بقلم: الشيخ أبو جرة سلطاني- رئيس حركة مجتمع السلم
"من ظلم نفسه كان لغيره أظلم، ومن هدم دينه كان لمجده أهدم" الأحنف بن قيس
الإنسان كائن معقد، و"عُقَدُهُ" مركبة من المطبوع والمصنوع، فبعض العُقَدِ تولد معه وراثةً والبعض الآخر يكتسبها عادةً أو تقليدًا من واقعة الاجتماعي ومستواه الثقافي ومن مشاهداته ومسموعاته وسفرياته في الأقطار والأمصار، فإذا صادف أن عاش هذا الكائن الحي في بيئة معقدة تحول إلى "مفاعل نفسي" لا يقل خطره عن خطر أسلحة الدمار الشامل، ويحتاج حقًا إلى جلسات طويلة لنزع ما بنفسه من ألغام وتفكيك ما في مساحاته الثقافية من حقول مزروعة بقنابل الحقد، والحسد، والكراهية، وسوء الظن، والتوجس، والكبرياء، والصلف، وحب التسلط، والظلم، وضيق الأفق، وحب الانتقام، والكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور..إلخ.
لقد أحصى أحد علماء التربية وعلم السلوك سبعة وسبعين (77) مرضًا تحاصر الإنسان غير السوي، وهي بمثابة الحصون التي يضربها العدو الخائف على نفسه لمنع وصول أي شيء إليه ولو كان خيرًا، بل هي أشبه ما تكون بحراس المعبد الذين لا يرون في كل حائم حول معبدهم إلاّ مشاهد التآمر والتخابر والوقيعة، فإذا قام مَن ينصحهم أو يوجه نظراتهم الضيقة (المحبوسة في أقفاص التهم) رموه بكل نقيصة، وخلعوا عليه من النعوت والصفات ما لم يصف به القرآن إلا الأباليس والمردة والشياطين بسبب ضيق أفقهم.
هذا النوع من البشر موجود في كل المتجمعات، وموزع بين جميع الفئات والجماعات، ولا يكاد يشذ عنه تجمع واحد حتى لو كان قائمًا في بيت النبوة (كنموذج إخوة يوسف عليه السلام) أو حتى حضرة الأنبياء (عليهم السلام ) والنماذج كثيرة وموصولة الثقة ببعضها من نموذج السامري الذي رافق موسى عليه السلام في رحلة العبور إلى نموذج ابن سلول الذي أفسدت عليه الهجرة النبوية المطهرة عرسًا كبيرًا كان سينتهي بجلوسه على عرش الأوس والخزرج بعد أن نجح في تحريك كوامن الأحقاد والإحن في نفسيات الطامحين للرئاسة والطامعين في أن يكونوا من "المقربين" من النافذين فكشفت الهجرة أستارهم وعرَّت المؤاخاة أفكارهم وسقط فرسا الرهان في مدارج "فأصبحتم بنعمته إخوانًا".
لقد ذكَّر القرآن الكريم بأبعاد هذا الصراع الكامن في تلافيف النفس البشرية، وأشار إلى أن العلاج كان تأليفًا بين القلوب، وهي العملة التي يجب أن يدور عليها فقه علم النفس الدعوي كمدرسة جديدة، أو متجددة، تفترض في الناس ست مسلّمات:
1- أنهم أصحاب علم بالموضوع وتفاصيله وليسوا جاهلين كما يتصور أصحاب الأفق الضيق.
2- أنهم ناضجون فكريًّا ومسئولون عن أنفسهم فيما يختارون أو يتركون.
3- أنهم ينظرون إليك بمثل ما تنظر أنت إليهم، ويشفقون عليك بالمثل تمامًا.
4- أنهم لا يتأثرون "بغزارة" علمك، وإنما بتأثير قدوتك إن كنت صاحب قدوة.
5- أن نفسياتهم "مشبعة" بقناعات سابقة تحتاج إلى تفريغ متدرج منهجي.
6- أن هناك "مشوشات" خارجية عليك، فلست في الدنيا وحدك الأستاذ.
لاحظ الأسلوب القرآني في عرض إشكالية النفس المجردة بصرف النظر عن إيمانها وكفرها، أو عن استقامتها واعوجاجها، أو عن كثرة عقدها وبساطة تركيبها، فالنفس هي النفس لا تتغير إلا بجهد مبذول يعطيها "قيمة مضافة" كالأرض تمامًا: تزرع قنطارًا في الجزائر فيعطيك عشرين (20) قنطارًا، ويزرع غيرك، نفس القنطار في كاليفورنيا فيعطيه الرقم مضاعفًا ثلاثة إلى أربع مرات، فلماذا تختلف النسب بيننا وبينهم والزرع واحد؟
السبب معروف: أن الفلاح الجزائري مازال يعتمد على العوامل الخارجية، فلا يبذل الجهد اللازم وينتظر الخير الوفير، فإذا لم يحصل ذلك"عوضته " الدولة جهده الذي لم يبذله، أما المزارع -غير الجزائري- فيستصحب العوامل الخارجية كأدوات مكملة، أما الأصل فهو الجهد المبذول من داخل العملية نفسها بدءًا بتحضير التربية وانتهاء بحسن التخزين.
هذا المثال الزراعي هو نفسه المنهج النفسي المعتمد في الفقه الدعوي بالخطوات السبع (7) المدونة في كتاب هداية النفس البشرية بالتقابل التالي:
- البشر في الجزائر يقابلهم الجنس البشري في أي بقعة على وجه الأرض، فالعنصر واحد.
