وقفات مع "رسالة العقائد" لحسن البنا للشيخ عبد الرحمن دمشقية
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات مع "كتابالعقائد" لحسن البنا
وموافقته للأشاعرة ومنهجيته الغامضة في التعامل مع أسماء الله وصفاته.
الكاتب:عبد الرحمن دمشقية
كتاب العقائد للاستاذ حسن البنا رحمه الله يمثل العقيدة التي تنطلق منها جماعة "الاخوان المسلمون".
وحيث أن السائد بينهم أن الكتاب يمثل طريق أهل السنة ومنهج السلف الصالح؛ فقد أحببت أن أورد بعض التعليقات المهمة التي تبين حقيقة المنهج العقائدي الذي يمثله حسن البنا رحمه الله.
وأول ما يجب التنبيه اليه أن الكتاب طبع باشراف ولده سيف الاسلام البنا. وحققه وعلق عليه رضوان محمد رضوان وملأه بالتأويلات على طريقة الأشاعرة كالرازي والجويني.
ولم يعترض ولد البنا على ذلك بل أثنى عليه قائلا: (بهامش هذه الرسالة عدة تعليقات كان الأخ المجاهد فضيلة الشيخ رضوان محمد رضوان رحمه الله قد أوردها في الطبعات السابقة استمدها من أمهات كتب التفسير والحديث.
وقد أثبتناها في هذه الطبعة علها تعين قارئا على معرفة علم خفي عليه خبره أو لفظ دق عليه معناه، أو تركيب غاب عنه فحواه، وجزى الله كاتبها خير الجزاء) [مقدمة كتاب العقائد، طباعة دار الشهاب].
فهكذا قرر ولده أن علم هذا المحقق مستمد من كتب التفسير والحديث، وأقر نهج التأويل الذي لم يستنكره أحد من الاخوان بل تلقوه بالقبول بالرغم من تكرار طبعات الكتاب.
أول الواجب على المكلف هو النظر:
قال الاستاذ البنا في أول مسألة في العقيدة: (كل هذه العقائد يؤيدها العقل... ولهذا شرف الله العقل بالخطاب)، (وذم الذين لا يتفكرون ولا ينظرون، فقال تعالى: {وكأين من آية في السموات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون}}) [ص 10].
فابتدأ الكلام في العقيدة بما يبدأ به الأشاعرة، وقد ذكر الحافظ العسقلاني اعتراف أبي جعفر السمناني - إمام الأشاعرة في وقته - أن القول بأن أول الواجب على المكلف النظر؛ هو من مخلفات المعتزلة بقي في المذهب أي المذهب الأشعري [فتح الباري 1/70].
موقفه هو ومحقق كتابه من الصفات الالهية:
قال الاستاذ البنا رحمه الله: (وردت في القرآن آيات وفي السنة المطهرة أحاديث توهم بظاهرها مشابهة الحق تبارك وتعالى لخلقه في بعض صفاتهم) [ص 57].
قلت: وهذا اساءة ظن بوحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه.
تعليق: وكأنه ليس عند الله تعالى تعبير أفضل مما أوحى به ليبعد به الناس عن توهم ما لا يليق به: والا فهل هذه الصفات التي أوحى مما يليق به أو مما لا يليق به؟ إن كان لا يليق به فكيف يصف به نفسه؟ أأنتم أعلم أم الله؟
قال تعالى: {يد الله فوق أيديهم}، وقال: {بل يداه مبسوطتان}، وقال: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما}.
قال المعلق: ({يد الله فوق أيديهم} أي هو مطلع على مبايعتهم فيجازيهم عليها. وقوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} مبالغة في الوصف بالجود. وقوله: {عملت أيدينا أنعاما} أي أبدعناه وعملناه بلا شريك ولا معين. وقال تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} [ص 61]، وقال: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} وقال: {اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} .
نقل المعلق عن القرطبي أن الفوقية في قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم: أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان.
وقال المعلق: ({أأمنتم من في السماء} أي أأمنتم من في السماء سلطانه وقدرته).
وقال المعلق: ({اليه يصعد الكلم الطيب} أي يعلمه {والعمل الصالح يرفعه} أي يقبله).
وحكم الاستاذ البنا حكما أشعريا على هذه النصوص بأنها تفيد الحيز والجهة، فقال: (مما يؤخذ منه نسبة الجهة لله).
تعليق: وهذا قول الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وتبريرهم للتأويل وهو أن هذه الآيات يلزم منها الجهة والتحيز ولذلك صرفوها عن معانيها الى معاني أخرى. وكتب الشيعة اليوم وتفاسيرهم مليئة بنفس هذه التأويلات وبنفس اللفظ؟
وأما وصف الصفات بالمتشابه فهو باطل، فانهم يجعلونها من المتشابه ليبرروا تأويلها ويجعلون تأويلهم الباطل هو المحكم الذي يزول به التشابه. وهو قول باطل: فاننا نسألهم هل كل الصفات من المتشابه أم بعضها؟ فان قالوا كلها وقعوا في جحود كل صفات الله وإن قالوا بعضها متشابه وبعضها محكم قيل لهم: هاتوا دليلا على هذا التحديد وذاك التقسيم!
والواقع أنهم جاؤا بالتأويلات التي سبقهم اليها المعتزلة كما في تأويلات المعلق الأشعري الذي وصفه سيف الاسلام البنا بالمجاهد.
قال البنا: (وقال تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} [62]. وقال: {وجاء ربك والملك صفا صفا}).
وذكر حديث: (لا تزال جهنم يلقى فيها: وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه) وحديث: (لله أشد فرحا).
قال المعلق: ({وصدقت بكلمات ربها} أي بشرائعه. {وجاء ربك} أي أمره وقضاؤه. وقال: {حتى يضع رب العزة فيها قدمه} قال الزمخشري: وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع. فكأنه قال: يأتيها أمر الله فيكفّها عن طلب المزيد فترتدع). انتهى.
وبهذا صار معنى وضع القدم عنده قول الله لجهنم كفي عن المزيد فتقول: اكتفيت اكتفيت!. نعوذ بالله من تأويل الباطنية.
وعلق المعلق رضوان على حديث (لله أشد فرحا): (قال النووي: قال المازري: المراد هنا أن الله تعالى يرضى بتوبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالّته فعبر عن الرضا بالفرح).
محقق كتاب العقائد يثبت التأويل الأشعري:
فهذا نهج أشعري مخالف لما انتهى اليه حال أبي الحسن الأشعري من وصاية الناس باتباع طريق أحمد بن حنبل وترك التأويل كما دل على ذلك كتابه الابانة ومقالات الاسلاميين وكتاب الحافظ ابن عساكر تبيين كذب المفتري.
ومع ذلك فالكتاب يسوغه بطريقة سياسية لا تظهر من أقوال البنا مباشرة ولكن في حواشي التعليق. وبهذه الطريقة السياسية تتم مسايرة جميع الفرق: المؤولة والمفوضة. فمتن الكتاب يحثك على التفويض، وحاشيته تحثك على التأويل!!!
