الغلو في فهم الدين *- سببه وعلاجه- (1- 2)
الدكتور الصادق الغرياني
الغلو في الدين أمر مذموم يسيء إلى الدين نفسه, كما أن صاحبه خاسر, لأنه مصر على باطله من حيث يرى أنه يحسن صنعا, والإسلام دين الاعتدال, وقد جعل الله تعالى هذه ألأمة أمة وسطا وأمر بالاعتدال في كل شيء حتى في العبادة, وقال صلى الله عليه وسلم: (( هلك المتنطعون )) 1 , وقال صلى الله عليه وسلم: ((.... يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين, فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين))2 .
سبب الغلو الكتب المشوشة والعقول الفارغة:
ليس كل ما انتحل الطب طبيبا, ولا من ادعى العلم عالما, ولا كل من كتب كتابا إسلاميا يؤخذ عنه, فإن المطابع تخرج كل يوم للناس أعدادا من الكتب الإسلامية , فيها الغث والسمين , من الكتب مالا يحمل علما ولا رسالة, وإنما ليدر ربحا ويقبض صاحبه ثمنا, وفي سبيل ذلك يأتي مؤلفه ببعض الطامات والغرائب غير المألوفة للناس , فيلفت الانتباه, ويروج في السوق, ومن الكتب المحسوبة على الإسلام من ينتحل مؤلفا أفكارا إلحادية هدامة, أو مفاهيم متطرفة تنقض على أركان الدين وقواعده كلها فتنسفها نسفا, ومع ذلك لا تزال هي كتبا إسلامية, وتقدم للناس على أنها المفاهيم الصحيحة للدين التي جاء بها القرآن , ويجب في زعمهم العض عليها بالنواجذ, ومن خالفها في زعمهم ابتدع, وترك القرآن , وخلع ربقة الإسلام, وكفر بالله من بعد إيمان.
ومن الكتاب من يسلك في ترويج باطله هذا مسلكا غريبا, يغلفه بالقرآن, ويقول: لا نريد سواه, فيأتي بالآية ويقطعها عن سابقها ولاحقها ويفسرها على هواه, كما فعلت الخوارج والرافضة من قبل, رافضين كل مصدر للتشريع غير القرآن, مكذبين بكل الموروث العظيم من تراث المسلمين, بحجة أن في القرآن تبيانا لكل شيء, وأن الله تعالى لم يفرط في كتابه من شيء, والقرآن من هذه الدعوى براء, فالقرآن هو القائل: (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))3 , وهو القائل لرسوله صلى الله عليه وسلم : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) 4 , وهو القائل: (( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا))5 , وهو الذي يدعو إلى الاعتبار والاستنباط وقياس الأحكام ويقول : (( فاعتبروا يا أولي الأبصار))6 .
وحاشا أن يكون في تطبيق القرآن عيب, أو يكون في كتاب الله تعالى نقص, ولكن العيب في الفهم السقيم.
هذا نوع من الغلو, يتمثل في التحرر من أوامر الدين, والضرب بكثير من تكاليفه المسلم بها عرض الحائط, وهناك نوع من الغلو على الطرف المقابل, يتمثل في فهم التكاليف والأحكام الشرعية فهما غريبا, يعطي للسنن والندوبات منزلة الواجبات, وللمكروهات مرتبة المحرمات, ويدخل أنواعا من المحرمات في باب المكفرات, فيسرف في تضليل الناس وتكفيرهم ويستخف بسلف الأمة, ويتعالى على الأئمة الذين أسسوا المدارس الفقهية ويعد اتباع هذه المدارس والانتساب إليها سبة, كل ذلك تحت اسم العمل بالكتاب والسنة, وتؤلف الكتب في هذا وذاك, وتقع مثل هذه الكتب في يد الصغار من الشباب, والعامة من الناس, الذين لم يسعدهم الحال بثقافة إسلامية أصلية, ولم ينالوا حظهم من العلم الشرعي الصحيح, فيغترون بما فيها من آراء أصحابها, وتستقر في عقولهم لعدم وجود البديل الصالح, ويعتنقونها بحماس شديد, وعصبية عمياء, ويرون أن الموت من أجلها استشهاد في سبيل الله , مع أنه قد يكون من تلك الأفكار المحسوبة على الدين أن الواحد منهم يكفر المجتمع بأسره, فلا يصلي مع الناس جمعة ولا جماعة, , ولا يأكل ذبائحهم , و يرى أنه لا يجوز له المقام معهم, لما هم عليه من المنكر والمعاصي, أو أنه لا يصلي على الإطلاق, ولا يحج ولا يصوم, إن كان ممن يدعي التحرر ونشأ في الاستغراب, لأنه يرى أن تلك (طقوس) ليست في الدين ذات بال.
علاج ولكن لا يفيد:
منع انتشار هذه الأفكار لا يعالج بالرقابة على الكتب والحيلولة بينها وبين الناس, فإن ذلك لا يفيد, بل قد يزيد الرغبة فيها والحرص على شرائها بأغلى الأثمان, فتروج في السوق ويثري أصحابها ويكون لهم شأن بين الناس, ويشجعهم ذلك على المزيد من نشر آثامهم, فإن كل ممنوع مرغوب, وما أمر الكتاب المسمى ( الآيات الشيطانية) عنا ببعيد, كتاب لا يعد شيئا ذا بال في موضوعه الرواية, تصدر قائمة أكثر الكتب بيعا في العالم, بفضل المنع والحظر والإعلام وحديث الناس ومظاهرات الاستنكار.... الخ, وأثرى مؤلفه من ورائه فصار ( مليونير ) بين عشية وضحاها, ولو سكت المسلمون عن الكتاب, وتركوه يعرض دون ضجيج, لحرموه الفرصة الذهبية, التي ما كان مؤلفه يحلم بها, ولبقي الكتاب كمًا مهملا لا يأبه له أحد, وفي ذلك ما يكفي للقضاء عليه دون أن يكلف المسلمون أنفسهم شيئا.
ولا يعالج منع انتشار هذه الأفكار أيضا بالقوة والقهر, فإن الإنسان يستطيع أن يأخذ محفظة نقود أحد الناس بالقوة, ولكن الحيلولة بينه وبين أفكاره مما لا سبيل إليه, بل ربما أدى ذلك إلى مزيد الاستمساك بها وإن كانت خاطئة , والأفكار لا تموت حتى بعد موت أصحابها.
العلاج الناجع علاج السبب:
والعلاج الناجع لأي مرض يكون بعلاج أسبابة, وإعطاء الناس المصل الواقي من عدواه, وتحصينهم من آفاته.
والوقاية دائما خير من العلاج, فإذا أراد مجتمع ما, منع التيارات المتطرفة والأفكار الخاطئة من الانتشار, فعليه أن يتيح الفرصة الكافية للمفاهيم الصحيحة للثقافة الدينية, بتقديم البديل السوي المقنع, الذي يملأ الفراغ الموجود في عقول الشباب, وذلك عن طريق المناهج العلمية الرصينة, وتوسيع قاعدة التعليم الديني الصحيح المتدرج, ليأخذ الدروس الأكاديمية المقننة المسئولة في الثقافة الإسلامية والعلوم الدينية مكانها, في المدارس والمعاهد و الجامعات والمساجد, فإن الناس في حاجتهم إلى معرفة دينهم ومعتقداتهم كحاجتهم إلى الماء والهواء, إذا وجدوا هواء نقيا وماء صافيا, أنفوا ورود المستنقعات, وهربوا بأنفسهم من الوخم والتلوث, وإذا لم يجدوا الشراب الزلال كرعوا في المستنقعات, وانتقلت العدوى منهم إلى الأصحاب, فتنعكس اللآثار السيئة من ذلك على المجتمع بأسره.