- البذور الزراعية تقابلها النفسيات البشرية (فالبعض قمح والبعض خرطال).
- الأرض المهيأة للزراعة تقابلها البيئة الثقافية والاجتماعية لأي مجتمع.
- مياه السقي (مهما كان مصدرها) تقابلها المجهودات الدعوية كيفما كانت وجهتها.
- الفلاح أو المزارع هو الداعية أو العالم أو المصلح أو "الزعيم".
- الإرشاد الفلاحي (الوسائل، والإمكانات) يقابله المناهج والبرامج الدعوية والتربوية.
- مواسم البذر والحصاد، أو الزرع وجمع الغلال هي نفسها نتائج الجهد التربوي الكامل.
فما هو سر الفرق بين العشرين في محاصيل الجهد الزراعي الجزائري مثلاً والثمانين في محاصيل الجني في كاليفورنيا مثلاً؟ هل الخلل في الأرض، أم في البذور، أم في مياه السقي، أم في برامج الإرشاد، أم في طريقة الحصاد أم في منهج البذر؟ وهل صورة المنهج النفسي الدعوي هي نفسها هذه؟
الجواب سهل إلى درجة الضحك على الواقع برمته؛ لأن العيب، أو الخلل في العالم المتقدم (إن كان هناك عيب أو تقصير) يرد دائمًا للبشر؛ لأن البشر عندهم يتحملون المسئولية ونتائجها، أما عندنا فالتقصير أو الخلل يعزى دائمًا للجمادات، أو للحيوانات؛ لأن البشر عندنا مستعدون للقفز إلى أي كرسي شاغر ولكنهم- في الغالب الأعمى- ليسوا مستعدين لتحمل نتائج المسئولية، وليس ذلك فقط، وإنما هم متحفزون باستمرار لاتهام "الظروف" بأنها ضدهم حتى لو كانت هذه الظروف جائحة تأتي مرة بعد كل عشرين عامًا، وكان يفترض أن يهيئوا أنفسهم لهذه الجائحة.
ففقه التبرير لأي فشل صار مدرسة يقرأ فيها كل صاحب مسئولية درسًا واحدًا هو أن النجاح يأتي دائمًا بفضل "الأنا" والفشل تقف وراءه جيوش جراد يزحف "الأنتم" حتى لو كان هذا "الأنتم" على مساحات يعرف كل ملاكها أن احتمال زحف الجراد عليها وارد، ولو مرة كل عشرين عامًا، كما يعرفون أن الفيضانات، والحرائق، والسوس، البيوض، و"بوفروة" والبعوض..كلها عوامل تدخل في صميم العملية الزراعية، ويقرأ مهندسو الفلاحة كل ذلك في الجامعات والمعاهد المتخصصة.
هذا السلوك الزراعي ينطبق تمامًا على السلوك الدعوي، الأغلبية الساحقة من المنتسبين للدعوة يتحدثون بصوت عالٍ عن النجاحات الباهرة التي حققوها أو تحققت في أزمنة كانوا هم فيها المزارعين الكبار، فلما ضربت "نجاحاتهم" جائحة تشبه الجراد والبيوض والبعوض تجدهم يهرعون إلى الاحتماء بالفقه التبريري رافعين آلوية الفكر التآمري الذي صار مشجبًا يعلق عليه المنهزمون معاطفهم الثقيلة التي يريدون فرض لباسها على المصطافين من غير "مقدمات" مقنعة نفسيًّا وفكريًّا.
بهذا المثال الحي أطرح موضوعًا طالما تحاشته الأطراف الهاربة من مواجهة حقيقة فشل مشاريعها التي تعتقد أن مجرد طرحها أو إلقائها في الشارع كافٍ لأن تحتضنها الجماهير قياسًا على ثورة نوفمبر 1954م، وأعني بذلك الجانب النفسي في فقه الأزمات وفي فهم مفاصل الدعوة ورجالها، أو قل بشكل أكثر تواضعًا: نفسيات الأفراد والجماعات التي نعرض عليها "بضاعتنا" هل تغيرت؟ هل هي بحاجة إلى "ضخّ" المزيد من المعرفة والفقه الاجتماعي حتى تتغير؟ هل ضحالة مردودنا الدعوي يعود إلى خلل في الزراع أم خلل في المزروع أو أنّ العيب في المتعهد بالزراعة الذي صار يوكل كل أمره إلى الأمطار الموسمية التي تأتي بها سحب الحملات الانتخابية وتتجمع في سدود صناديق الاقتراع؟
هذه السلسلة من الأحاديث في علم النفس الدعوي سوف تكشف النقاب عن أخطاء كانت قاتلة للمشروع، وسوف تقدم مقترحات نظرية وعملية على طريق التجديد الفكري والمعرفي يتناسب مع التحولات الحاصلة في المحيطين الإقليمي والدولي قد تنفع الزراع (المزارعين) الذين تصدروا مواكب الدعوة بمنهج الاعتماد على ماء السماء فقط، وكلهم يعلم أن الفرق بين زكاة ما سقته الأمطار، وما تم سقيه بالجهد البشري، كقيمة مضافة، هو نصف العشر وربع العشر، وهي إشارة فقهية لابد من أخذها بعين الاعتبار.
وكذلك الدعوات فيها زكاة ربع العشر للنافرين ثقالاً، وفيها زكاة نصف العشر للنافرين خفافًا، شتان بين مَن قصد الحق فأخطأه وبين من أراد الباطل فأصابه، وبين من عرف "العضلات" فتعامل معها بالحسنى، ومن نظر إلى"النفسيات" فعالجها بالخشنى.
