مذكرات الطاهر الزبيري وأسس قيام النظام الجزائري ..
د / عبد الرزاق مقري
كان من المفروض أن أواصل حديثي عن الثورات العربية لأتناول هذا الأسبوع علاقة هذه الثورات بمستقبل القضية الفلسطينية، غير أن مطالعتي لمذكرات الطاهر الزبيري حفّزتني لأبادر بالكتابة في موضوع آخر مهم كنت أعدّه لظرفه المناسب وهو الحديث عن طبيعة النظام الجزائري وأسس نشأته.
مهما يكن من أمر دوافع نشر قائد الأركان السابق لشهادته، فقد قدّم لنا صورة تاريخية واضحة عن نظام الحكم الحالي، والمهم في هذه الشهادة ليس المعلومات التي قدّمها، فهي معلومات يعرف جلَّها المهتمون بالشأن السياسي في الجزائر ولكن الذي يهم فيها أنها لم تأتِ من شخص معارض يسهل اتهامه بالتآمر والتلفيق، فالطاهر الزبيري هو الذي ألقى القبض على أهم الشخصيات الثورية التاريخية الوازنة ثم هو من نفذ بنفسه الانقلاب على بن بلة وساهم بشكل محوري في إقامة نظام الحكم الذي لايزال قائما إلى اليوم، وبعد فترة غاب فيها عن المشهد بسبب الصدام الذي وقع بينه وبين بومدين عاد إلى دائرة المُبجّلين مكرما معززا فهو ممن أوكلت لهم عضوية اللجنة الوطنية لمراقبة الانتخابات التشريعية والمحلية سنة 1997 التي يعرف القاصي والداني أنها كانت مزوّرة وبعدها مباشرة عُيّن من قبل اليمين زروال عضوا في مجلس الأمة ولايزال يتمتع بعضويته إلى اليوم، فشهادته إذن شهادة رجل من أهلها.
لعلّ أهم ما أكّده السيد الطاهر زبيري قصة البناء الانقلابي الذي قام عليه النظام الجزائري، فالذين أمسكوا الجزائر بعد الاستقلال لم يستندوا في تثبيت حكمهم لا على الشرعية التاريخية ولا الشرعية الشعبية ولا حتى على الكفاءة وتحقيق النتائج ولكن الشيء الوحيد الذي مكنهم من رقاب العباد وناصية البلاد إنما هي القوة العسكرية والأمنية والمناورة السياسية. فعلى عكس ما رُوّج لنا طيلة سنوات الاستقلال لم يكن استحقاق الجهاد والتضحية من أجل إخراج المستعمر هو المعيار الحقيقي لاختيار الحكام بل إن الذين كانوا يمثلون هذه الرمزية بجدارة هم من طحنهم نظام الحكم بالاغتيال أو التشريد أو التهميش، إذ كيف يُعقل لو كانت الشرعية التاريخية هي أساس الحكم أن يسيطر هواري بومدين على الحكم وهو الذي يصفه الزبيري بأنه كان فاقدا للشرعية التاريخية، ولو أردنا أن نكون أكثر عدلا من سي الطاهر لقلنا كيف يسيطر على الحكم رجل لا تساوي شرعيته التاريخية شيئا أمام من شردوا أو أعدموا أو اغتيلوا باسم الحكم أمثال بوضياف وآية أحمد وشعباني وكريم بلقاسم وخيضر الذين ذكر قصصهم صاحب المذكرات.
يظهر لك وأنت تتصفح الكتاب وتتأمل المصطلحات المستعملة فيه وكأن الذين أمسكوا مقاليد الحكم في الجزائر بعد استقلالها كان أكبر همّهم وأكثر شغلهم البحث في أساليب السيطرة والتحكم من خلال الدسيسة ولعبة التوازنات والتآمر الخفي والتحالفات الميكيافللية والخيانات البينية وتزوير الحقائق والحسم الخشن العنيف. ولا تشعر أثناء ذلك بأن قضية التنمية وتطوير البلد وبناء المستقبل كانت لها قيمة في يوميات حياتهم، حيث لم تكن الوزارات والقطاعات الاقتصادية هي حَلبة الحكم الحقيقية وميادين الإبداعات البشرية إلى حد لم تكن فيه اجتماعات الحكومة تنال من الأهمية ما تناله اجتماعات العُلب السوداء بغرض تقاسم النفوذ والنظر في شأن الخصوم، وهو ربما ما يجلي حقيقة الفشل الاقتصادي الذي لا يزال يلاحق الجزائر وهو نفس السلوك الذي بقي مستمرا، إذ لا قيمة للحكومة وللوزارة في ميزان الحكم ولا همّ يعلو في أذهان أصحاب القرار الحقيقيين فوق همّ المحافظة على مقاليد الحكم وموازينه... إلى يوم الناس هذا.