العوامل المساعدة على تكوين ثقافة دينية سوية:
وفي إطار تقديم البديل الصحيح يجب الاعتناء بالشمول والعمق في المواد المقررة, دون الاكتفاء بإعطاء المعلومات الضحلة, ويعتني بصفة خاصة بالجانب التربوي لتلقي العلم الشرعي, ونوعية القارئ, ليعرف كيف يكوِن ثقافته الدينية على نحو سوي, دون شطط أو غلو, آخذ بالآداب الشرعية التي وضعها علماء المسلمين الأوائل للعالم والمتعلم.
وفيما يلي التنبيه إلى أهم هذه الأمور التي تساعد القارئ على تكوين الثقافة المطلوبة التي لا غلو فيها ولا تفريط:
1- التمييز بين الكتب الثقافية وكتب الحلال والحرام:
يجب التمييز بين الكتب الإسلامية التي وضعت أساسا لبيان الحلال والحرام, وهي ما تعرف بكتب الفقه والأحكام, وبين الكتب العامة, التي تعتني بالتوجيه والتثقيف وإيقاف الناس على محاسن الإسلام, وحضهم على التمسك بتلك المحاسن, ليعيشها المسلم سلوكا حيا وأسلوب حياة.
والفرد المسلم محتاج إلى هذين النوعين من الكتب لا يستغني عنهما, لكنه ينبغي أن يحسن التفريق بينهما, فلا يأخذ الفتوى وأحكام الحلال والحرام من الكتب التثقيفية الموضوعة للتوجيه العام, لأن هذه الكتب مصممة أساس لتقديم فكرة ما, يقصد أن يكون لها تأثير ايجابي على سلوك القارئ, وقد يستشهد المؤلف على صحة فكرته هذه وإقناع الناس بها بعدد من الجزئيات والمواقف في السيرة النبوية, والأحاديث, وأعمال الصحابة, وأقوال السلف, وهذه الجزئيات والشواهد قد تقيم في مجموعها حجة على صحة تلك الفكرة قطعا, ولكن ليس بالضرورة أن تكون كل جزئية منها على حدة صالحة للاستدلال, طبقا لعلم الجرح والتعديل, وقانون قبول العلم واستنباط الأحكام.
والمؤلف ما قصد من هذه الشواهد التي ساقها أن تكون كل جزئية منها دليلا بنفسها على فكرته, وإنما أتى بعدد منها لتتضافر في مجموعها على إثبات ما يريده فلو أخذ القارئ فتوى شرعية من مثل هذه الجزئيات, سواء كانت أحاديث أو آثارا لكان مخطئا, لأنه استعمل النص في غير ما أراده مؤلفه, وهذا ينطبق أيضا على الأشرطة التثقيفية, المقصود منها في الغالب التذكير والوعظ والتثقيف, وليس بيان أحكام الحلال والحرام, فليست هي الأخرى مصدرا تؤخذ منه الفتوى.
2- التدرج في القراءة :
وإذا كان القارئ لا يستغني عن هذين النوعين من الكتب الإسلامية , فإنه ينبغي أن يتدرج في قرأتها حسب أولوياتها , فيتعلم أولا ما هو من فرض العين, الذي لا يعذر المسلم بجهله به عند الله يوم القيامة, وذلك الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وما فيه, ومعرفة أحكام الطهارة بأنواعها, وكذلك الصيام والزكاة والحج وما يحتاج إليه كذلك من المعاملات, فلا يقدم على شيء من ذلك حتى يعرف فيه حكم الله تعالى 7, ثم يأخذ بعد ذلك في قراءة كتب السيرة آثار السلف الصالح لتتربي نفسه على القدوة الحسنة, والتأدب بآداب العلماء والصالحين, ويتدرج بعد ذلك في أنواع الثقافة والمعارف الإسلامية بما يناسب قدراته واستعداده, ولا يتخطى هذه الأولويات الضرورية ويقفز, ليشغل نفسه ابتداء من القضايا الشائكة في علم الكلام ومسائل الفلسفة والجدل, مثل؛ هل أصحاب المعاصي كفرة أو مسلمون, وهل الإنسان مسير أو مخير, وهل الله عز وجل يريد الشر أو لا يريده, وما إلى ذلك من القضايا التي تمثل الترف الفكري, الذي لا يحتاجه كل أحد.
وبدلا من ذلك يشغل القارئ وقته بعد أن يتعلم ما تقدم من فروض العين بكتب الثقافة الإسلامية النافعة وتفاسير القرآن التي تتفق مع مداركه, وتجعله يفهم أن ما تعلمه من العقيدة وأركان الإسلام يحتم عليه أن يكون الإسلام في نفسه عملا وسلوكا ومنهج حياة, في ليله ونهاره, في أخذه وعطائه, في بيته مع أهله وأولاده, في تعامله مع الناس, وفي وظيفته, حتى يؤدي عمله بما يرضي الله تعالى, فقد أصبح الإيمان ضعيفا في النفوس, لا يحركها إلى العمل, ولا يحملها على الأنصاف والوقوف عند الحدود والحقوق, وتحول نوره من شعلة تنير قلب مسلم, وتجعله يهب لكل مكرمة وفضيلة, وتحجزه عن كل نقيصة, ورذيلة, تحول إلى مجرد كلمات يرددها على لسانه, ويناقضها بسلوكه وتصرفاته, وكأن الإيمان مجرد وظائف تلقائية شكلية, تصدر عن الإنسان كما تؤدي الآلة وظيفتها, دون اتصال بالله تعالى, ومراقبة وخوف منه.
زهد الناس في علم الفقه :
وقد زهد الناس اليوم في علم الفقه, خصوصا في تعليم فرائض الإسلام المتعلقة بأركانه, وهي معرفة ما يصحح الإيمان, ومعرفة الطهارة بأنواعها وأحكام الصلاة وباقي أركان الإسلام- زهدوا فيها زهدا عن جهل في كثير من الأحيان, حتى إنك لتجد كثيرا من ذوي المؤهلات العالية في التخصصات المختلفة في الجامعات والمؤسسات العلمية وفي غيرها تجد منهم من لا يحسن الوضوء, ولا غسل الجنابة ولا التيمم, ولا يعرف معنى السنة الراتبة ولا زكاة ماله, ويمنعه كبرياء المؤهل أن يتعلم ذلك, زاعما أن هذه أمور أولية معلومة لكل الناس, يعرفها الصغار, ويتعلمونها في أعمارهم الأولى, وليست هي من علوم الكبار.
وسرت عدوى التزهيد في تعلم هذه الفرائض وفي علم الفقه إجمالا إلى بعض الكتاب الإسلاميين, فتأثروا بأقوال القاعدة العريضة من المثقفين ثقافة عصرية – وزادهم من الثقافة الإسلامية قليل – فصاروا هم أيضا يقللون من أهمية الدراسات الفقهية, وتعلم الحلال والحرام, بحجة أن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى من يقوم سلوكه, ويقدم له الإسلام على أنه منهج حياة, ليأخذ بيده إلى آفاق العلم وميادين الاختراعات, وكأن الفقه عدوُ التقدم.