مقدمات عامة.. مفاتيحها: اعرف نفسك وادعُ غيرك
لكل إنسان أربعُ قوى لا يُسخِّر منها- في المتوسط العام- سوى 10%، وأكثر الناس يعطلون بعضها مدى الحياة، وآخرون يستخدمونها استخدامًا سيئًا، فيحدث لهم ما حدث للجهات المختصة بما يُعرف بأسلحة الدمار الشامل، فلو دقَّقَت القوى العظمى حساباتها لأمرت بتفتيش كل واحد منا؛ لأن كل واحد منا يحمل حقًا "مشروعًا" نوويًّا يمكن أن يستخدمه في أية لحظة بإمكانيات بسيطة وبطُرُق بدائية- يملك أن يطورها في ظرف قياسي- إذا صمم كل واحد منا على إعادة اكتشاف ذاته على قواعد علمية دقيـقة الحساب لأهداف إستراتيجية.
ولكي أساعدك على إعادة اكتشاف ذاتك فإني أضع بين يديك "الخريطة النفسية" لكل بشَر، بصرف النظر عن ماهيته، تاركًا لك البحث عن الخطوط المكملة لها في تضاريسها الكبرى "الخاصة" بكل شخصية؛ لتدرك- منذ الوهلة الأولى- أن نفسك ليست شيئًا هينًا، وإنما الذي جعلها هينةً هو أنت؛ بإهمالك لقدراتك وإمكانياتك، وسوء استخدامك لقواك الأربع الأساسية، وأعني بها بشكل واضح ومباشر:
- قوة الروح (الجـوهرية ) المرفرفة بأشواقـها إلى سدرة المنتهى إلا إذا قُمِعت.
- قوة العقل (التفكيـرية) الموغلة بإدراكها في المجردات والملموسات إذا تحررت.
- قوة النفس (الغريزية) الغـارقة في مخاطات الشهوات والشبهات إلا إذا صامت.
- قوة الطين (الجـسدية) الهابطة إلى مهـاويها الترابية من حمإ مسنون إلا إذا رُفعت.
وهذه القوى الأربع لها جنودها وأشواخهـا، وسلطانها، وبأسها الشديد، وتجمعها جميعًا أربع حالات، هي: الطمع، والكبر، والشهوة، والشبهة.. وتتجاذبها أربعة نواسف، هي: المرض العصابي (الوسواس القصري، الاكتئاب الوهمي، القلق، اللغز، الخوف الغيبي)، ثم ناسف الشعور بالدونية (عقدة الإحساس بالتهميش، عقدة الانبهار بالآخر، عقدة الاستلاب الثقافي والفكري واللغوي، عقدة اليأس من اللحاق بالركب، عقدة استصغار الذات وتضخيم الآخر.. إلخ..)، ثم ناسف الإحساس بالإحباط والانفلات من قاطرة السير والدوران حول الذات، وانغلاق كل مساحات الأمل (في العمل، في الزواج، في السكن، في السفر، في كسب الاصدقاء أو نسج أي علاقة مع المحيط الخارجي.. إلخ)، وآخرها ناسف الانطوائية، والانكفاء حول الذات، والنظر إلى الحياة بمنظار السواد القاتم، والحكم على كل مناشط الحياة ومساعي الناس بأنها سراب وقبض الريح.
وتتوالى هذه الرباعيات بشكل مضطرد؛ حـيث تصل- حسب إحصائية طبية نظرية- إلى 19.556 حالة هي حاصل ضرب 4 في 4 على نفسها 16 مرة، وإذا كنت مستعدًّا أن أضع بين يديك صورةً مقربةً لهندستك الوراثية من الداخل لتطل على نفسك، فإني أدعوك إلى حفظ خارطة القوى الأربع سالفة الذكر وتفريعاتها؛ لتدرك أنَّك كائن أعقد من كل المفاعلات النووية، وأن فيك من المركبات ما يتجاوز كل تصور؛ ولذلك قلت في المقال السابق- في حديثي عن عموميات حول علم النفس الدعوي-: إن إدراك الجانب النفسي في فقه الأزمات (الخاصة والعامة) هو مفتاح الدعوة الحـقيقي، بل هو المفتاح الأول لولوج عالم نفسي لا نعرف عنه إلا السطوح في خريطة نفسية مخيفة.
خريطة النفس البشرية.. مفتاحها: أنت لا تعرف نفسك لذلك تظلمها فتتآمر عليك
الإنسان ذو أبعاد أربعة تتداخل مع أربعة أمزجة، وتتشابك مع أربعة أخلاط، تتوزع في شكل أربعة مستويات، تحملها أربع قوى، تتوزع على أربعة أجناس وتدور في فلك الفصول الأربعة على محاور مخلوقية (طبعية)، أربعة تنبثق عنها أربع مجموعات من النواسف (الأمراض)، يتم دفعها بأربع طرق من الكمالات (العلاجات الأساسية) وبالمنطق الرياضي 4 أس 10 (ما لا تعلمون).
هذه الرباعيات هي "جـوهر" مكونات الإنسان لأنها تتحكم فيه حقًّا، والذين يتحدثون عن البرمجة العصبية أو عن رسم الذاكرة، أو عن إعادة تشكيل العقل، وتأهيل النفس والعودة بالروح إلى فطرتها، ليسوا علماء تنظير، ولا هم هدفهم الضحك على ذقون الناس "سحرة" أو التلبس عليهم، وإنما هم علماء جادون في كل ما يقولونه بشرطَين لا بد منهما قبل "البرمجة":
- أن تكون هذه العمليات فردية (أي البرمجة العصبية الفردية) لكل فرد على حدة.
