دراسة رائعة للأستاذ ناصر جابي
العلاقات بين البرلمان والمجتمع المدني
في الجزائر : الواقع والآفاق عبد الناصر جابي نوفمبر 2006
توطئةسنحاول التطرق ضمن هذه الدراسة بالتحليل إلى تلك العلاقات الموجودة فعلا بين البرلمان التعددي الذي ظهر للوجود بعد انتخابات 1997 التشريعية والمجتمع المدني في الحالة الجزائرية .مما يفرض علينا في الأول تحديد مفهوم المجتمع المدني ليس كما ظهر نظريا وتم التعامل معه في المجتمعات الغربية التي عرفت ولادته الأولى فقط، بل محاولة تحديد المحتوى الذي أخذه المفهوم في الحالة الجزائرية ودوره في الحركية الاجتماعية منطلقين من خلفية الظرف التاريخي وخصائصه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي برز فيها وتطور فيها ،كتلك القوى الاجتماعية التي تبنته والأخرى التي تحفظت عليه عند ظهوره كمفهوم على الساحتين السياسية والإعلامية ، دون نسيان الأشكال التنظيمية التي تجسد فيها هذا المفهوم في الجزائر والإطار القانوني الذي أطره والاهتمامات التي كانت محل انشغال فيه وكيف تطورت هذه الأخيرة مع الوقت .
العلاقة بين البرلمان والمجتمع المدني، نوعيتها والأشكال التي أخذتها في التجربة الجزائرية بكل ما ميزها من نقاط قوة ونقاط ضعف ستكون إحدى محاور هذه الدراسة للتعرف عن قرب على واقعها وآفاقها والمحددات الهيكلية والفكرية التي تخضع لها. كما أننا سنحاول التعرف عن قرب على تأثير هذه العلاقة على العمل التشريعي المنجز من قبل البرلمان الجزائري بالتركيز على عمل اللجان البرلمانية، للوصول أخيرا إلى اقتراح بعض التوصيات حول هذه العلاقة بين البرلمان والمجتمع المدني كخاتمة لهذه الدراسة.
مقدمـة
يخبرنا التتبع التاريخي لنشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره ،أننا أمام مفهوم ذي عمق تاريخي أكيد حتى وإن ظل يلاقي صعوبات جمة في الوصول إلى دقة أكبر. فالدراسات الكثيرة والمتنوعة التي اهتمت بالمفهوم دوليا في السنوات الأخيرة من مقاربات علمية مختلفة تعود بنا إلى الفلسفة اليونانية وإلى أرسطو، بالتحديد، الذي ربط من خلاله بين المواطنة والمدينة السياسية. محطة ثانية هامة تعود إليها هذه الدراسات التي ازدهت بقوة في السنوات الأخيرة ويتعلق الأمر بأوروبا الثورة البرجوازية والتصنيع من خلال مفكريها المؤسسين، ومن كل أنواع الطيف الفكري الذي عرفته القارة. في تحديدهم لمفهوم المجتمع المدني، اعتمد هؤلاء على ثلاث دلالات ترجع إلى اعتبارات ثلاثة:... باعتباره البديل لسلطة الكنيسة على المجتمع ؛ باعتباره البديل لسلطة الدولة الإمبراطورية القائمة على الثنائية الراعي والرعية ؛ و باعتباره البديل لهيمنة الأسرة المتمثلة في الأب الذي يتحول في النظام الأبوي البطريركي إلى شيخ القبيلة.
رغم هذا العمق التاريخي، فإن مفهوم المجتمع المدني لم يحظ بالاهتمام المستحق طيلة حقبة طويلة من تاريخ الفكر السياسي الغربي وإلى غاية الثمانينيات من القرن الماضي حيث بدأ استحضاره من جديد وبقوة ملفتة للنظر، موازاة مع التحولات التي بدأت تعيشها مجتمعات ودول وسط وشرق أروربا الاشتراكية سابقا، بدءا بما عرفته التجربة البولونية التي تميزت بظهور نقابة التضامن كفاعل أساسي في عملية الانتقال السياسي .
ما ميز هذه العودة الأخيرة لمفهوم المجتمع المدني ، أنها تمت بدعم واضح من قبل المؤسسات السياسية والمالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي كانت وراء تسويق المفهوم دوليا هذه المرة وبالإشكال التنظيمية التي عرفها ،بعد أن منحته العولمة الطاغية أبعادا كونية، ليقرن المفهوم بعمليات التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق والتعددية السياسية التي عاشتها بلدان شرق أوروبا والكثير من بلدان العالم الثالث، بدءا من ثمانينيات القرن الماضي. ومع ذلك، بقي المفهوم غامضا وظل يستعمل في حالات شتى كربطه في بعض الأحيان بالحركات الاجتماعية ؛ مما زاد في طابعه الوصفي والمعياري على حساب دقته المفاهيمية المطروحة كقضية معرفية منذ ظهوره.
المجتمع المدني في الجزائر ...بداية الظهور عرفت الساحتان الإعلامية والسياسية في الجزائر مفهوم المجتمع المدني في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي لتأخذ تطبيقاته منحنيات وخصائص اللحظة التاريخية التي ظهر فيها بكل تشعباتها السوسيولوجية والسياسية والفكرية. لقد بدأ الحديث عن المفهوم الجديد في الوقت الذي كان فيه النظام السياسي الجزائري يعيش أزمة حادة في قاعدته الاقتصادية ، وشرعية مؤسساته السياسية ونمط تسييرها المعتمد على الدولة كفاعل وحيد ،ليس في المجال السياسي فقط ،بل حتى في المجال الاقتصادي والاجتماعي .
لم يكن من الغريب في هذه الحالة، أن يرتبط مفهوم المجتمع المدني بالحديث عن عمليات الانتقال التي حاول النظام السياسي الجزائري القيام بها ابتدءا من النصف الثاني من الثمانينيات ؛ وهو ما جعل مفهوم المجتمع المدني يبدو في الحالة الجزائرية ،كمفهوم رسمي أكثر منه مفهوما شعبيا أو معارضا. لقد قامت السلطة السياسية من خلال وسائل الإعلام الرسمي بالحديث عن المجتمع المدني والترويج له اجتماعيا ، أكثر من أي قوة اجتماعية او سياسية اخرى، بنية جعله وسيلة جديدة، تنظيمية وسياسية، لتوسيع قاعدة السلطة ومساعدتها على إنجاز عملية الانتقال والخروج من الأزمة الاقتصادية والسياسية للنظام الأحادي القائم.تم ذلك من خلال فرض خطاب سياسي جديد وإشراك فاعلين اجتماعيين جدد كقاعدة اجتماعية جديدة. وهو ما تبين لاحقا من خلال العلاقات الوطيدة التي تملكها عديد الجمعيات مع الجهاز الإداري والتنفيذي والتي تبرز أكثر بمناسبة محطات سياسية معينة كالانتخابات السياسية.
لم يكن غريبا في الجزائر ، أن تتلقف بعض القوى الاجتماعية والسياسية أكثر من غيرها هذا المفهوم وتتبنى أطره التنظيمية الجديدة وخطابه الفكري، بعد أن أضافت إلى غموضه الأصلي ما ترتب عن خصوصيات الحالة الجزائرية في الميادين الاجتماعية والثقافية –اللغوية على وجه التحديد. فقد تبنت المفهوم أكثر عند ظهوره وبداية التعامل معه بعض القوى الاجتماعية التي غلب عليها الطابع الحضري من أبناء الفئات الوسطى الأقرب للفضاء الثقافي المفرنس ، في حين تحفظت على المفهوم وتأخرت في تجسيده التنظيمي الكثير من القوى الاجتماعية والفكرية القريبة من النظام الرسمي التي رأت فيه وسيلة لكسر موازين القوى السياسية القائمة وإشراك لقوى اجتماعية وسياسية جديدة في المنافسة السياسية .
إن الموقف المتحفظ وحتى الرافض الذي ووجه به مفهوم المجتمع المدني من قبل بعض القوى السياسية والاجتماعية القريبة من النظام الرسمي الجزائري ، والذي كان هو نفس موقف بعض القوى المحسوبة على التيار السياسي -الديني تقريبا والذي لم يمنعها من الاستفادة اللاحقة من هذا الوضع التعددي الجديد وتكوينها العديد من الجمعيات ، النقابات والأحزاب على غرار القوى السياسية الأخرى، التي ساعدها على البروز أكثر وجود تجربة الإعلام المستقل المكتوب والانفتاح الجزئي للإعلام الرسمي المرئي والمسموع لبعض الوقت، في فترة تميزت بصعود بارز للحركات الاجتماعية الاحتجاجية .
المجتمع المدني وإطاره القانوني الجديد
كان من تداعيات أحداث اكتوبر1988 التي عاشتها الجزائر ،ظهور إطار دستوري وقانوني جديد تم بموجبه الاعتراف بحق المواطنين في التنظيم المستقل للتعبير عن أرائهم السياسية والدفاع عن مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية ، بعد المصادقة على الدستور الجديد 1989 وضمن الجو السياسي والنفسي المتولد عن أحداث اكتوبر والذي كان من نتائجه، تفريخ عدد كبير من الجمعيات والأحزاب والنقابات في وقت قياسي قصير لم يعرفه الجزائريون من قبل. علما أن الجزائر قد عرفت محاولة محتشمة لتغيير الإطار القانوني المسير للعمل الجمعوي في بداية النصف الثاني من الثمانينيات 1987 لتسهيل عملية تكوين جمعيات لكنها بقيت من دون نتائج كبيرة على الساحة التنظيمية نظرا للمقاومة التي وجدتها من داخل النظام السياسي نفسه والملابسات السياسية التي تمت فيها عملية الانفتاح هذه، التي لم تتمكن من تجنيد قوى اجتماعية واسعة . لقد أفرغت الأحادية السياسية التي ميزت النظام السياسي الجزائري بعد الاستقلال ،قانون 1901 الموروث عن الحقبة الاستعمارية والمتعلق بالجمعيات من طابعه الليبرالي في الممارسة العملية، خاصة بعد سلسلة النصوص القانونية التي تم إصدارها بدءا من الستينيات ولغاية السبعينيات كمنشور سنة 1964 وأمريه 3ديسمبر 1971 المعدلة في 7 جوان 1972 التي تشترط مادتها الثانية على سبيل المثال ، موافقة ثلاث مؤسسات رسمية هي وزير الداخلية والوزير المكلف بالقطاع والسلطة المحلية (أي الوالي) عند طلب تأسيس جمعية في الميادين الثقافية، الدينية والرياضية.
المجتمع المدني في الدستور الجزائري
قبل التطرق إلى علاقة المجتمع المدني بالبرلمان، لابد أن نعرج بعجالة لمعرفة ما تضمنه الدستور الجزائري حول المجتمع المدني كإطار قانوني يضبط العلاقة بينه وبين البرلمان، ويحدد ممارسة هذه الحقوق الممنوحة للمواطن في مجال التنظيم للدفاع عن مصالحه. فالدستور الجزائري واضح في وضع الفروق بين الحرب والجمعية والنقابة ويعترف بها كلها كأشكال تنظيمية مختلفة.
ففي فصله الرابع المتعلق بالحقوق والحريات، ينص الدستور في مادته 33 على الحق في الدفاع الفردي أو عن طريق الجمعية عن الحقوق الأساسية للإنسان وعلى أن الحريات الفردية والجماعية مضمونة. وتتضح هذه الحقوق أكثر في نص المادة 41 التي تنص على أن حريات التعبير، وإنشاء الجمعيات، والاجتماع، مضمونة للمواطن. كما يدرج الدستور مادة خاصة للتمييز بين الجمعية والحرب، ألا وهي المادة 42 المتصلة بالحق في إنشاء أحزاب حيث تنص على أن ،حق إنشاء الأحزاب السياسية معترف به ومضمون. غير أنها تضيف أنه لا يمكن التذرع بهذا الحق لضرب الحريات الأساسية، والقيم والمكونات الأساسية للهوية الوطنية، والوحدة الوطنية، وأمن التراب الوطني وسلامته، واستقلال البلاد، وسيادة الشعب، وكذا الطابع الديمقراطي والجمهوري للدولة. وفي ظل احترام أحكام هذا الدستور، لا يجوز تأسيس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي. وعليه، لا يجوز للأحزاب السياسية اللجوء إلى الدعاية الحربية التي تقوم على العناصر المذكورة.
كما يحظر على الأحزاب السياسية كل شكل من أشكال التبعية لمصالح أو جهات أجنبية.
كما لا يجوز أن يلجأ أي حرب سياسي إلى استعمال العنف أو الإكراه مهما كانت طبيعتهما أو شكلهما.
تحدد التزامات وواجبات أخرى بموجب قانون.
بعد ذلك، يعود الدستور الجزائري، في مادة أخرى، إلى الحديث عن حق إنشاء الجمعيات تحديدا وتشجيع الدولة لها. المادة 43 تنص على أن حق إنشاء الجمعيات مضمون. تشجع الدولة ازدهار الحركة الجمعوية. يحدد القانون شروط وكيفيات إنشاء الجمعيات. واضعا الفروق بين الجمعية والنقابة من خلال هذه المادة، المادة 56 التي تنص على أن : الحق النقابي معترف به لجميع المواطنين. وفي الأخير، يكرس الدستور حق الإضراب كوسيلة للدفاع عن الحقوق، كما جاء في المادة 57 التي تنص على أن: الحق في الإضراب معترف به، ويمارس في إطار القانون.يمكن أن يمنع القانون ممارسة هذا الحق، أو يجعل حدودا لممارسته في ميادين الدفاع الوطني والأمن، أو في جميع الخدمات أو الأعمال العمومية ذات المنفعة الحيوية للمجتمع.