أقسام الناس في صفات الله:
قال الاستاذ حسن البنا رحمه الله [ص 64]: (انقسم الناس في هذه المسألة الى أربع فرق:
1) فرقة أخذت بظواهرها كما هي. فنسبت الى الله وجها كوجوه الخلق. ويدا كأيديهم. وضحكا كضحكهم... وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة. وليسوا من الاسلام في شيء وليس لقولهم نصيب من الصحة.
2) فرقة عطلت معاني هذه الألفاظ على أي وجه... فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر لأن ذلك لا يكون الا بجارحة، والجوارح يجب أن تنفى عنه سبحانه...
هذا رأيان باطلان لا حظ لهما من النظر. وبقي أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد، وهما رأي السلف ورأي الخلف).
أضاف: (أما السلف: فقالوا: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت، ونترك بيان المقصود منها لله... وكل ذلك بمعان لا ندركها ونترك لله الاحاطة بعلمها...) [ص 66].
قال: (وأما الخلف فقالوا: اننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يراد بها ظواهرها. وعلى ذلك فهي مجازات لا مانع من تأويلها. فأخذوا يؤولون الوجه بالذات واليد بالقدرة هربا من شبهة التشبيه) [ص 70].
نماذج من تفسير السلف للصفات:
إن البنا لم ينجح في ضبط منهج السلف وتحريره وانما هو مقلد في كلامه لما توارثه الأشاعرة من أن مذهب السلف تفويض معاني صفات الله. وقد ثبت بالأسانيد الصحيحة تفسير النبي والصحابة والتابعين لآيات الصفات وإنما فوضوا كيفية الصفات لامعناها.
فقد كتب الامام أحمد كتابه "الرد على الجهمية" الذي أثبت الحافظ نسبته اليه [الفتح 13/493] رد به تأويلات الجهمية الباطلة للصفات ثم أثبت المعاني الحقة لها.
وفسر مجاهد وأبو العالية الاستواء بالعلو والارتفاع [البخاري كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء]، ومجاهد هو القائل: (أخذت التفسير عن ابن عباس من أوله الى آخره: أقفه آية آية)، ولم يقل الا آيات الصفات.
وكان ابن عباس يقول: (كل القرآن أعلم الا أربع: حنان وغسلين وأواه والرقيم) ثم علمها ولم يذكر معها الصفات.
وقد فسر قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء}؛ أي وهو الله [زاد المسير لابن الجوزي 8/322]، وقوله تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا}؛ أي بعين الله تبارك وتعالى [الاسماء والصفات للبيهقي396 شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/411].
وقال: (لما كلم الله موسى كان النداء في السماء وكان الله في السماء) [البخاري في خلق أفعال العباد 40].
فمن أين للآستاذ البنا أن السلف فوضوا معاني الصفات؟
هل كانوا يجهلون معاني جميع معاني الصفات حتى الصفات السبعة المشهورة عند الأشاعرة والتي استثنوها من التفويض وأوجبوا العلم بمعناها؟ إن ادعوا تفويض معاني الجميع فهذا مكابرة، وإن زعموا الجهل بها باستثناء السبعة فأين الدليل الشرعي على تحديد المعلوم بسبعة دون الباقي؟ وكيف يكون إثبات الصفات السبعة واجبا والباقي محرما؟ هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟
وهل يجرؤ أحد أن يقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهل معاني صفات الله؟ فاذا كان يجهلها فكيف علمها إخوانكم الأشاعرة المؤولة؟ واذا كان يعلمهما فهل بلغها أم كتمها؟ هل إخوانكم الأشاعرة المؤولة أحرص على تبليغ العلم منه صلى الله عليه وسلم؟
أم لعل الاستاذ البنا يعني بالسلف قسم المفوضة من الأشاعرة. وبالخلف قسم المؤولة من الأشاعرة، فإن الأشاعرة منقسمون على أنفسهم في مسائل الصفات فمنهم من يرجح النوع الأول من التعطيل وهو التأويل. ومنهم من يرجح النوع الثاني من التعطيل وهو التفويض. ولذا اعترف العز بن عبد السلام بكثرة اختلافات الأشاعرة حول صفات الله [قواعد الأحكام 172، الاعلام بقواطع الاسلام 24].
وهذان الطريقان المتناقضان - التأويل والتفويض - يسمح المذهب الأشعري باختيار أي منهما إذ ليس أحد منهما على سبيل المؤمنين.
وهذا عين ما دعا اليه البنا.
وكأنه لا وجود عند الاستاذ البنا لطائفة تثبت الصفات بمعانيها الحقة، لأن إثبات المعاني عنده إثبات للتشبيه والتجسيم. فقد طرد الفرقة التي تثبت صفات الله وتثبت لها المعاني الصحيحة بلا تشبيه. لأنها عنده تثبت لله يدا كيد المخلوق وعينا كعينه واستواء كاستوائه! وألزمها ما لا تلتزمه من التشبيه على طريقة الأشاعرة في ترهيب المخالفين للمذهب ووصمهم بالألقاب الشنيعة لعلهم الى التأشعر يرجعون!
مع أن أصولهم في الصفات على وفق ما قاله نعيم بن حماد شيخ البخاري: (من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ووصفه رسوله تشبيه ولا تمثيل).
كتاب العقائد دعوة الى المذهب الأشعري:
إن الاستاذ حسن البنا بهذا الطرح لم يخرج عن كونه أشعري التلقي في العقيدة. يدعو الى التمسك بالعقيدة الأشعرية التي تخير المنتمي اليها بين أن يؤول الصفات بالتأويلات المطابقة لتأويلات المعتزلة كتأويل الاستواء بالاستيلاء واليد بالنعمة أو القدرة والمجيء بمجيء الأمر والنزول بنزول الأمر وهي التأويلات التي قررها محقق كتاب العقائد من التأويلات في كتاب الاستاذ البنا.
وأريدك أن تقارن بين قول البنا: (يجوز لك إما التأويل أو التفويض) بما قاله اللقاني صاحب كتاب "جوهرة التوحيد" وهو معتمد في تدريس العقيدة الأشعرية:
وكل وصف أوهم التشبيها
أوِّلْه أو فوِّضْ ورُمتنزيها
فدعوة البنا الاستاذ حسن البنا يمثلهما هذان البيتان الأشعريان. انه يقرر مذهب الأشاعرة بطريقة سياسية يخفي معها اسم المذهب.
ترجيحه للتأويل وثناؤه على علماء الكلام:
ويدعي الاستاذ البنا أيضا أن هذا الرأي الثاني – التأويل - هو محل نظر العلماء ويحتج له بكتاب "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه"، وهو الكتاب الذي أنكره العلماء على أبي الفرج ابن الجوزي، ومع ذلك يحتج حسن البنا به، وبكتاب "أساس التقديس" للرازي الذي هو شر كتبه وأقربها الى منهج الجهمية والمعتزلة. ويبلغ به تبريره للتأويل حتى يزعم أن الفريق الأول وهم السلف بزعمه لجأوا الى الوقوع ضرورة في التأويل مهما ابتعدوا عنه.