ولا يتحرج الواحد من هؤلاء أن يلقى كلاما على عواهنه غير مسؤول, كأن يقول مثلا: الغرب يخترع أدق الأجهزة ويرسل المركبات إلى الفضاء ونحن نختلف هل اللمس ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء, ويحتج على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان داعيا , ولم يكن غير ذلك.
وهذه مغالطة شنيعة, فما كانت الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فقها بما تحمله هذه الكلمة في أوسع معانيها, فقها بتقويم النفوس وتربيتها لتأخذ بأسباب القوة ونشر العلم والعدل والحق, ليتبوأ المسلمون المكان اللائق بهم على الأرض, وفقها و فقها بتعليم الناس وما يجب عليهم وما لا يجب, وما يصح به عملهم, ليكون مقبولا عند الله تعالى, وما يفسد به إذا اختلت أركانه وشروطه.
ولم يكن الفصل بين المعنيين لكلمة الفقه قائما بين الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان يعلمهم أول ما يعلمهم أركان الإسلام ومسائل الطهارة والغسل والصلاة, بل كان صلى الله عليه وسلم يعتني بتعليمهم آداب الاستنجاء والدخول إلى الخلاء, ففي الصحيح أن أحد المشركين قال لسليمان: (( إني أرى صاحبكم يعلمكم, حتى يعلمك الخراءة, فقال: أجل, إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه أو يستقبل القبلة, ونهى عن الروث العظيم))8 , وكان صلى الله عليه وسلم يقول للذي يترك لمعة على قدمه لم يصلها الماء بعد أن توضأ: (( ويل للأعقاب من النار))9 , ويأمره بأن يرجع ويحسن وضوءه, ويقول للذي صلى صلاة اختلف فيها الشروط والأركان: (( ارجع فصل , فإنك لم تصل)), ويبن له بعد ذلك أركان الصلاة وشروطها.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على علمهم وفضلهم وفهمهم الصحيح لدين الله تعالى يعتنون بتعلم الوضوء وتعليمه, وهم كبار, وكانوا يجلسون إلى واحد منهم ليشاهدوه يتوضأ وضوءا متقنا, يشبه وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ففي الصحيح: (( أن عثمان بن عفان توضأ بالمقاعد, وعنده رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم توضأ ثلاثا)) 10, وفي الصحيح : (( قيل لعبد الله ابن زيد: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم)) 11.
وقد اشتهر جماعة من الصحابة بالفقه ومعرفة الحلال والحرام , كانوا مرجعا للناس في الفتوى ومعرفة الأحكام.
والقول بأن الغرب استولى على الفضاء ونحن لازلنا نختلف على نواقض الوضوء قول ليس فيه شيء من الفقه في الدعوة إلى الله تعالى, ولا هو في ميزان العقل مقبول, فها معنى هذا أن المسلمين كانت لهم المقومات التي تمكنهم من إرسال المركبات إلى الفضاء وعاقهم عن ذلك انشغالهم بنواقض الوضوء؟؟؟ وهل تقدمت الأمم الأخرى في الغرب, ووصلت إلى ما وصلت إليه بعد أن قفلت جميع أقسام التخصصات في جامعاتها, ولم تترك إلا قسم الاختراعات والفضاء, وإذا لم تقم بقفلها, فلماذا لم يعقها مثلا التخصص في آدابها القديمة وفي تراثها, أو في شعر (شكسبير) وغيره, عن الاختراعات والعلوم, كما عاقنا نحن المسلمين الانشغال بنواقض الوضوء عن الصعود إلى الفضاء!؟.
فما هكذا تورد الإبل, ولا تصلح الأمم, فالأمة محتاجة إلى كل فرع من فروع المعرفة الدينية والدنيوية, ولا يترك علم لأجل آخر, فما تركت الأمة من علم فاتها, وما تعلمته عاد عليها نفعه, فلا تترك التجارة من أجل التفوق في الحدادة, ولا الهندسة من أجل النبوغ في الطب, ولم يكن علماء المسلمين في ازدهار الدولة الإسلامية يعرفون هذا التفريق البغيض, ولا يغمزون بالطعن في تعليم الفرائض الأولية في الدين, استرضاء أو مجاراة لأهل الشرق أو الغرب , أو للمتأثرين بهم من أبناء الإسلام, بل هم الذين فرعوا هذه المسائل الفقهية التي ننكرها, وشققوها, وكان العالم منهم في أي فرع من فروع المعرفة نبغ؛ كالهندسة أو الرياضيات أو الكيمياء أو البصريات أو الجغرافيا أو الطب – غالبا ما يكون فقيها أو مفسرا أو نحويا أو أدبيا في الوقت نفسه.
وقد قل في الناس اليوم على مستوى العالم الإسلامي الفقيه المؤهل للفتوى واستنباط الأحكام بجدارة, وتطبيقها على واقع الناس, على كثرة العلماء الذين يكتبون في الموضوعات العامة التثقيفية, أو يتحدثون فيها, وكأن التزهيد في الدراسات الفقهية المتخصصة بدأ يؤتي ( ثماره) فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, جاء في الحديث الصحيح: (( إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا, ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم, فيبقى ناس جهال يستفتون, فيفتون برأيهم, فيضلون ويضلون))12
3- أخذ العلم عن أهله:
ينبغي لطالب الثقافة الدينية, وهو يتلمس طريقه لأخذ العلم الشرعي سواء كان عن طريق الفتوى والمشافهة في الدروس, أو عن طريق الكتب قراءة واطلاعا- ينبغي أن يعرف أن هذا العلم دين فلينظر عمن يأخذ دينه, فإذا كان مؤلف الكتاب , أو العالم الذي يعطي الفتوى ويدرس ضعيف الدين, من علماء السوء, لا يتقي الله, ولا يتورع عن الحرام, ولا يقف عند حدود الله, يعطي الفتوى وضدها, ليأخذ المال أو ليحافظ على منصب أو جاه, فلا يقلده دينه, ولا يأخذ بفتواه, كذالك إذا كان المفتي قليل العلم, يخلط في المسائل , ويتسرع في الفتوى, ولا يتأنى بالرجوع إلى المصادر, فلا يأخذ عنه, يقول الإمام مالك: (( لقد أدركت سبعين ممن يقول, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين – وأشار إلى المسجد – فما أخذت عنهم شيئا وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أمينا, إلا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن))13 . وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن سيرين: ((إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)).
وكان ابن أبي جمرة يسمي العالم الذي لا يخشى الله ولا يعمل بعلمه – يسميه صانعا من الصناع, كالحداد والخياط, ولا يسميه عالما, خوفا منه – رحمه الله تعالى – على منصب العلم أن ينتسب إلى غير أهله14 .
4- معرفة الإنسان قدر نفسه :
على الإنسان أن يعرف قدر نفسه, فلا يغتر, ولا يدعي العلم لما لم يعرف وإذا جلس مع أهل التخصص في فرع من فروع المعرفة وهو ليس منهم, فليعط القوس باريها, وليجلس مجلس المتعلم المستفيد, لا مجلس الجاهل الغبي, الذي يستولي على المجلس بكلامه, فيحرم الفائدة , ولا يجد لكلامه أذنا صاغية, والذي لا يعرف قدره, ويفتي في غير علمه, لمجرد أنه قرأ كتابا أو كتابين في علم ما, وألم ببعض مسائله يسئ إلى نفسه, وليس هو بقادر على إقناع الناس برأيه, فإذا كان الإنسان في مجلس, وجرى ذكر مسألة من المسائل, فلا يسبق أصحابها بالكلام , فإن كانت المسألة في التجارة والحساب تركها لأهل التجارة والحساب, وإن كانت في القانون تركها لأهل القانون, وإن كانت في الحلال والحرام تركها لأهل الشرع.
