بقلم: بدر محمد بدر
مقدمة
سيظل الإمام الشهيد حسن البنا نبعاً فياضاً, وكنزا ثميناً, مهما طالت الأزمان واختلفت الأمكنة, يتأمل في حياته الباحثون, ويتعمق في نظراته الدارسون, ويناقش منهجه العارفون.. لقد نجح هذا الرجل العظيم في إحداث التغيير الإيجابي, الذي كانت الأمة الإسلامية في أشد الاحتياج إليه, على أساس من الفهم الشامل للإسلام, والمنهج الوسطي الرشيد, ولا يزال هذا التغيير مؤثراً في حياة الأمة.
وبالرغم من استشهاده قبل أكثر من ستين عاما, لا تزال دعوته ملء السمع والبصر, ولا تزال جماعته الأكثر حضوراً في الساحات: السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية في كل بلاد المسلمين, ولا يزال منهجه يقرب الناس من دينهم, ويردهم إلى مقاعد المجد الأولى.
وفي الذكرى المئوية لميلاد الإمام الشهيد المجدد حسن البنا (2006), أحببت أن أشارك بهذه السطور, عسى أن يكتبني الله في زمرة السائرين على منهجه.. منهج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم, وقد حاولت أن ألتزم ـ وأنا أكتب هذه السطور ـ بالحقائق الناصعة, وبسهولة العبارة وبساطتها لتناسب إيقاع العصر, فهي تتوجه خاصة للشباب والفتيات, آملاً أن أكون موفقاً في عرض هذه السيرة الزكية, لهذا الرجل العظيم, والله أسال أن ينفع بهذا الجهد, وأن يتقبله مني, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..
ميلاده
ولد حسن أحمد عبد الرحمن البنا في أسرة ريفية بسيطة , بساطة أبناء الريف المصري, كانت تعمل بالزراعة في قرية " شمشيرة" وهي إحدى قرى دلتا نهر النيل, وتقع بالقرب من مدينة رشيد (محافظة البحيرة), وتطل على نهر النيل في مواجهة بلدة "إدفينا" الأكثر شهرة, وكانت "شمشيرة" تتبع مركز فوة, أحد مراكز محافظة "كفر الشيخ" حالياً, وكان جد حسن البنا ـ رحمه الله ـ فلاحاً من صغار الملاك بالقرية, معروفاً بين الناس بالصلاح والتقوى وحب الخير.
نشأ الابن الأصغر "أحمد عبد الرحمن" ـ والد حسن البنا ـ بعيداً عن حرفة والده (الزراعة) والتحق بكُتاب القرية القرآن الكريم, كعادة أبناء الريف, ثم انتقل بعد ذلك إلى مدينة الإسكندرية ليدرس العلوم الشرعية المتخصصة, حيث التحق بجامع القائد "إبراهيم باشا" ـ وهو في الإسكندرية في ذلك الوقت, كالأزهر الشريف في القاهرة ـ في دراسة علوم الدين والشريعة والفقه واللغة العربية, وفي أثناء الدراسة بحث الشيخ "أحمد" عن وسيلة لكسب الرزق ليستعين بها على استكمال دراسته, ويخفف من عبئه المادي على والده, حتى التحق بأحد أكبر المحلات المتخصصة في إصلاح وبيع الساعات في مدينة الإسكندرية, وسرعان ما أتقن الصنعة وبرع فيها, حتى أصبحت بعد ذلك حرفته في الحياة, التي يرزقه الله من خلالها, ومن هنا جاءت شهرته بـ "الساعاتي" وبعد أن انتهت رحلته في طلب العلم, عاد الشيخ أحمد عبد الرحمن من الإسكندرية إلى قريته "شمشيرة" عالماً وفقيهاً وواعظاً, وخبيراً كذلك في صيانة وإصلاح الساعات, ثم تزوج من ابنة أحد كبار تجار المواشي بالقرية , وبعد أن تزوج, فكر في أن يغير من طريقة حياته وظروفه وأحواله, فعزم على الرحيل, وانتقل ـ ومعه والده وزوجته ـ إلى قرية "المحمودية" وافتتح فيها محلاً لصيانة وإصلاح وتجارة الساعات, بعد أن تنازل لشقيقه الأكبر "محمد" عن حصته في الأرض الزراعية, التي تركها له الوالد, ولم يتوقف عن تحصيل ونشر العلم الشرعي.
وفي العام نفسه الذي انتقل فيه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا, إلى قرية "المحمودية", التي تحولت الآن إلى مدينة تتبع محافظة البحيرة شمال الدلتا, ولد ابنة الأكبر "حسن" في يوم الأحد 25 من شهر شعبان عام 1324 هـ ـ الموافق 14 من شهر أكتوبر عام 1906, فسعد به الشيخ أحمد أيما سعادة, كما سعد به الزمان وأمة الإسلام, وأذن في أذنه اليمنى, وأقام الصلاة في أذنه اليسرى عملاً بالسنة النبوية الشريفة, ليكون أول ما يسمعه المولود: الأذان والإقامة وشهادة التوحيد.
استقر الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا في القرية, وكان يخطب الجمعة ويؤم المصلين في المساجد, ويصلح بين المتخاصمين والمتنازعين, وتم اختياره مأذوناً شرعياً, وظل يعمل بالمأذونية حتى بعد أن انتقل إلى القاهرة مع نجله الأكبر "حسن" عندما التحق بمدرسة دار العلوم (كلية دار العلوم الآن), مأذوناً شرعياً لمنطقة "الصليبية" بحي السيدة زينب, أحد أحياء القاهرة القديمة.