ويتابع فيقول: (وقد كان هذان الطريقان مثار خلاف شديد بين علماء الكلام من أئمة المسلمين) [ص 74].
تعليق: ودعواه أن علماء الكلام؛ "أئمة للمسلمين" دعوى لا يسلمها له أئمة المسلمين الحقيقيين كالشافعي وأحمد ومالك وغيرهم الذين ذموا علم الكلام وحذروا من مجالسة أهله، فكيف يصف حسن البنا علماء الكلام بأنهم أئمة المسلمين؟
ويقول: (ولو بحثت الأمر لعلمت أن مسافة الخلف بين الطريقين لا تحتمل شيئا... وأن البحث في مثل هذا الشأن مهما طال القول فيه القول، لا يؤدي في النهاية الا الى نتيجة واحدة؛ هي التفويض لله).
وذكر: (أن مذهب السلف في الآيات والأحاديث أن يمروها على ما جاءت عليه، ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه، والخلاف شديد بين أهل الرأيين حتى أدى بينهما الى التنابز بالألقاب).
(أولا: اتفق الفريقان على تنزيه الله.
ثانيا: كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله غير ظواهرها التي وضعت لها هذه الألفاظ في حق المخلوقات. وذلك مترتب على اتفاقهما على نفي التشبيه) [ص 75].
زعمه أن التأويل ضروري للتنزيه:
قال: (واذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد حيث ألجأتهم ضرورة التنزيه الى ذلك حفظا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا).
ثم حكم على السلف بما حكم عليه الجويني والغزالي وغيرهما من الأشاعرة، فقال: (ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني الى الله أسلم وأولى بالاتباع حسما لمادة التأويل والتعطيل). أضاف: (ونعتقد الى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق).
تعليق: وهذه حيدة عن الحكم على التأويل؛ هل هو باطل أم حق؟ دعك من قضية التكفير والتفسيق فإن هذا ليس هو محل الخلاف. وانما الخلاف على الصفة هل منعنا الله من العلم بها أم أجاز لنا تأويلها بغير علم منا؟ وهو خلاف ليس بالأمر الهين ويستحق ضجة ليظهر الحق ولتستبين سبيل المجرمين. ولا تنس اعتراف المؤولة أن تأويلاتهم محتملة لا يمكن القطع بها [الفتح 13/353 و383، اتحاف السادة للزبيدي 2/112، الاتقان للسيوطي 2/221، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد للباجوري 91].
أما دعواه أن ضرورة التنزيه ألجأتهم الى التأويل؛ فهذا تبرير خطير يمكن أن يوهب للمعتزلة والجهمية إذ كلهم يدعي أن ضرورة التنزيه ألجأته الى التأويل الذي تكشف لكثير من الأشاعرة وندموا في أواخر حياتهم على سلوكه.
وهل يجوز الاعتذار عن تعطيل المعتزلة والجهمية أنهم أراوا تنزيه الله بتأويلاتهم التي امتلأت بمثلها تأويلات الأشاعرة؟ هل نبرر للمعتزلة انحرافهم في القدر لزعمهم أنهم أرادوا تنزيه الله عن الاعتقاد بأنه جبر العباد على الفعل؟
وهذا الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة لم يؤول منهم أحد شيئا من الصفات، أفيجوز أن نتهم هؤلاء بأنهم كانوا أقل تنزيها من أهل البدع من الجهمية والمعتزلة!
منهج السلف وليس رأيهم:
ثم بدأ يرجح التأويل بقوله: (وقد لجأ أشد الناس تمسكا برأي السلف الى التأويل في عدة مواطن وهو الامام أحمد بن حنبل. من ذلك تأويله لحديث: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، وحديث: "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن"، وحديث: "قلب المؤمن بين صبعين من أصابع الرحمن") [ص 76-77].
وزعم أن مما يقرب الخلاف بين الرأيين أن الخلف قيدوا تأويلاتهم أن يكون جائزا عقلا وشرعا بحيث لا يصطدم بأصل من أصول الدين.
وذكر أن السلف والخلف قد اتفقا على أن المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق، وهو تأويل في الجملة.
فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع: (وهو هين كما ترى، وأمر لجأ اليه بعض السلف اليه أنفسهم. وأهم ما يجب أن تتوجه اليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف) [ص 77 – 78].
تعليق: وعبارة؛ "رأي السلف" ظلم آخر الى جانب ظلمهم بنسبة التفويض اليهم. فموقف السلف ليس رأيا ارتأوه وانما هو منهج التزموه تقيدوا فيه بالأدلة النقلية واتهموا آراءهم وعظموا نصوص الوحي، اذ لا تستوي قدم الاسلام الا مع التسليم.
ولقد قال الشافعي: (أن العلم بالصفة قبولا ورداً مما لا يدرك بالعقل) [سير أعلام النبلاء 10/80]. وقال أبو حنيفة: (لا ينبغي أن ينطق في الله بشيء من ذاته ولكن يصفه بما وصف به نفسه ولا يقول فيه برأيه شيئا). فالقضية تسليم ولا إعمال للرأي فيها.
ثم إن هذه التأويلات المروية من طريق حنبل بن اسحاق عن أحمد وقد حكى الحافظ الذهبي وغيره أن لحنبل تفردات وغرائب يرويها عن الامام أحمد. وانما حكى الغزالي هذا التأويل بصيغة التمريض قائلا: (سمعت بعض أصحاب أحمد يقولون...) [قواعد العقائد 135، واحياء علوم الدين 1/103].
وقد أثبت كثير من أهل العلم أن منهج أحمد عدم التأويل [انظر سير أعلام النبلاء 11/303 و 13/51، واتحاف السادة المتقين للزبيدي 2/12 و79، طبقات السبكي 9/39 محققة، والملل والنحل للشهرستاني 1/137، ومناقب أحمد لابن الجوزي 155 و174، ومجموع الفتاوى 5/400].
توحيد الأمة عنده أعظم شأنا من تعطيل صفات الله:
ثم وصف مشكلة التلاعب في صفات الله التي طالما كانت عين تأويلات الجهمية والمعتزلة والشيعة بأنها: (أمر هين) ولا توجب هذا الخلاف لأن هناك شيئا أهم عنده من قضية تحريف كلام الله والالحاد في صفاته وهو توحيد الصفوف.
ألا ليت شعري أي صفوف هذه يمكن أن تتفق وتتوحد على منهج التمييع وعدم الحزم في أصول الدين وعدم إنكار منكر {أن تقولوا على الله ما لاتعلمون}؟! أتوحيد على الباطل وتعاون على الاثم أم أنه يجب أن يكون توحيدا على الحق؟!