وقد كثر في الناس اليوم من يتجرأ على الفتوى, فيتصدر المجالس, ويصدر الأحكام, وهو لا يحسن قصار السور, ولم يعرف من الحديث أسماء كتبه المشهورة, ناهيك بقراءتها, ولم يقرأ من الفقه كتابا, وكل زاده أنه اطلع على بعض كتب الحديث المختصرة من غير شروح مثل (( الترغيب والترهيب)) أو ((رياض الصالحين)).
ورحم الله تعالى الإمام مالكا حين قال : (( ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس, حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة (التخصص) في المسجد, فإن رأوه أهلا لذلك جلس, وما جلست حتى شهد سبعين شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك)) 15, وكان يقول: (( لا خير فيمن يرى نفسه بحالة لا يراه الناس لها أهلا))16 , وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : (( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) 17.
5- التعصب مذموم والخطأ لا يسلم منه أحد:
من الأشياء البغيظة في العلم, التعصب للرأي لمجرد كونه رأي فلان أو علان, وتخطئه الرأي الآخر, ورميه بالضلال والبطلان, وأحيانا تكفير صاحبه كما يفعل المتعصبين في أيامنا ممن ينتمون إلى العلم, وتبعهم في ذلك صغار من الشباب على قلة في العلم, فصارو يكيلون التكفير للمسلمين جزافا, ويخطئون الأئمة وهم لا يزالون غمانا سنا وعلما, ولم يسمعوا بأمهات الكتب في علوم الحديث وعلوم الفقه وأصوله, ولا يحسنون النطق بأسمائها, بله قراءتها وفهمها, ومع ذلك تجد الواحد منهم يضعف الحديث ويقويه, ويقول (( مذهب مالك ضعيف, وأخطأ الشافعي في كذا, وفلان مدلس, وفلان ضعيف , وهذا الحديث مرسل, وهذه رواية شاذة, ولو سألته ما هو الشاذ لتوقف حمار الشيخ في العقبة, فهو كالحادي وليس له بعير, حتى صارت كلمة (مالكي) أو شافعي) عندهم سبة, ولقبا من ألقاب الذم, إذا أطلقوها فيما بينهم على شخص فإنهم ينعتونه بها لينتقصوه, وليصموه بالخروج عن منهج السلف والجماعة في زعمهم.
والإنسان عليه أن يعرف – وهو يأخذ العلم - أن الخطأ لا سلم منه لأحد إلا المعصوم بالوحي, فلو قال لك شخص : إن العالم الفلاني, أو المحدث الفلاني لا يخطئ , فهو يكذب عليك, فلا تشغل نفسك به.
وللإنسان أن ينتصر لقول من أقوال أهل العلم, ويدافع عنه إذا رآه صوابا, كانت له قدرة على التصويب والنظر في الأدلة, فيعتنق ذلك الرأي ويدين الله تعالى عليه, ذلك أمر محمود, لأن كل إنسان مأمور بأن يأخذ في دينه بما يراه صوابا, إن كان قادرا على الإختيار بمعيار القوانين التي وضعها العلماء, ولكن لا ينبغي له أن يسيء إلى من يخالف رأيه من العلماء في مسائل الاجتهاد, ويسفه أقوالهم, فليس اجتهاد أولى من اجتهاد, وخصوصا إذا كانوا من الأئمة الذين هم أهل الاجتهاد والاستنباط, الملتزمين بشروط العلم وقوانينه في استنباطهم واجتهادهم, فهؤلاء جميعا يستحقون التقدير والترحم, ويجدر النظر إلى أعمالهم بالثناء الجميل والإكبار, لفضلهم على الناس بما بذلوا من جهد مثمر, ووقت نفيس في نقل العلم واستنباط الأحكام وإثراء المعارف الإسلامية برصيد ضخم من النصوص ذات القيمة التشريعية الفذة, ولأولاهم لما وصل إلينا شيء من العلم الذي نتعالى اليوم عليهم به.
وقد كان دأب السلف من العلماء, وسنتهم, أنهم يتناظرون في العلم ويختلفون في الاجتهاد , ويختط الواحد منهم لنفسه المنهج الذي يعتقده صوابا, ويرى أنه مطالب بأن يدين الله تعالى عليه, لكنه ثناء الأئمة على بعضهم يضيق عليها هذا المقام, يقول الإمام الشافعي عن كتاب الموطأ للإمام مالك: (( ما رأيت كتابا ألف في العلم أكثر صوابا من موطأ مالك)) 18
واشتهر على لسان كثير من الأئمة في المسائل الاجتهادية: (( رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب))19 , وكان الإمام الشافعي يقول: (( وددت أن الناس تعلموا هذا العلم, ولا ينتسب إلي شيء منه , وأوجر عليه ولا يحمدوني))20 , وطلب هارون الرشيد , وهو خليفة من الإمام مالك أن يلزم الناس في جميع البلاد الإسلامية بما في كتابه الموطأ وترك ما سواه من الأقوال المخالفة, فمنعه من ذلك, وكان يقول: (( إنما أنا بشر أخطأ وأصيب))21 .
وكانوا يرون أن من بركة العلم التواضع وإنكار الذات, وأن من استفاد شيئا يضيفه إلى قائله, ولا يسطو عليه, يقول أبوعبيد القاسم بن سلام: (( من شكر العلم أن تستفيد الشيء, فإذا ذكر لك قلت: خفي علي كذا وكذا, ولم يكن لي به علم حتى أفادني فلان فيه كذا وكذا, فهذا شكر العلم))22 .
وهذه الروح روح التواضع والإنصاف ضرورية لكل عالم ومتعلم يريد الخير لنفسه ونفع الناس بعلمه , ومناشدة الحق والعمل به, والعلم الذي يلمح للقارئ بين سطوره الغرور والتعالي والانتصار للنفس والثناء عليها علم لا خير فيه, لأن ذلك دليل عدم الإخلاص وأن مؤلفه يريد ببضاعته الدنيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن كتاب ( أساسيات الثقافة الإسلامية)
1- مسلم 4/2055, والتنطع: الغلو والتكلف والتعمق فيما لا ينبغي.
2- ابن ماجه 2/1008.
3- الحشر آية 7
4- النساء آية 65
5- النساء آية 115
6- الحشر آية 2
7- انظر الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص 21
8 - مسلم 1/224
9 - البخاري مع فتح الباري 1/276, ومسلم 1/215
10 - - مسلم 1/207, والمقاعد: موضع أعده رضي الله عنه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس, والوضوء وغيره
11 - مسلم 1/210
12 - البخاري مع فتح الباري 17/44.
13 - الديباج المذهب 1/100
14 - انظر المدخل 1/17, و ( صفحات في أدب الرأي) ص 53 وما بعدها.
15 - الديباج المذهب 1/102
16 - المصدر السابق
17 - البخاري مع فتح الباري 11/131
18 - الاستذكار 1/23
19 - انظر التعريفات للجرجاني ص 59
20 - الشافعي حياته وعصره ص 24
21 - انظر جامع بيان العلم وفضله 1/132
22 - المزهر 2/69 .