الدستور يترك للقانون، في أكثر من حالة، أمر تحديد شروط ممارسة هذه الحقوق، لتبرز الفوارق النوعية بين ما يمنحه الدستور وبين ما تحدده القوانين في هذه الحالة وغيرها من الحالات الأخرى.هذا الواقع الملحوظ في أكثر من دراسة عربية والتي لخصها تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2004، وهو يتكلم عن الكثير من الحريات التي تمنحها الدساتير العربية نظريا والتي كثيرا ما تكبلها التشريعات التنظيمية المتشددة. هكذا، يضيف محررو التقرير في خلاصتهم،..أن الدساتير العربية تحيل إلى التشريع العادي لتنظيم الحقوق والحريات، غير أن التشريع العادي غالبا ما يجنح إلى تقييد الحق، بل مصادرته أحيانا تحت ستار تنظيمه وبهذا يفقد النص الدستوري، رغم قصوره أحيانا، كثيرا من جدواه ليتحول إلى مجرد واجهة دستورية تفاخر بها الدولة أمام المجتمع الدولي .على الرغم من كونها لافتة فارغة من أي مضمون حقيقي .
المجتمع المدني بين النص القانوني والممارسة الفعلية
لقد أبدت بعض الدراسات العربية المقارنة التي أجريت في بداية التسعينيات على الجمعيات والمجتمعات المدنية إعجابا واضحا بالحالة الجزائرية وهي تتحدث عن التشريعات المنظمة للعمل الجمعوي في عملية تكوين الجمعيات خاصة ، واصفة هذه القوانين بالمتسامحة اعتمادا على المادة السابعة من قانون الجمعيات التي تتحدث عن شروط التأسيس والتي لا تتطلب نظريا إلا التصريح لدى السلطات المختصة. ومع ذلك، القراءة الجيدة للقانون والممارسات الفعلية المرتبطة به، قد تجعل الملاحظ يعيد النظر في هذا الحكم المتفائل الذي ارتبط بمرحلة بداية التسعينيات، قبل أن تسوء الأوضاع في الجزائر بسرعة فائقة بعد ذلك جراء تدهور الوضع الأمني والسياسي. ولتوضيح ذلك، نذكر ما يلي :
- المادة 7 : تؤسس الجمعية قانونا بعد الإجراءات التالية :
1. إيداع تصريح التأسيس لدى السلطات العمومية المختصة المذكورة في المادة 10من هذا القانون.
2. تسلم وصل تسجيل تصريح التأسيس من خلال السلطة العمومية المختصة خلال 60 يوما على الأكثر من يوم إيداع الملف وبعد دراسة مطابقة لأحكام القانون.
3. القيام بشكليات الإشهار على نفقة الجمعية في جريدة يومية إعلامية واحدة على الأقل ذات توزيع وطني.
- المادة 8 : تخطر السلطة المختصة الغرفة الإدارية في المجلس القضائي المختص إقليميا خلال ثمانية أيام على الأكثر قبل انقضاء الأجل المنصوص عليه في المادة 7 أعلاه. إذا رأت أن تكوين الجمعية يخالف أحكام هذا القانون يعود إلى الغرفة الإدارية أمر الفصل في ذلك خلال 30 يوما الموالية للإخطار. وإذا لم تخطر الجهة القضائية المذكورة، عُدّت الجمعية المعنية مكونة قانونا بعد انقضاء الأجل المقرر لتسليم وصل التسجيل.
الأهم من ذلك أن المادة الثامنة من نفس القانون تمنح السلطة القضائية وحدها الحق في رفض الاعتراف بتأسيس الجمعية وتمنح آجالا للنطق بالحكم وإلا اعتبرت الجمعية مكونة قانونا. بالطبع فإن تطبيق قوانين مثل هذه تحيل مباشرة إلى مسألة استقلالية القضاء الذي منح دورا مهما في مرحلة التأسيس الأولى للجمعيات. القضاء الجزائري، المعروف عنه قلة استقلاليته في علاقاته بالسلطة التنفيذية وتسويفه في البت في القضايا، استفادت منه الجهات الرسمية على حساب المواطن بمحدودية إمكانياته.أن التسامح النسبي، الملحوظ نظريا على القانون الجزائري المنظم لتكوين الجمعيات، سيفقد الكثير من مصداقيته لو قمنا بتصفح المواد الأخرى من نفس القانون المنظمة لدور السلطة العمومية، ليس في مرحلة التأسيس فقط، بل أثناء عملية التسيير اليومي لعمل الجمعية، علاقاتها بالمحيط الوطني والدولي تمويلها..الخ. من ذلك مثلا ما جاء في المادتين 17 و18 أدناه.
- المادة 17 : يجب على الجمعيات أن تعلم السلطات العمومية المختصة المنصوص عليها في المادة 10 من هذا القانون بكل التعديلات التي تدخل على قانونها الأساسي وجميع التغييرات التي تطرأ على هيئاتها القيادية خلال 30 يوما الموالية للقرارات التي تتخذ في هذا الشأن.
- المادة 18 : يجب على الجمعيات تقديم كل المعلومات المتعلقة بعدد المنخرطين فيها وكذا مصادر أموالها ووضعها المالي بصفة منتظمة إلى السلطة العمومية المختصة، وفقا للكيفيات التي يحددها التنظيم.
هاتان المادتان، تجعل الجمعية تحت رقابة وزارة الداخلية مباشرة. لقد بينت تجربة الكثير من الجمعيات الوطنية، وحتى المحلية، أنها، عمليا، أمام إعادة اعتراف بها كل مرة تقوم فيها بإجراء انتخابات قيادة جديدة خاصة فيما يتعلق بأعضاء المكتب الوطني للجمعية، رئيسها وأمينها العام والمكلف بالمالية على وجه التحديد. وباعتبار الرئيس هو الممثل القانوني للجمعية ويملك مع أمين المالية حق تسيير مالية الجمعية، فإن أي تغيير لهما يعني عمليا إعادة تسجيل جديد للجمعية أمام مصالح وزارة الداخلية التي قد تستغل هذه الفرصة للضغط على الجمعية وعدم منحها تأشيرة المطابقة. فإمضاء الرئيس وأمين المالية مطلوبان من قبل كل البنوك ومراكز البريد عند أي معاملة مالية مهما كان حجمها؛ مما يعني أن كل تغيير في الحصول على تأشيرة المطابقة معناه تعطيل فعلي لعمل الجمعية قد يدوم عدة شهور.
الجمعيات الجزائرية التي عادة ما تعرف الكثير من المشاكل بين قياداتها. تظهر هذه المشاكل بمناسبة تغيير القيادات وتنظيم الجمعيات العامة الانتخابية ؛ مما يمنح فرصة لتدخل الإدارة بعد طلب التحكيم الذي تلجأ إليه بعض القيادات الجمعوية ، لرفضها لنتائج التغيير. لعل هذا الوضع راجع، من دون شك، ليس فقط إلى غياب الثقافة الديمقراطية داخل الفضاء الجمعوي، بل أيضا إلى غياب الآليات الديمقراطية في التسيير اليومي للفضاء الجمعوي ؛ مما يؤدي إلى بروز واضح لظاهرة الانشقاق وشلل الكثير من الجمعيات بل واختفائها الذي لاحظته أكثر من دراسة . العلاقات الدولية للجمعيات هي الأخرى خاضعة لوصاية السلطة العمومية إذ يفرض القانون من خلال مادته 21 موافقة وزارة الداخلية ويمنع الجمعيات المحلية (الولائية أو البلدية) – وهي الأكثر عددا بين الجمعيات - من أي انضمام لأي تجمعات أو تنسيقيات دولية مهما كانت.
نفس الشيء بالنسبة للهبات التي يمكن أن تحصل عليها الجمعيات الوطنية من الخارج، فشرط الحصول على موافقة وزارة الداخلية القبلي مطلوب هنا كذلك، علما بأن الجمعيات الجزائرية، وخلافا لما هو شائع في تجارب عربية أخرى على سبيل المثال، لازالت عاجزة ،كلما تعلق الأمر بتجنيد الأموال والهبات من الخارج لصالحها.كما أن حصولها على مساعدات من قبل السلطات العمومية الجزائرية (وزارات، ولايات، بلديات) يبقى محدودا وغير منتظم، حسب شهادة الكثير من رؤساء الجمعيات. فالتمويل والوضع المادي المرتبط بالتسيير اليومي بصفة عامة يبقيان على رأس اهتمامات الجمعية الجزائرية إلى حد الساعة.
رغم إمكانية الاعتراف القانوني للجمعيات بالاستفادة من وضعية جمعية ذات نفع عام التي تسمح لها بالحصول على هبات ومساعدات خاصة، إلا أن هذه المكانة لم تستفد منها إلا جمعيتان وطنيتان كبيرتان هي الهلال الأحمر الجزائري والكشافة الإسلامية الجزائرية؛ وهما جمعيتان يعود تاريخ تأسيسهما إلى مرحلة ما قبل الاستقلال وظهور الدولة الوطنية نفسها.
الجمعيات والإدارة : وجها لوجه
إضافة إلى صعوبات التأسيس والتسيير - التي تبقى إلى حد كبير تحت سيطرة السلطات العمومية ممثلة في وزارة الداخلية بالنسبة للجمعيات الوطنية بفعل القانون والممارسات البيروقراطية المختلفة - فإن الأهم من ذلك أن الوزارة تحتفظ بحقها في طلب حل الجمعيات، بواسطة قرار قضائي، حسب الشروط المحددة في المادين 32 و35 كما هو مبين أدناه. لا داعي إلى التذكير هنا كذلك أن منح هذا الحق للقضاء، بعد شكوى السلطات العمومية أو غيرها، يطرح بحدة مسألة استقلالية القضاء ومدى حياديته عندما يتعلق الأمر بشكوى مقدمة من قبل السلطات العمومية داخل نظام سياسي تميز دائما بسيطرة واضحة للسلطة التنفيذية على باقي السلطات – بما فيها القضائية - وعدم الفصل بينها .
- المادة 32 : يمكن للجهات القضائية المختصة أن تعلن تعليق نشاط الجمعية وجميع التدابير التحفظية الخاصة بتسيير الأملاك، دون المساس بالقوانين والتنظيمات الجاري بها العمل، بناء على عريضة تقدمها السلطة العمومية المختصة حسب الشروط المنصوص عليها في المادة 33 من هذا القانون. تنتهي هذه التدابير بقوة القانون إذا رفضت الجهة القضائية المعنية تلك العريضة، بصرف النظر عن رأي طريق طعن آخر .
- المادة 35 : يمكن أن يطرأ حل للجمعية بالطرق القضائية بناء على طلب السلطة العمومية أو شكوى الغير إذا مارست الجمعية أنشطة تخالف القوانين المعمول بها أو تكون غير واردة في قانونها الأساسي .بالطبع، زادت عيوب هذا الإطار القانوني بالنقائص التي ميزته عند الممارسة الميدانية له بعد إعلان حالة الطوارئ في سنة 1992 وما نتج عنها من تقييد عملي للحركة الجمعوية التي تأثرت نشاطاتها سلبا بأجواء هذه الفترة الصعبة من تاريخ البلاد .
مجتمع مدني مختماوال
رغم أن الإطار القانوني الجديد الذي نتج عن أحداث اكتوبر 1988 قد فتح المجال واسعا للجزائريين في تكوين الأحزاب ،النقابات والجمعيات إلا أن مفهوم المجتمع المدني على الساحة الجزائرية قد ارتبط أكثر بالجمعيات والنخب التي أطرت هذا الفضاء الجديد بكل التنوع الذي عرفته اهتماماتها والتي يمكن أن نأخذ صورة عنها من خلال هذا الجدول في آخر ملحق الدراسة .
تؤكد المعطيات الرسمية أننا أمام عدد كبير جدا من الجمعيات خاصة عندما يتعلق الأمر بالجمعيات المحلية التي تجاوز عددها السبعين ألف جمعية حسب معلومات حديثة ، منتشرة جغرافيا في كامل التراب الوطني حتى ولو كان ذلك بدرجات متفاوتة لصالح المدن الكبرى وبعض جهات الوطن ،كمنطقة القبائل . لقد تطورت هذه الجمعيات عدديا بسرعة مباشرة بعد المصادقة على قانون الجمعيات رغم ما عرفه تطورها من خمول خلال النصف الثاني من التسعينيات نتيجة الأوضاع الصعبة التي عرفتها الجزائر. تهتم هذه الجمعيات الناشئة بمواضيع مختلفة يأتي على رأسها ما تسميه مصالح وزارة الداخلية بالقضايا المهنية، جمعيات الأحياء و الاهتمامات الدينية والرياضة والمسائل الثقافية دون إهمال القضايا الاجتماعية – الصحة، المعاقون، الشغل...الخ - التي تفاقمت في السنوات الأخيرة ؛ مما جعل الجمعيات تأخذ منحى مطلبيا واضحا في وضع تميز بغياب جزئي للدولة جراء الخيارات الجديدة المتبناة في الميادين الاقتصادية وأزمة مالية عانت منها لسنوات عدة.