- أن يتم الفحص الدقيق للخريطة الجينية (الكلرموزمية) لكل فرد قبل "البرمجة" بدقة.
أعطيك مثالاً على القوى الأربع التي ذكرتها سابقًا؛ لتدرك "قيمتك" في الحياة، وتتيقن أن أعقد جهاز وُجد على وجه الأرض هو الإنسان، وأن كل المخترعات والمكتشفات لا تساوي شيئًا أمام الإنسان الذي ما زلت أكرر أنه لا يستخدم من قواه مجتمعةً إلا10% كمعدل عام للبشرية جمعاء، أما إنسان العالم الثالث فالمعدلات باعثة على الخجل، خاصةً إذا تعلق الأمر بقوة الروح وقوة الفكر، أما النفس والجسد (في جوانبها السلبية) فالمعدلات عالية وبغير ضوابط إنسانية ولا أخلاقية ولا حتى قانونية!! فهو بحق "إنسان سائب".
ولكي نقرب الفهم نفترض- مجرد افتراض- أن هناك إنسانًا يعيش بقوة واحدة فقط، معطلاً- عن عمد- بقية القوى تمامًا، كما تتـعطل المحركات الثلاثة (مثلاً) لطائرة ما، وتقطع ما بقي لها من رحلة بمحرك واحد، فما الذي يحدث لرحلة الطائرة..؟! ومن باب أولى ما الذي يحدث للإنسان؟!
- الافتراض الأول: هو افتراض إنسان يعيش بالروح فقط، فالرباعيات التي يدور فيها هي الهواء، الصفراء، الروحانية، البياض، الربيع والجمادية، فالهواء هو في كل مكان، ولكنه لا يبرح مكانه، وبالصفراء هو فوق كل الناس، وليس عنده شيء مما يملك الناس، (فهو أغنى الأغنياء مع شدة فقره، وهو ملك الملوك البشرية مع أنه جالس في بيته، وهو الناظر إلى صراع الناس على المادة نظرة الرجل إلى تهاوش الأطفال على اللعب.. إلخ)، وهو بروحانيته يرى ما لا يرى الناس، ويسمع ما لا يسمعون، ويُدرك قبل أن يدركوا، فهو جالس في غرفـة التحكم، وهو ببياضه شديد الحساسية من بقية الألوان، لا سيما (الأسود)؛ لذلك لا يخالط الناس، ولا "يخوض" مع الخائضين، ولا يرى في دنيا الناس ما يغريه بمخالطتهم.. فعالمه داخل نفسه.
وهو في ربيعه يعيش داخل جنة نفسه، فيشم أريح الأزهار، وهي ليست موجودةً في الواقع، ويتخير أطايب الثمار والناس لا يرونها، وينظم القصائد في بدائع المروج وفي زقزقات العصافير وخرير مياه الأنهار وبديع صنع الخالق، ولا شيء من هذه الجماليات موجودة إلا في "جنة النفس" التي هي السعادة الحقيقية بغير أزواق، ولا ديكورات يراها الناس حقيقة، ويراها الروحاني قشورًا، فإذا أدرك هذه المقامات دخل في صفاء الكمال، وتجاوز عقبات الحل إلى إشراقات الحلول، فإذا توازن استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وإذا اختل توازُنه اجتث من فوق الأرض ما له من قرار كما يقول أقطاب الصوفية.
والتوازن هنا في قوة الروح، معناه الوقوف عند عتبة "فدنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى"، ودليل ذلك ظهور فراشة ترى وتنظر بنور الله، وتخترق بعض حجب الغيب.. وهذا مقام لا نتحدث عنه؛ لأنه "مخصص" لمن نهى النفس عن الهوى (شهوة وشبهة).
- الافتراض الثاني: وهو نقيض الافتراض الأول.. إنسان يعيش بقوة طينية فقط؛ فهو جسدي، شهواني، سوداوي، خريفي، حيواني، ترابي، فبجسده يهبط إلى مواقع "عرق الجسد" ليعمل نائمًا ويقبض أو يدفع قائمًا، وبشهوانيته يشطب الحواجز الثلاثة (فلا حرامَ عنده، ولا عيبَ ولا ممنوع) فلا يؤمن- أمام صراخ نزواته الشهوانية- بدين يحرم، ولا بأخلاق تعيب عليه الإسراف في الفعل، ولا بدولة تنظم نزوات الناس بقانون رادع، وهو بسوداويته لا يرى في الدنيا إلا لحظة لذة ورعشة هوان، فهو عدو كل بياض، وحرب على كل فضيلة تقف في طريق شهواته ونزواته ومتعه حتى لو تعلقت بالمحارم، وهو في خريفه يعيش تساقط أوراق كل الأشجار من حوله، واصفرارها وتحطمها في نفسه، فكل حياته خريف يودع بانتظار شتاء يدفعنَّ بقايا "أوراق الحياة الساقطة".
