حين تكون سيرة أحد نبلاء المسلمين عميقة الأثر ، بليغة الإفصاح ، واضحة الطبعة : فإنه يترك لمن بَعده مجالاً رَحباً ليستـنبط من أعماله ومواقفه الدروس والدلالات ، وذلك هو شأننا مع ثري في المعاني مثل محفوظ النـحناح زادَ الله ذِكرَه حُسنا ، فقد كانت للرجل أنفاس المتجردين ، ونظرات المتأملين ، وطبيعة المنطقيين ، واستطاع من خلال الهدوء أن يبعث حركة، وبالمقارنة أن يستنتج معادلة ، وبامتصاص غضبات الجهالة أن يعصم من حلولِ يُبوسةٍ صلدة ، فترك الأيام ندية بعده .
وقد توسّعَ الأخيارُ في ذكر منقبته في صون الدماء ومنع الانـحدار إلى مسلسلات الانتقام ، ولكن فقهه الدعوي العام جلي يُشير إلى وعي قيادي متقدم ، ومحاكمات عقلية لمسائل تتزين عندها الشبهة لتُغري بإغرابٍ أو ميلٍ إلى مرجوح أو جنوح لرخصة ، ولكن إباء محفوظ حفظ له وتيرة العزيمة والانتماء إلى جمهور الفقهاء دون مستعجليهم أو المبطئين .
l وكانت قضية " الجزأرة " من أوضح إشارات غلبة عقلانيته على عـــاطـفيةٍ استبدت يــوماً ما ، وصَـخَب الجزأرة اُريد للإسلاميين الجزائريين فيه أن يقطعوا حبال الوصل مع العالمين العربي والإسلامي ، وأن يحصروا أنفسهم في دائرة الجزائر فقط ، في الولاء والفكر والشعور ، مماشاة لأنساقٍ حيوية كاملة تُدخل في سياقها : الشخصية الجزائرية ، والتراث الجزائري ، والتجربة الجزائرية ، والتاريخ الجزائري ، والقيادة الجزائرية ، والمستقبل الجزائري ، فأدرك محفوظ ما وراء الاستطراد مع هذا المنطق من تثبيط يعزل الجيل الجزائري الصاعد والنشاط الجزائري الشعبي والحكومي عن المسيرة العربية والإسلامية العامة ، فتمرّد ، وأبى، ورأى ضرورة مماشاة الفكر الوحدوي الجامع المخترق للحدود ، وأنكر كفاية الرصيد المحلي ، وشجّع على نهلٍ من ينابيع خير تنتشر من الرباط إلى ما بعد الهند واندونيسيا ، وفهمنا من إصراره أنه يرى في وجود القلب الدعوي المنفتح الـمُنكِر للانغلاق " تمرداً على الانكفاء اللاواعي " الذي علقت به أشواك من التبرم الذي يبديه الجيل البربري العلماني المنـحاز للفرانكفونية ، وبعد مرور ربع قرن على عناد محفوظ بدأنا ندرك عطايا السعة الجزائرية المنسابة على رِسلها مع الوحدويات العابرة للحدود ، وخيرية الانعتاق من وسوسة الانكفاء ، وذلك واضح في قسمات وجوه الجيل الذي ربّاه ، والبسمات التي يشيعونها ، وحرصهم على الاقتباس من الدعوة الإسلامية العالمية ، ورفض العبوس والانتحاء الجانبي ، وما دخل على الجزائر عبر الانفتاح من فكر غريبٍ ونمطٍ مؤذٍ لا يدخل في نطاق مسؤولية محفوظ أبداً ، وإنما هي مسؤولية آخرين لم يدركوا معنى وسطيته وخطته التربوية التي تعتمد الانتقاء والاختيار المعياري الذي يكفل نقاء المقتبَس .