نفس الملاحظات يمكن القيام بها حول العدد الكبير للجمعيات ذات الطابع الوطني التي اقتربت من الألف جمعية والتي تنشط في ميادين شتى يأتي على رأسها الجمعيات المهنية والرياضية والثقافية والصحية...الخ كما هو موضح في الجدول المذكور. علما بأن الجمعيات الجزائرية، لاسيما المحلية منها وحتى بعض الجمعيات الوطنية، عادة ما تتميز بتعددية نشاطها ،مما يفقد هذا التصنيف المعتمد من طرف المؤسسات الرسمية الكثير من الدقة، فالتجربة الميدانية تبين أن الجمعية التي تنشط في ميدان الصحة يمكن أن تقوم بعدة نشاطات في ميدان الطفولة والمرأة. نفس الشيء بالنسبة إلى الجمعية الثقافية التي يمكن أن تقوم، بمناسبات وطنية ودينية، بنشاطات ذات طابع اجتماعي وحتى خيري تحت ضغط الظرف الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي وحتى الطبيعي الذي كان كثير التقلبات خلال العمر القصير لظهور المجتمع المدني في الجزائر( حركة ماوالزالية نشطة مست أكثر من جهة وفيضانات) .
بالطبع، لا يمكن إغفال تداعيات الأزمة الأمنية والسياسية التي عاشتها الجزائر بدءا من السنوات الأولى للتسعينيات على مؤسسات المجتمع المدني التي عانتها وهي في بداية انطلاقها كمؤسسات وبرامج ؛ مما فرض عليها أعباء وشروط عمل لم تكن مؤهلة لها. وهو نفس المحيط الذي اشتغلت ضمنه النقابات المهنية المستقلة والأحزاب السياسية التي ظهرت بعد الاعتراف بالتعددية، رغم أن المتعارف عليه جزائريا أن المجتمع المدني قد اختماوال في الجمعية وجزئيا النقابات المهنية ورابطات حقوق الإنسان، دون الحرب السياسي ؛ مما يفرض علينا التطرق إلى ظاهرة النقابات المهنية التي كانت التعبير الرئيسي الذي عبر من خلاله عالم الشغل عن نفسه بفاعليه الرئيسيين : العمال الأجراء وأرباب العمل، زيادة، بالطبع، على الجمعيات بشكليها الوطني والمحلي. علما بأننا لم نلاحظ بروز قوي للأشكال الأخرى الممكنة من التنظيمات المهنية والفئوية كالتعاضديات على سبيل المثال في عالم الشغل الذي عرف تحولات جذرية خلال هذه الفترة جراء الأزمة الاقتصادية وتداعيات الوضع السياسي والأمني، مع ما أفرزته الخيارات السياسية الاقتصادية الجديدة التي بدأت في التجسيد مع بداية التسعينيات.
المجتمع المدني وعالم الشغل بين نقابات الفئات الوسطى ... ؟
نفس الإطار الأحادي الذي تكلمنا عنه ونحن بصدد الحديث عن الجمعية يمكن أن نكرره فيما يخص العمل النقابي الذي كان محتكرا من قبل النقابة التاريخية، الاتحاد العام للعمال الجزائريين، ليتغير المشهد بسرعة بعد المصادقة على دستور 1989 وصدور القوانين المنظمة لممارسة الحق النقابي . الإطار القانوني الجديد أنتج خارطة نقابية تعددية تضم عشرات النقابات لمختلف الفئات الأجيرة التي بادرت بمغادرة صفوف الاتحاد العام للعمال الجزائريين وتكوين نقابات مهنية مستقلة.
ما يلفت الانتباه في هذه النقابات العمالية المستقلة التي برزت بعد الإعلان عن التعددية ،أنها في أغلبيتها نقابات موظفين، اقتصرت على قطاع الخدمات ( الصحة، التعليم، الإدارة.....الخ ) بعيدة عن العمل الصناعي الذي لم يلجأ عماله إلى تكوين نقابات إلا في حالات قليلة لم تتمكن من الصمود مع الوقت كما هو الحال بالنسبة للكنفدراية النقابية للقوى المنتجة COSYFOP على سبيل المثال أو النقابات المحلية والقطاعية كالاتحاد الديمقراطي للعمال UDT التي بدأت تجربتها في القطاع الصناعي العمومي بولاية تيزي وزو قبل اختفائها ؛ مما يعني أن جزءا كبيرا من مصاعب هذه النقابات كان مرتبطا، من دون شك، بالوضعية التي آل إليها القطاع العمومي الصناعي بوجه عام. نفس الشيء بالنسبة إلى عمال وعاملات القطاع الخاص الذين بقوا من دون تأطير نقابي يذكر ،رغم أهميتهم على مستوى التشغيل ؛ أهمية مرشحة للزيادة مع الوقت في ظل الخيارات الاقتصادية والسياسية السائدة الداعمة لاقتصاد السوق ولدور أكبر للفاعل الاقتصادي الخاص، الوطني منه والأجنبي. بالطبع، التطور الذي يعرفه عالم الشغل غير الرسمي حاليا في الجزائر وما يميزه من بطالة وتهميش مسا قطاعات واسعة من الشباب ، يجعل هذه التجربة النقابية الجديدة، رغم أهميتها، ذات عمل إدماجي محدود، لتظل فئات واسعة من المواطنين دون إطار تمثيلي يتم التعبير من خلاله في علاقاتها بالمؤسسات الرسمية كالبرلمان ومن دون إمكانية للمشاركة المنظمة ، الدائمة والسلمية في الشأن العام.علما بأن العمل غير الرسمي قد مس المرأة ،زيادة على الشباب بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة مما يعمق هنا كذلك من تهميش المرأة اقتصاديا وفي تمثيلها النقابي ومساهمتها في الشأن العام .
سيطرة موظف القطاع العمومي والفئات الوسطى القريبة منه على الظاهرة النقابية المستقلة، يمكن تفسيرها بعدة عوامل من بينها ما هو متعلق بالتجربة التاريخية للحركة النقابية ووعائها العقائدي الذي سيطرت عليه نزعة يمكن وصفها بـ "العمالجية" ouvriériste (أي الطابع العمالي المفرط) نفرت كل الفئات الوسطى والمؤهلة من العمل النقابي داخل هياكل الاتحاد الذي سيطرت عليه، في المقابل، الفئات الأقل تأهيلا على مستوى الانخراط والمستويات التنظيمية القاعدية ،لتحتكر بعض الفئات المهنية، المتوسطة التأهيل، قيادة الاتحاد محليا ووطنيا ،بعد أن قبلت بالأدوار الممنوحة للعمل النقابي الرسمي في ظل الأحادية.العمل النقابي بخصائصه هذه الذي تحول إلى وسيلة ترقية ، اجتماعية وسياسية لهذه الفئات المهنية –الاجتماعية .
اعتقاد هذه الفئات المهنية الوسطى الأجيرة في قدرتها على التفاوض والضغط لتحقيق مطالبها منفردة، قد يكون أحد الأسباب التي جعلتها تختار إستراتيجية تكوين نقابات فئوية مستقلة متعددة ،ناهيك عن رفض السلطات الرسمية حتى الآن لإمكانية أي تحالف بينها لتكوين كنفدرالية قد يكون هو الآخر عاملا مساعدا على عدم الخروج من حالة التشرذم الذي لازالت تعيشه هذه النقابات المستقلة كثيرة العدد وضعيفة الإمكانيات حتى الآن.
لقد لجأت النقابات المستقلة إلى العديد من الحركات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة ، دفاعا أساسا عن مكانة الفئات الوسطى المؤهلة الأجيرة (أساتذة الجامعة، معلمون، أطباء، موظفون ...الخ) التي عرفت وضعيتها تدهورا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي وحتى الرمزي، جراء التحولات التي عاشها المجتمع الجزائري في العقدين الأخيرين. هذه الحركية الاجتماعية المطلبية التي قد تفسر ذلك الخلط الموجود في بعض الأحيان بين مفهوم المجتمع المدني والحركات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن الملاحظة الميدانية للواقع الجزائري - الذي عرف بروزا قويا للحركات الاجتماعية من كل نوع في السنوات الأخيرة - تؤكد ،أن منظمات المجتمع المدني، بما فيها الجمعيات والأحزاب وحتى النقابات المهنية خارج ميدان عالم الشغل جزئيا، لازالت بعيدة عن تأطير هذه الحركات الاحتجاجية التي ميزت الساحة الاجتماعية الوطنية في السنوات الأخيرة وجندت فئات اجتماعية واسعة ،حول العديد من القضايا التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي والاقتصادي.
لقد بينت هذه المعطيات ، إن المواطن الفرد، أو الجماعة على مستوى الحي بالمدينة أو القرية، هو الذي يطالب ويحدد أشكال المطالبة ومحتواها وهو الذي يفاوض السلطات الرسمية في غياب ملحوظ لمؤسسات المجتمع المدني المختلفة ؛ مما يكون قد ساعد على ظهور أشكال مختلفة من العنف مست نصف الحركات الاحتجاجية التي عرفتها هذه السنة، والسقوط في نوع من الابتذال بعد المأزق الذي وصلته هذه الحركات الاحتجاجية التي اتسمت بتكرارية كبيرة وتشابه كبير في المطالب والأشكال المطلبية.
على مستوى عالم الشغل ورغم هذه الأدوار التي غلب عليها الطابع المهني والفئوي corporatisme، فإن هذه النقابات القطاعية والمهنية لازالت بعيدة عن الاعتراف الفعلي بها من قبل السلطات العمومية التي ترفض القبول بها كطرف رسمي في المفاوضات المركزية، مثل "الثلاثية"، رغم تمثيليتها القطاعية والفئوية الأكيدة، أو الحضور ضمن مؤسسات الحوار كالمجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي.كما أنها لا تستفيد من التسهيلات والمساعدات الرسمية التي يمكن أن تساعدها على تجاوز مرحلة إثبات الذات التي لازالت تعيشها لتتحول إلى شريك فعلي صاحب اقتراحات وطرف اجتماعي فعال وممثل.رغم التعددية القانونية،إذن، فإن المؤسسات السياسية الرسمية، بما فيها البرلمان ولجانه المتخصصة، لازالت تفضل التعامل مع شريك واحد ممثلا في النقابة التاريخية من خلال قيادتها المركزية التي لازالت تحتكر في الواقع الاستشارات والتمثيل العمالي والاستماع داخل لجان البرلمان بمناسبة مناقشة نصوص قانونية ذات طابع اقتصادي او اجتماعي ، الذي لا يُعترف به إلا لها، كما بينته أخيرا تجربة إمضاء العقد الاقتصادي والاجتماعي مع الهيئة التنفيذية ونقابات أرباب العمل.
إن هذه السيطرة التي تفرضها بعض الفئات الوسطى الأجيرة على الظاهرة النقابية المستقلة بالإضافة إلى ممثلي أرباب العمل والإبعاد الذي يعيشه عمال القطاع الصناعي وعمال القطاع الخاص ومختلف الفئات الاجتماعية الشعبية التي فرضت عليها التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تمت في العشرية الماضية أشكال تهميش متعددة لم تساعدها على تنظيم نفسها، هي التي تسمح لنا بطرح هذا التساؤل المرتبط بإشكالية العلاقة بين المجتمع المدني والنقابة في التجربة الجزائرية والذي أجابت عنه بعض الدراسات المغاربية بتأكيد أطروحة سيطرة الفئات الوسطى على مفهوم المجتمع المدني خارج و حتى داخل عالم الشغل .
...ونقابات "القطاع الخاص "
أرباب العمل كجزء من هذا المجتمع المدني الحديث النشأة ليسوا أحسن حالا ،رغم الإمكانيات التي يفترض أن تتوفر لديهم. فقد عرفت نقابات أرباب العمل ظاهرة الانشقاقات وضعف الإطار التنظيمي، مثلها مثل نقابات الأجراء، بعد الاعتراف بالطابع التنظيمي المتعدد بعد 1990 والمصادقة على القوانين الاجتماعية الجديدة التي تسمح بالتعددية النقابية لرب العمل الجزائري. علما بأن الأحادية التي كانت سائدة قبل هذا التاريخ ، لم تسمح لرب العمل على غرار باقي المواطنين بالتعبير عن نفسه والدفاع عن مصالحه خارج الدور الاقتصادي المطلوب منه أدائه . نقابات أرباب العمل، ورغم القبول بها كطرف اجتماعي وشريك ضمن المفاوضات الرسمية المركزية (الثلاثية والثنائية) وحضورها في مؤسسات الحوار الاجتماعي ،كالمجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي وحتى لجان المجلس الوطني الشعبي عند ما تكون بصدد دراسة ملفات ذات علاقة بعالم الشغل ، لازالت ضعيفة الحضور اجتماعيا كفاعل يعول عليه في احتلال مواقع هامة ، تمنحه إياها خيارات اقتصاد السوق المعلنة رسميا كخيار استراتيجي.