وهو بحيوانيته غريزي الطبع، فساد وشبق عبر عنها الشاعر الجاهلي بقوله: "ولولا ثلاث هن من عيشة الفـتى" وقصته معروفة بتشبيه نفسه بالبعير الأجرب، فكم في مجتمعاتنا إبل جرباء؛ لأنها اختارت نمط الحياة الغريزية، وسخرت قواها الجسدية في هذا "النضال"، فكانت نهاية بعضهم رعشة، والذين هم في الانتظار ما زالوا سجناء السلوك الحيواني الجاذب باتجاه الطين. وهل تشرف "قبضة" طين بغير "نفخة" روح..؟!----------
"من ظلم نفسه كان لغيره أظلم، ومن هدم دينه كان لمجده أهدم" الأحنف بن قيس
الإنسان كائن معقد، و"عُقَدُهُ" مركبة من المطبوع والمصنوع، فبعض العُقَدِ تولد معه وراثةً والبعض الآخر يكتسبها عادةً أو تقليدًا من واقعة الاجتماعي ومستواه الثقافي ومن مشاهداته ومسموعاته وسفرياته في الأقطار والأمصار، فإذا صادف أن عاش هذا الكائن الحي في بيئة معقدة تحول إلى "مفاعل نفسي" لا يقل خطره عن خطر أسلحة الدمار الشامل، ويحتاج حقًا إلى جلسات طويلة لنزع ما بنفسه من ألغام وتفكيك ما في مساحاته الثقافية من حقول مزروعة بقنابل الحقد، والحسد، والكراهية، وسوء الظن، والتوجس، والكبرياء، والصلف، وحب التسلط، والظلم، وضيق الأفق، وحب الانتقام، والكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور..إلخ.
لقد أحصى أحد علماء التربية وعلم السلوك سبعة وسبعين (77) مرضًا تحاصر الإنسان غير السوي، وهي بمثابة الحصون التي يضربها العدو الخائف على نفسه لمنع وصول أي شيء إليه ولو كان خيرًا، بل هي أشبه ما تكون بحراس المعبد الذين لا يرون في كل حائم حول معبدهم إلاّ مشاهد التآمر والتخابر والوقيعة، فإذا قام مَن ينصحهم أو يوجه نظراتهم الضيقة (المحبوسة في أقفاص التهم) رموه بكل نقيصة، وخلعوا عليه من النعوت والصفات ما لم يصف به القرآن إلا الأباليس والمردة والشياطين بسبب ضيق أفقهم.
هذا النوع من البشر موجود في كل المتجمعات، وموزع بين جميع الفئات والجماعات، ولا يكاد يشذ عنه تجمع واحد حتى لو كان قائمًا في بيت النبوة (كنموذج إخوة يوسف عليه السلام) أو حتى حضرة الأنبياء (عليهم السلام ) والنماذج كثيرة وموصولة الثقة ببعضها من نموذج السامري الذي رافق موسى عليه السلام في رحلة العبور إلى نموذج ابن سلول الذي أفسدت عليه الهجرة النبوية المطهرة عرسًا كبيرًا كان سينتهي بجلوسه على عرش الأوس والخزرج بعد أن نجح في تحريك كوامن الأحقاد والإحن في نفسيات الطامحين للرئاسة والطامعين في أن يكونوا من "المقربين" من النافذين فكشفت الهجرة أستارهم وعرَّت المؤاخاة أفكارهم وسقط فرسا الرهان في مدارج "فأصبحتم بنعمته إخوانًا".
لقد ذكَّر القرآن الكريم بأبعاد هذا الصراع الكامن في تلافيف النفس البشرية، وأشار إلى أن العلاج كان تأليفًا بين القلوب، وهي العملة التي يجب أن يدور عليها فقه علم النفس الدعوي كمدرسة جديدة، أو متجددة، تفترض في الناس ست مسلّمات:
1- أنهم أصحاب علم بالموضوع وتفاصيله وليسوا جاهلين كما يتصور أصحاب الأفق الضيق.
2- أنهم ناضجون فكريًّا ومسئولون عن أنفسهم فيما يختارون أو يتركون.
3- أنهم ينظرون إليك بمثل ما تنظر أنت إليهم، ويشفقون عليك بالمثل تمامًا.
4- أنهم لا يتأثرون "بغزارة" علمك، وإنما بتأثير قدوتك إن كنت صاحب قدوة.
5- أن نفسياتهم "مشبعة" بقناعات سابقة تحتاج إلى تفريغ متدرج منهجي.
6- أن هناك "مشوشات" خارجية عليك، فلست في الدنيا وحدك الأستاذ.
لاحظ الأسلوب القرآني في عرض إشكالية النفس المجردة بصرف النظر عن إيمانها وكفرها، أو عن استقامتها واعوجاجها، أو عن كثرة عقدها وبساطة تركيبها، فالنفس هي النفس لا تتغير إلا بجهد مبذول يعطيها "قيمة مضافة" كالأرض تمامًا: تزرع قنطارًا في الجزائر فيعطيك عشرين (20) قنطارًا، ويزرع غيرك، نفس القنطار في كاليفورنيا فيعطيه الرقم مضاعفًا ثلاثة إلى أربع مرات، فلماذا تختلف النسب بيننا وبينهم والزرع واحد؟
السبب معروف: أن الفلاح الجزائري مازال يعتمد على العوامل الخارجية، فلا يبذل الجهد اللازم وينتظر الخير الوفير، فإذا لم يحصل ذلك"عوضته " الدولة جهده الذي لم يبذله، أما المزارع -غير الجزائري- فيستصحب العوامل الخارجية كأدوات مكملة، أما الأصل فهو الجهد المبذول من داخل العملية نفسها بدءًا بتحضير التربية وانتهاء بحسن التخزين.
هذا المثال الزراعي هو نفسه المنهج النفسي المعتمد في الفقه الدعوي بالخطوات السبع (7) المدونة في كتاب هداية النفس البشرية بالتقابل التالي:
- البشر في الجزائر يقابلهم الجنس البشري في أي بقعة على وجه الأرض، فالعنصر واحد.
- البذور الزراعية تقابلها النفسيات البشرية (فالبعض قمح والبعض خرطال).