l ولمحفوظ براعة خططية أخرى تجلت في تمرده على التجميع السائب ، يوم آمن بالتنظيم المَسُوس بسياسة الحزم والرقابة ، وأنكر وبالغ في إنكار الاكتفاء ببعث " تيار " إسلامي عريض منفتح ، ورأى في ليونة الارتباط خطراً بإمكانه أن يحرف العمل والمجموعة ويثير التوترات مع الحكومة والمجتمع من دون سبب ، وذلك ما حدث ، وهو الذي يُفسر الاستيراد العشوائي للأفكار والرؤى حين لم يلتزم انفتاح غيره بالوسطية ومعاييرها ، والخطط الدعوية وقواعد العمل هي شروط متكاملة تؤخذ حزمة واحدة ولا يليق لها أن تتجزأ ، فوجود العمل التنظيمي هو شرط نجاح التمرد على الجزأرة والخروج من الخصوصية المحلية المحدودة إلى الانفتاح العريض ، لأن التنظيم تحكمه قوانين وتربيات وتدابير منهجية مترابطة تجعل الاقتباس سليماً وتحت نظر رقابي وغير بعيد عن أنفاس المجربين الخبراء ، بينما في صناعة التيار احتمالاتُ انفلاتٍ وفوضويةٍ وضعف سيطرة وأهوائية تؤدي فيما بعد إلى تشرذم وشِللية وكيفية وارتجالية ورغبات شبابية تهورية ، وذلك هو الذي آلت إليه تربية سريعة موسمية حين جوبهت بمكر المنافسين ، فلم تستطع التعامل المرن مع الحصار والالتفاف على الكيد ، وانزلقت بسرعة إلى حرب الاستنزاف ، ونجا تنظيم محفوظ من مثل ذلك، وانضبط ، وانتظر ، ومال برأسه قليلاً حتى مرّت العاصفة ، ثم انتصب ثانية مقتدراً مؤهلاً لمعركة ثانية ، في حين التهى التيار بمناوشات اُريدت عن عمد لتصرف عن أصل التوجه ، وهذه تقديرات لا تنبغي في حينها إلا لعقلية قيادية مستوعبة للمنـظر العـام المرئي والغـائب ، وتعين عليها فِراسة مستحكمة ، وذلك هو الذي هُدي إليـه محـفوظ فأصاب ، ومضى درسٌ بليغ في امتياز التنظيم على التيار ، والاكتشاف اللاحق لمثل هذا المعنى في أيام العافية ليس له كبير دلالة ، ولكن أن يكتشفه محفوظ إذ المحنة جاثمة والعاصفة الهوجاء تقتلع الثوابت : له كل الدلالات ، وذلك ملمح من ملامح شخصية محفوظ يذهل عن رؤيته الغافلون. فأصاب ، ومضى درسٌ بليغ في امتياز التنظيم على التيار ، والاكتشاف اللاحق لمثل هذا المعنى في أيام العافية ليس له كبير دلالة ، ولكن أن يكتشفه محفوظ إذ المحنة جاثمة والعاصفة الهوجاء تقتلع الثوابت : له كل الدلالات ، وذلك ملمح من ملامح شخصية محفوظ يذهل عن رؤيته الغافلون.
l ومن فنّه في التوغل الآمن : إيمانه بإمكان العمل الانسيابي في داخل الآليات الديمقراطية المتاحة ، فهناك دستور وأحزاب وبرلمان وجهاز حكومي يمكن أن ينفذ له من خلال حلف وعملية تبادل منافع تحقق الغطاء اللازم لتحرك تدريجي محدود ضمن سيطرة مراكز القوى الإستراتيجية المالكة لسلطة القرارات الحاسمة ، وكل مجموعة سياسية في مثل هذه التركيبة بين حالين واحتمالين : التقدم البطيء عبر المشاركات والتحالفات ، لتحقيق مجال نشاط قانوني يمنع التحرش ، أو الاعتزال السلبي الذي قد يتطور تحت الضغوط العاطفية إلى معارضة فيها اصطدام وتحديات ، ولكل حالٍ منطقٌ ولغةُ جدلٍ يختلط فيها السلب والإيجاب ، فترجّح عند محفوظ السلوك الأول بسبب تعب شعب الجزائر من الانفلات الأمني ونزيف الدماء ، ورأى وجوب " مُهلة " استدراكية وبنائية يتحقق أثناءها التطوير والتخصص واستكمال