أرباب العمل الذين عبروا عن نفسهم في ظل التعددية لأول مرة سنة 1990 من خلال الكونفدرالية العامة للمتعاملين الاقتصاديين الجزائريين CGOEA والتي صرحت في سنة 1997 عن تمثيلها لـ 2371 مؤسسة صناعية تظم اتحاد للنسيج (366 مؤسسة) وآخر للمواد الغذائية ( 210 مؤسسة ) والبناء ( 1795 مؤسسة ) ...الخ. لتظهر إلى الوجود نقابة ثانية في سنة 1992، وهي الكونفدرالية الوطنية لأرباب العمل الجزائريين CNPA التي صرحت بتمثيلها لـ 238 مؤسسة صناعية خاصة متواجدة أساسا في قطاع البلاستيك والمطاط وصناعة الورق والسياحة ...الخ . ثم ظهرت نقابة ثالثة –الكونفدرالية الجزائرية لأرباب العمل CAP - في سنة 1999 والمعتمدة على 13 فيدرالية من مختلف النشاطات الاقتصادية .
رغم هذا التنوع في الخارطة النقابية لأرباب العمل التي عرفت تطورات كبيرة مع الوقت وعدم استقرار مزمن لم يساعدها على تحسين تمثيليتها وتفعيل أدائها، فإن الكثير من المؤشرات تظل تؤكد أن رب العمل الجزائري لازال في الغالب رهين الرؤية الرسمية التقليدية له، وأنه لم يتمكن بعد من تجاوز محيط ورشته ومؤسسته الصناعية الصغيرة في الغالب ؛ مما جعل أدواره الاجتماعية كفاعل اجتماعي مركزي متأثرة بعدم الشرعية التي فرضتها عليه الممارسات والخطاب التقليدي أثناء المرحلة الأحادية الملتصق به كـ "قطاع خاص "
المجتمع المدني ومحيطه المؤسساتي
تبين إحدى الدراسات المغاربية المقارنة نوعية الصعوبات ونقاط الضعف التي تتعرض لها الجمعيات المغاربية، بما فيها الجزائرية بالطبع، التي تختصرها على الشكل التالي :
• العلاقات بين الجهات الرسمية والجمعيات ليست شفافة بالقدر الكافي .
• الجمعيات غير معترف بها فعليا كمحاور وشريك من قبل المؤسسات والجهات الرسمية.
• لا تتوفر، بما فيه الكفاية، الثقة المتبادلة المطلوبة بين الجمعيات وبين المؤسسات والجهات الرسمية.
• علاقات العمل والشراكة بين المؤسسات الرسمية والجمعيات ليست ممأسسة.
• استفادة الجمعيات من المساعدات المالية الرسمية ليست شفافة بالقدر الكافي.
• لا توجد قنوات وإجراءات معروفة بهدف الحصول على مقرات دائمة للجمعيات أو مقرات لاستقبال المشاريع .
• الجمعيات لا تملك الحرية في استقبال الهبات والمساعدات من الخارج.
• لازالت الجمعيات تخضع للكثير من إجراءات الجمركة والعديد من الضرائب، عند حصولها على مساعدات أو هبات من الخارج ؛ مما يؤثر سلبا على وضعها المادي وسير عملها.
حسب نفس الدراسة المذكورة، نقاط الضعف هذه لا تقابلها الكثير من نقاط القوة. وقد اكتفت الدراسة بالتذكير أن من بين نقاط قوة المجتمع المدني في الجزائر وجمعياته، يمكن أن نعد ما يلي :
• الدور البارز الذي يحتله الشباب والمرأة داخل الجمعيات وعلى رأس قياداتها.
• الدور الخاص الذي تحتله الفئات المؤهلة والنخب العلمية في قيادات جمعيات المجتمع المدني خاصة تلك المهتمة منها بميدان البيئة والتنمية .
• وأخيرا استمرارية قيم العمل التطوعي بين أعضاء الجمعيات والمنتسبين إليها.
لا تشير الدراسة إلى أن نقاط القوة هذه يمكن وبسهولة أن تتحول إلى نقاط ضعف كذلك. فالعمل التطوعي وحده و رغم أهميته لا يمكن التعويل عليه دائما، خاصة وأن الحركة الجمعوية وبعد تجربة أكثر من عقد ونصف،لابد لها أن تتوجه نحو نوع من النضج والمأسسة لتخطي مرحلة الطفولة التي عاشتها حتى الآن والتي تتأكد إذا عرفنا أن نسبة المشاركة في الجمعيات الجزائرية لا تتجاوز 5% ، مقابل 10% في المغرب حسب تقديرات حديثة .
نفس الشيء يلاحظ بالنسبة إلى سيطرة النخب العلمية على قيادات الجمعية. فرغم أهمية هذا التأطير إلا أنه يبقى غير كاف وقد يتحول إلى عائق بتحويل الجمعيات إلى نواد مغلقة للنخبة التي يمثلها جيل الرواد والمؤسسين ،ما دامت قواعد هذه الجمعيات لم تتوسع اجتماعيا مع الوقت للتحول إلى وسيلة تجنيد للمواطنين حول القضايا التي تهمهم. ضعف التجنيد الذي لاحظته عدة دراسات عربية ومغاربية مقارنة اعتمدت على تسع حالات عربية ممثلة . ...مع استثناءات قليلة، لا يعرف القطاع الجمعوي في البلدان العربية ازدهارا ونموا في مستوى التحديات والطلب الاجتماعي ولا حتى بالمقارنة بالخطاب الرسمي حوله. فعلى الرغم مما قد يميز بعض الوضعيات من اختلاف وبعض المفارقات والاستثناءات، فإن المنظمات غير الحكومية في العالم العربي لا يمكن اعتبارها قوى اجتماعية حقيقية يمكن أن يكون لها تأثير على تطور ومستقبل المجتمعات العربية... ؛ وهو ما تؤكده بعض المعطيات الإحصائية والملاحظات الميدانية المتعلقة بالحالة الجزائرية وهي تتحدث عن نسبة انخراط لا تتجاوز 2% بالنسبة للجمعيات المهتمة بعالم الريف في سنة 2002 على سبيل المثال. كما تؤكده الدراسات العلمية القليلة التي أنجزت حول الحالة الجزائرية على المستويين الوطني والمحلي حين خلصت إلى أنه،... وبغض النظر عن الأهمية الكمية للظاهرة الجمعوية وتنوع اهتماماتها في الجزائر، فإنها تعرف مستوى هيكلة غير ناضجة وغير مكتملة. في المقابل، فإن خصائص الجمعيات ونوعية تأطيرها وكذا التصورات السائدة لدى قياداتها وأحكامهم تسمح لنا بالقول إننا أمام وضعية جمعوية في حالة سبات وخمول لدرجة أن موت الجمعيات المبكر وفقدانها لمنخرطيها قد يتحول إلى قاعدة عامة وحالة معدية.... كما تضيف الدراسة - التي أجريت حول جمعيات ولاية وهران - ...أن التبعية المادية والمالية لأغلبية الجمعيات إزاء الدولة تسمح لهذه الأخيرة بفرض إستراتيجيتها الإدماجية على عدد كبير من الجمعيات وتحويل العلاقات بها إلى علاقة شراكة سلبية، بدل العلاقة الايجابية، في التكفل بالقضايا المطروحة وتلبية حاجيات المنخرطين. كل الدلائل تشير إلى أن القطيعة مع الممارسات والتصورات التوجيهية والمشككة للدولة إزاء الحركة الجمعوية ليست مطروحة على جدول الأعمال.... وعليه، تختم هذه الدراسة بالقول ...إن هذا المخاض للفعل الجمعوي في الجزائر لن تترتب عليه ولادة دون تحولات جذرية في نسق القيم الذي يجب عصرنته وبروز إرادة سياسية فعلية على مستوى الدولة للاعتراف بوجود سلطة مقابلة تعمل على توازن أكثر لمختلف القوى داخل المجتمع ....
هذا الواقع فرض على العديد من الجمعيات، محاولة التكتل على شكل شبكات وفيدراليات حسب نوعية اهتماماتها طمعا في الزيادة في فعاليتها وقوة ضغطها كما هو حال الجمعيات المهتمة ببعض الفئات ذات الحاجات الخاصة كالمعاقين وأصحاب الأمراض المزمنة والمرأة والبيئة...الخ، لكن دون أن يعني ذلك أننا أمام قوة تشبيك فعلي للحركة الجمعوية الجزائرية التي لازالت تعاني من نقائص حالة العمل المنفرد .
الجمعية والبرلمان
من دون أدنى شك، فإن مؤسسات المجتمع المدني الجزائرية، ذات التجربة المحدودة وحديثة النشأة، ستتأثر في علاقاتها بالبرلمان الجزائري كمؤسسة تشريعية حديثة العهد هي الأخرى. متأثرة بأجواء اللحظة السياسية التي ظهرت فيها والمهام المصرح بها أو المسكوت عنها الموكولة لها في حينها والمرتبطة بعملية الانتقال السياسي وتوسيع قاعدة النظام السياسي ،من خلال مشاركة أكبر، لبعض الفئات الوسطى الحضرية. لذلك، منح مثل هذا الطابع النخبوي لمفهوم المجتمع المدني في الجزائر والممارسات المرتبطة به على الأقل في بداياته وعلى مستوى التأطير الذي ميزه. قيادات ونخب لم تتمكن حتى الآن من توسيع قاعدة هذه التجربة شعبيا وكسب قواعد اجتماعية أوسع لها ، تكون سندا لهها وهو تحاول الدخول في علاقات مع المؤسسة التشريعية التعددية ، المتميزة هي الأخرى بالعمر القصير والصلاحيات المحدودة في علاقاتها بالسلطة التنفيذية، رغم ما عرفته هذه التجربة القصيرة من مد وجزر حسب الظرف السياسي المتقلب والمضطرب هو الآخر .
الظرف السياسي الذي جعل بعض الفروق تبرز بين التجربتين الأولى1997/2002 والثانية للمجلس 2002/2006 ،كان على العموم لصالح التجربة الأولى التي يبدو أنها كانت أكثر حيوية ،نظرا ربما إلى التنوع السياسي والحربي الأكبر الذي ميزها كتجربة عكس العهدة الثانية التي زادت فيها نسبة التشريع بأوامر حتى عندما تعلق الأمر بنصوص قانونية أساسية لم تسمح للبرلمان من استعمال كل صلاحياته المنصوص عليها قانونا ،ومن باب أولى الانفتاح على المجتمع المدني وتطوير آليات عمله .
علما بأن البرلمان بغرفتيه لا يتضمن لا قانونه الداخلي ولا القانون العضوي المنظم لأعماله إمكانية قانونية لإشراك المجتمع المدني بأي شكل كان في أعماله إذا استثنينا المادة 43 من القانون الداخلي للمجلس الوطني الشعبي التي تنص على أنه يمكن للّجان الدّائمة، في إطار ممارسة أشغالها، أن تدعو أشخاصا مختصّين وذوي خبرة للاستعانة بهم في أداء مهامّها .
المادّة 47 تنص من جهتها على ما يلي وهي تحدد طرق عمل اللجان .
- أن يحرّر ملخّص قرارات اجتماعات اللّجان الدّائمة.
- تحفظ الأشرطة المسموعة في أرشيف اللجنة الدائمة.
- لا يمكن الاطلاع عليها إلا بموافقة رئيس اللجنة.
- تودع هذه الأشرطة لدى أرشيف المجلس في نهاية الفترة التشريعية.
كما تنص المادة 38 من القانون الداخلي لمجلس الأمة بدورها على أنه :
- يمكن للجان الدائمة، في إطار ممارسة أعمالها، أن تدعو أشخاصا مختصين وذوي خبرة للاستعانة بهم في أداء مهامها.
- لا يمكن للجان مجلس الأمة نشر أو إعلان محاضرها، ويتحمل مسؤولية ذلك مكتب اللجنة.
- تتحمل المصالح الإدارية المختصة مسؤولية المحافظة على سرية تسجيلات أشغال اللجان، ولا يسمح الاستماع لها إلا بإذن من مكتب اللجنة المختصة.
مما يعني أن المقصود بهذه المادة هو الخبير كشخص لا كمنظمات المجتمع المدني بمختلف أشكالها التنظيمية ؛ وهو ما تترجمه اللجان المتخصصة بدعوتها لخبراء من مختلف التخصصات للاستماع لآرائهم ، فلا يبقى، إذاً، من إمكانيات التدخل أمام جمعيات المجتمع المدني إلا العمل من خارج الهيئة التشريعية ، كقوة ضغط في غياب نص قانوني يقنن مساهمة هذه القوى المنظمة من الداخل على صعيد كل مؤسسات البرلمان بغرفتيه، يساعدها في ذلك وجود صحافة مكتوبة مستقلة جزئيا ومستوى تجنيد متفاوت القوة حسب متغيرات الظرف السياسي والأمني المتقلب خلال هذه الفترة.
هذا النوع من العمل من الخارج لجأت إليه في المدة الأخيرة وبمناسبة اقتراب الانتخابات التشريعية (ربيع 2007) المنظمات النسوية للمطالبة بحصول المرأة على نسبة تواجد لا تقل عن 30 % في قوائم الترشيحات للانتخابات. لقد تطلب الأمر من هذه المنظمات النسوية القيام بدراسة مغاربية مقارنة حول مشاركة المرأة في العمل السياسي العمومي والهيئات السياسية الرسمية كالبرلمان والحكومة ؛ مما سمح لها بوضع مذكرة تتضمن عدة اقتراحات للوصول إلى تمثيل عادل للمرأة على مستوى المؤسسات السياسية. وقد تم إرسال نسخ من هذه المذكرة إلى المسئولين السياسيين وعلى رأسهم السيد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الخارجية وبالطبع رئيسي المجلس الوطني الشعبي ومجلس الأمة .
