الحلقة الاولى : من أي طينة أنت ؟
بقلم الشيخ أبو جرّة سلطاني
هذا عنوان كتاب كبير الحجم عظيم الفائدة (يضع بين يديك 48 قاعدة للتعامل السياسي) عنوانه : كيف تمسك بزمام القوة، أهداه لي أخ كريم ورصعه بكلمات إهداء ثمينة، أسأل الله أن يتقبلها منه وينفعنا بها، وقد شُغلت عن قراءة هذا الكتاب لأسباب تعرفونها، حتى جاءني سفر طويل فكان فرصة لقراءته، وقد إستمتعت به أيما إستمتاع، فأردت أن أنقل"زبدته" إلى إخواني بعد تسجيل ملاحظتين على مضمونه
-أ - تعري السياسة من الأخلاق : همُّ المؤلف الأساس، في هذا الكتاب، هو رسم قواعد السيطرة المطلقة في لعبة السلطة، ولا تهمة الوسيلة، فمنطلقاته ميكيا فيلية، ولذلك يستعرض قصص الصراع حول السلطة من زواية القدرة على المسك بزمام القوة العارية من الأخلاق تماما، لأن السياسة في نظره نفعية وبلا خُلق.
وهذه نقطة نخالفه فيها جملة وتفصيلا، ذلك أن أعظم سياسي على وجه الأرض – وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد وصفه المولى عز وجل بقوله : "وإنك لعلى خلق عظيم"، والشاعر يؤكد هذا المعنى بقوله :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
ب- إسقاط حسن الظن : ففي نظره لا يوجد في السياسة رجل طيب، وعليه فإن كل الحسابات السياسية يجب أن تقوم على أساس سوء الظن، فالعواطف لم تصنع – عبر التاريخ كله- حاكما واحدا نجح في إدارة شؤون الحكم لفترة طويلة.
وهو ما نخالفه فيه، من حيث المبدأ، كون ديننا قائما على التراحم والتعاطف والحرص على مشاعر المحيطين بك، خاصة إذا كنت قائدا : "حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
وفي ما عدا هذين العيبين، فإن ما جاء في هذا الكتاب يعدّ "ثروة عظيمة" لمن يريد أن يعرف كيف أدار الزعماء – عبر التاريخ كله- لعبة السياسة وفق 48 قاعدة سياسية تعلمك أن تعرف الفرق بين قيمة ما تحصل عليه والثمن الذي تدفعه للحصول على ما تريد (بحساب الوقت والجهد والمال..).
أولا، الناس معادن: ان فهم نفسيات الناس مسألة جوهرية، لأن التعامل مع النفس البشرية يحتاج إلى أن يعرف الإنسان "معادنهم" وأحذر كل الحذر أن تضع المحيطين بك في سلة واحدة، لأن الله خلقهم مختلفين، و"كل ميسَّر لما خُلق له".
وفي التقسيم العام نجد الناس أربعة (04) أقسام كبرى هي :
-1 ترابيون : وهم الذين لا يؤمنون إلاّ بالملموس، ولا يرضيهم إلاّ ما تضعه في رصيدهم الخاص، ولا يربطون علاقاتهم بالناس إلاّ على أساس المصلحة، فإذا كنت قويا تزاحموا على بابك، فإذا ضعفت : "إنفضوا إليها وتركوك قائما".
- العلاج : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين، أي لا تهتم بهم كثيرا، لأنهم – كما قلناه دائما- هم الكرارون عند المغانم الفرارون يوم المغارم لأنهم ترابيون.
-2 هوائيون : يتأثرون بالدعاية والإشاعة، فيرضون عنك في الصباح فيمدحونك وكأنك ملك كريم، ويسخطون عليك في المساء فيذمونك وكأنك شيطان رجيم، وهؤلاء هم الذين قال فيهم القرآن الكريم : "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق (أي المصلحة) يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم إرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله..".
- العلاج : قل لهم في أنفسهم قولا معروفا، وأفضل طريقة لمعالجة أمراضهم الهوائية هي توجيه الحديث إلى غيرهم بحضورهم – دون التوجه إلى مخاطبتهم مباشرة- فهم أكثر الناس تأثرًا بأسلوب "إياك أعني وأسمعي يا جارة".