- الأرض المهيأة للزراعة تقابلها البيئة الثقافية والاجتماعية لأي مجتمع.
- مياه السقي (مهما كان مصدرها) تقابلها المجهودات الدعوية كيفما كانت وجهتها.
- الفلاح أو المزارع هو الداعية أو العالم أو المصلح أو "الزعيم".
- الإرشاد الفلاحي (الوسائل، والإمكانات) يقابله المناهج والبرامج الدعوية والتربوية.
- مواسم البذر والحصاد، أو الزرع وجمع الغلال هي نفسها نتائج الجهد التربوي الكامل.
فما هو سر الفرق بين العشرين في محاصيل الجهد الزراعي الجزائري مثلاً والثمانين في محاصيل الجني في كاليفورنيا مثلاً؟ هل الخلل في الأرض، أم في البذور، أم في مياه السقي، أم في برامج الإرشاد، أم في طريقة الحصاد أم في منهج البذر؟ وهل صورة المنهج النفسي الدعوي هي نفسها هذه؟
الجواب سهل إلى درجة الضحك على الواقع برمته؛ لأن العيب، أو الخلل في العالم المتقدم (إن كان هناك عيب أو تقصير) يرد دائمًا للبشر؛ لأن البشر عندهم يتحملون المسئولية ونتائجها، أما عندنا فالتقصير أو الخلل يعزى دائمًا للجمادات، أو للحيوانات؛ لأن البشر عندنا مستعدون للقفز إلى أي كرسي شاغر ولكنهم- في الغالب الأعمى- ليسوا مستعدين لتحمل نتائج المسئولية، وليس ذلك فقط، وإنما هم متحفزون باستمرار لاتهام "الظروف" بأنها ضدهم حتى لو كانت هذه الظروف جائحة تأتي مرة بعد كل عشرين عامًا، وكان يفترض أن يهيئوا أنفسهم لهذه الجائحة.
ففقه التبرير لأي فشل صار مدرسة يقرأ فيها كل صاحب مسئولية درسًا واحدًا هو أن النجاح يأتي دائمًا بفضل "الأنا" والفشل تقف وراءه جيوش جراد يزحف "الأنتم" حتى لو كان هذا "الأنتم" على مساحات يعرف كل ملاكها أن احتمال زحف الجراد عليها وارد، ولو مرة كل عشرين عامًا، كما يعرفون أن الفيضانات، والحرائق، والسوس، البيوض، و"بوفروة" والبعوض..كلها عوامل تدخل في صميم العملية الزراعية، ويقرأ مهندسو الفلاحة كل ذلك في الجامعات والمعاهد المتخصصة.
هذا السلوك الزراعي ينطبق تمامًا على السلوك الدعوي، الأغلبية الساحقة من المنتسبين للدعوة يتحدثون بصوت عالٍ عن النجاحات الباهرة التي حققوها أو تحققت في أزمنة كانوا هم فيها المزارعين الكبار، فلما ضربت "نجاحاتهم" جائحة تشبه الجراد والبيوض والبعوض تجدهم يهرعون إلى الاحتماء بالفقه التبريري رافعين آلوية الفكر التآمري الذي صار مشجبًا يعلق عليه المنهزمون معاطفهم الثقيلة التي يريدون فرض لباسها على المصطافين من غير "مقدمات" مقنعة نفسيًّا وفكريًّا.
بهذا المثال الحي أطرح موضوعًا طالما تحاشته الأطراف الهاربة من مواجهة حقيقة فشل مشاريعها التي تعتقد أن مجرد طرحها أو إلقائها في الشارع كافٍ لأن تحتضنها الجماهير قياسًا على ثورة نوفمبر 1954م، وأعني بذلك الجانب النفسي في فقه الأزمات وفي فهم مفاصل الدعوة ورجالها، أو قل بشكل أكثر تواضعًا: نفسيات الأفراد والجماعات التي نعرض عليها "بضاعتنا" هل تغيرت؟ هل هي بحاجة إلى "ضخّ" المزيد من المعرفة والفقه الاجتماعي حتى تتغير؟ هل ضحالة مردودنا الدعوي يعود إلى خلل في الزراع أم خلل في المزروع أو أنّ العيب في المتعهد بالزراعة الذي صار يوكل كل أمره إلى الأمطار الموسمية التي تأتي بها سحب الحملات الانتخابية وتتجمع في سدود صناديق الاقتراع؟
هذه السلسلة من الأحاديث في علم النفس الدعوي سوف تكشف النقاب عن أخطاء كانت قاتلة للمشروع، وسوف تقدم مقترحات نظرية وعملية على طريق التجديد الفكري والمعرفي يتناسب مع التحولات الحاصلة في المحيطين الإقليمي والدولي قد تنفع الزراع (المزارعين) الذين تصدروا مواكب الدعوة بمنهج الاعتماد على ماء السماء فقط، وكلهم يعلم أن الفرق بين زكاة ما سقته الأمطار، وما تم سقيه بالجهد البشري، كقيمة مضافة، هو نصف العشر وربع العشر، وهي إشارة فقهية لابد من أخذها بعين الاعتبار.
وكذلك الدعوات فيها زكاة ربع العشر للنافرين ثقالاً، وفيها زكاة نصف العشر للنافرين خفافًا، شتان بين مَن قصد الحق فأخطأه وبين من أراد الباطل فأصابه، وبين من عرف "العضلات" فتعامل معها بالحسنى، ومن نظر إلى"النفسيات" فعالجها بالخشنى.