الاقتراحات المعروضة تضمنت تعديل المادة 51 من الدستور التي جاء فيها : يتساوى جميع المواطنين في تقلد المهام والوظائف في الدولة دون أية شروط أخرى غير الشروط التي يحددها القانون والقانون الانتخابي وقانون الأحزاب. كما تضمنت اقتراحا بمنح تشجيعا ماليا للأحزاب السياسية التي تتبنى النساء في قوائمها بنسبة لا تقل عن 30%، وغير ذلك من الاقتراحات التي تصب في خانة "التمثيل العادل للمرأة داخل المؤسسات السياسية والعمومية" .
مع العلم أخيرا ، أن المجلس الوطني الشعبي لا يضم ضمن لجانه الدائمة الاثنتي عشرة إلا لجنة واحدة تهتم بالعمل الجمعوي ألا وهي لجنة الشباب والرياضة والنشاط الجمعوي
العلاقات بين البرلمان والمجتمع المدني
في الجزائر : الواقع والآفاق عبد الناصر جابي نوفمبر 2006
توطئةسنحاول التطرق ضمن هذه الدراسة بالتحليل إلى تلك العلاقات الموجودة فعلا بين البرلمان التعددي الذي ظهر للوجود بعد انتخابات 1997 التشريعية والمجتمع المدني في الحالة الجزائرية .مما يفرض علينا في الأول تحديد مفهوم المجتمع المدني ليس كما ظهر نظريا وتم التعامل معه في المجتمعات الغربية التي عرفت ولادته الأولى فقط، بل محاولة تحديد المحتوى الذي أخذه المفهوم في الحالة الجزائرية ودوره في الحركية الاجتماعية منطلقين من خلفية الظرف التاريخي وخصائصه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي برز فيها وتطور فيها ،كتلك القوى الاجتماعية التي تبنته والأخرى التي تحفظت عليه عند ظهوره كمفهوم على الساحتين السياسية والإعلامية ، دون نسيان الأشكال التنظيمية التي تجسد فيها هذا المفهوم في الجزائر والإطار القانوني الذي أطره والاهتمامات التي كانت محل انشغال فيه وكيف تطورت هذه الأخيرة مع الوقت .
العلاقة بين البرلمان والمجتمع المدني، نوعيتها والأشكال التي أخذتها في التجربة الجزائرية بكل ما ميزها من نقاط قوة ونقاط ضعف ستكون إحدى محاور هذه الدراسة للتعرف عن قرب على واقعها وآفاقها والمحددات الهيكلية والفكرية التي تخضع لها. كما أننا سنحاول التعرف عن قرب على تأثير هذه العلاقة على العمل التشريعي المنجز من قبل البرلمان الجزائري بالتركيز على عمل اللجان البرلمانية، للوصول أخيرا إلى اقتراح بعض التوصيات حول هذه العلاقة بين البرلمان والمجتمع المدني كخاتمة لهذه الدراسة.
مقدمـة
يخبرنا التتبع التاريخي لنشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره ،أننا أمام مفهوم ذي عمق تاريخي أكيد حتى وإن ظل يلاقي صعوبات جمة في الوصول إلى دقة أكبر. فالدراسات الكثيرة والمتنوعة التي اهتمت بالمفهوم دوليا في السنوات الأخيرة من مقاربات علمية مختلفة تعود بنا إلى الفلسفة اليونانية وإلى أرسطو، بالتحديد، الذي ربط من خلاله بين المواطنة والمدينة السياسية. محطة ثانية هامة تعود إليها هذه الدراسات التي ازدهت بقوة في السنوات الأخيرة ويتعلق الأمر بأوروبا الثورة البرجوازية والتصنيع من خلال مفكريها المؤسسين، ومن كل أنواع الطيف الفكري الذي عرفته القارة. في تحديدهم لمفهوم المجتمع المدني، اعتمد هؤلاء على ثلاث دلالات ترجع إلى اعتبارات ثلاثة:... باعتباره البديل لسلطة الكنيسة على المجتمع ؛ باعتباره البديل لسلطة الدولة الإمبراطورية القائمة على الثنائية الراعي والرعية ؛ و باعتباره البديل لهيمنة الأسرة المتمثلة في الأب الذي يتحول في النظام الأبوي البطريركي إلى شيخ القبيلة.
رغم هذا العمق التاريخي، فإن مفهوم المجتمع المدني لم يحظ بالاهتمام المستحق طيلة حقبة طويلة من تاريخ الفكر السياسي الغربي وإلى غاية الثمانينيات من القرن الماضي حيث بدأ استحضاره من جديد وبقوة ملفتة للنظر، موازاة مع التحولات التي بدأت تعيشها مجتمعات ودول وسط وشرق أروربا الاشتراكية سابقا، بدءا بما عرفته التجربة البولونية التي تميزت بظهور نقابة التضامن كفاعل أساسي في عملية الانتقال السياسي .
ما ميز هذه العودة الأخيرة لمفهوم المجتمع المدني ، أنها تمت بدعم واضح من قبل المؤسسات السياسية والمالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي كانت وراء تسويق المفهوم دوليا هذه المرة وبالإشكال التنظيمية التي عرفها ،بعد أن منحته العولمة الطاغية أبعادا كونية، ليقرن المفهوم بعمليات التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق والتعددية السياسية التي عاشتها بلدان شرق أوروبا والكثير من بلدان العالم الثالث، بدءا من ثمانينيات القرن الماضي. ومع ذلك، بقي المفهوم غامضا وظل يستعمل في حالات شتى كربطه في بعض الأحيان بالحركات الاجتماعية ؛ مما زاد في طابعه الوصفي والمعياري على حساب دقته المفاهيمية المطروحة كقضية معرفية منذ ظهوره.
المجتمع المدني في الجزائر ...بداية الظهور عرفت الساحتان الإعلامية والسياسية في الجزائر مفهوم المجتمع المدني في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي لتأخذ تطبيقاته منحنيات وخصائص اللحظة التاريخية التي ظهر فيها بكل تشعباتها السوسيولوجية والسياسية والفكرية. لقد بدأ الحديث عن المفهوم الجديد في الوقت الذي كان فيه النظام السياسي الجزائري يعيش أزمة حادة في قاعدته الاقتصادية ، وشرعية مؤسساته السياسية ونمط تسييرها المعتمد على الدولة كفاعل وحيد ،ليس في المجال السياسي فقط ،بل حتى في المجال الاقتصادي والاجتماعي .
لم يكن من الغريب في هذه الحالة، أن يرتبط مفهوم المجتمع المدني بالحديث عن عمليات الانتقال التي حاول النظام السياسي الجزائري القيام بها ابتدءا من النصف الثاني من الثمانينيات ؛ وهو ما جعل مفهوم المجتمع المدني يبدو في الحالة الجزائرية ،كمفهوم رسمي أكثر منه مفهوما شعبيا أو معارضا. لقد قامت السلطة السياسية من خلال وسائل الإعلام الرسمي بالحديث عن المجتمع المدني والترويج له اجتماعيا ، أكثر من أي قوة اجتماعية او سياسية اخرى، بنية جعله وسيلة جديدة، تنظيمية وسياسية، لتوسيع قاعدة السلطة ومساعدتها على إنجاز عملية الانتقال والخروج من الأزمة الاقتصادية والسياسية للنظام الأحادي القائم.تم ذلك من خلال فرض خطاب سياسي جديد وإشراك فاعلين اجتماعيين جدد كقاعدة اجتماعية جديدة. وهو ما تبين لاحقا من خلال العلاقات الوطيدة التي تملكها عديد الجمعيات مع الجهاز الإداري والتنفيذي والتي تبرز أكثر بمناسبة محطات سياسية معينة كالانتخابات السياسية.
لم يكن غريبا في الجزائر ، أن تتلقف بعض القوى الاجتماعية والسياسية أكثر من غيرها هذا المفهوم وتتبنى أطره التنظيمية الجديدة وخطابه الفكري، بعد أن أضافت إلى غموضه الأصلي ما ترتب عن خصوصيات الحالة الجزائرية في الميادين الاجتماعية والثقافية –اللغوية على وجه التحديد. فقد تبنت المفهوم أكثر عند ظهوره وبداية التعامل معه بعض القوى الاجتماعية التي غلب عليها الطابع الحضري من أبناء الفئات الوسطى الأقرب للفضاء الثقافي المفرنس ، في حين تحفظت على المفهوم وتأخرت في تجسيده التنظيمي الكثير من القوى الاجتماعية والفكرية القريبة من النظام الرسمي التي رأت فيه وسيلة لكسر موازين القوى السياسية القائمة وإشراك لقوى اجتماعية وسياسية جديدة في المنافسة السياسية .
إن الموقف المتحفظ وحتى الرافض الذي ووجه به مفهوم المجتمع المدني من قبل بعض القوى السياسية والاجتماعية القريبة من النظام الرسمي الجزائري ، والذي كان هو نفس موقف بعض القوى المحسوبة على التيار السياسي -الديني تقريبا والذي لم يمنعها من الاستفادة اللاحقة من هذا الوضع التعددي الجديد وتكوينها العديد من الجمعيات ، النقابات والأحزاب على غرار القوى السياسية الأخرى، التي ساعدها على البروز أكثر وجود تجربة الإعلام المستقل المكتوب والانفتاح الجزئي للإعلام الرسمي المرئي والمسموع لبعض الوقت، في فترة تميزت بصعود بارز للحركات الاجتماعية الاحتجاجية .
المجتمع المدني وإطاره القانوني الجديد
كان من تداعيات أحداث اكتوبر1988 التي عاشتها الجزائر ،ظهور إطار دستوري وقانوني جديد تم بموجبه الاعتراف بحق المواطنين في التنظيم المستقل للتعبير عن أرائهم السياسية والدفاع عن مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية ، بعد المصادقة على الدستور الجديد 1989 وضمن الجو السياسي والنفسي المتولد عن أحداث اكتوبر والذي كان من نتائجه، تفريخ عدد كبير من الجمعيات والأحزاب والنقابات في وقت قياسي قصير لم يعرفه الجزائريون من قبل. علما أن الجزائر قد عرفت محاولة محتشمة لتغيير الإطار القانوني المسير للعمل الجمعوي في بداية النصف الثاني من الثمانينيات 1987 لتسهيل عملية تكوين جمعيات لكنها بقيت من دون نتائج كبيرة على الساحة التنظيمية نظرا للمقاومة التي وجدتها من داخل النظام السياسي نفسه والملابسات السياسية التي تمت فيها عملية الانفتاح هذه، التي لم تتمكن من تجنيد قوى اجتماعية واسعة . لقد أفرغت الأحادية السياسية التي ميزت النظام السياسي الجزائري بعد الاستقلال ،قانون 1901 الموروث عن الحقبة الاستعمارية والمتعلق بالجمعيات من طابعه الليبرالي في الممارسة العملية، خاصة بعد سلسلة النصوص القانونية التي تم إصدارها بدءا من الستينيات ولغاية السبعينيات كمنشور سنة 1964 وأمريه 3ديسمبر 1971 المعدلة في 7 جوان 1972 التي تشترط مادتها الثانية على سبيل المثال ، موافقة ثلاث مؤسسات رسمية هي وزير الداخلية والوزير المكلف بالقطاع والسلطة المحلية (أي الوالي) عند طلب تأسيس جمعية في الميادين الثقافية، الدينية والرياضية.
المجتمع المدني في الدستور الجزائري
قبل التطرق إلى علاقة المجتمع المدني بالبرلمان، لابد أن نعرج بعجالة لمعرفة ما تضمنه الدستور الجزائري حول المجتمع المدني كإطار قانوني يضبط العلاقة بينه وبين البرلمان، ويحدد ممارسة هذه الحقوق الممنوحة للمواطن في مجال التنظيم للدفاع عن مصالحه. فالدستور الجزائري واضح في وضع الفروق بين الحرب والجمعية والنقابة ويعترف بها كلها كأشكال تنظيمية مختلفة.
ففي فصله الرابع المتعلق بالحقوق والحريات، ينص الدستور في مادته 33 على الحق في الدفاع الفردي أو عن طريق الجمعية عن الحقوق الأساسية للإنسان وعلى أن الحريات الفردية والجماعية مضمونة. وتتضح هذه الحقوق أكثر في نص المادة 41 التي تنص على أن حريات التعبير، وإنشاء الجمعيات، والاجتماع، مضمونة للمواطن. كما يدرج الدستور مادة خاصة للتمييز بين الجمعية والحرب، ألا وهي المادة 42 المتصلة بالحق في إنشاء أحزاب حيث تنص على أن ،حق إنشاء الأحزاب السياسية معترف به ومضمون. غير أنها تضيف أنه لا يمكن التذرع بهذا الحق لضرب الحريات الأساسية، والقيم والمكونات الأساسية للهوية الوطنية، والوحدة الوطنية، وأمن التراب الوطني وسلامته، واستقلال البلاد، وسيادة الشعب، وكذا الطابع الديمقراطي والجمهوري للدولة. وفي ظل احترام أحكام هذا الدستور، لا يجوز تأسيس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي. وعليه، لا يجوز للأحزاب السياسية اللجوء إلى الدعاية الحربية التي تقوم على العناصر المذكورة.
كما يحظر على الأحزاب السياسية كل شكل من أشكال التبعية لمصالح أو جهات أجنبية.