لمصدر: صحيفة ليبيا اليوم الالكتروني
الدكتور الصادق الغرياني
الغلو في الدين أمر مذموم يسيء إلى الدين نفسه, كما أن صاحبه خاسر, لأنه مصر على باطله من حيث يرى أنه يحسن صنعا, والإسلام دين الاعتدال, وقد جعل الله تعالى هذه ألأمة أمة وسطا وأمر بالاعتدال في كل شيء حتى في العبادة, وقال صلى الله عليه وسلم: (( هلك المتنطعون )) 1 , وقال صلى الله عليه وسلم: ((.... يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين, فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين))2 .
سبب الغلو الكتب المشوشة والعقول الفارغة:
ليس كل ما انتحل الطب طبيبا, ولا من ادعى العلم عالما, ولا كل من كتب كتابا إسلاميا يؤخذ عنه, فإن المطابع تخرج كل يوم للناس أعدادا من الكتب الإسلامية , فيها الغث والسمين , من الكتب مالا يحمل علما ولا رسالة, وإنما ليدر ربحا ويقبض صاحبه ثمنا, وفي سبيل ذلك يأتي مؤلفه ببعض الطامات والغرائب غير المألوفة للناس , فيلفت الانتباه, ويروج في السوق, ومن الكتب المحسوبة على الإسلام من ينتحل مؤلفا أفكارا إلحادية هدامة, أو مفاهيم متطرفة تنقض على أركان الدين وقواعده كلها فتنسفها نسفا, ومع ذلك لا تزال هي كتبا إسلامية, وتقدم للناس على أنها المفاهيم الصحيحة للدين التي جاء بها القرآن , ويجب في زعمهم العض عليها بالنواجذ, ومن خالفها في زعمهم ابتدع, وترك القرآن , وخلع ربقة الإسلام, وكفر بالله من بعد إيمان.
ومن الكتاب من يسلك في ترويج باطله هذا مسلكا غريبا, يغلفه بالقرآن, ويقول: لا نريد سواه, فيأتي بالآية ويقطعها عن سابقها ولاحقها ويفسرها على هواه, كما فعلت الخوارج والرافضة من قبل, رافضين كل مصدر للتشريع غير القرآن, مكذبين بكل الموروث العظيم من تراث المسلمين, بحجة أن في القرآن تبيانا لكل شيء, وأن الله تعالى لم يفرط في كتابه من شيء, والقرآن من هذه الدعوى براء, فالقرآن هو القائل: (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))3 , وهو القائل لرسوله صلى الله عليه وسلم : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) 4 , وهو القائل: (( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا))5 , وهو الذي يدعو إلى الاعتبار والاستنباط وقياس الأحكام ويقول : (( فاعتبروا يا أولي الأبصار))6 .
وحاشا أن يكون في تطبيق القرآن عيب, أو يكون في كتاب الله تعالى نقص, ولكن العيب في الفهم السقيم.
هذا نوع من الغلو, يتمثل في التحرر من أوامر الدين, والضرب بكثير من تكاليفه المسلم بها عرض الحائط, وهناك نوع من الغلو على الطرف المقابل, يتمثل في فهم التكاليف والأحكام الشرعية فهما غريبا, يعطي للسنن والندوبات منزلة الواجبات, وللمكروهات مرتبة المحرمات, ويدخل أنواعا من المحرمات في باب المكفرات, فيسرف في تضليل الناس وتكفيرهم ويستخف بسلف الأمة, ويتعالى على الأئمة الذين أسسوا المدارس الفقهية ويعد اتباع هذه المدارس والانتساب إليها سبة, كل ذلك تحت اسم العمل بالكتاب والسنة, وتؤلف الكتب في هذا وذاك, وتقع مثل هذه الكتب في يد الصغار من الشباب, والعامة من الناس, الذين لم يسعدهم الحال بثقافة إسلامية أصلية, ولم ينالوا حظهم من العلم الشرعي الصحيح, فيغترون بما فيها من آراء أصحابها, وتستقر في عقولهم لعدم وجود البديل الصالح, ويعتنقونها بحماس شديد, وعصبية عمياء, ويرون أن الموت من أجلها استشهاد في سبيل الله , مع أنه قد يكون من تلك الأفكار المحسوبة على الدين أن الواحد منهم يكفر المجتمع بأسره, فلا يصلي مع الناس جمعة ولا جماعة, , ولا يأكل ذبائحهم , و يرى أنه لا يجوز له المقام معهم, لما هم عليه من المنكر والمعاصي, أو أنه لا يصلي على الإطلاق, ولا يحج ولا يصوم, إن كان ممن يدعي التحرر ونشأ في الاستغراب, لأنه يرى أن تلك (طقوس) ليست في الدين ذات بال.
علاج ولكن لا يفيد:
منع انتشار هذه الأفكار لا يعالج بالرقابة على الكتب والحيلولة بينها وبين الناس, فإن ذلك لا يفيد, بل قد يزيد الرغبة فيها والحرص على شرائها بأغلى الأثمان, فتروج في السوق ويثري أصحابها ويكون لهم شأن بين الناس, ويشجعهم ذلك على المزيد من نشر آثامهم, فإن كل ممنوع مرغوب, وما أمر الكتاب المسمى ( الآيات الشيطانية) عنا ببعيد, كتاب لا يعد شيئا ذا بال في موضوعه الرواية, تصدر قائمة أكثر الكتب بيعا في العالم, بفضل المنع والحظر والإعلام وحديث الناس ومظاهرات الاستنكار.... الخ, وأثرى مؤلفه من ورائه فصار ( مليونير ) بين عشية وضحاها, ولو سكت المسلمون عن الكتاب, وتركوه يعرض دون ضجيج, لحرموه الفرصة الذهبية, التي ما كان مؤلفه يحلم بها, ولبقي الكتاب كمًا مهملا لا يأبه له أحد, وفي ذلك ما يكفي للقضاء عليه دون أن يكلف المسلمون أنفسهم شيئا.
ولا يعالج منع انتشار هذه الأفكار أيضا بالقوة والقهر, فإن الإنسان يستطيع أن يأخذ محفظة نقود أحد الناس بالقوة, ولكن الحيلولة بينه وبين أفكاره مما لا سبيل إليه, بل ربما أدى ذلك إلى مزيد الاستمساك بها وإن كانت خاطئة , والأفكار لا تموت حتى بعد موت أصحابها.
العلاج الناجع علاج السبب:
والعلاج الناجع لأي مرض يكون بعلاج أسبابة, وإعطاء الناس المصل الواقي من عدواه, وتحصينهم من آفاته.
والوقاية دائما خير من العلاج, فإذا أراد مجتمع ما, منع التيارات المتطرفة والأفكار الخاطئة من الانتشار, فعليه أن يتيح الفرصة الكافية للمفاهيم الصحيحة للثقافة الدينية, بتقديم البديل السوي المقنع, الذي يملأ الفراغ الموجود في عقول الشباب, وذلك عن طريق المناهج العلمية الرصينة, وتوسيع قاعدة التعليم الديني الصحيح المتدرج, ليأخذ الدروس الأكاديمية المقننة المسئولة في الثقافة الإسلامية والعلوم الدينية مكانها, في المدارس والمعاهد و الجامعات والمساجد, فإن الناس في حاجتهم إلى معرفة دينهم ومعتقداتهم كحاجتهم إلى الماء والهواء, إذا وجدوا هواء نقيا وماء صافيا, أنفوا ورود المستنقعات, وهربوا بأنفسهم من الوخم والتلوث, وإذا لم يجدوا الشراب الزلال كرعوا في المستنقعات, وانتقلت العدوى منهم إلى الأصحاب, فتنعكس اللآثار السيئة من ذلك على المجتمع بأسره.