-3 مائيون : نفعهم كبير للمجتمع، وفضلهم عظيم على الأفراد والمؤسسات لأنهم يعطون بلا مقابل، ويضحون بلا منَّ، ويتكيفون مع كل الظروف بلا ميوعة وبلا مداهنة..إلخ، ولكن مشكلتهم الوحيدة هي أنهم يكرهون الصعود، ويحبون الإستقرار – ولو على الحد الأدنى- لأنهم يخافون الإنفتاح ويصيبهم الرعب إذا سمعوا أحاديث الإنتقال إلى طور جديد.
- العلاج :هؤلاء يحتاجون إلى قدوة فعل لا موعظة قول (تنحر وتحلق) كما حصل يوم الحديبية، أما كلام النحر والحلق فيعتبرون أنفسهم غير معنيين به، لأن طبيعتهم المائية تعمل بمدإ الإيدروليك وليس، بمبدإ التيرموديناميك.
-4 ناريون : متسرعون في كل شيء..لا يعملون إلاّ وسط الضجيج، ولا يتحركون إلاّ إذا إختلط الحابل بالنابل، ليس لهم صبر على المداومة، ولا طاقة لهم بمعاني "خير الأعمال أدومها وإن قل" فهم رجال مناسبات يحبون التصدر، وتجذ بهم البهارج، ويتحمسون لكل جديد، وليس لهم قدرة على "الإنضباط التنظيمي" لأنهم يرتاحون أكثر – وربما ينتجون أفضل وينفعون أكثر- إذا كلفوا بمهام خاصة وبرامج حرة خارج الإطار التنظيمي.
- العلاج : تسريح الطريق أمامهم بنقل نظرية "الدخول من الباب الواحد" إلى منهج "الدخول من أبواب متفرقة" بتكثير الواجهات وفتح الفضاءات، وتنويع البرامج و"تكليفهم" بمهام خاصة.
والعقدة في هذا التقسيم الرباعي المشتقة من التراب، والهواء، والماء، والنار، هي عقدة مرتبطة أساسا بطبيعة بشرية متأصلة في أصل الخلقة، فلا تستطيع أنت أن تغيرها بل جهدك أن تتكيف معها، وهذا بالضبط ما فعله رســــول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي لم يطرد المنافقين من داخل الصف الإسلامي –وهو يعرفهم حق المعرفة- وأبقى على المسافة الإيمانية الفاصلة بين التمكين لدين الله وتأليف القلوب بالعطايا والهدايا والهبات والكلمة الطيبة..لإستيعاب حركة النفس البشرية في ثنائيات الخير والشر، والعطاء والمنع، والرضا والغضب، والحب والكرة، والإقبال والإدبار، والكرّ والفرّ، والحلو والمرّ..إلخ.
ثانيا، قواعد لعبة السلطة : لا أعني بالسلطة النظام القائم، وإنما أعني العلاقة القائمة بين الراعي والرعية، أو بين القيادة والجندية، أو بين رب الأسرة ومن تحت رعايته ووصايته، فلجميع هؤلاء- في نظر روبرت قرين، صاحب الكتاب المذكور- قواعد مشتركة للتحكم حصرها في 48 قاعدة ضابطة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، هذه خلاصاتها :
1- القاعدة الأولى، التواضع للقيادة : فالقاعدة الأولى تدعوك إلى أن تتواضع لمن فوقك حتى لو كنت أكثر علما منه وأقدر على الإنجاز في ميدانه، فالقائد يقبل النصح من جنوده، ولكنه يرفض "التدخل" في صلاحياته، لذلك ينصح صاحب الكتاب الموهوبين والعباقرة – من داخل الصف- بأن يتواضعوا، وأن يضعوا مواهبهم تحت تصرف القائد لا أن يستعرضوا عضلاتهم عليه، فهذه طريقة تكسر السُّلّم التصاعدي وتجعل أمثال المقداد بن الأسود (رضي الله عنه) أعلم بشؤون الحرب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكنه تواضع – مع دقة علمه بخفايا الحرب- فقام يسأل قائده : هل هو منزل محدَّد بالوحي أم هو الرأي والحرب والمكيدة، ثم قدم رأيه لقائده بكثير من التواضع، ولم ينشر في الصف دعاية تشيع في الناس أنه أعلم من قائده بفنون الحرب، وأنه هو الذي أشار على القيادة بهذا الرأي البارع.. (راجع فقه غزوة بدر).