كما لا يجوز أن يلجأ أي حرب سياسي إلى استعمال العنف أو الإكراه مهما كانت طبيعتهما أو شكلهما.
تحدد التزامات وواجبات أخرى بموجب قانون.
بعد ذلك، يعود الدستور الجزائري، في مادة أخرى، إلى الحديث عن حق إنشاء الجمعيات تحديدا وتشجيع الدولة لها. المادة 43 تنص على أن حق إنشاء الجمعيات مضمون. تشجع الدولة ازدهار الحركة الجمعوية. يحدد القانون شروط وكيفيات إنشاء الجمعيات. واضعا الفروق بين الجمعية والنقابة من خلال هذه المادة، المادة 56 التي تنص على أن : الحق النقابي معترف به لجميع المواطنين. وفي الأخير، يكرس الدستور حق الإضراب كوسيلة للدفاع عن الحقوق، كما جاء في المادة 57 التي تنص على أن: الحق في الإضراب معترف به، ويمارس في إطار القانون.يمكن أن يمنع القانون ممارسة هذا الحق، أو يجعل حدودا لممارسته في ميادين الدفاع الوطني والأمن، أو في جميع الخدمات أو الأعمال العمومية ذات المنفعة الحيوية للمجتمع.
الدستور يترك للقانون، في أكثر من حالة، أمر تحديد شروط ممارسة هذه الحقوق، لتبرز الفوارق النوعية بين ما يمنحه الدستور وبين ما تحدده القوانين في هذه الحالة وغيرها من الحالات الأخرى.هذا الواقع الملحوظ في أكثر من دراسة عربية والتي لخصها تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2004، وهو يتكلم عن الكثير من الحريات التي تمنحها الدساتير العربية نظريا والتي كثيرا ما تكبلها التشريعات التنظيمية المتشددة. هكذا، يضيف محررو التقرير في خلاصتهم،..أن الدساتير العربية تحيل إلى التشريع العادي لتنظيم الحقوق والحريات، غير أن التشريع العادي غالبا ما يجنح إلى تقييد الحق، بل مصادرته أحيانا تحت ستار تنظيمه وبهذا يفقد النص الدستوري، رغم قصوره أحيانا، كثيرا من جدواه ليتحول إلى مجرد واجهة دستورية تفاخر بها الدولة أمام المجتمع الدولي .على الرغم من كونها لافتة فارغة من أي مضمون حقيقي .
المجتمع المدني بين النص القانوني والممارسة الفعلية
لقد أبدت بعض الدراسات العربية المقارنة التي أجريت في بداية التسعينيات على الجمعيات والمجتمعات المدنية إعجابا واضحا بالحالة الجزائرية وهي تتحدث عن التشريعات المنظمة للعمل الجمعوي في عملية تكوين الجمعيات خاصة ، واصفة هذه القوانين بالمتسامحة اعتمادا على المادة السابعة من قانون الجمعيات التي تتحدث عن شروط التأسيس والتي لا تتطلب نظريا إلا التصريح لدى السلطات المختصة. ومع ذلك، القراءة الجيدة للقانون والممارسات الفعلية المرتبطة به، قد تجعل الملاحظ يعيد النظر في هذا الحكم المتفائل الذي ارتبط بمرحلة بداية التسعينيات، قبل أن تسوء الأوضاع في الجزائر بسرعة فائقة بعد ذلك جراء تدهور الوضع الأمني والسياسي. ولتوضيح ذلك، نذكر ما يلي :
- المادة 7 : تؤسس الجمعية قانونا بعد الإجراءات التالية :
1. إيداع تصريح التأسيس لدى السلطات العمومية المختصة المذكورة في المادة 10من هذا القانون.
2. تسلم وصل تسجيل تصريح التأسيس من خلال السلطة العمومية المختصة خلال 60 يوما على الأكثر من يوم إيداع الملف وبعد دراسة مطابقة لأحكام القانون.
3. القيام بشكليات الإشهار على نفقة الجمعية في جريدة يومية إعلامية واحدة على الأقل ذات توزيع وطني.
- المادة 8 : تخطر السلطة المختصة الغرفة الإدارية في المجلس القضائي المختص إقليميا خلال ثمانية أيام على الأكثر قبل انقضاء الأجل المنصوص عليه في المادة 7 أعلاه. إذا رأت أن تكوين الجمعية يخالف أحكام هذا القانون يعود إلى الغرفة الإدارية أمر الفصل في ذلك خلال 30 يوما الموالية للإخطار. وإذا لم تخطر الجهة القضائية المذكورة، عُدّت الجمعية المعنية مكونة قانونا بعد انقضاء الأجل المقرر لتسليم وصل التسجيل.
الأهم من ذلك أن المادة الثامنة من نفس القانون تمنح السلطة القضائية وحدها الحق في رفض الاعتراف بتأسيس الجمعية وتمنح آجالا للنطق بالحكم وإلا اعتبرت الجمعية مكونة قانونا. بالطبع فإن تطبيق قوانين مثل هذه تحيل مباشرة إلى مسألة استقلالية القضاء الذي منح دورا مهما في مرحلة التأسيس الأولى للجمعيات. القضاء الجزائري، المعروف عنه قلة استقلاليته في علاقاته بالسلطة التنفيذية وتسويفه في البت في القضايا، استفادت منه الجهات الرسمية على حساب المواطن بمحدودية إمكانياته.أن التسامح النسبي، الملحوظ نظريا على القانون الجزائري المنظم لتكوين الجمعيات، سيفقد الكثير من مصداقيته لو قمنا بتصفح المواد الأخرى من نفس القانون المنظمة لدور السلطة العمومية، ليس في مرحلة التأسيس فقط، بل أثناء عملية التسيير اليومي لعمل الجمعية، علاقاتها بالمحيط الوطني والدولي تمويلها..الخ. من ذلك مثلا ما جاء في المادتين 17 و18 أدناه.
- المادة 17 : يجب على الجمعيات أن تعلم السلطات العمومية المختصة المنصوص عليها في المادة 10 من هذا القانون بكل التعديلات التي تدخل على قانونها الأساسي وجميع التغييرات التي تطرأ على هيئاتها القيادية خلال 30 يوما الموالية للقرارات التي تتخذ في هذا الشأن.
- المادة 18 : يجب على الجمعيات تقديم كل المعلومات المتعلقة بعدد المنخرطين فيها وكذا مصادر أموالها ووضعها المالي بصفة منتظمة إلى السلطة العمومية المختصة، وفقا للكيفيات التي يحددها التنظيم.
هاتان المادتان، تجعل الجمعية تحت رقابة وزارة الداخلية مباشرة. لقد بينت تجربة الكثير من الجمعيات الوطنية، وحتى المحلية، أنها، عمليا، أمام إعادة اعتراف بها كل مرة تقوم فيها بإجراء انتخابات قيادة جديدة خاصة فيما يتعلق بأعضاء المكتب الوطني للجمعية، رئيسها وأمينها العام والمكلف بالمالية على وجه التحديد. وباعتبار الرئيس هو الممثل القانوني للجمعية ويملك مع أمين المالية حق تسيير مالية الجمعية، فإن أي تغيير لهما يعني عمليا إعادة تسجيل جديد للجمعية أمام مصالح وزارة الداخلية التي قد تستغل هذه الفرصة للضغط على الجمعية وعدم منحها تأشيرة المطابقة. فإمضاء الرئيس وأمين المالية مطلوبان من قبل كل البنوك ومراكز البريد عند أي معاملة مالية مهما كان حجمها؛ مما يعني أن كل تغيير في الحصول على تأشيرة المطابقة معناه تعطيل فعلي لعمل الجمعية قد يدوم عدة شهور.
الجمعيات الجزائرية التي عادة ما تعرف الكثير من المشاكل بين قياداتها. تظهر هذه المشاكل بمناسبة تغيير القيادات وتنظيم الجمعيات العامة الانتخابية ؛ مما يمنح فرصة لتدخل الإدارة بعد طلب التحكيم الذي تلجأ إليه بعض القيادات الجمعوية ، لرفضها لنتائج التغيير. لعل هذا الوضع راجع، من دون شك، ليس فقط إلى غياب الثقافة الديمقراطية داخل الفضاء الجمعوي، بل أيضا إلى غياب الآليات الديمقراطية في التسيير اليومي للفضاء الجمعوي ؛ مما يؤدي إلى بروز واضح لظاهرة الانشقاق وشلل الكثير من الجمعيات بل واختفائها الذي لاحظته أكثر من دراسة . العلاقات الدولية للجمعيات هي الأخرى خاضعة لوصاية السلطة العمومية إذ يفرض القانون من خلال مادته 21 موافقة وزارة الداخلية ويمنع الجمعيات المحلية (الولائية أو البلدية) – وهي الأكثر عددا بين الجمعيات - من أي انضمام لأي تجمعات أو تنسيقيات دولية مهما كانت.
نفس الشيء بالنسبة للهبات التي يمكن أن تحصل عليها الجمعيات الوطنية من الخارج، فشرط الحصول على موافقة وزارة الداخلية القبلي مطلوب هنا كذلك، علما بأن الجمعيات الجزائرية، وخلافا لما هو شائع في تجارب عربية أخرى على سبيل المثال، لازالت عاجزة ،كلما تعلق الأمر بتجنيد الأموال والهبات من الخارج لصالحها.كما أن حصولها على مساعدات من قبل السلطات العمومية الجزائرية (وزارات، ولايات، بلديات) يبقى محدودا وغير منتظم، حسب شهادة الكثير من رؤساء الجمعيات. فالتمويل والوضع المادي المرتبط بالتسيير اليومي بصفة عامة يبقيان على رأس اهتمامات الجمعية الجزائرية إلى حد الساعة.
رغم إمكانية الاعتراف القانوني للجمعيات بالاستفادة من وضعية جمعية ذات نفع عام التي تسمح لها بالحصول على هبات ومساعدات خاصة، إلا أن هذه المكانة لم تستفد منها إلا جمعيتان وطنيتان كبيرتان هي الهلال الأحمر الجزائري والكشافة الإسلامية الجزائرية؛ وهما جمعيتان يعود تاريخ تأسيسهما إلى مرحلة ما قبل الاستقلال وظهور الدولة الوطنية نفسها.
الجمعيات والإدارة : وجها لوجه
إضافة إلى صعوبات التأسيس والتسيير - التي تبقى إلى حد كبير تحت سيطرة السلطات العمومية ممثلة في وزارة الداخلية بالنسبة للجمعيات الوطنية بفعل القانون والممارسات البيروقراطية المختلفة - فإن الأهم من ذلك أن الوزارة تحتفظ بحقها في طلب حل الجمعيات، بواسطة قرار قضائي، حسب الشروط المحددة في المادين 32 و35 كما هو مبين أدناه. لا داعي إلى التذكير هنا كذلك أن منح هذا الحق للقضاء، بعد شكوى السلطات العمومية أو غيرها، يطرح بحدة مسألة استقلالية القضاء ومدى حياديته عندما يتعلق الأمر بشكوى مقدمة من قبل السلطات العمومية داخل نظام سياسي تميز دائما بسيطرة واضحة للسلطة التنفيذية على باقي السلطات – بما فيها القضائية - وعدم الفصل بينها .
- المادة 32 : يمكن للجهات القضائية المختصة أن تعلن تعليق نشاط الجمعية وجميع التدابير التحفظية الخاصة بتسيير الأملاك، دون المساس بالقوانين والتنظيمات الجاري بها العمل، بناء على عريضة تقدمها السلطة العمومية المختصة حسب الشروط المنصوص عليها في المادة 33 من هذا القانون. تنتهي هذه التدابير بقوة القانون إذا رفضت الجهة القضائية المعنية تلك العريضة، بصرف النظر عن رأي طريق طعن آخر .
- المادة 35 : يمكن أن يطرأ حل للجمعية بالطرق القضائية بناء على طلب السلطة العمومية أو شكوى الغير إذا مارست الجمعية أنشطة تخالف القوانين المعمول بها أو تكون غير واردة في قانونها الأساسي .بالطبع، زادت عيوب هذا الإطار القانوني بالنقائص التي ميزته عند الممارسة الميدانية له بعد إعلان حالة الطوارئ في سنة 1992 وما نتج عنها من تقييد عملي للحركة الجمعوية التي تأثرت نشاطاتها سلبا بأجواء هذه الفترة الصعبة من تاريخ البلاد .
مجتمع مدني مختماوال
رغم أن الإطار القانوني الجديد الذي نتج عن أحداث اكتوبر 1988 قد فتح المجال واسعا للجزائريين في تكوين الأحزاب ،النقابات والجمعيات إلا أن مفهوم المجتمع المدني على الساحة الجزائرية قد ارتبط أكثر بالجمعيات والنخب التي أطرت هذا الفضاء الجديد بكل التنوع الذي عرفته اهتماماتها والتي يمكن أن نأخذ صورة عنها من خلال هذا الجدول في آخر ملحق الدراسة .