العوامل المساعدة على تكوين ثقافة دينية سوية:
وفي إطار تقديم البديل الصحيح يجب الاعتناء بالشمول والعمق في المواد المقررة, دون الاكتفاء بإعطاء المعلومات الضحلة, ويعتني بصفة خاصة بالجانب التربوي لتلقي العلم الشرعي, ونوعية القارئ, ليعرف كيف يكوِن ثقافته الدينية على نحو سوي, دون شطط أو غلو, آخذ بالآداب الشرعية التي وضعها علماء المسلمين الأوائل للعالم والمتعلم.
وفيما يلي التنبيه إلى أهم هذه الأمور التي تساعد القارئ على تكوين الثقافة المطلوبة التي لا غلو فيها ولا تفريط:
1- التمييز بين الكتب الثقافية وكتب الحلال والحرام:
يجب التمييز بين الكتب الإسلامية التي وضعت أساسا لبيان الحلال والحرام, وهي ما تعرف بكتب الفقه والأحكام, وبين الكتب العامة, التي تعتني بالتوجيه والتثقيف وإيقاف الناس على محاسن الإسلام, وحضهم على التمسك بتلك المحاسن, ليعيشها المسلم سلوكا حيا وأسلوب حياة.
والفرد المسلم محتاج إلى هذين النوعين من الكتب لا يستغني عنهما, لكنه ينبغي أن يحسن التفريق بينهما, فلا يأخذ الفتوى وأحكام الحلال والحرام من الكتب التثقيفية الموضوعة للتوجيه العام, لأن هذه الكتب مصممة أساس لتقديم فكرة ما, يقصد أن يكون لها تأثير ايجابي على سلوك القارئ, وقد يستشهد المؤلف على صحة فكرته هذه وإقناع الناس بها بعدد من الجزئيات والمواقف في السيرة النبوية, والأحاديث, وأعمال الصحابة, وأقوال السلف, وهذه الجزئيات والشواهد قد تقيم في مجموعها حجة على صحة تلك الفكرة قطعا, ولكن ليس بالضرورة أن تكون كل جزئية منها على حدة صالحة للاستدلال, طبقا لعلم الجرح والتعديل, وقانون قبول العلم واستنباط الأحكام.
والمؤلف ما قصد من هذه الشواهد التي ساقها أن تكون كل جزئية منها دليلا بنفسها على فكرته, وإنما أتى بعدد منها لتتضافر في مجموعها على إثبات ما يريده فلو أخذ القارئ فتوى شرعية من مثل هذه الجزئيات, سواء كانت أحاديث أو آثارا لكان مخطئا, لأنه استعمل النص في غير ما أراده مؤلفه, وهذا ينطبق أيضا على الأشرطة التثقيفية, المقصود منها في الغالب التذكير والوعظ والتثقيف, وليس بيان أحكام الحلال والحرام, فليست هي الأخرى مصدرا تؤخذ منه الفتوى.
2- التدرج في القراءة :
وإذا كان القارئ لا يستغني عن هذين النوعين من الكتب الإسلامية , فإنه ينبغي أن يتدرج في قرأتها حسب أولوياتها , فيتعلم أولا ما هو من فرض العين, الذي لا يعذر المسلم بجهله به عند الله يوم القيامة, وذلك الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وما فيه, ومعرفة أحكام الطهارة بأنواعها, وكذلك الصيام والزكاة والحج وما يحتاج إليه كذلك من المعاملات, فلا يقدم على شيء من ذلك حتى يعرف فيه حكم الله تعالى 7, ثم يأخذ بعد ذلك في قراءة كتب السيرة آثار السلف الصالح لتتربي نفسه على القدوة الحسنة, والتأدب بآداب العلماء والصالحين, ويتدرج بعد ذلك في أنواع الثقافة والمعارف الإسلامية بما يناسب قدراته واستعداده, ولا يتخطى هذه الأولويات الضرورية ويقفز, ليشغل نفسه ابتداء من القضايا الشائكة في علم الكلام ومسائل الفلسفة والجدل, مثل؛ هل أصحاب المعاصي كفرة أو مسلمون, وهل الإنسان مسير أو مخير, وهل الله عز وجل يريد الشر أو لا يريده, وما إلى ذلك من القضايا التي تمثل الترف الفكري, الذي لا يحتاجه كل أحد.
وبدلا من ذلك يشغل القارئ وقته بعد أن يتعلم ما تقدم من فروض العين بكتب الثقافة الإسلامية النافعة وتفاسير القرآن التي تتفق مع مداركه, وتجعله يفهم أن ما تعلمه من العقيدة وأركان الإسلام يحتم عليه أن يكون الإسلام في نفسه عملا وسلوكا ومنهج حياة, في ليله ونهاره, في أخذه وعطائه, في بيته مع أهله وأولاده, في تعامله مع الناس, وفي وظيفته, حتى يؤدي عمله بما يرضي الله تعالى, فقد أصبح الإيمان ضعيفا في النفوس, لا يحركها إلى العمل, ولا يحملها على الأنصاف والوقوف عند الحدود والحقوق, وتحول نوره من شعلة تنير قلب مسلم, وتجعله يهب لكل مكرمة وفضيلة, وتحجزه عن كل نقيصة, ورذيلة, تحول إلى مجرد كلمات يرددها على لسانه, ويناقضها بسلوكه وتصرفاته, وكأن الإيمان مجرد وظائف تلقائية شكلية, تصدر عن الإنسان كما تؤدي الآلة وظيفتها, دون اتصال بالله تعالى, ومراقبة وخوف منه.
زهد الناس في علم الفقه :
وقد زهد الناس اليوم في علم الفقه, خصوصا في تعليم فرائض الإسلام المتعلقة بأركانه, وهي معرفة ما يصحح الإيمان, ومعرفة الطهارة بأنواعها وأحكام الصلاة وباقي أركان الإسلام- زهدوا فيها زهدا عن جهل في كثير من الأحيان, حتى إنك لتجد كثيرا من ذوي المؤهلات العالية في التخصصات المختلفة في الجامعات والمؤسسات العلمية وفي غيرها تجد منهم من لا يحسن الوضوء, ولا غسل الجنابة ولا التيمم, ولا يعرف معنى السنة الراتبة ولا زكاة ماله, ويمنعه كبرياء المؤهل أن يتعلم ذلك, زاعما أن هذه أمور أولية معلومة لكل الناس, يعرفها الصغار, ويتعلمونها في أعمارهم الأولى, وليست هي من علوم الكبار.
وسرت عدوى التزهيد في تعلم هذه الفرائض وفي علم الفقه إجمالا إلى بعض الكتاب الإسلاميين, فتأثروا بأقوال القاعدة العريضة من المثقفين ثقافة عصرية – وزادهم من الثقافة الإسلامية قليل – فصاروا هم أيضا يقللون من أهمية الدراسات الفقهية, وتعلم الحلال والحرام, بحجة أن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى من يقوم سلوكه, ويقدم له الإسلام على أنه منهج حياة, ليأخذ بيده إلى آفاق العلم وميادين الاختراعات, وكأن الفقه عدوُ التقدم.