مقدمات عامة.. مفاتيحها: اعرف نفسك وادعُ غيرك
لكل إنسان أربعُ قوى لا يُسخِّر منها- في المتوسط العام- سوى 10%، وأكثر الناس يعطلون بعضها مدى الحياة، وآخرون يستخدمونها استخدامًا سيئًا، فيحدث لهم ما حدث للجهات المختصة بما يُعرف بأسلحة الدمار الشامل، فلو دقَّقَت القوى العظمى حساباتها لأمرت بتفتيش كل واحد منا؛ لأن كل واحد منا يحمل حقًا "مشروعًا" نوويًّا يمكن أن يستخدمه في أية لحظة بإمكانيات بسيطة وبطُرُق بدائية- يملك أن يطورها في ظرف قياسي- إذا صمم كل واحد منا على إعادة اكتشاف ذاته على قواعد علمية دقيـقة الحساب لأهداف إستراتيجية.
ولكي أساعدك على إعادة اكتشاف ذاتك فإني أضع بين يديك "الخريطة النفسية" لكل بشَر، بصرف النظر عن ماهيته، تاركًا لك البحث عن الخطوط المكملة لها في تضاريسها الكبرى "الخاصة" بكل شخصية؛ لتدرك- منذ الوهلة الأولى- أن نفسك ليست شيئًا هينًا، وإنما الذي جعلها هينةً هو أنت؛ بإهمالك لقدراتك وإمكانياتك، وسوء استخدامك لقواك الأربع الأساسية، وأعني بها بشكل واضح ومباشر:
- قوة الروح (الجـوهرية ) المرفرفة بأشواقـها إلى سدرة المنتهى إلا إذا قُمِعت.
- قوة العقل (التفكيـرية) الموغلة بإدراكها في المجردات والملموسات إذا تحررت.
- قوة النفس (الغريزية) الغـارقة في مخاطات الشهوات والشبهات إلا إذا صامت.
- قوة الطين (الجـسدية) الهابطة إلى مهـاويها الترابية من حمإ مسنون إلا إذا رُفعت.
وهذه القوى الأربع لها جنودها وأشواخهـا، وسلطانها، وبأسها الشديد، وتجمعها جميعًا أربع حالات، هي: الطمع، والكبر، والشهوة، والشبهة.. وتتجاذبها أربعة نواسف، هي: المرض العصابي (الوسواس القصري، الاكتئاب الوهمي، القلق، اللغز، الخوف الغيبي)، ثم ناسف الشعور بالدونية (عقدة الإحساس بالتهميش، عقدة الانبهار بالآخر، عقدة الاستلاب الثقافي والفكري واللغوي، عقدة اليأس من اللحاق بالركب، عقدة استصغار الذات وتضخيم الآخر.. إلخ..)، ثم ناسف الإحساس بالإحباط والانفلات من قاطرة السير والدوران حول الذات، وانغلاق كل مساحات الأمل (في العمل، في الزواج، في السكن، في السفر، في كسب الاصدقاء أو نسج أي علاقة مع المحيط الخارجي.. إلخ)، وآخرها ناسف الانطوائية، والانكفاء حول الذات، والنظر إلى الحياة بمنظار السواد القاتم، والحكم على كل مناشط الحياة ومساعي الناس بأنها سراب وقبض الريح.
وتتوالى هذه الرباعيات بشكل مضطرد؛ حـيث تصل- حسب إحصائية طبية نظرية- إلى 19.556 حالة هي حاصل ضرب 4 في 4 على نفسها 16 مرة، وإذا كنت مستعدًّا أن أضع بين يديك صورةً مقربةً لهندستك الوراثية من الداخل لتطل على نفسك، فإني أدعوك إلى حفظ خارطة القوى الأربع سالفة الذكر وتفريعاتها؛ لتدرك أنَّك كائن أعقد من كل المفاعلات النووية، وأن فيك من المركبات ما يتجاوز كل تصور؛ ولذلك قلت في المقال السابق- في حديثي عن عموميات حول علم النفس الدعوي-: إن إدراك الجانب النفسي في فقه الأزمات (الخاصة والعامة) هو مفتاح الدعوة الحـقيقي، بل هو المفتاح الأول لولوج عالم نفسي لا نعرف عنه إلا السطوح في خريطة نفسية مخيفة.
خريطة النفس البشرية.. مفتاحها: أنت لا تعرف نفسك لذلك تظلمها فتتآمر عليك
الإنسان ذو أبعاد أربعة تتداخل مع أربعة أمزجة، وتتشابك مع أربعة أخلاط، تتوزع في شكل أربعة مستويات، تحملها أربع قوى، تتوزع على أربعة أجناس وتدور في فلك الفصول الأربعة على محاور مخلوقية (طبعية)، أربعة تنبثق عنها أربع مجموعات من النواسف (الأمراض)، يتم دفعها بأربع طرق من الكمالات (العلاجات الأساسية) وبالمنطق الرياضي 4 أس 10 (ما لا تعلمون).
هذه الرباعيات هي "جـوهر" مكونات الإنسان لأنها تتحكم فيه حقًّا، والذين يتحدثون عن البرمجة العصبية أو عن رسم الذاكرة، أو عن إعادة تشكيل العقل، وتأهيل النفس والعودة بالروح إلى فطرتها، ليسوا علماء تنظير، ولا هم هدفهم الضحك على ذقون الناس "سحرة" أو التلبس عليهم، وإنما هم علماء جادون في كل ما يقولونه بشرطَين لا بد منهما قبل "البرمجة":
- أن تكون هذه العمليات فردية (أي البرمجة العصبية الفردية) لكل فرد على حدة.