نتج عن التحولات التي وقعت في موازين القوة السياسية والعسكرية ما هو أخطر من ذلك وهو ما يتعلق بالانقلاب الثقافي والفكري الذي وقع بعد الثورة التحريرية وهو الأمر الذي نفهم أبعاده من خلال المعلومات التي يؤكدها الطاهر الزبيري عن التحولات الكبرى في البنية البشرية داخل الثورة وبعد الاستقلال فهو لا يتوقف في مذكراته عن الحديث عن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي سنة 1958 وعن الشكوك التي كانت تساور المجاهدين الأصلاء بشأنهم، وكيف استطاع هؤلاء أن يتجاوزوا هذه العقدة فتسلقوا المراتب بدعم من بومدين حتى صاروا أذرعه التي يضرب بها ثم تحولوا إلى شركاء أساسيين في أعلى الهرم في عهد الشادلي ثم صاروا أصحاب النفوذ والصولجان بعده.
رغم الحسم الفكري والثقافي الذي كرّسه بيان أول نوفمبر لصالح المبادئ الإسلامية، انزلقت الجزائر بعد الاستقلال في صراع مرير على الهوية ضاعت فيه كثير من الجهود وتبدّدت فيه كثير من الطاقة وترسخت كثير من العداوات في الساحة السياسية سواء ما تعلق بمكانة اللغة العربية في الإدارة والتعليم أو دور الإسلام في الدولة والمجتمع أو مرجعية قانون الأسرة أو الاتجاه الثقافي للمنظومة التربوية أو مساهمة الصيرفة الإسلامية في المنظومة البنكية الوطنية أو ما يتعلق عموما بالحساسية المفرطة من مظاهر التديّن كاللحية والخمار في الوثائق الرسمية وما إلى ذلك. ولو تتبعنا ظاهرة صعود الضباط الفارين من الجيش الفرنسي في مختلف دوائر النفوذ وتحالفهم مع الإداريين الموالين لثقافة المستعمر الذين تركتهم فرنسا في أماكنهم، وما يقابل هذا من مسلسل التصفيات التي طالت مفجري الثورة وإبعاد أصلائها من دوائر الحكم والتأثير لسهُل علينا تفسير هذا الانحراف الذي لا يسمح به تاريخ النضال الجزائري من الأمير عبد القادر إلى شهداء ثورة التحرير.
كيف يعقل مثلا أن يُفضل أولئك الضباط المشكوك في أسباب فرارهم من الجيش الفرنسي بعدما لاحت في الأفق حتمية استقلال الجزائر على المجاهد الأصيل شعباني الذي يؤكد الزبيري بأنه متخرج من المدارس الباديسية وأن الذين تكفّلوا بملف محاكمته وإعدامه هم أولئك الضباط أنفسهم، كيف يمكن لبومدين أن يُمكن لهؤلاء الذين لم يكن لهم شأن ولا تاريخ في الحركة الوطنية ويُطارد أسد جرجرة كريم بلقاسم القائد المثقف المتديّن الذي كان في الجبال قبل اندلاع الثورة ملاحقا من قبل الجيش الاستعماري ثم صار ملاحقا بعد الاستقلال من الجيش الجزائري ثم يغتال ببرودة دم خارج وطنه، كيف يُبجل هؤلاء على خيضر المشهود له بالنزاهة والصلاح بين أقرانه والذي لوحق واغتيل في منفاه الاضطراري وحينما حققوا في الأموال التي خرج بها إلى الخارج لم يجدوه قد استعمل منها فلسا واحدا لا له ولا للمعارضة (عكس ما يذكره الزبيري في مذكراته) رغم حاجته الماسة للمال مثل ما أكد لي ذلك شخصيا إسماعيل حمداني رئيس الحكومة السابق الذي كُلف من قبل بومدين بملف استرجاع الأموال. ألا تدل كل هذه الأحداث بأن مؤامرة ما دبّرت لسرقة الجهاد النوفمبري وتحويل قِيمه بدأت فصولها في نهايات الثورة وتكرّست بعد الاستقلال.
لا يمكننا اتهام الذين فرّوا من جيش الاستعمار بأنهم كانوا جميعا عملاء مكلفين بالتغلغل داخل الثورة ومعدّين لتولي حكم الجزائر في حالة استقلالها ولكن لا يستطيع أحد أن ينفي أساليب التغلغل التي اعتمدتها أجهزة الاستخبارات الفرنسية واستراتيجيات التأثير في مستقبل الجزائر التي أدارها الجنرال ديغول. وفي كل الأحوال، مهما سكتنا عن نوايا ومقاصد بعض هؤلاء الذين وصلوا إلى أعلى مراتب الحكم ممن نعرفهم، فإنه لا أحد ينكر توجهاتهم الفكرية المندمجة مع ثقافة المستعمر وأدوارهم المحورية من داخل النظام في نشر الحساسية مما له علاقة بالتوجهات الثقافية العربية الإسلامية وقد كُتب لي أن تناقشت مع عدد منهم وتحدثت بإسهاب مع واحد من منظريهم وقادتهم الكبار المتمكنين - ممن ذكرهم الزبيري في كتابه - ووقفت بنفسي على عمق بعدهم عن ثقافة عموم الجزائريين وعن قيم الثورة النوفمبرية الأصيلة.
المصدر : يومية الشروق الجزائرية 6/10/2011