إن تواضعك للقيادة يجعلك تكبر في عينها، أما تعاليك عليها –بالعلم أو المال أو الجاه أو السبق..إلخ- فكلها نواسف لوحدة الصف، وهي من إختراع إبليس (عليه لعائن الله) يوم ظن نفسه خيرا من آدم (عليه السلام) فرفض أمر الله بالسجود، فكانت النتيجة مرعبة (خروجا أبديا من رحمة الله) لأنه ذو طبيعة نارية.
2- القاعدة الثانية، إستفد من خصومك : أفضل من يعرف عيوبك هم خصومك، وما ينفعنا به خصومنا أجدى مما تنفعنا به خدمات الأصدقاء، لأن من معك في الصف يدافع عادة عن خطك – لأنه خطه أيضا- ولو كان فيه بعض إعوجاج لأن "عين الرضا عن كل عيب كليلة" أما خصومك فلا يرون فيك إلاّ الشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض - وهم محقون في ذلك- وعليك أنت أن تبادر بمعالجة ما بك من خطإ وتقويم ما طرأ عليك من إعوجاج، وتشكر هؤلاء الخصوم الذين أهدوا لك عيوبك بسبب سخطهم عليك، لأن عين السخط تبدي المساوئ.
ولذلك إذا لم يكن للحركة خصوم وجب أن تبحث عنهم وأن توجدهم، لأن حركة بغير خصوم سوف تموت مرتين :
- مرة بكثرة مديح الأصدقاء إلى درجة إعتقاد العصمة في الأشخاص والمؤسسات، وهذا فساد في العقيدة وخطأ في المنهج.
- ومرة بضياع قضيتها، لأن حركة التاريخ قائمة على مبدإ التدافع بين الأضداد (الخير والشر، والحق والباطل، والإستقامة والإعوجاج، والإسلام والكفر، والعدل والظلم..إلخ) فإذا إختفى الشيطان من الأرض –ولم يعد للحركة أي عدوّ- تحول بعض الناس إلى شياطين "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا".
فائدة عظيمة : قبل أن أواصل معكم عرض بقية القواعد (46 الباقية) أرى من أوكد الواجبات التربوية أن أضع بين أيديكم مفتاح الولوج إلى عالم القلوب، وهو حسن الظن بالناس، وتقدير جهودهم وإحترام مشاعرهم.. ومعاملتهم على أساس أنهم يحبون لنا الخير، حتى هؤلاء الذين يسيئون بنا الظن ويرموننا بأقبح النعوت، فالذي يريد أن يمسك بزمام القوة – على خلاف ما يراه صاحب هذا الكتاب – هو الذي يتربع فوق عرش القلوب ويقاتلهم بالحب وبكثرة التسامح، فمن أساء إليك فسامحته وأحسنت إليه بالدفاع عن رأيه في غيابه يكون لك وليا حميما، هذا الكلام دقيق 100% لأنه لم يقله بشر، وإنما أنزله الذي خلق البشر، وأوصى المؤمنين منهم بالدفع بالتي هي أحسن (وليس بمجرد الحسنة، بل بأفضل ما تملك من حسنات) وكل ينفق مما عنده:
- فإذا الذي بينك وبينه عداوة (وليس خصومة، ولا إختلاف في خط سياسي أو وجهة نظر..) بل عداوة لها جذورها الشيطانية.
- كأنه وليّ حميم، والحميمية هنا معناها التحول الجذري من كره ناسف إلى حب عاطف..لأن القلب يَأسره الإحسان، كما قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ *** فلطالما إستعبد الإنسان إحسانُ
لكن إستخدام مفتاح القلوب مشروط بشرطين، هما من مغذيات الحب :
- الصبر : على تجاوزات بعض الخصوم، وتجريح بعض الموتورين، وتهجم بعض "من يأكل التمر ويعصي الأمر" وهم كثر في زماننا .
- الحظوة : التي تعني حساب الآخرة، أو حساب العاقبة، وهو خلق متأصل في نفوس أصحاب النظر البعيد ممن يدركون فقه "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" ويعرفون الحدود الفاصلة بين "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" وشتان بين أن تصل من وصلك وتقطع من قطعك على قاعدة "العين بالعين والسن بالسن.." وبين أن تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك على
قاعدة : "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. والله يحب المحسنين".