أي توحيد يتحقق وقد تسربت في كتب عقائد الأمة تأويلات الباطنية والجهمية وصارت معتمدة، وغدت طائفة إثبات الصفات لفظا ومعنى بحسب تفسير السلف لها هي الطائفة المشبهة وليس لها في الاسلام نصيب - على حد قول الاستاذ البنا رحمه الله -
وهذه المعالجة ثبت فشلها بالتجربة وهي لا تضع حدا للالحاد في آيات الله بل يجب عنده أن يتوحد المعطل والمثبت والمشرك والموحد والمبتدع والمتشيع والمتسنن على قلب رجل واحد وتتآلف قلوبهم بالرغم من اختلافهم في المنهج وفي أصول الدين.
وهذا مخالف لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعارض لمبدأ صيانة بناء الأمة من داخلها ومعارض لمنهج السلف في فهم النصوص وتطبيق الواقع، فقد حاربوا الخوارج أشد المحاربة وأعملوا فيهم القتل صيانة للدين بلا اعتبار للوحدة المزعومة الذي ينادي به اليوم ليكون على حساب الدين. وكأن الله قال؛ وما خلقت الجن والانس الا ليتوحدوا. وكأن الصراع بين الحق والباطل خارج الأمة وليس في داخلها باطل يستحق الانكار!
وهذه كتب الجرح والتعديل ونقد الرواة مليئة بالطعن بكثير من الرجال صيانة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ان هذا التميع وعدم الوضوح ومحاولة مسايرة المبطل والتغاضي عن باطله وجعل وحدة المسلمين أولى وأهم من إصلاح منهجهم وتقويم مسارهم ليكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو الذي أوقع الأمة في فساد عظيم فصار الساكت عن شركيات الفرق المبتدعة وبدعها هو المصلح وصار المنكر عليهم هو المفسد الفتان المفرق لوحدة الأمة.
لقد بلغ التساهل بعد عهد البنا الى أسوئه حيث التغاضي عن مصائب المسلمين من شرك وبدع وانتظار لمجيء الخلافة المنتظرة. وتآخ مع فرق أهل البدعة كالروافض وغيرهم بل وتآخ مع النصارى وظهور دعوات الى الانسانية والتنازل عن كثير من أمور الدين. ودخول في مجالس البرلمانات والمساومة مع من لا يريدون مع الاسلام مساومة ولا يبالون به ولا يعترفون.
وهذه المهادنة وهذا السكوت مقابل التوحيد يقول عنه سيد قطب: (بذلك أغلق الله سبحانه مداخل الشيطان كلها وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف بالتساهل في شيء من شريعة الله في مقابل إرضاء الجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة المسلمين) [في ظلال القرآن 2/749 نقلا عن كتاب البيعة للشيخ علي عبد الحمبد].
ويقول عن الدخول في البرلمانات تعليقا على قوله تعالى {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة}: (وقصة شرائهم الحياة الدنيا بالآخرة: هو استمساكهم بميثاقهم مع المشركين في حلف يقتضي مخالفة دينهم وكتابهم... لتحقيق بعض المغانم، وهي خطة من لا يثق بالله ولا يستمسك بميثاقه، ويجعل اعتماده كله على الدهاء ومواثيق الأرض والاستنصار بالعباد لا برب العباد، والايمان يحرم على أهله الدخول في حلف يناقض ميثاقهم مع ربهم، ويناقض تكاليف شريعتهم، باسم المصلحة أو الوقاية، فلا مصلحة الا في اتباع دينهم، ولا وقاية الا بحفظ عهدهم مع ربهم) [في ظلال القرآن 1/88] انتهى.
ولكن هل تحققت الوحدة أم بقيت آمالا وأماني؟
نعم لقد بقيت كذلك، فانه ما لم تتوحد مصادر المسلمين في العقيدة لا يتحقق التوحيد لأن التوحيد توحيد منهج يؤدي الى توحيد قلوب وليست الوحدة وحدة أجساد وأشلاء! فان كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة.
التعصب المذهبي الحزبي:
بعد هذا الاستدراك على كتاب الاستاذ حسن البنا رحمه الله نطالع طائفة من التعصب المذهبي الذي دأب عليه بعض الداعين اليه:
·فيعتبره سعيد حوى رحمه الله بأنه وصل الى مرتبة الاجتهاد وتحققت فيه شروطها .
·ويزيد الشيخ محمد الحامد على ذلك مؤكذا أن البنا مجدد القرون السبعة الماضية كلها. وأنه واضع نظريات العمل الاسلامي وأن كل كلمة من كلماته يجب أن ننظر اليها بمنظار دقيق .
·ويزعم سعيد حوى أن الأمة ليس لها الا فكر حسن البنا اذا ما أرادوا الانطلاق الصحيح بل ولاجماعة كاملة للمسلمين الا بفكر حسن البنا ونظرياته، وأن الانطلاقة على غير فكر البنا تكون قاصرة أو مستحيلة أو عمياء .
وهذا ما جعله يصرح بأن جماعة الاخوان المسلمين لا غيرها هي التي ينبغي أن يضع المسلم يده في يدها، بل ولا يسع مسلما أن يتخلف عن الالتحاق بها .
واعتبر من فارق جماعة الاخوان فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه بناء على ما فهمه من الحديث النبوي الذي احتج به: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه) .
وهذا التعصب والنظر الى الأفاضل بعين الكمال والحقد على المتعقب أو المستدرك هو أحد أسرار تخلف هذه الأمة.
ولو سار الغرب على هذا النمط من التعصب لما بنى حضارة ولكننا نحن الذين تركنا له هذا العلم ونكصنا على أعقابنا وتسلمنا منه التعصب الذي كان عليه رجل أوروبا المريض في القرون الأوروبية المظلمة وها نحن اليوم نعيش هذا الظلام وندفع ضريبته.
فعظمة الكلمة صارت عندنا بحسب عظمة قائلها. فإن كان إماما قبلت وصار المعترض عليها مكابرا متعالما طاعنا في الأفاضل.
لقد أردت بهذا المقال الوجيز تبيين ضرورة تطوير المناهج وتعديل أفكار المصلحين وعدم الوقوف عندها وقوفا سلبيا مشابها لما عليه المذهبيون المتعصبون الذين يأمرونك أن تتمسك بالخطأ الذي وقع فيه المذهب منذ ألف ومئتي سنة ويبقى هذا التمسك الى أن تقوم الساعة.
ولا شك أن هذا التعصب يخالف مذاهب الأئمة الاربعة الذين صرحوا بأن الحديث الصحيح مذهبهم، وأنهم يقولون القول اليوم ويرجعون عنه غدا إن تكشف لهم خطؤه. وحذروا من التعصب لأقوالهم غاية التحذير وأمروا بضربها عرض الحائط إن خالفت قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد قال الإمام الأول لهذه الأمة: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
والمتعصب ليس شافعي المذهب بل الشافعي بريء منه، وهكذا ...
ونحن نسأل الله أن يرحم الاستاذ البنا رحمة واسعة وأن يجعله من أهل جنات النعيم وأن يغفر له ما زلت به القدم أو طعن به القلم انه سميع قريب.
