(( أفلا يتدبرون القرآن ،أم على قلوب أقفالها )) :
قال شهيد الظلال:
([COLOR="Purple"]تدبر القرآن: يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير!..)..
.ويقول شاعر الإسلام : محمد إقبال : ( إنه ليس بكتاب فحسب،إنه أكثر من ذلك، إذا دخل في القلب تغير الإنسان، وإذا تغير الإنسان تغير العالم...!)
نبي الهدى قد جفونا الكرى... وعفنا الشهي من المطعمِ
نهضنا إلى الله نجلوا السُرى... بروعة قرآنهِ المحكمِ
ونُشهد من دبَّ فوق الثرى... وتحت السما عزة المسلمِ
(( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء )):
يقول ابن القيم:
..لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر،فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين،وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب..!
تلاوة القرآن بتدبر:
أعظم وسيلة للتزكية والتطهير، وأقرب طريق لإحياء الربانية،وأقوى محرك للإيجابية والفورية،والعامل المؤثر الحاسم في التغيير الهادئ الهادي،وأنفع دواء لأمراض القلوب، وهو الحل الحتمي لمشاكل الأمة: (الحل القرآني:فريضة وضرورة)... لا يشبع منه العلماء،لا تفنى عجائبه،ولا تقلع سحائبه،ولا تنقضي آياته،ولا تختلف دلالاته،فهو نور البصائر من عماها،وشفاء الصدور من أدوائها وجواها،وحياة القلوب،ولذة النفوس،ورياض القلوب،وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح،..أنزله الله لنقرأه تدبرا،ونتأمله تبصرا،ونسعد به تذكرا..!
ولأهميته العظمى داوم عليه الربانيون حتى في أصعب الأوقات وأحلك الظروف:
1-قطعت رجل عروة بن الزبير-أصابها مرض الآكلة- بالمنشار وهو يسبح لم يمسكه أحد،فقال:لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا،ولم يدع ورده القرآني تلك الليلة..!
2-وهذا سيد الطائفة الجنيد: لم يترك تلاوة ورده القرآني حتى في آخر لحظات حياته،وتشبث به وهو يودع الدنيا:..قال أبو محمد الجريري: كنت واقفا على رأس الجنيد في وقت وفاته، وكان يوم جمعة وهو يقرأ القرآن..فقلت له: يا أبا القاسم..أرفق بنفسك..قال: يا أبا محمد.. ما رأيت أحوج إليه مني في هذا الوقت. .وهو ذا تطوى صحيفتي..!
3- عندما رجع الجيش الإسلامي من غزوة ذات الرقاع سبوا امرأة من المشركين, فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دمًا ., فجاء ليلاً وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم رجلين على الحراسة أثناء نومهم، وهما عباد بن بشر، وعمار بن ياسر، فضرب عبادًا بسهم وهو قائم يصلي فنزعه، ولم يقطع صلاته، حتى رشقه بثلاثة سهام، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه، فقال: سبحان الله، هل نبهتني؟ فقال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها، فلما تابع عليّ الرمي ركعت فآذنتك, وايمُ الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها!!..:
( فقد كان حبه للتلاوة قد أنساه آلام السهام التي كانت تنغرس في جسمه وتثج الدم منه بغزارة..) :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل... وبيض الهند تقطر من دمي..!
4- وهذا الإمام الشهيد:حسن البنا:الملهم الموهوب...على رغم كثرة انشغالاته وتعدد واجباته..كان لا يترك أوراده الروحية:وخاصة الورد القرآني، مهما كانت ظروفه وأسفاره وأعماله:فيحكي عنه الشاعر الكبير الأميري:
أنهما سافرا معا سفرا مضنيا، متعبا.. فلما أن أخلدت إلى النوم،قام يمشي على أطراف أصابع قدميه بهدوء لكي لا يوقظني..وأقبل على القيام وترتيل القرآن... بخشوع وتدبر..!