وإلى لقاء آخر إن شاء الله.
بقلم الشيخ أبو جرّة سلطاني
هذا عنوان كتاب كبير الحجم عظيم الفائدة (يضع بين يديك 48 قاعدة للتعامل السياسي) عنوانه : كيف تمسك بزمام القوة، أهداه لي أخ كريم ورصعه بكلمات إهداء ثمينة، أسأل الله أن يتقبلها منه وينفعنا بها، وقد شُغلت عن قراءة هذا الكتاب لأسباب تعرفونها، حتى جاءني سفر طويل فكان فرصة لقراءته، وقد إستمتعت به أيما إستمتاع، فأردت أن أنقل"زبدته" إلى إخواني بعد تسجيل ملاحظتين على مضمونه
-أ - تعري السياسة من الأخلاق : همُّ المؤلف الأساس، في هذا الكتاب، هو رسم قواعد السيطرة المطلقة في لعبة السلطة، ولا تهمة الوسيلة، فمنطلقاته ميكيا فيلية، ولذلك يستعرض قصص الصراع حول السلطة من زواية القدرة على المسك بزمام القوة العارية من الأخلاق تماما، لأن السياسة في نظره نفعية وبلا خُلق.
وهذه نقطة نخالفه فيها جملة وتفصيلا، ذلك أن أعظم سياسي على وجه الأرض – وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد وصفه المولى عز وجل بقوله : "وإنك لعلى خلق عظيم"، والشاعر يؤكد هذا المعنى بقوله :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
ب- إسقاط حسن الظن : ففي نظره لا يوجد في السياسة رجل طيب، وعليه فإن كل الحسابات السياسية يجب أن تقوم على أساس سوء الظن، فالعواطف لم تصنع – عبر التاريخ كله- حاكما واحدا نجح في إدارة شؤون الحكم لفترة طويلة.
وهو ما نخالفه فيه، من حيث المبدأ، كون ديننا قائما على التراحم والتعاطف والحرص على مشاعر المحيطين بك، خاصة إذا كنت قائدا : "حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
وفي ما عدا هذين العيبين، فإن ما جاء في هذا الكتاب يعدّ "ثروة عظيمة" لمن يريد أن يعرف كيف أدار الزعماء – عبر التاريخ كله- لعبة السياسة وفق 48 قاعدة سياسية تعلمك أن تعرف الفرق بين قيمة ما تحصل عليه والثمن الذي تدفعه للحصول على ما تريد (بحساب الوقت والجهد والمال..).
أولا، الناس معادن: ان فهم نفسيات الناس مسألة جوهرية، لأن التعامل مع النفس البشرية يحتاج إلى أن يعرف الإنسان "معادنهم" وأحذر كل الحذر أن تضع المحيطين بك في سلة واحدة، لأن الله خلقهم مختلفين، و"كل ميسَّر لما خُلق له".
وفي التقسيم العام نجد الناس أربعة (04) أقسام كبرى هي :
-1 ترابيون : وهم الذين لا يؤمنون إلاّ بالملموس، ولا يرضيهم إلاّ ما تضعه في رصيدهم الخاص، ولا يربطون علاقاتهم بالناس إلاّ على أساس المصلحة، فإذا كنت قويا تزاحموا على بابك، فإذا ضعفت : "إنفضوا إليها وتركوك قائما".
- العلاج : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين، أي لا تهتم بهم كثيرا، لأنهم – كما قلناه دائما- هم الكرارون عند المغانم الفرارون يوم المغارم لأنهم ترابيون.
-2 هوائيون : يتأثرون بالدعاية والإشاعة، فيرضون عنك في الصباح فيمدحونك وكأنك ملك كريم، ويسخطون عليك في المساء فيذمونك وكأنك شيطان رجيم، وهؤلاء هم الذين قال فيهم القرآن الكريم : "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق (أي المصلحة) يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم إرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله..".
- العلاج : قل لهم في أنفسهم قولا معروفا، وأفضل طريقة لمعالجة أمراضهم الهوائية هي توجيه الحديث إلى غيرهم بحضورهم – دون التوجه إلى مخاطبتهم مباشرة- فهم أكثر الناس تأثرًا بأسلوب "إياك أعني وأسمعي يا جارة".