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات مع "كتابالعقائد" لحسن البنا
وموافقته للأشاعرة ومنهجيته الغامضة في التعامل مع أسماء الله وصفاته.
الكاتب:عبد الرحمن دمشقية
كتاب العقائد للاستاذ حسن البنا رحمه الله يمثل العقيدة التي تنطلق منها جماعة "الاخوان المسلمون".
وحيث أن السائد بينهم أن الكتاب يمثل طريق أهل السنة ومنهج السلف الصالح؛ فقد أحببت أن أورد بعض التعليقات المهمة التي تبين حقيقة المنهج العقائدي الذي يمثله حسن البنا رحمه الله.
وأول ما يجب التنبيه اليه أن الكتاب طبع باشراف ولده سيف الاسلام البنا. وحققه وعلق عليه رضوان محمد رضوان وملأه بالتأويلات على طريقة الأشاعرة كالرازي والجويني.
ولم يعترض ولد البنا على ذلك بل أثنى عليه قائلا: (بهامش هذه الرسالة عدة تعليقات كان الأخ المجاهد فضيلة الشيخ رضوان محمد رضوان رحمه الله قد أوردها في الطبعات السابقة استمدها من أمهات كتب التفسير والحديث.
وقد أثبتناها في هذه الطبعة علها تعين قارئا على معرفة علم خفي عليه خبره أو لفظ دق عليه معناه، أو تركيب غاب عنه فحواه، وجزى الله كاتبها خير الجزاء) [مقدمة كتاب العقائد، طباعة دار الشهاب].
فهكذا قرر ولده أن علم هذا المحقق مستمد من كتب التفسير والحديث، وأقر نهج التأويل الذي لم يستنكره أحد من الاخوان بل تلقوه بالقبول بالرغم من تكرار طبعات الكتاب.
أول الواجب على المكلف هو النظر:
قال الاستاذ البنا في أول مسألة في العقيدة: (كل هذه العقائد يؤيدها العقل... ولهذا شرف الله العقل بالخطاب)، (وذم الذين لا يتفكرون ولا ينظرون، فقال تعالى: {وكأين من آية في السموات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون}}) [ص 10].
فابتدأ الكلام في العقيدة بما يبدأ به الأشاعرة، وقد ذكر الحافظ العسقلاني اعتراف أبي جعفر السمناني - إمام الأشاعرة في وقته - أن القول بأن أول الواجب على المكلف النظر؛ هو من مخلفات المعتزلة بقي في المذهب أي المذهب الأشعري [فتح الباري 1/70].
موقفه هو ومحقق كتابه من الصفات الالهية:
قال الاستاذ البنا رحمه الله: (وردت في القرآن آيات وفي السنة المطهرة أحاديث توهم بظاهرها مشابهة الحق تبارك وتعالى لخلقه في بعض صفاتهم) [ص 57].
قلت: وهذا اساءة ظن بوحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه.
تعليق: وكأنه ليس عند الله تعالى تعبير أفضل مما أوحى به ليبعد به الناس عن توهم ما لا يليق به: والا فهل هذه الصفات التي أوحى مما يليق به أو مما لا يليق به؟ إن كان لا يليق به فكيف يصف به نفسه؟ أأنتم أعلم أم الله؟
قال تعالى: {يد الله فوق أيديهم}، وقال: {بل يداه مبسوطتان}، وقال: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما}.
قال المعلق: ({يد الله فوق أيديهم} أي هو مطلع على مبايعتهم فيجازيهم عليها. وقوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} مبالغة في الوصف بالجود. وقوله: {عملت أيدينا أنعاما} أي أبدعناه وعملناه بلا شريك ولا معين. وقال تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} [ص 61]، وقال: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} وقال: {اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} .
نقل المعلق عن القرطبي أن الفوقية في قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم: أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان.
وقال المعلق: ({أأمنتم من في السماء} أي أأمنتم من في السماء سلطانه وقدرته).
وقال المعلق: ({اليه يصعد الكلم الطيب} أي يعلمه {والعمل الصالح يرفعه} أي يقبله).
وحكم الاستاذ البنا حكما أشعريا على هذه النصوص بأنها تفيد الحيز والجهة، فقال: (مما يؤخذ منه نسبة الجهة لله).
تعليق: وهذا قول الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وتبريرهم للتأويل وهو أن هذه الآيات يلزم منها الجهة والتحيز ولذلك صرفوها عن معانيها الى معاني أخرى. وكتب الشيعة اليوم وتفاسيرهم مليئة بنفس هذه التأويلات وبنفس اللفظ؟
وأما وصف الصفات بالمتشابه فهو باطل، فانهم يجعلونها من المتشابه ليبرروا تأويلها ويجعلون تأويلهم الباطل هو المحكم الذي يزول به التشابه. وهو قول باطل: فاننا نسألهم هل كل الصفات من المتشابه أم بعضها؟ فان قالوا كلها وقعوا في جحود كل صفات الله وإن قالوا بعضها متشابه وبعضها محكم قيل لهم: هاتوا دليلا على هذا التحديد وذاك التقسيم!
والواقع أنهم جاؤا بالتأويلات التي سبقهم اليها المعتزلة كما في تأويلات المعلق الأشعري الذي وصفه سيف الاسلام البنا بالمجاهد.
قال البنا: (وقال تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} [62]. وقال: {وجاء ربك والملك صفا صفا}).
وذكر حديث: (لا تزال جهنم يلقى فيها: وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه) وحديث: (لله أشد فرحا).
قال المعلق: ({وصدقت بكلمات ربها} أي بشرائعه. {وجاء ربك} أي أمره وقضاؤه. وقال: {حتى يضع رب العزة فيها قدمه} قال الزمخشري: وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع. فكأنه قال: يأتيها أمر الله فيكفّها عن طلب المزيد فترتدع). انتهى.
وبهذا صار معنى وضع القدم عنده قول الله لجهنم كفي عن المزيد فتقول: اكتفيت اكتفيت!. نعوذ بالله من تأويل الباطنية.
وعلق المعلق رضوان على حديث (لله أشد فرحا): (قال النووي: قال المازري: المراد هنا أن الله تعالى يرضى بتوبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالّته فعبر عن الرضا بالفرح).
محقق كتاب العقائد يثبت التأويل الأشعري:
فهذا نهج أشعري مخالف لما انتهى اليه حال أبي الحسن الأشعري من وصاية الناس باتباع طريق أحمد بن حنبل وترك التأويل كما دل على ذلك كتابه الابانة ومقالات الاسلاميين وكتاب الحافظ ابن عساكر تبيين كذب المفتري.
ومع ذلك فالكتاب يسوغه بطريقة سياسية لا تظهر من أقوال البنا مباشرة ولكن في حواشي التعليق. وبهذه الطريقة السياسية تتم مسايرة جميع الفرق: المؤولة والمفوضة. فمتن الكتاب يحثك على التفويض، وحاشيته تحثك على التأويل!!!