قوة التأثير العجيبة:
((أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون.....فاسجدوا لله واعبدوا )):
عندما وصل الشهيد سيد قطب( في الظلال) عند هذه الآية هزته هزا عنيفا..وأثرت فيه تأثيرا عجيبا فصرح قائلا:
ثم جاءت الصيحة الأخيرة ، واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب : ﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾ [ النجم : 59-61 ].
فلما سمعت : ﴿ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾ .. كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقًا إلى أوصالي ، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي لم أملك مقاومته ؛ فظل جسمي كله يختلج ، ولا أتمالك أن أثبته ، ولا أن أكفكف دموعا هاتنة ، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة! وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح ، وأن تعليله قريب ؛ إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة ، لم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها ، ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع ، وكانت مني هذه الاستجابة ، وذلك سر القرآن ؛ فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة ، وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير ؛ فيكون منها ما يكون! " .
وقد وجدت بدوري .. هذه المشاعر..أيام حصار غزة..فعبرت حينها بهذه الكلمات:
لكأن القرآن يتنزل الآن !!..
والله لقد قرأت سورة الفتح عشرات المرات.. لكن لم استشعر معانيها ولم أتذوق لطائفها إلا في أول ليلة من ليالي الهجوم البري على غزة في ظلال غبار المعركة البرية المتصاعد..فما هي بالسورة التي كنت اتلوها مرارا وتكرارا.. بل كأنها تتنزل اللحظة!!..
في صحيح البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية:أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟أم خلقوا السموات والأرض؟بل لا يوقنون.أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون؟ كاد قلبي أن يطير!
يقول الشيخ الراشد في المنهجية:
فانظر قوله: كاد قلبي أن يطير!!
وتمثل لنفسك أنك في مثل موقعه وتسمع تلك الآيات أو غيرها،فإن عمق التخيل ومزيد التدبر والاهتمام والفكر ينقلك إلى شيء من الاندماج مع المعاني...
يقول د. خالد أبوشادي:
لذا لابد لك أخي .. أن تُعطي لهذا الكتاب قدره ، وتنظر إليه من اليوم نظرة مختلفة ، وتعامله بغير ما اعتدت عليه من قبل ، وحين ينير الله بصيرتك ويرفع الغشاوة عن قلبك ... عندها فحسب ترى ما رأى محمد إقبال من أن القرآن مفتاح تغيير العالم بأسره ، واسمعه حين يقول :
" إنه ليس بكتاب فحسب ، إنه أكثر من ذلك ، إذا دخل في القلب تغيَّر الإنسان ، وإذا تغيَّر الإنسان تغيَّر العالم " .
وحين تُحرَم هذه البصيرة تفقد مصدر قوتك وبوصلة هدايتك ويصبح " لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة ، فتُقرأ عليك سورة يس لتموت بسهولة ، فواعجبا! قد أصبح الكتاب الذي أُنزل ليمنحك الحياة والقوة يُتلى الآن لتموت براحة وسهولة " .
وسائل عملية فعالة لتدبر القرآن:
أولا:الفهم...الفهم:
التدبر في اللغة: هو تأمل دُبُر الأمر أي عاقبته ، وتدبر القرآن هو تحديق القلب في معانيه ، وجمع الفكر على معرفته وتفهمه ، وذوبان معانيه في الروح فتسري في الدم إلى القلب فتشفيه ، وهو الغرض من إنزاله. قال تعالى : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ ص : 29 ] ، وتدبر القرآن يقف في مقدمة أدوية علاج القلب بلا منازع ، كما ينص على ذلك صريح القرآن : ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلمُؤْمِنيْنَ ﴾ ( الإسراء : 82)
القرآن:لا يُجنى جناه دون معرفة معناه ، فكم من الناس يقرأ ولا يزيد إيمانا ولا يتغير سلوكا ولا ينصلح بمقدار ذرة ، مع أن الآية الواحدة كانت تخلق من الصحابي خلقا آخر.
إنك لتجد عشرات الملايين في رمضان بين أيديهم المصاحف يقرؤون القرآن ويسعون في ختمه مرة بعد مرة ، لكن هل تجد عُشرهم أو نصف العشر منهم يفهمون ما يقرؤون أو يتدبرون في ما يؤمرون؟!
" ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل هذه الظروف التي واجهتها أول مرة ؛ هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور ، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة ، وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات ، وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها ؛ تنتفض خلائق حية موحية ، دافعة ، دافقة ، تعمل في واقع الحياة ، وتدفع بها إلى حركة حقيقية في عالم الواقع وعالم الضمير " .
قال الحسن : " إن هذا القرآن قد قرأه عبيدٌ وصبيان لا علم لهم بتأويله ، لم يأتوا الأمر من قِبَلِ أوله. قال الله عز وجل : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ ص : 29 ] ، وما تدبر آياته إلا إتباعه ، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : قد قرأتُ القرآن كله فما أُسْقِط منه حرفاً واحداً ، وقد والله أسقطه كله ، ما يرى له القرآن في خلُق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : والله إني لأقرأ السورة في نَفَس ، لا والله ما هؤلاء بالقُرَّاءِ ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورعة ، ومتى كانت القراءة هكذا؟! لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء " .
ثانيا: لكأن القرآن يتنزل عليك الآن:أنت المخاطب والمعاتب:
يقول الشهيد سيد قطب:
الحياة في ظلال القرآن نعمة . نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها . نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه. والحمد لله . . لقد منَّ علي بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان ، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي . ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه . لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن . . أنا العبد القليل الصغير . . أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل ؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل ؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم !
قال ابن أبي ذئب :
" حدَّثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وقرأ عنده رجل : ﴿ إِذا أُلْقُوْا مِنْهَا مَكَانَاً ضَيِّقَاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبوْرِاً ﴾ ] الفرقان : 31 ، فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلاه نشيجه .واسأل نفسك ثانية : لماذا بكى عمر حتى علا نشيجه؟! والجواب : لأنه استشعر أن المخاطب هو عمر ، والمُلقى في النار عمر ، والداعي في ثبور عمر ، والباكي في جهنم عمر ، وهذا المكان الضيِّق المذكور في الآية محجوزٌ باسم عمر ، بكيتَ يا خامس الخلفاء ودرة الأتقياء من آية ما أبكت أكثرنا ، ولو تدبرها المرء منا لتحول الضحك فيه إلى بكاء ، وامتلأت عينه دمعا من دماء ، ألا ما أعظم العقوبة التي ضُرِب بها القلب القاسي ، ألا ما أشد مصيبة غير المتدبِّرين ، يحسبون الله يخاطب غيرهم ولعل الله لا يعني بهذه الآية غيرهم... ولكن الناس بعدوا عن القرآن، وعن أسلوبه الخاص، وعن الحياة في ظلاله، عن ملابسة الأحداث والمقوّمات التي يشابه جوُّها الجوُّ الذي تنزّل فيه القرآن .. وملابسةُ هذه الأحداث والمقوّمات، وتَنسُّمُ جوها الواقعي، هو وحده الذي يجعل هذا القرآن مُدرَكاً وموحياً كذلك.
فالقرآن لا يدركه حق إدراكه من يعيش خالي البال من الجهد والجهاد لاستئناف حياة إسلامية حقيقة، ومن معاناة هذا الأمر العسير وجرائره وتضحياته وآلامه، ومعاناة المشاعر المختلفة التي تصاحب تلك المكابدة في عالم الواقع، في مواجهة الجاهلية في أي زمان!... والذين يعانون اليوم وغداً مثل هذه الملابسات، هم الذين يدركون معاني القرآن وإيحاءاته. وهم الذين يتذوقون حقائق التصور الإسلامي كما جاء بها القرآن. لأن لها رصيداً حاضراً في مشاعرهم وفي تجاربهم، يتلقونها به، ويدركونها على ضوئه.. وهم قليل..
...يتبع...
المراجع:
الظلال...و خصائص التصور الإسلامي ومقوماته :للشهيد سيد قطب.
ورد إلي روحي: د. خالد أبو شادي
(بدأت بهذه المقالة لقناعتى بأن القرآن هو منطلق الداعية الأول لإصلاح نفسه ودعوة غيره وهذا ما يؤكده عنوان هذه المقالة الرائعة )