ولا يتحرج الواحد من هؤلاء أن يلقى كلاما على عواهنه غير مسؤول, كأن يقول مثلا: الغرب يخترع أدق الأجهزة ويرسل المركبات إلى الفضاء ونحن نختلف هل اللمس ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء, ويحتج على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان داعيا , ولم يكن غير ذلك.
وهذه مغالطة شنيعة, فما كانت الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فقها بما تحمله هذه الكلمة في أوسع معانيها, فقها بتقويم النفوس وتربيتها لتأخذ بأسباب القوة ونشر العلم والعدل والحق, ليتبوأ المسلمون المكان اللائق بهم على الأرض, وفقها و فقها بتعليم الناس وما يجب عليهم وما لا يجب, وما يصح به عملهم, ليكون مقبولا عند الله تعالى, وما يفسد به إذا اختلت أركانه وشروطه.
ولم يكن الفصل بين المعنيين لكلمة الفقه قائما بين الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان يعلمهم أول ما يعلمهم أركان الإسلام ومسائل الطهارة والغسل والصلاة, بل كان صلى الله عليه وسلم يعتني بتعليمهم آداب الاستنجاء والدخول إلى الخلاء, ففي الصحيح أن أحد المشركين قال لسليمان: (( إني أرى صاحبكم يعلمكم, حتى يعلمك الخراءة, فقال: أجل, إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه أو يستقبل القبلة, ونهى عن الروث العظيم))8 , وكان صلى الله عليه وسلم يقول للذي يترك لمعة على قدمه لم يصلها الماء بعد أن توضأ: (( ويل للأعقاب من النار))9 , ويأمره بأن يرجع ويحسن وضوءه, ويقول للذي صلى صلاة اختلف فيها الشروط والأركان: (( ارجع فصل , فإنك لم تصل)), ويبن له بعد ذلك أركان الصلاة وشروطها.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على علمهم وفضلهم وفهمهم الصحيح لدين الله تعالى يعتنون بتعلم الوضوء وتعليمه, وهم كبار, وكانوا يجلسون إلى واحد منهم ليشاهدوه يتوضأ وضوءا متقنا, يشبه وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ففي الصحيح: (( أن عثمان بن عفان توضأ بالمقاعد, وعنده رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم توضأ ثلاثا)) 10, وفي الصحيح : (( قيل لعبد الله ابن زيد: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم)) 11.
وقد اشتهر جماعة من الصحابة بالفقه ومعرفة الحلال والحرام , كانوا مرجعا للناس في الفتوى ومعرفة الأحكام.
والقول بأن الغرب استولى على الفضاء ونحن لازلنا نختلف على نواقض الوضوء قول ليس فيه شيء من الفقه في الدعوة إلى الله تعالى, ولا هو في ميزان العقل مقبول, فها معنى هذا أن المسلمين كانت لهم المقومات التي تمكنهم من إرسال المركبات إلى الفضاء وعاقهم عن ذلك انشغالهم بنواقض الوضوء؟؟؟ وهل تقدمت الأمم الأخرى في الغرب, ووصلت إلى ما وصلت إليه بعد أن قفلت جميع أقسام التخصصات في جامعاتها, ولم تترك إلا قسم الاختراعات والفضاء, وإذا لم تقم بقفلها, فلماذا لم يعقها مثلا التخصص في آدابها القديمة وفي تراثها, أو في شعر (شكسبير) وغيره, عن الاختراعات والعلوم, كما عاقنا نحن المسلمين الانشغال بنواقض الوضوء عن الصعود إلى الفضاء!؟.
فما هكذا تورد الإبل, ولا تصلح الأمم, فالأمة محتاجة إلى كل فرع من فروع المعرفة الدينية والدنيوية, ولا يترك علم لأجل آخر, فما تركت الأمة من علم فاتها, وما تعلمته عاد عليها نفعه, فلا تترك التجارة من أجل التفوق في الحدادة, ولا الهندسة من أجل النبوغ في الطب, ولم يكن علماء المسلمين في ازدهار الدولة الإسلامية يعرفون هذا التفريق البغيض, ولا يغمزون بالطعن في تعليم الفرائض الأولية في الدين, استرضاء أو مجاراة لأهل الشرق أو الغرب , أو للمتأثرين بهم من أبناء الإسلام, بل هم الذين فرعوا هذه المسائل الفقهية التي ننكرها, وشققوها, وكان العالم منهم في أي فرع من فروع المعرفة نبغ؛ كالهندسة أو الرياضيات أو الكيمياء أو البصريات أو الجغرافيا أو الطب – غالبا ما يكون فقيها أو مفسرا أو نحويا أو أدبيا في الوقت نفسه.
وقد قل في الناس اليوم على مستوى العالم الإسلامي الفقيه المؤهل للفتوى واستنباط الأحكام بجدارة, وتطبيقها على واقع الناس, على كثرة العلماء الذين يكتبون في الموضوعات العامة التثقيفية, أو يتحدثون فيها, وكأن التزهيد في الدراسات الفقهية المتخصصة بدأ يؤتي ( ثماره) فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, جاء في الحديث الصحيح: (( إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا, ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم, فيبقى ناس جهال يستفتون, فيفتون برأيهم, فيضلون ويضلون))12
3- أخذ العلم عن أهله:
ينبغي لطالب الثقافة الدينية, وهو يتلمس طريقه لأخذ العلم الشرعي سواء كان عن طريق الفتوى والمشافهة في الدروس, أو عن طريق الكتب قراءة واطلاعا- ينبغي أن يعرف أن هذا العلم دين فلينظر عمن يأخذ دينه, فإذا كان مؤلف الكتاب , أو العالم الذي يعطي الفتوى ويدرس ضعيف الدين, من علماء السوء, لا يتقي الله, ولا يتورع عن الحرام, ولا يقف عند حدود الله, يعطي الفتوى وضدها, ليأخذ المال أو ليحافظ على منصب أو جاه, فلا يقلده دينه, ولا يأخذ بفتواه, كذالك إذا كان المفتي قليل العلم, يخلط في المسائل , ويتسرع في الفتوى, ولا يتأنى بالرجوع إلى المصادر, فلا يأخذ عنه, يقول الإمام مالك: (( لقد أدركت سبعين ممن يقول, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين – وأشار إلى المسجد – فما أخذت عنهم شيئا وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أمينا, إلا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن))13 . وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن سيرين: ((إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)).
وكان ابن أبي جمرة يسمي العالم الذي لا يخشى الله ولا يعمل بعلمه – يسميه صانعا من الصناع, كالحداد والخياط, ولا يسميه عالما, خوفا منه – رحمه الله تعالى – على منصب العلم أن ينتسب إلى غير أهله14 .
4- معرفة الإنسان قدر نفسه :
على الإنسان أن يعرف قدر نفسه, فلا يغتر, ولا يدعي العلم لما لم يعرف وإذا جلس مع أهل التخصص في فرع من فروع المعرفة وهو ليس منهم, فليعط القوس باريها, وليجلس مجلس المتعلم المستفيد, لا مجلس الجاهل الغبي, الذي يستولي على المجلس بكلامه, فيحرم الفائدة , ولا يجد لكلامه أذنا صاغية, والذي لا يعرف قدره, ويفتي في غير علمه, لمجرد أنه قرأ كتابا أو كتابين في علم ما, وألم ببعض مسائله يسئ إلى نفسه, وليس هو بقادر على إقناع الناس برأيه, فإذا كان الإنسان في مجلس, وجرى ذكر مسألة من المسائل, فلا يسبق أصحابها بالكلام , فإن كانت المسألة في التجارة والحساب تركها لأهل التجارة والحساب, وإن كانت في القانون تركها لأهل القانون, وإن كانت في الحلال والحرام تركها لأهل الشرع.