أقسام الناس في صفات الله:
قال الاستاذ حسن البنا رحمه الله [ص 64]: (انقسم الناس في هذه المسألة الى أربع فرق:
1) فرقة أخذت بظواهرها كما هي. فنسبت الى الله وجها كوجوه الخلق. ويدا كأيديهم. وضحكا كضحكهم... وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة. وليسوا من الاسلام في شيء وليس لقولهم نصيب من الصحة.
2) فرقة عطلت معاني هذه الألفاظ على أي وجه... فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر لأن ذلك لا يكون الا بجارحة، والجوارح يجب أن تنفى عنه سبحانه...
هذا رأيان باطلان لا حظ لهما من النظر. وبقي أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد، وهما رأي السلف ورأي الخلف).
أضاف: (أما السلف: فقالوا: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت، ونترك بيان المقصود منها لله... وكل ذلك بمعان لا ندركها ونترك لله الاحاطة بعلمها...) [ص 66].
قال: (وأما الخلف فقالوا: اننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يراد بها ظواهرها. وعلى ذلك فهي مجازات لا مانع من تأويلها. فأخذوا يؤولون الوجه بالذات واليد بالقدرة هربا من شبهة التشبيه) [ص 70].
نماذج من تفسير السلف للصفات:
إن البنا لم ينجح في ضبط منهج السلف وتحريره وانما هو مقلد في كلامه لما توارثه الأشاعرة من أن مذهب السلف تفويض معاني صفات الله. وقد ثبت بالأسانيد الصحيحة تفسير النبي والصحابة والتابعين لآيات الصفات وإنما فوضوا كيفية الصفات لامعناها.
فقد كتب الامام أحمد كتابه "الرد على الجهمية" الذي أثبت الحافظ نسبته اليه [الفتح 13/493] رد به تأويلات الجهمية الباطلة للصفات ثم أثبت المعاني الحقة لها.
وفسر مجاهد وأبو العالية الاستواء بالعلو والارتفاع [البخاري كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء]، ومجاهد هو القائل: (أخذت التفسير عن ابن عباس من أوله الى آخره: أقفه آية آية)، ولم يقل الا آيات الصفات.
وكان ابن عباس يقول: (كل القرآن أعلم الا أربع: حنان وغسلين وأواه والرقيم) ثم علمها ولم يذكر معها الصفات.
وقد فسر قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء}؛ أي وهو الله [زاد المسير لابن الجوزي 8/322]، وقوله تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا}؛ أي بعين الله تبارك وتعالى [الاسماء والصفات للبيهقي396 شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/411].
وقال: (لما كلم الله موسى كان النداء في السماء وكان الله في السماء) [البخاري في خلق أفعال العباد 40].
فمن أين للآستاذ البنا أن السلف فوضوا معاني الصفات؟
هل كانوا يجهلون معاني جميع معاني الصفات حتى الصفات السبعة المشهورة عند الأشاعرة والتي استثنوها من التفويض وأوجبوا العلم بمعناها؟ إن ادعوا تفويض معاني الجميع فهذا مكابرة، وإن زعموا الجهل بها باستثناء السبعة فأين الدليل الشرعي على تحديد المعلوم بسبعة دون الباقي؟ وكيف يكون إثبات الصفات السبعة واجبا والباقي محرما؟ هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟
وهل يجرؤ أحد أن يقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهل معاني صفات الله؟ فاذا كان يجهلها فكيف علمها إخوانكم الأشاعرة المؤولة؟ واذا كان يعلمهما فهل بلغها أم كتمها؟ هل إخوانكم الأشاعرة المؤولة أحرص على تبليغ العلم منه صلى الله عليه وسلم؟
أم لعل الاستاذ البنا يعني بالسلف قسم المفوضة من الأشاعرة. وبالخلف قسم المؤولة من الأشاعرة، فإن الأشاعرة منقسمون على أنفسهم في مسائل الصفات فمنهم من يرجح النوع الأول من التعطيل وهو التأويل. ومنهم من يرجح النوع الثاني من التعطيل وهو التفويض. ولذا اعترف العز بن عبد السلام بكثرة اختلافات الأشاعرة حول صفات الله [قواعد الأحكام 172، الاعلام بقواطع الاسلام 24].
وهذان الطريقان المتناقضان - التأويل والتفويض - يسمح المذهب الأشعري باختيار أي منهما إذ ليس أحد منهما على سبيل المؤمنين.
وهذا عين ما دعا اليه البنا.
وكأنه لا وجود عند الاستاذ البنا لطائفة تثبت الصفات بمعانيها الحقة، لأن إثبات المعاني عنده إثبات للتشبيه والتجسيم. فقد طرد الفرقة التي تثبت صفات الله وتثبت لها المعاني الصحيحة بلا تشبيه. لأنها عنده تثبت لله يدا كيد المخلوق وعينا كعينه واستواء كاستوائه! وألزمها ما لا تلتزمه من التشبيه على طريقة الأشاعرة في ترهيب المخالفين للمذهب ووصمهم بالألقاب الشنيعة لعلهم الى التأشعر يرجعون!
مع أن أصولهم في الصفات على وفق ما قاله نعيم بن حماد شيخ البخاري: (من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ووصفه رسوله تشبيه ولا تمثيل).
كتاب العقائد دعوة الى المذهب الأشعري:
إن الاستاذ حسن البنا بهذا الطرح لم يخرج عن كونه أشعري التلقي في العقيدة. يدعو الى التمسك بالعقيدة الأشعرية التي تخير المنتمي اليها بين أن يؤول الصفات بالتأويلات المطابقة لتأويلات المعتزلة كتأويل الاستواء بالاستيلاء واليد بالنعمة أو القدرة والمجيء بمجيء الأمر والنزول بنزول الأمر وهي التأويلات التي قررها محقق كتاب العقائد من التأويلات في كتاب الاستاذ البنا.
وأريدك أن تقارن بين قول البنا: (يجوز لك إما التأويل أو التفويض) بما قاله اللقاني صاحب كتاب "جوهرة التوحيد" وهو معتمد في تدريس العقيدة الأشعرية:
وكل وصف أوهم التشبيها
أوِّلْه أو فوِّضْ ورُمتنزيها
فدعوة البنا الاستاذ حسن البنا يمثلهما هذان البيتان الأشعريان. انه يقرر مذهب الأشاعرة بطريقة سياسية يخفي معها اسم المذهب.
ترجيحه للتأويل وثناؤه على علماء الكلام:
ويدعي الاستاذ البنا أيضا أن هذا الرأي الثاني – التأويل - هو محل نظر العلماء ويحتج له بكتاب "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه"، وهو الكتاب الذي أنكره العلماء على أبي الفرج ابن الجوزي، ومع ذلك يحتج حسن البنا به، وبكتاب "أساس التقديس" للرازي الذي هو شر كتبه وأقربها الى منهج الجهمية والمعتزلة. ويبلغ به تبريره للتأويل حتى يزعم أن الفريق الأول وهم السلف بزعمه لجأوا الى الوقوع ضرورة في التأويل مهما ابتعدوا عنه.