تؤكد المعطيات الرسمية أننا أمام عدد كبير جدا من الجمعيات خاصة عندما يتعلق الأمر بالجمعيات المحلية التي تجاوز عددها السبعين ألف جمعية حسب معلومات حديثة ، منتشرة جغرافيا في كامل التراب الوطني حتى ولو كان ذلك بدرجات متفاوتة لصالح المدن الكبرى وبعض جهات الوطن ،كمنطقة القبائل . لقد تطورت هذه الجمعيات عدديا بسرعة مباشرة بعد المصادقة على قانون الجمعيات رغم ما عرفه تطورها من خمول خلال النصف الثاني من التسعينيات نتيجة الأوضاع الصعبة التي عرفتها الجزائر. تهتم هذه الجمعيات الناشئة بمواضيع مختلفة يأتي على رأسها ما تسميه مصالح وزارة الداخلية بالقضايا المهنية، جمعيات الأحياء و الاهتمامات الدينية والرياضة والمسائل الثقافية دون إهمال القضايا الاجتماعية – الصحة، المعاقون، الشغل...الخ - التي تفاقمت في السنوات الأخيرة ؛ مما جعل الجمعيات تأخذ منحى مطلبيا واضحا في وضع تميز بغياب جزئي للدولة جراء الخيارات الجديدة المتبناة في الميادين الاقتصادية وأزمة مالية عانت منها لسنوات عدة.
نفس الملاحظات يمكن القيام بها حول العدد الكبير للجمعيات ذات الطابع الوطني التي اقتربت من الألف جمعية والتي تنشط في ميادين شتى يأتي على رأسها الجمعيات المهنية والرياضية والثقافية والصحية...الخ كما هو موضح في الجدول المذكور. علما بأن الجمعيات الجزائرية، لاسيما المحلية منها وحتى بعض الجمعيات الوطنية، عادة ما تتميز بتعددية نشاطها ،مما يفقد هذا التصنيف المعتمد من طرف المؤسسات الرسمية الكثير من الدقة، فالتجربة الميدانية تبين أن الجمعية التي تنشط في ميدان الصحة يمكن أن تقوم بعدة نشاطات في ميدان الطفولة والمرأة. نفس الشيء بالنسبة إلى الجمعية الثقافية التي يمكن أن تقوم، بمناسبات وطنية ودينية، بنشاطات ذات طابع اجتماعي وحتى خيري تحت ضغط الظرف الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي وحتى الطبيعي الذي كان كثير التقلبات خلال العمر القصير لظهور المجتمع المدني في الجزائر( حركة ماوالزالية نشطة مست أكثر من جهة وفيضانات) .
بالطبع، لا يمكن إغفال تداعيات الأزمة الأمنية والسياسية التي عاشتها الجزائر بدءا من السنوات الأولى للتسعينيات على مؤسسات المجتمع المدني التي عانتها وهي في بداية انطلاقها كمؤسسات وبرامج ؛ مما فرض عليها أعباء وشروط عمل لم تكن مؤهلة لها. وهو نفس المحيط الذي اشتغلت ضمنه النقابات المهنية المستقلة والأحزاب السياسية التي ظهرت بعد الاعتراف بالتعددية، رغم أن المتعارف عليه جزائريا أن المجتمع المدني قد اختماوال في الجمعية وجزئيا النقابات المهنية ورابطات حقوق الإنسان، دون الحرب السياسي ؛ مما يفرض علينا التطرق إلى ظاهرة النقابات المهنية التي كانت التعبير الرئيسي الذي عبر من خلاله عالم الشغل عن نفسه بفاعليه الرئيسيين : العمال الأجراء وأرباب العمل، زيادة، بالطبع، على الجمعيات بشكليها الوطني والمحلي. علما بأننا لم نلاحظ بروز قوي للأشكال الأخرى الممكنة من التنظيمات المهنية والفئوية كالتعاضديات على سبيل المثال في عالم الشغل الذي عرف تحولات جذرية خلال هذه الفترة جراء الأزمة الاقتصادية وتداعيات الوضع السياسي والأمني، مع ما أفرزته الخيارات السياسية الاقتصادية الجديدة التي بدأت في التجسيد مع بداية التسعينيات.
المجتمع المدني وعالم الشغل بين نقابات الفئات الوسطى ... ؟
نفس الإطار الأحادي الذي تكلمنا عنه ونحن بصدد الحديث عن الجمعية يمكن أن نكرره فيما يخص العمل النقابي الذي كان محتكرا من قبل النقابة التاريخية، الاتحاد العام للعمال الجزائريين، ليتغير المشهد بسرعة بعد المصادقة على دستور 1989 وصدور القوانين المنظمة لممارسة الحق النقابي . الإطار القانوني الجديد أنتج خارطة نقابية تعددية تضم عشرات النقابات لمختلف الفئات الأجيرة التي بادرت بمغادرة صفوف الاتحاد العام للعمال الجزائريين وتكوين نقابات مهنية مستقلة.
ما يلفت الانتباه في هذه النقابات العمالية المستقلة التي برزت بعد الإعلان عن التعددية ،أنها في أغلبيتها نقابات موظفين، اقتصرت على قطاع الخدمات ( الصحة، التعليم، الإدارة.....الخ ) بعيدة عن العمل الصناعي الذي لم يلجأ عماله إلى تكوين نقابات إلا في حالات قليلة لم تتمكن من الصمود مع الوقت كما هو الحال بالنسبة للكنفدراية النقابية للقوى المنتجة COSYFOP على سبيل المثال أو النقابات المحلية والقطاعية كالاتحاد الديمقراطي للعمال UDT التي بدأت تجربتها في القطاع الصناعي العمومي بولاية تيزي وزو قبل اختفائها ؛ مما يعني أن جزءا كبيرا من مصاعب هذه النقابات كان مرتبطا، من دون شك، بالوضعية التي آل إليها القطاع العمومي الصناعي بوجه عام. نفس الشيء بالنسبة إلى عمال وعاملات القطاع الخاص الذين بقوا من دون تأطير نقابي يذكر ،رغم أهميتهم على مستوى التشغيل ؛ أهمية مرشحة للزيادة مع الوقت في ظل الخيارات الاقتصادية والسياسية السائدة الداعمة لاقتصاد السوق ولدور أكبر للفاعل الاقتصادي الخاص، الوطني منه والأجنبي. بالطبع، التطور الذي يعرفه عالم الشغل غير الرسمي حاليا في الجزائر وما يميزه من بطالة وتهميش مسا قطاعات واسعة من الشباب ، يجعل هذه التجربة النقابية الجديدة، رغم أهميتها، ذات عمل إدماجي محدود، لتظل فئات واسعة من المواطنين دون إطار تمثيلي يتم التعبير من خلاله في علاقاتها بالمؤسسات الرسمية كالبرلمان ومن دون إمكانية للمشاركة المنظمة ، الدائمة والسلمية في الشأن العام.علما بأن العمل غير الرسمي قد مس المرأة ،زيادة على الشباب بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة مما يعمق هنا كذلك من تهميش المرأة اقتصاديا وفي تمثيلها النقابي ومساهمتها في الشأن العام .
سيطرة موظف القطاع العمومي والفئات الوسطى القريبة منه على الظاهرة النقابية المستقلة، يمكن تفسيرها بعدة عوامل من بينها ما هو متعلق بالتجربة التاريخية للحركة النقابية ووعائها العقائدي الذي سيطرت عليه نزعة يمكن وصفها بـ "العمالجية" ouvriériste (أي الطابع العمالي المفرط) نفرت كل الفئات الوسطى والمؤهلة من العمل النقابي داخل هياكل الاتحاد الذي سيطرت عليه، في المقابل، الفئات الأقل تأهيلا على مستوى الانخراط والمستويات التنظيمية القاعدية ،لتحتكر بعض الفئات المهنية، المتوسطة التأهيل، قيادة الاتحاد محليا ووطنيا ،بعد أن قبلت بالأدوار الممنوحة للعمل النقابي الرسمي في ظل الأحادية.العمل النقابي بخصائصه هذه الذي تحول إلى وسيلة ترقية ، اجتماعية وسياسية لهذه الفئات المهنية –الاجتماعية .
اعتقاد هذه الفئات المهنية الوسطى الأجيرة في قدرتها على التفاوض والضغط لتحقيق مطالبها منفردة، قد يكون أحد الأسباب التي جعلتها تختار إستراتيجية تكوين نقابات فئوية مستقلة متعددة ،ناهيك عن رفض السلطات الرسمية حتى الآن لإمكانية أي تحالف بينها لتكوين كنفدرالية قد يكون هو الآخر عاملا مساعدا على عدم الخروج من حالة التشرذم الذي لازالت تعيشه هذه النقابات المستقلة كثيرة العدد وضعيفة الإمكانيات حتى الآن.
لقد لجأت النقابات المستقلة إلى العديد من الحركات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة ، دفاعا أساسا عن مكانة الفئات الوسطى المؤهلة الأجيرة (أساتذة الجامعة، معلمون، أطباء، موظفون ...الخ) التي عرفت وضعيتها تدهورا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي وحتى الرمزي، جراء التحولات التي عاشها المجتمع الجزائري في العقدين الأخيرين. هذه الحركية الاجتماعية المطلبية التي قد تفسر ذلك الخلط الموجود في بعض الأحيان بين مفهوم المجتمع المدني والحركات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن الملاحظة الميدانية للواقع الجزائري - الذي عرف بروزا قويا للحركات الاجتماعية من كل نوع في السنوات الأخيرة - تؤكد ،أن منظمات المجتمع المدني، بما فيها الجمعيات والأحزاب وحتى النقابات المهنية خارج ميدان عالم الشغل جزئيا، لازالت بعيدة عن تأطير هذه الحركات الاحتجاجية التي ميزت الساحة الاجتماعية الوطنية في السنوات الأخيرة وجندت فئات اجتماعية واسعة ،حول العديد من القضايا التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي والاقتصادي.
لقد بينت هذه المعطيات ، إن المواطن الفرد، أو الجماعة على مستوى الحي بالمدينة أو القرية، هو الذي يطالب ويحدد أشكال المطالبة ومحتواها وهو الذي يفاوض السلطات الرسمية في غياب ملحوظ لمؤسسات المجتمع المدني المختلفة ؛ مما يكون قد ساعد على ظهور أشكال مختلفة من العنف مست نصف الحركات الاحتجاجية التي عرفتها هذه السنة، والسقوط في نوع من الابتذال بعد المأزق الذي وصلته هذه الحركات الاحتجاجية التي اتسمت بتكرارية كبيرة وتشابه كبير في المطالب والأشكال المطلبية.
على مستوى عالم الشغل ورغم هذه الأدوار التي غلب عليها الطابع المهني والفئوي corporatisme، فإن هذه النقابات القطاعية والمهنية لازالت بعيدة عن الاعتراف الفعلي بها من قبل السلطات العمومية التي ترفض القبول بها كطرف رسمي في المفاوضات المركزية، مثل "الثلاثية"، رغم تمثيليتها القطاعية والفئوية الأكيدة، أو الحضور ضمن مؤسسات الحوار كالمجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي.كما أنها لا تستفيد من التسهيلات والمساعدات الرسمية التي يمكن أن تساعدها على تجاوز مرحلة إثبات الذات التي لازالت تعيشها لتتحول إلى شريك فعلي صاحب اقتراحات وطرف اجتماعي فعال وممثل.رغم التعددية القانونية،إذن، فإن المؤسسات السياسية الرسمية، بما فيها البرلمان ولجانه المتخصصة، لازالت تفضل التعامل مع شريك واحد ممثلا في النقابة التاريخية من خلال قيادتها المركزية التي لازالت تحتكر في الواقع الاستشارات والتمثيل العمالي والاستماع داخل لجان البرلمان بمناسبة مناقشة نصوص قانونية ذات طابع اقتصادي او اجتماعي ، الذي لا يُعترف به إلا لها، كما بينته أخيرا تجربة إمضاء العقد الاقتصادي والاجتماعي مع الهيئة التنفيذية ونقابات أرباب العمل.
إن هذه السيطرة التي تفرضها بعض الفئات الوسطى الأجيرة على الظاهرة النقابية المستقلة بالإضافة إلى ممثلي أرباب العمل والإبعاد الذي يعيشه عمال القطاع الصناعي وعمال القطاع الخاص ومختلف الفئات الاجتماعية الشعبية التي فرضت عليها التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تمت في العشرية الماضية أشكال تهميش متعددة لم تساعدها على تنظيم نفسها، هي التي تسمح لنا بطرح هذا التساؤل المرتبط بإشكالية العلاقة بين المجتمع المدني والنقابة في التجربة الجزائرية والذي أجابت عنه بعض الدراسات المغاربية بتأكيد أطروحة سيطرة الفئات الوسطى على مفهوم المجتمع المدني خارج و حتى داخل عالم الشغل .
...ونقابات "القطاع الخاص "
أرباب العمل كجزء من هذا المجتمع المدني الحديث النشأة ليسوا أحسن حالا ،رغم الإمكانيات التي يفترض أن تتوفر لديهم. فقد عرفت نقابات أرباب العمل ظاهرة الانشقاقات وضعف الإطار التنظيمي، مثلها مثل نقابات الأجراء، بعد الاعتراف بالطابع التنظيمي المتعدد بعد 1990 والمصادقة على القوانين الاجتماعية الجديدة التي تسمح بالتعددية النقابية لرب العمل الجزائري. علما بأن الأحادية التي كانت سائدة قبل هذا التاريخ ، لم تسمح لرب العمل على غرار باقي المواطنين بالتعبير عن نفسه والدفاع عن مصالحه خارج الدور الاقتصادي المطلوب منه أدائه . نقابات أرباب العمل، ورغم القبول بها كطرف اجتماعي وشريك ضمن المفاوضات الرسمية المركزية (الثلاثية والثنائية) وحضورها في مؤسسات الحوار الاجتماعي ،كالمجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي وحتى لجان المجلس الوطني الشعبي عند ما تكون بصدد دراسة ملفات ذات علاقة بعالم الشغل ، لازالت ضعيفة الحضور اجتماعيا كفاعل يعول عليه في احتلال مواقع هامة ، تمنحه إياها خيارات اقتصاد السوق المعلنة رسميا كخيار استراتيجي.