وقد كثر في الناس اليوم من يتجرأ على الفتوى, فيتصدر المجالس, ويصدر الأحكام, وهو لا يحسن قصار السور, ولم يعرف من الحديث أسماء كتبه المشهورة, ناهيك بقراءتها, ولم يقرأ من الفقه كتابا, وكل زاده أنه اطلع على بعض كتب الحديث المختصرة من غير شروح مثل (( الترغيب والترهيب)) أو ((رياض الصالحين)).
ورحم الله تعالى الإمام مالكا حين قال : (( ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس, حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة (التخصص) في المسجد, فإن رأوه أهلا لذلك جلس, وما جلست حتى شهد سبعين شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك)) 15, وكان يقول: (( لا خير فيمن يرى نفسه بحالة لا يراه الناس لها أهلا))16 , وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : (( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) 17.
5- التعصب مذموم والخطأ لا يسلم منه أحد:
من الأشياء البغيظة في العلم, التعصب للرأي لمجرد كونه رأي فلان أو علان, وتخطئه الرأي الآخر, ورميه بالضلال والبطلان, وأحيانا تكفير صاحبه كما يفعل المتعصبين في أيامنا ممن ينتمون إلى العلم, وتبعهم في ذلك صغار من الشباب على قلة في العلم, فصارو يكيلون التكفير للمسلمين جزافا, ويخطئون الأئمة وهم لا يزالون غمانا سنا وعلما, ولم يسمعوا بأمهات الكتب في علوم الحديث وعلوم الفقه وأصوله, ولا يحسنون النطق بأسمائها, بله قراءتها وفهمها, ومع ذلك تجد الواحد منهم يضعف الحديث ويقويه, ويقول (( مذهب مالك ضعيف, وأخطأ الشافعي في كذا, وفلان مدلس, وفلان ضعيف , وهذا الحديث مرسل, وهذه رواية شاذة, ولو سألته ما هو الشاذ لتوقف حمار الشيخ في العقبة, فهو كالحادي وليس له بعير, حتى صارت كلمة (مالكي) أو شافعي) عندهم سبة, ولقبا من ألقاب الذم, إذا أطلقوها فيما بينهم على شخص فإنهم ينعتونه بها لينتقصوه, وليصموه بالخروج عن منهج السلف والجماعة في زعمهم.
والإنسان عليه أن يعرف – وهو يأخذ العلم - أن الخطأ لا سلم منه لأحد إلا المعصوم بالوحي, فلو قال لك شخص : إن العالم الفلاني, أو المحدث الفلاني لا يخطئ , فهو يكذب عليك, فلا تشغل نفسك به.
وللإنسان أن ينتصر لقول من أقوال أهل العلم, ويدافع عنه إذا رآه صوابا, كانت له قدرة على التصويب والنظر في الأدلة, فيعتنق ذلك الرأي ويدين الله تعالى عليه, ذلك أمر محمود, لأن كل إنسان مأمور بأن يأخذ في دينه بما يراه صوابا, إن كان قادرا على الإختيار بمعيار القوانين التي وضعها العلماء, ولكن لا ينبغي له أن يسيء إلى من يخالف رأيه من العلماء في مسائل الاجتهاد, ويسفه أقوالهم, فليس اجتهاد أولى من اجتهاد, وخصوصا إذا كانوا من الأئمة الذين هم أهل الاجتهاد والاستنباط, الملتزمين بشروط العلم وقوانينه في استنباطهم واجتهادهم, فهؤلاء جميعا يستحقون التقدير والترحم, ويجدر النظر إلى أعمالهم بالثناء الجميل والإكبار, لفضلهم على الناس بما بذلوا من جهد مثمر, ووقت نفيس في نقل العلم واستنباط الأحكام وإثراء المعارف الإسلامية برصيد ضخم من النصوص ذات القيمة التشريعية الفذة, ولأولاهم لما وصل إلينا شيء من العلم الذي نتعالى اليوم عليهم به.
وقد كان دأب السلف من العلماء, وسنتهم, أنهم يتناظرون في العلم ويختلفون في الاجتهاد , ويختط الواحد منهم لنفسه المنهج الذي يعتقده صوابا, ويرى أنه مطالب بأن يدين الله تعالى عليه, لكنه ثناء الأئمة على بعضهم يضيق عليها هذا المقام, يقول الإمام الشافعي عن كتاب الموطأ للإمام مالك: (( ما رأيت كتابا ألف في العلم أكثر صوابا من موطأ مالك)) 18
واشتهر على لسان كثير من الأئمة في المسائل الاجتهادية: (( رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب))19 , وكان الإمام الشافعي يقول: (( وددت أن الناس تعلموا هذا العلم, ولا ينتسب إلي شيء منه , وأوجر عليه ولا يحمدوني))20 , وطلب هارون الرشيد , وهو خليفة من الإمام مالك أن يلزم الناس في جميع البلاد الإسلامية بما في كتابه الموطأ وترك ما سواه من الأقوال المخالفة, فمنعه من ذلك, وكان يقول: (( إنما أنا بشر أخطأ وأصيب))21 .
وكانوا يرون أن من بركة العلم التواضع وإنكار الذات, وأن من استفاد شيئا يضيفه إلى قائله, ولا يسطو عليه, يقول أبوعبيد القاسم بن سلام: (( من شكر العلم أن تستفيد الشيء, فإذا ذكر لك قلت: خفي علي كذا وكذا, ولم يكن لي به علم حتى أفادني فلان فيه كذا وكذا, فهذا شكر العلم))22 .
وهذه الروح روح التواضع والإنصاف ضرورية لكل عالم ومتعلم يريد الخير لنفسه ونفع الناس بعلمه , ومناشدة الحق والعمل به, والعلم الذي يلمح للقارئ بين سطوره الغرور والتعالي والانتصار للنفس والثناء عليها علم لا خير فيه, لأن ذلك دليل عدم الإخلاص وأن مؤلفه يريد ببضاعته الدنيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن كتاب ( أساسيات الثقافة الإسلامية)
1- مسلم 4/2055, والتنطع: الغلو والتكلف والتعمق فيما لا ينبغي.
2- ابن ماجه 2/1008.
3- الحشر آية 7
4- النساء آية 65
5- النساء آية 115
6- الحشر آية 2
7- انظر الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص 21
8 - مسلم 1/224
9 - البخاري مع فتح الباري 1/276, ومسلم 1/215
10 - - مسلم 1/207, والمقاعد: موضع أعده رضي الله عنه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس, والوضوء وغيره
11 - مسلم 1/210
12 - البخاري مع فتح الباري 17/44.
13 - الديباج المذهب 1/100
14 - انظر المدخل 1/17, و ( صفحات في أدب الرأي) ص 53 وما بعدها.
15 - الديباج المذهب 1/102
16 - المصدر السابق
17 - البخاري مع فتح الباري 11/131
18 - الاستذكار 1/23
19 - انظر التعريفات للجرجاني ص 59
20 - الشافعي حياته وعصره ص 24
21 - انظر جامع بيان العلم وفضله 1/132
22 - المزهر 2/69 .
لمصدر: صحيفة ليبيا اليوم الالكتروني