ويتابع فيقول: (وقد كان هذان الطريقان مثار خلاف شديد بين علماء الكلام من أئمة المسلمين) [ص 74].
تعليق: ودعواه أن علماء الكلام؛ "أئمة للمسلمين" دعوى لا يسلمها له أئمة المسلمين الحقيقيين كالشافعي وأحمد ومالك وغيرهم الذين ذموا علم الكلام وحذروا من مجالسة أهله، فكيف يصف حسن البنا علماء الكلام بأنهم أئمة المسلمين؟
ويقول: (ولو بحثت الأمر لعلمت أن مسافة الخلف بين الطريقين لا تحتمل شيئا... وأن البحث في مثل هذا الشأن مهما طال القول فيه القول، لا يؤدي في النهاية الا الى نتيجة واحدة؛ هي التفويض لله).
وذكر: (أن مذهب السلف في الآيات والأحاديث أن يمروها على ما جاءت عليه، ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه، والخلاف شديد بين أهل الرأيين حتى أدى بينهما الى التنابز بالألقاب).
(أولا: اتفق الفريقان على تنزيه الله.
ثانيا: كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله غير ظواهرها التي وضعت لها هذه الألفاظ في حق المخلوقات. وذلك مترتب على اتفاقهما على نفي التشبيه) [ص 75].
زعمه أن التأويل ضروري للتنزيه:
قال: (واذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد حيث ألجأتهم ضرورة التنزيه الى ذلك حفظا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا).
ثم حكم على السلف بما حكم عليه الجويني والغزالي وغيرهما من الأشاعرة، فقال: (ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني الى الله أسلم وأولى بالاتباع حسما لمادة التأويل والتعطيل). أضاف: (ونعتقد الى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق).
تعليق: وهذه حيدة عن الحكم على التأويل؛ هل هو باطل أم حق؟ دعك من قضية التكفير والتفسيق فإن هذا ليس هو محل الخلاف. وانما الخلاف على الصفة هل منعنا الله من العلم بها أم أجاز لنا تأويلها بغير علم منا؟ وهو خلاف ليس بالأمر الهين ويستحق ضجة ليظهر الحق ولتستبين سبيل المجرمين. ولا تنس اعتراف المؤولة أن تأويلاتهم محتملة لا يمكن القطع بها [الفتح 13/353 و383، اتحاف السادة للزبيدي 2/112، الاتقان للسيوطي 2/221، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد للباجوري 91].
أما دعواه أن ضرورة التنزيه ألجأتهم الى التأويل؛ فهذا تبرير خطير يمكن أن يوهب للمعتزلة والجهمية إذ كلهم يدعي أن ضرورة التنزيه ألجأته الى التأويل الذي تكشف لكثير من الأشاعرة وندموا في أواخر حياتهم على سلوكه.
وهل يجوز الاعتذار عن تعطيل المعتزلة والجهمية أنهم أراوا تنزيه الله بتأويلاتهم التي امتلأت بمثلها تأويلات الأشاعرة؟ هل نبرر للمعتزلة انحرافهم في القدر لزعمهم أنهم أرادوا تنزيه الله عن الاعتقاد بأنه جبر العباد على الفعل؟
وهذا الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة لم يؤول منهم أحد شيئا من الصفات، أفيجوز أن نتهم هؤلاء بأنهم كانوا أقل تنزيها من أهل البدع من الجهمية والمعتزلة!
منهج السلف وليس رأيهم:
ثم بدأ يرجح التأويل بقوله: (وقد لجأ أشد الناس تمسكا برأي السلف الى التأويل في عدة مواطن وهو الامام أحمد بن حنبل. من ذلك تأويله لحديث: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، وحديث: "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن"، وحديث: "قلب المؤمن بين صبعين من أصابع الرحمن") [ص 76-77].
وزعم أن مما يقرب الخلاف بين الرأيين أن الخلف قيدوا تأويلاتهم أن يكون جائزا عقلا وشرعا بحيث لا يصطدم بأصل من أصول الدين.
وذكر أن السلف والخلف قد اتفقا على أن المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق، وهو تأويل في الجملة.
فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع: (وهو هين كما ترى، وأمر لجأ اليه بعض السلف اليه أنفسهم. وأهم ما يجب أن تتوجه اليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف) [ص 77 – 78].
تعليق: وعبارة؛ "رأي السلف" ظلم آخر الى جانب ظلمهم بنسبة التفويض اليهم. فموقف السلف ليس رأيا ارتأوه وانما هو منهج التزموه تقيدوا فيه بالأدلة النقلية واتهموا آراءهم وعظموا نصوص الوحي، اذ لا تستوي قدم الاسلام الا مع التسليم.
ولقد قال الشافعي: (أن العلم بالصفة قبولا ورداً مما لا يدرك بالعقل) [سير أعلام النبلاء 10/80]. وقال أبو حنيفة: (لا ينبغي أن ينطق في الله بشيء من ذاته ولكن يصفه بما وصف به نفسه ولا يقول فيه برأيه شيئا). فالقضية تسليم ولا إعمال للرأي فيها.
ثم إن هذه التأويلات المروية من طريق حنبل بن اسحاق عن أحمد وقد حكى الحافظ الذهبي وغيره أن لحنبل تفردات وغرائب يرويها عن الامام أحمد. وانما حكى الغزالي هذا التأويل بصيغة التمريض قائلا: (سمعت بعض أصحاب أحمد يقولون...) [قواعد العقائد 135، واحياء علوم الدين 1/103].
وقد أثبت كثير من أهل العلم أن منهج أحمد عدم التأويل [انظر سير أعلام النبلاء 11/303 و 13/51، واتحاف السادة المتقين للزبيدي 2/12 و79، طبقات السبكي 9/39 محققة، والملل والنحل للشهرستاني 1/137، ومناقب أحمد لابن الجوزي 155 و174، ومجموع الفتاوى 5/400].
توحيد الأمة عنده أعظم شأنا من تعطيل صفات الله:
ثم وصف مشكلة التلاعب في صفات الله التي طالما كانت عين تأويلات الجهمية والمعتزلة والشيعة بأنها: (أمر هين) ولا توجب هذا الخلاف لأن هناك شيئا أهم عنده من قضية تحريف كلام الله والالحاد في صفاته وهو توحيد الصفوف.
ألا ليت شعري أي صفوف هذه يمكن أن تتفق وتتوحد على منهج التمييع وعدم الحزم في أصول الدين وعدم إنكار منكر {أن تقولوا على الله ما لاتعلمون}؟! أتوحيد على الباطل وتعاون على الاثم أم أنه يجب أن يكون توحيدا على الحق؟!