النقص ومدّ الجذور وإقامة العلاقات والاقتراب من جمهور الناس ، وفي تقديري أنه كان مصيباً جداً في فهمه لموقعه وموقع جماعته من المنظر الشامل ، ولكن الحاصل التنفيذي العام لخطته هذه جاز عليه خلل وفتور ، بسبب بقيةٍ من مزاج عاطفي في الشعب الجزائري يميل بها إلى الغضبات والمفاصلات ، ويطلب المعجزات الكبيرة في الزمن القصير ، ولأن رحيل محفوظ دَهم فجأة : استولت شِـبْهُ حَيْرة ، لمبالغة في أتباعه وجُنده في التعلق به ، واعتقادهم تحقق الإلهام له ووفرة " الكارزمية " في طريقته القيادية إلى درجة قارفوا فيها نوعاً من الاتكالية عليه ما كان يريدها ولا يصححها لهم ، ومع ذلك فإن عَجْزَ التنفيذ عن مجارة الطموح لم يُسبب تراجعاً ، بل استعداداً للتصويب ، وآية ذلك استنفار الخَلَف لأنفسهم لاكتشاف مداخل تطوير القُدرة التنافسية ، وفي الجزائر اليوم بعض فراغٍ يساعدهم على العودة إلى الوتيرة النابضة ، وإتقان الاستنفار ، وقد اجتمعت النصائح توصي بتربية إيمانية زهدية تمنع احتمالات تسرب الوساوس الدنيوية التي تغزو الصف الإسلامي من خلال سعة الامتزاج بالمحيط السياسي والتسرب الخفي لإيحاء الاُبّهة الوظيفية إلى نفوس الباذلين ، وفِراستي أنّ أصالة البداية التي حرص عليها محفوظ أن ترفل فيها جماعته ستكون هي الغالبة بحول الله ، وأن الفتور بعده نفضة، وأن البركات الربانية ستحل في الدار ، لسلامة النوايا وبراءة القلوب ونقاء المضمَر ، ولا نعلم بحمد الله إلا خيراً ، ويخسأ الحاسد ، ففي الجزائر رجال. وأن الفتور بعده نفضة، وأن البركات الربانية ستحل في الدار ، لسلامة النوايا وبراءة القلوب ونقاء المضمَر ، ولا نعلم بحمد الله إلا خيراً ، ويخسأ الحاسد ، ففي الجزائر رجال.
l ويترجح ذلك بما كان من طريقة محفوظ في بناء وتـكوين " الطبقة القيادية الجماعية الواسعة " ، وكانت بداية منقبته هذه : نصيحة من جمهرة الإسناد الخارجية التي ظاهرته ، أنصت لها واستوعبها مع بداية النشأة قبل ربع قرن ، فلم يؤمن باستبداد وتفرّد ، واستولت عليه حماسة جيدة لتنفيذ منهجية الدورات التربوية التطويرية ، بآفاقها الإدارية والتخطيطية ، وتوعيتها السياسية ، ومقولات الفكر الإسلامي المتقدم ، والفقه الشرعي المقارن ، وبها استطاع وفي وقت مبكر أن يضع عن يمينه زُمراً من الثقات الوعاة والأعوان المكافئين ، وكان ذلك منه نِعم الاستعداد ليوم الحاجة التي بدت عند رحيله رحمه الله ، وبها سجّل نقطة امتياز تتيح لنا أن نرويها الآن عند التغنّي بمظاهر إبداعه .
l وليست بأمرٍ خفي : ثقافته الشرعية التامة التي أبرأته من البدعة والتقليد والتأثيرات الاستشراقية في محيط فرنسي الثقافة ، ونعرف ميزته هذه من خلال قياسه بأقرانه .
l وهذا الإيجاب : يزينه إتقان اللغة العربية وتدريسه لها ، وفي ذلك إيماء لسبب عامل النُبل في شخصيته ، فإن إجادة اللغة تمنـح مهابة ، ومن ذكرياتي معه أننا تداولنا يوماً خبر الجيم المخفّفة الـمُعطّشَة فأفادني بفوائد ، رجعت بها إلى تحليقات طالب العلم حين يلين له مُعلّمه فيمنـحه شيئاً ممما حباه الله به ، وشعرت ساعة كأنه أُستاذي .
فكل ذلك من امتيازات ومناقب محفوظ ، الباذل الصامت الفصيح ، عليه رحمة الله