- أن يتم الفحص الدقيق للخريطة الجينية (الكلرموزمية) لكل فرد قبل "البرمجة" بدقة.
أعطيك مثالاً على القوى الأربع التي ذكرتها سابقًا؛ لتدرك "قيمتك" في الحياة، وتتيقن أن أعقد جهاز وُجد على وجه الأرض هو الإنسان، وأن كل المخترعات والمكتشفات لا تساوي شيئًا أمام الإنسان الذي ما زلت أكرر أنه لا يستخدم من قواه مجتمعةً إلا10% كمعدل عام للبشرية جمعاء، أما إنسان العالم الثالث فالمعدلات باعثة على الخجل، خاصةً إذا تعلق الأمر بقوة الروح وقوة الفكر، أما النفس والجسد (في جوانبها السلبية) فالمعدلات عالية وبغير ضوابط إنسانية ولا أخلاقية ولا حتى قانونية!! فهو بحق "إنسان سائب".
ولكي نقرب الفهم نفترض- مجرد افتراض- أن هناك إنسانًا يعيش بقوة واحدة فقط، معطلاً- عن عمد- بقية القوى تمامًا، كما تتـعطل المحركات الثلاثة (مثلاً) لطائرة ما، وتقطع ما بقي لها من رحلة بمحرك واحد، فما الذي يحدث لرحلة الطائرة..؟! ومن باب أولى ما الذي يحدث للإنسان؟!
- الافتراض الأول: هو افتراض إنسان يعيش بالروح فقط، فالرباعيات التي يدور فيها هي الهواء، الصفراء، الروحانية، البياض، الربيع والجمادية، فالهواء هو في كل مكان، ولكنه لا يبرح مكانه، وبالصفراء هو فوق كل الناس، وليس عنده شيء مما يملك الناس، (فهو أغنى الأغنياء مع شدة فقره، وهو ملك الملوك البشرية مع أنه جالس في بيته، وهو الناظر إلى صراع الناس على المادة نظرة الرجل إلى تهاوش الأطفال على اللعب.. إلخ)، وهو بروحانيته يرى ما لا يرى الناس، ويسمع ما لا يسمعون، ويُدرك قبل أن يدركوا، فهو جالس في غرفـة التحكم، وهو ببياضه شديد الحساسية من بقية الألوان، لا سيما (الأسود)؛ لذلك لا يخالط الناس، ولا "يخوض" مع الخائضين، ولا يرى في دنيا الناس ما يغريه بمخالطتهم.. فعالمه داخل نفسه.
وهو في ربيعه يعيش داخل جنة نفسه، فيشم أريح الأزهار، وهي ليست موجودةً في الواقع، ويتخير أطايب الثمار والناس لا يرونها، وينظم القصائد في بدائع المروج وفي زقزقات العصافير وخرير مياه الأنهار وبديع صنع الخالق، ولا شيء من هذه الجماليات موجودة إلا في "جنة النفس" التي هي السعادة الحقيقية بغير أزواق، ولا ديكورات يراها الناس حقيقة، ويراها الروحاني قشورًا، فإذا أدرك هذه المقامات دخل في صفاء الكمال، وتجاوز عقبات الحل إلى إشراقات الحلول، فإذا توازن استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وإذا اختل توازُنه اجتث من فوق الأرض ما له من قرار كما يقول أقطاب الصوفية.
والتوازن هنا في قوة الروح، معناه الوقوف عند عتبة "فدنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى"، ودليل ذلك ظهور فراشة ترى وتنظر بنور الله، وتخترق بعض حجب الغيب.. وهذا مقام لا نتحدث عنه؛ لأنه "مخصص" لمن نهى النفس عن الهوى (شهوة وشبهة).
- الافتراض الثاني: وهو نقيض الافتراض الأول.. إنسان يعيش بقوة طينية فقط؛ فهو جسدي، شهواني، سوداوي، خريفي، حيواني، ترابي، فبجسده يهبط إلى مواقع "عرق الجسد" ليعمل نائمًا ويقبض أو يدفع قائمًا، وبشهوانيته يشطب الحواجز الثلاثة (فلا حرامَ عنده، ولا عيبَ ولا ممنوع) فلا يؤمن- أمام صراخ نزواته الشهوانية- بدين يحرم، ولا بأخلاق تعيب عليه الإسراف في الفعل، ولا بدولة تنظم نزوات الناس بقانون رادع، وهو بسوداويته لا يرى في الدنيا إلا لحظة لذة ورعشة هوان، فهو عدو كل بياض، وحرب على كل فضيلة تقف في طريق شهواته ونزواته ومتعه حتى لو تعلقت بالمحارم، وهو في خريفه يعيش تساقط أوراق كل الأشجار من حوله، واصفرارها وتحطمها في نفسه، فكل حياته خريف يودع بانتظار شتاء يدفعنَّ بقايا "أوراق الحياة الساقطة".
وهو بحيوانيته غريزي الطبع، فساد وشبق عبر عنها الشاعر الجاهلي بقوله: "ولولا ثلاث هن من عيشة الفـتى" وقصته معروفة بتشبيه نفسه بالبعير الأجرب، فكم في مجتمعاتنا إبل جرباء؛ لأنها اختارت نمط الحياة الغريزية، وسخرت قواها الجسدية في هذا "النضال"، فكانت نهاية بعضهم رعشة، والذين هم في الانتظار ما زالوا سجناء السلوك الحيواني الجاذب باتجاه الطين. وهل تشرف "قبضة" طين بغير "نفخة" روح..؟!----------