أي توحيد يتحقق وقد تسربت في كتب عقائد الأمة تأويلات الباطنية والجهمية وصارت معتمدة، وغدت طائفة إثبات الصفات لفظا ومعنى بحسب تفسير السلف لها هي الطائفة المشبهة وليس لها في الاسلام نصيب - على حد قول الاستاذ البنا رحمه الله -
وهذه المعالجة ثبت فشلها بالتجربة وهي لا تضع حدا للالحاد في آيات الله بل يجب عنده أن يتوحد المعطل والمثبت والمشرك والموحد والمبتدع والمتشيع والمتسنن على قلب رجل واحد وتتآلف قلوبهم بالرغم من اختلافهم في المنهج وفي أصول الدين.
وهذا مخالف لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعارض لمبدأ صيانة بناء الأمة من داخلها ومعارض لمنهج السلف في فهم النصوص وتطبيق الواقع، فقد حاربوا الخوارج أشد المحاربة وأعملوا فيهم القتل صيانة للدين بلا اعتبار للوحدة المزعومة الذي ينادي به اليوم ليكون على حساب الدين. وكأن الله قال؛ وما خلقت الجن والانس الا ليتوحدوا. وكأن الصراع بين الحق والباطل خارج الأمة وليس في داخلها باطل يستحق الانكار!
وهذه كتب الجرح والتعديل ونقد الرواة مليئة بالطعن بكثير من الرجال صيانة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ان هذا التميع وعدم الوضوح ومحاولة مسايرة المبطل والتغاضي عن باطله وجعل وحدة المسلمين أولى وأهم من إصلاح منهجهم وتقويم مسارهم ليكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو الذي أوقع الأمة في فساد عظيم فصار الساكت عن شركيات الفرق المبتدعة وبدعها هو المصلح وصار المنكر عليهم هو المفسد الفتان المفرق لوحدة الأمة.
لقد بلغ التساهل بعد عهد البنا الى أسوئه حيث التغاضي عن مصائب المسلمين من شرك وبدع وانتظار لمجيء الخلافة المنتظرة. وتآخ مع فرق أهل البدعة كالروافض وغيرهم بل وتآخ مع النصارى وظهور دعوات الى الانسانية والتنازل عن كثير من أمور الدين. ودخول في مجالس البرلمانات والمساومة مع من لا يريدون مع الاسلام مساومة ولا يبالون به ولا يعترفون.
وهذه المهادنة وهذا السكوت مقابل التوحيد يقول عنه سيد قطب: (بذلك أغلق الله سبحانه مداخل الشيطان كلها وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف بالتساهل في شيء من شريعة الله في مقابل إرضاء الجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة المسلمين) [في ظلال القرآن 2/749 نقلا عن كتاب البيعة للشيخ علي عبد الحمبد].
ويقول عن الدخول في البرلمانات تعليقا على قوله تعالى {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة}: (وقصة شرائهم الحياة الدنيا بالآخرة: هو استمساكهم بميثاقهم مع المشركين في حلف يقتضي مخالفة دينهم وكتابهم... لتحقيق بعض المغانم، وهي خطة من لا يثق بالله ولا يستمسك بميثاقه، ويجعل اعتماده كله على الدهاء ومواثيق الأرض والاستنصار بالعباد لا برب العباد، والايمان يحرم على أهله الدخول في حلف يناقض ميثاقهم مع ربهم، ويناقض تكاليف شريعتهم، باسم المصلحة أو الوقاية، فلا مصلحة الا في اتباع دينهم، ولا وقاية الا بحفظ عهدهم مع ربهم) [في ظلال القرآن 1/88] انتهى.
ولكن هل تحققت الوحدة أم بقيت آمالا وأماني؟
نعم لقد بقيت كذلك، فانه ما لم تتوحد مصادر المسلمين في العقيدة لا يتحقق التوحيد لأن التوحيد توحيد منهج يؤدي الى توحيد قلوب وليست الوحدة وحدة أجساد وأشلاء! فان كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة.
التعصب المذهبي الحزبي:
بعد هذا الاستدراك على كتاب الاستاذ حسن البنا رحمه الله نطالع طائفة من التعصب المذهبي الذي دأب عليه بعض الداعين اليه:
·فيعتبره سعيد حوى رحمه الله بأنه وصل الى مرتبة الاجتهاد وتحققت فيه شروطها .
·ويزيد الشيخ محمد الحامد على ذلك مؤكذا أن البنا مجدد القرون السبعة الماضية كلها. وأنه واضع نظريات العمل الاسلامي وأن كل كلمة من كلماته يجب أن ننظر اليها بمنظار دقيق .
·ويزعم سعيد حوى أن الأمة ليس لها الا فكر حسن البنا اذا ما أرادوا الانطلاق الصحيح بل ولاجماعة كاملة للمسلمين الا بفكر حسن البنا ونظرياته، وأن الانطلاقة على غير فكر البنا تكون قاصرة أو مستحيلة أو عمياء .
وهذا ما جعله يصرح بأن جماعة الاخوان المسلمين لا غيرها هي التي ينبغي أن يضع المسلم يده في يدها، بل ولا يسع مسلما أن يتخلف عن الالتحاق بها .
واعتبر من فارق جماعة الاخوان فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه بناء على ما فهمه من الحديث النبوي الذي احتج به: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه) .
وهذا التعصب والنظر الى الأفاضل بعين الكمال والحقد على المتعقب أو المستدرك هو أحد أسرار تخلف هذه الأمة.
ولو سار الغرب على هذا النمط من التعصب لما بنى حضارة ولكننا نحن الذين تركنا له هذا العلم ونكصنا على أعقابنا وتسلمنا منه التعصب الذي كان عليه رجل أوروبا المريض في القرون الأوروبية المظلمة وها نحن اليوم نعيش هذا الظلام وندفع ضريبته.
فعظمة الكلمة صارت عندنا بحسب عظمة قائلها. فإن كان إماما قبلت وصار المعترض عليها مكابرا متعالما طاعنا في الأفاضل.
لقد أردت بهذا المقال الوجيز تبيين ضرورة تطوير المناهج وتعديل أفكار المصلحين وعدم الوقوف عندها وقوفا سلبيا مشابها لما عليه المذهبيون المتعصبون الذين يأمرونك أن تتمسك بالخطأ الذي وقع فيه المذهب منذ ألف ومئتي سنة ويبقى هذا التمسك الى أن تقوم الساعة.
ولا شك أن هذا التعصب يخالف مذاهب الأئمة الاربعة الذين صرحوا بأن الحديث الصحيح مذهبهم، وأنهم يقولون القول اليوم ويرجعون عنه غدا إن تكشف لهم خطؤه. وحذروا من التعصب لأقوالهم غاية التحذير وأمروا بضربها عرض الحائط إن خالفت قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد قال الإمام الأول لهذه الأمة: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
والمتعصب ليس شافعي المذهب بل الشافعي بريء منه، وهكذا ...
ونحن نسأل الله أن يرحم الاستاذ البنا رحمة واسعة وأن يجعله من أهل جنات النعيم وأن يغفر له ما زلت به القدم أو طعن به القلم انه سميع قريب.