-3 مائيون : نفعهم كبير للمجتمع، وفضلهم عظيم على الأفراد والمؤسسات لأنهم يعطون بلا مقابل، ويضحون بلا منَّ، ويتكيفون مع كل الظروف بلا ميوعة وبلا مداهنة..إلخ، ولكن مشكلتهم الوحيدة هي أنهم يكرهون الصعود، ويحبون الإستقرار – ولو على الحد الأدنى- لأنهم يخافون الإنفتاح ويصيبهم الرعب إذا سمعوا أحاديث الإنتقال إلى طور جديد.
- العلاج :هؤلاء يحتاجون إلى قدوة فعل لا موعظة قول (تنحر وتحلق) كما حصل يوم الحديبية، أما كلام النحر والحلق فيعتبرون أنفسهم غير معنيين به، لأن طبيعتهم المائية تعمل بمدإ الإيدروليك وليس، بمبدإ التيرموديناميك.
-4 ناريون : متسرعون في كل شيء..لا يعملون إلاّ وسط الضجيج، ولا يتحركون إلاّ إذا إختلط الحابل بالنابل، ليس لهم صبر على المداومة، ولا طاقة لهم بمعاني "خير الأعمال أدومها وإن قل" فهم رجال مناسبات يحبون التصدر، وتجذ بهم البهارج، ويتحمسون لكل جديد، وليس لهم قدرة على "الإنضباط التنظيمي" لأنهم يرتاحون أكثر – وربما ينتجون أفضل وينفعون أكثر- إذا كلفوا بمهام خاصة وبرامج حرة خارج الإطار التنظيمي.
- العلاج : تسريح الطريق أمامهم بنقل نظرية "الدخول من الباب الواحد" إلى منهج "الدخول من أبواب متفرقة" بتكثير الواجهات وفتح الفضاءات، وتنويع البرامج و"تكليفهم" بمهام خاصة.
والعقدة في هذا التقسيم الرباعي المشتقة من التراب، والهواء، والماء، والنار، هي عقدة مرتبطة أساسا بطبيعة بشرية متأصلة في أصل الخلقة، فلا تستطيع أنت أن تغيرها بل جهدك أن تتكيف معها، وهذا بالضبط ما فعله رســــول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي لم يطرد المنافقين من داخل الصف الإسلامي –وهو يعرفهم حق المعرفة- وأبقى على المسافة الإيمانية الفاصلة بين التمكين لدين الله وتأليف القلوب بالعطايا والهدايا والهبات والكلمة الطيبة..لإستيعاب حركة النفس البشرية في ثنائيات الخير والشر، والعطاء والمنع، والرضا والغضب، والحب والكرة، والإقبال والإدبار، والكرّ والفرّ، والحلو والمرّ..إلخ.
ثانيا، قواعد لعبة السلطة : لا أعني بالسلطة النظام القائم، وإنما أعني العلاقة القائمة بين الراعي والرعية، أو بين القيادة والجندية، أو بين رب الأسرة ومن تحت رعايته ووصايته، فلجميع هؤلاء- في نظر روبرت قرين، صاحب الكتاب المذكور- قواعد مشتركة للتحكم حصرها في 48 قاعدة ضابطة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، هذه خلاصاتها :
1- القاعدة الأولى، التواضع للقيادة : فالقاعدة الأولى تدعوك إلى أن تتواضع لمن فوقك حتى لو كنت أكثر علما منه وأقدر على الإنجاز في ميدانه، فالقائد يقبل النصح من جنوده، ولكنه يرفض "التدخل" في صلاحياته، لذلك ينصح صاحب الكتاب الموهوبين والعباقرة – من داخل الصف- بأن يتواضعوا، وأن يضعوا مواهبهم تحت تصرف القائد لا أن يستعرضوا عضلاتهم عليه، فهذه طريقة تكسر السُّلّم التصاعدي وتجعل أمثال المقداد بن الأسود (رضي الله عنه) أعلم بشؤون الحرب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكنه تواضع – مع دقة علمه بخفايا الحرب- فقام يسأل قائده : هل هو منزل محدَّد بالوحي أم هو الرأي والحرب والمكيدة، ثم قدم رأيه لقائده بكثير من التواضع، ولم ينشر في الصف دعاية تشيع في الناس أنه أعلم من قائده بفنون الحرب، وأنه هو الذي أشار على القيادة بهذا الرأي البارع.. (راجع فقه غزوة بدر).
