمون في هذه الغزوة قد أُعجبوا بكثرتهم وإمكاناتهم فكيف يُهزموا وهم كثير، وقد انتصروا في بدر وهم قلة ?وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ? (التوبة)، ولك أن تتخيل مدى الصدمة وشدتها على المسلمين فهم لم يتخيلوا الهزيمة ولم يتوقعوها، ولم يتخيلوا أن يخذلهم ربهم الذي وكلهم إلى كثرتهم التي أُعجبوا بها ?فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ? (التوبة: من الآية 25).
فالعقل البشري القاصر يقول لو أن الله نصرهم على عدوهم وبعد انتهاء المعركة يوجههم ويربيهم حقنًا للدماء وتوفيرًا للهرج والمرج الذي حدث في المعركة.
والعقل البشري يعجز عن أن يتخيل علاجًا تربويًا تُزهق فيه الأرواح، ويُهزم فيه جيشًا قائده الحبيب صلى الله عليه وسلم.
نعم.. إن العقل البشري يرى فيه الخذلان، ويرى فيه السطحيون القسوة، ولكن التجربة أثبتت أنه كان العلاج الفعَّال، ونهايته إصلاحًا للقلوب، وتقويمًا لها بعدم التعلق بغير الله.
وكيف لو انتصر المسلمون في هذه المعركة.. وزاد إعجابهم بكثرتهم وقوتهم ونسوا فضل الله عليهم، أو على أفضل تقدير سيكون فضل الله ومعيته ونصره في مرتبة بعد الاقتناع التام بأن الكثرةَ كانت وراء السبب في الانتصار.. إن الهزيمة الأولية والخسائر في الأرواح خيرٌ من نصرٍ سريعٍ يُعجب فيه المسلمون بكثرتهم ويُنسب الفضل لغير الله.
القاعدة النبوية:
ثم تأتي القاعدة النبوية في وضوحٍ وصراحةٍ لتبين للجميع عدم إجازة تَولية مَن طلب الإمارة أو حرص عليها، ففي حديث أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك. فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله أو أحدًا حرص عليه" (متفق عليه).
وأخيرًا دفع شبهة
المنع هو الحب:
يخشى البعض من أن المنع من إسناد المسئولية لمَن ينتظرها ويتمناها أو مَن يتصف بعلة العُجب بإمكاناته وقدراته سيضر بالدعوة وسيحرمها من طاقات أفرادها وإمكاناتهم، وسيضر بالعلاقات الاجتماعية، وستنفر الناس من الدعوة، أو يُفسر على أنه كره وبغض، وقتل للمواهب والإبداعات.
والواقع أن منع الإمارة أو المسئولية لمَن يستشرفها أو يطلبها أو يحرص عليها دافعه الحب له لا الحرمان أو التعنت، فالمنع في هذه الحالة أمرٌ تربوي يُفضي في النهاية رغم مرارته إلى مراجعة الشخص لنفسه مرةً ثانيةً عندما يجد نفسه محرومة مما تشتهيه.
واختيار وسيلة المنع رغم أن ظاهِرَهُ حرمان للجماعة المسلمة من نصرٍ قريب، أو كفاءة عالية، أو نجاح مُعين، إلا أنه في النهاية سيصبُّ في مصلحةِ العمل ككل، خاصةً إذا حدث انحراف متوقع من شخصية مُتعالية أو معحبة بنفسها عندها استشراف وحرص على المسئولية، بالإضافة إلى أن الأصل هو الحب والخوف على الآخر من فتنة الولاية والمسئولية.
فمع الصحابة الذين جاءوا النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألونه الولاية والإمارة، كيف كان تصرفه صلى الله عليه وسلم معهم فهذا سيدنا عبد الرحمن بن سمرة- رضي الله عنه-: "يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها..." (متفق عليه).
وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر "يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأّمَّرَنَّ على اثنين ولا تولَّيَنَّ مال يتيم"، وهكذا يجب أن يكون حبنا لإخواننا الذين نتعاطف معهم ونرفق بهم لا يكون دافعًا للاستجابة لطلباتهم بتوليتهم المسئولية فنزيدهم فتنة وابتلاء.
نعم.. الهداية من عند الله، ولكن للهداية أسباب، ولا يُعالج كل سبب إلا بنقيضه، فإنسان مُعجب بنفسه مُتكبر على الآخرين لا بد من مساعدته على تكلف التواضع، لا تعريضه للمزيد من الأضواء الفاتنة، والكاميرات المُكبرة والشهرة بين الناس.
من الواقع:
يقول الأستاذ فتحي يكن: أعرف إنسانًا تسلق جدار الدعوة بدون جدارةٍ وأصبح داعية قبل الأوان.. وكان يشكو ويعاني من عللٍ وأمراضٍ شتى.. أقلها العجب ومنها الصلف والفظاظة.. ولما علت منزلته وارتفعت درجته وارتفع معها عجبه وصلفه وفظاظته لم يعد من الممكن السيطرة عليه وضبطه؛ مما أدى في النهاية إلى سقوطه وخسارته