إن تواضعك للقيادة يجعلك تكبر في عينها، أما تعاليك عليها –بالعلم أو المال أو الجاه أو السبق..إلخ- فكلها نواسف لوحدة الصف، وهي من إختراع إبليس (عليه لعائن الله) يوم ظن نفسه خيرا من آدم (عليه السلام) فرفض أمر الله بالسجود، فكانت النتيجة مرعبة (خروجا أبديا من رحمة الله) لأنه ذو طبيعة نارية.
2- القاعدة الثانية، إستفد من خصومك : أفضل من يعرف عيوبك هم خصومك، وما ينفعنا به خصومنا أجدى مما تنفعنا به خدمات الأصدقاء، لأن من معك في الصف يدافع عادة عن خطك – لأنه خطه أيضا- ولو كان فيه بعض إعوجاج لأن "عين الرضا عن كل عيب كليلة" أما خصومك فلا يرون فيك إلاّ الشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض - وهم محقون في ذلك- وعليك أنت أن تبادر بمعالجة ما بك من خطإ وتقويم ما طرأ عليك من إعوجاج، وتشكر هؤلاء الخصوم الذين أهدوا لك عيوبك بسبب سخطهم عليك، لأن عين السخط تبدي المساوئ.
ولذلك إذا لم يكن للحركة خصوم وجب أن تبحث عنهم وأن توجدهم، لأن حركة بغير خصوم سوف تموت مرتين :
- مرة بكثرة مديح الأصدقاء إلى درجة إعتقاد العصمة في الأشخاص والمؤسسات، وهذا فساد في العقيدة وخطأ في المنهج.
- ومرة بضياع قضيتها، لأن حركة التاريخ قائمة على مبدإ التدافع بين الأضداد (الخير والشر، والحق والباطل، والإستقامة والإعوجاج، والإسلام والكفر، والعدل والظلم..إلخ) فإذا إختفى الشيطان من الأرض –ولم يعد للحركة أي عدوّ- تحول بعض الناس إلى شياطين "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا".
فائدة عظيمة : قبل أن أواصل معكم عرض بقية القواعد (46 الباقية) أرى من أوكد الواجبات التربوية أن أضع بين أيديكم مفتاح الولوج إلى عالم القلوب، وهو حسن الظن بالناس، وتقدير جهودهم وإحترام مشاعرهم.. ومعاملتهم على أساس أنهم يحبون لنا الخير، حتى هؤلاء الذين يسيئون بنا الظن ويرموننا بأقبح النعوت، فالذي يريد أن يمسك بزمام القوة – على خلاف ما يراه صاحب هذا الكتاب – هو الذي يتربع فوق عرش القلوب ويقاتلهم بالحب وبكثرة التسامح، فمن أساء إليك فسامحته وأحسنت إليه بالدفاع عن رأيه في غيابه يكون لك وليا حميما، هذا الكلام دقيق 100% لأنه لم يقله بشر، وإنما أنزله الذي خلق البشر، وأوصى المؤمنين منهم بالدفع بالتي هي أحسن (وليس بمجرد الحسنة، بل بأفضل ما تملك من حسنات) وكل ينفق مما عنده:
- فإذا الذي بينك وبينه عداوة (وليس خصومة، ولا إختلاف في خط سياسي أو وجهة نظر..) بل عداوة لها جذورها الشيطانية.
- كأنه وليّ حميم، والحميمية هنا معناها التحول الجذري من كره ناسف إلى حب عاطف..لأن القلب يَأسره الإحسان، كما قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ *** فلطالما إستعبد الإنسان إحسانُ
لكن إستخدام مفتاح القلوب مشروط بشرطين، هما من مغذيات الحب :
- الصبر : على تجاوزات بعض الخصوم، وتجريح بعض الموتورين، وتهجم بعض "من يأكل التمر ويعصي الأمر" وهم كثر في زماننا .
- الحظوة : التي تعني حساب الآخرة، أو حساب العاقبة، وهو خلق متأصل في نفوس أصحاب النظر البعيد ممن يدركون فقه "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" ويعرفون الحدود الفاصلة بين "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" وشتان بين أن تصل من وصلك وتقطع من قطعك على قاعدة "العين بالعين والسن بالسن.." وبين أن تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك على
قاعدة : "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. والله يحب المحسنين".
وإلى لقاء آخر إن شاء الله.