أرباب العمل الذين عبروا عن نفسهم في ظل التعددية لأول مرة سنة 1990 من خلال الكونفدرالية العامة للمتعاملين الاقتصاديين الجزائريين CGOEA والتي صرحت في سنة 1997 عن تمثيلها لـ 2371 مؤسسة صناعية تظم اتحاد للنسيج (366 مؤسسة) وآخر للمواد الغذائية ( 210 مؤسسة ) والبناء ( 1795 مؤسسة ) ...الخ. لتظهر إلى الوجود نقابة ثانية في سنة 1992، وهي الكونفدرالية الوطنية لأرباب العمل الجزائريين CNPA التي صرحت بتمثيلها لـ 238 مؤسسة صناعية خاصة متواجدة أساسا في قطاع البلاستيك والمطاط وصناعة الورق والسياحة ...الخ . ثم ظهرت نقابة ثالثة –الكونفدرالية الجزائرية لأرباب العمل CAP - في سنة 1999 والمعتمدة على 13 فيدرالية من مختلف النشاطات الاقتصادية .
رغم هذا التنوع في الخارطة النقابية لأرباب العمل التي عرفت تطورات كبيرة مع الوقت وعدم استقرار مزمن لم يساعدها على تحسين تمثيليتها وتفعيل أدائها، فإن الكثير من المؤشرات تظل تؤكد أن رب العمل الجزائري لازال في الغالب رهين الرؤية الرسمية التقليدية له، وأنه لم يتمكن بعد من تجاوز محيط ورشته ومؤسسته الصناعية الصغيرة في الغالب ؛ مما جعل أدواره الاجتماعية كفاعل اجتماعي مركزي متأثرة بعدم الشرعية التي فرضتها عليه الممارسات والخطاب التقليدي أثناء المرحلة الأحادية الملتصق به كـ "قطاع خاص "
المجتمع المدني ومحيطه المؤسساتي
تبين إحدى الدراسات المغاربية المقارنة نوعية الصعوبات ونقاط الضعف التي تتعرض لها الجمعيات المغاربية، بما فيها الجزائرية بالطبع، التي تختصرها على الشكل التالي :
• العلاقات بين الجهات الرسمية والجمعيات ليست شفافة بالقدر الكافي .
• الجمعيات غير معترف بها فعليا كمحاور وشريك من قبل المؤسسات والجهات الرسمية.
• لا تتوفر، بما فيه الكفاية، الثقة المتبادلة المطلوبة بين الجمعيات وبين المؤسسات والجهات الرسمية.
• علاقات العمل والشراكة بين المؤسسات الرسمية والجمعيات ليست ممأسسة.
• استفادة الجمعيات من المساعدات المالية الرسمية ليست شفافة بالقدر الكافي.
• لا توجد قنوات وإجراءات معروفة بهدف الحصول على مقرات دائمة للجمعيات أو مقرات لاستقبال المشاريع .
• الجمعيات لا تملك الحرية في استقبال الهبات والمساعدات من الخارج.
• لازالت الجمعيات تخضع للكثير من إجراءات الجمركة والعديد من الضرائب، عند حصولها على مساعدات أو هبات من الخارج ؛ مما يؤثر سلبا على وضعها المادي وسير عملها.
حسب نفس الدراسة المذكورة، نقاط الضعف هذه لا تقابلها الكثير من نقاط القوة. وقد اكتفت الدراسة بالتذكير أن من بين نقاط قوة المجتمع المدني في الجزائر وجمعياته، يمكن أن نعد ما يلي :
• الدور البارز الذي يحتله الشباب والمرأة داخل الجمعيات وعلى رأس قياداتها.
• الدور الخاص الذي تحتله الفئات المؤهلة والنخب العلمية في قيادات جمعيات المجتمع المدني خاصة تلك المهتمة منها بميدان البيئة والتنمية .
• وأخيرا استمرارية قيم العمل التطوعي بين أعضاء الجمعيات والمنتسبين إليها.
لا تشير الدراسة إلى أن نقاط القوة هذه يمكن وبسهولة أن تتحول إلى نقاط ضعف كذلك. فالعمل التطوعي وحده و رغم أهميته لا يمكن التعويل عليه دائما، خاصة وأن الحركة الجمعوية وبعد تجربة أكثر من عقد ونصف،لابد لها أن تتوجه نحو نوع من النضج والمأسسة لتخطي مرحلة الطفولة التي عاشتها حتى الآن والتي تتأكد إذا عرفنا أن نسبة المشاركة في الجمعيات الجزائرية لا تتجاوز 5% ، مقابل 10% في المغرب حسب تقديرات حديثة .
نفس الشيء يلاحظ بالنسبة إلى سيطرة النخب العلمية على قيادات الجمعية. فرغم أهمية هذا التأطير إلا أنه يبقى غير كاف وقد يتحول إلى عائق بتحويل الجمعيات إلى نواد مغلقة للنخبة التي يمثلها جيل الرواد والمؤسسين ،ما دامت قواعد هذه الجمعيات لم تتوسع اجتماعيا مع الوقت للتحول إلى وسيلة تجنيد للمواطنين حول القضايا التي تهمهم. ضعف التجنيد الذي لاحظته عدة دراسات عربية ومغاربية مقارنة اعتمدت على تسع حالات عربية ممثلة . ...مع استثناءات قليلة، لا يعرف القطاع الجمعوي في البلدان العربية ازدهارا ونموا في مستوى التحديات والطلب الاجتماعي ولا حتى بالمقارنة بالخطاب الرسمي حوله. فعلى الرغم مما قد يميز بعض الوضعيات من اختلاف وبعض المفارقات والاستثناءات، فإن المنظمات غير الحكومية في العالم العربي لا يمكن اعتبارها قوى اجتماعية حقيقية يمكن أن يكون لها تأثير على تطور ومستقبل المجتمعات العربية... ؛ وهو ما تؤكده بعض المعطيات الإحصائية والملاحظات الميدانية المتعلقة بالحالة الجزائرية وهي تتحدث عن نسبة انخراط لا تتجاوز 2% بالنسبة للجمعيات المهتمة بعالم الريف في سنة 2002 على سبيل المثال. كما تؤكده الدراسات العلمية القليلة التي أنجزت حول الحالة الجزائرية على المستويين الوطني والمحلي حين خلصت إلى أنه،... وبغض النظر عن الأهمية الكمية للظاهرة الجمعوية وتنوع اهتماماتها في الجزائر، فإنها تعرف مستوى هيكلة غير ناضجة وغير مكتملة. في المقابل، فإن خصائص الجمعيات ونوعية تأطيرها وكذا التصورات السائدة لدى قياداتها وأحكامهم تسمح لنا بالقول إننا أمام وضعية جمعوية في حالة سبات وخمول لدرجة أن موت الجمعيات المبكر وفقدانها لمنخرطيها قد يتحول إلى قاعدة عامة وحالة معدية.... كما تضيف الدراسة - التي أجريت حول جمعيات ولاية وهران - ...أن التبعية المادية والمالية لأغلبية الجمعيات إزاء الدولة تسمح لهذه الأخيرة بفرض إستراتيجيتها الإدماجية على عدد كبير من الجمعيات وتحويل العلاقات بها إلى علاقة شراكة سلبية، بدل العلاقة الايجابية، في التكفل بالقضايا المطروحة وتلبية حاجيات المنخرطين. كل الدلائل تشير إلى أن القطيعة مع الممارسات والتصورات التوجيهية والمشككة للدولة إزاء الحركة الجمعوية ليست مطروحة على جدول الأعمال.... وعليه، تختم هذه الدراسة بالقول ...إن هذا المخاض للفعل الجمعوي في الجزائر لن تترتب عليه ولادة دون تحولات جذرية في نسق القيم الذي يجب عصرنته وبروز إرادة سياسية فعلية على مستوى الدولة للاعتراف بوجود سلطة مقابلة تعمل على توازن أكثر لمختلف القوى داخل المجتمع ....
هذا الواقع فرض على العديد من الجمعيات، محاولة التكتل على شكل شبكات وفيدراليات حسب نوعية اهتماماتها طمعا في الزيادة في فعاليتها وقوة ضغطها كما هو حال الجمعيات المهتمة ببعض الفئات ذات الحاجات الخاصة كالمعاقين وأصحاب الأمراض المزمنة والمرأة والبيئة...الخ، لكن دون أن يعني ذلك أننا أمام قوة تشبيك فعلي للحركة الجمعوية الجزائرية التي لازالت تعاني من نقائص حالة العمل المنفرد .
الجمعية والبرلمان
من دون أدنى شك، فإن مؤسسات المجتمع المدني الجزائرية، ذات التجربة المحدودة وحديثة النشأة، ستتأثر في علاقاتها بالبرلمان الجزائري كمؤسسة تشريعية حديثة العهد هي الأخرى. متأثرة بأجواء اللحظة السياسية التي ظهرت فيها والمهام المصرح بها أو المسكوت عنها الموكولة لها في حينها والمرتبطة بعملية الانتقال السياسي وتوسيع قاعدة النظام السياسي ،من خلال مشاركة أكبر، لبعض الفئات الوسطى الحضرية. لذلك، منح مثل هذا الطابع النخبوي لمفهوم المجتمع المدني في الجزائر والممارسات المرتبطة به على الأقل في بداياته وعلى مستوى التأطير الذي ميزه. قيادات ونخب لم تتمكن حتى الآن من توسيع قاعدة هذه التجربة شعبيا وكسب قواعد اجتماعية أوسع لها ، تكون سندا لهها وهو تحاول الدخول في علاقات مع المؤسسة التشريعية التعددية ، المتميزة هي الأخرى بالعمر القصير والصلاحيات المحدودة في علاقاتها بالسلطة التنفيذية، رغم ما عرفته هذه التجربة القصيرة من مد وجزر حسب الظرف السياسي المتقلب والمضطرب هو الآخر .
الظرف السياسي الذي جعل بعض الفروق تبرز بين التجربتين الأولى1997/2002 والثانية للمجلس 2002/2006 ،كان على العموم لصالح التجربة الأولى التي يبدو أنها كانت أكثر حيوية ،نظرا ربما إلى التنوع السياسي والحربي الأكبر الذي ميزها كتجربة عكس العهدة الثانية التي زادت فيها نسبة التشريع بأوامر حتى عندما تعلق الأمر بنصوص قانونية أساسية لم تسمح للبرلمان من استعمال كل صلاحياته المنصوص عليها قانونا ،ومن باب أولى الانفتاح على المجتمع المدني وتطوير آليات عمله .
علما بأن البرلمان بغرفتيه لا يتضمن لا قانونه الداخلي ولا القانون العضوي المنظم لأعماله إمكانية قانونية لإشراك المجتمع المدني بأي شكل كان في أعماله إذا استثنينا المادة 43 من القانون الداخلي للمجلس الوطني الشعبي التي تنص على أنه يمكن للّجان الدّائمة، في إطار ممارسة أشغالها، أن تدعو أشخاصا مختصّين وذوي خبرة للاستعانة بهم في أداء مهامّها .
المادّة 47 تنص من جهتها على ما يلي وهي تحدد طرق عمل اللجان .
- أن يحرّر ملخّص قرارات اجتماعات اللّجان الدّائمة.
- تحفظ الأشرطة المسموعة في أرشيف اللجنة الدائمة.
- لا يمكن الاطلاع عليها إلا بموافقة رئيس اللجنة.
- تودع هذه الأشرطة لدى أرشيف المجلس في نهاية الفترة التشريعية.
كما تنص المادة 38 من القانون الداخلي لمجلس الأمة بدورها على أنه :
- يمكن للجان الدائمة، في إطار ممارسة أعمالها، أن تدعو أشخاصا مختصين وذوي خبرة للاستعانة بهم في أداء مهامها.
- لا يمكن للجان مجلس الأمة نشر أو إعلان محاضرها، ويتحمل مسؤولية ذلك مكتب اللجنة.
- تتحمل المصالح الإدارية المختصة مسؤولية المحافظة على سرية تسجيلات أشغال اللجان، ولا يسمح الاستماع لها إلا بإذن من مكتب اللجنة المختصة.
مما يعني أن المقصود بهذه المادة هو الخبير كشخص لا كمنظمات المجتمع المدني بمختلف أشكالها التنظيمية ؛ وهو ما تترجمه اللجان المتخصصة بدعوتها لخبراء من مختلف التخصصات للاستماع لآرائهم ، فلا يبقى، إذاً، من إمكانيات التدخل أمام جمعيات المجتمع المدني إلا العمل من خارج الهيئة التشريعية ، كقوة ضغط في غياب نص قانوني يقنن مساهمة هذه القوى المنظمة من الداخل على صعيد كل مؤسسات البرلمان بغرفتيه، يساعدها في ذلك وجود صحافة مكتوبة مستقلة جزئيا ومستوى تجنيد متفاوت القوة حسب متغيرات الظرف السياسي والأمني المتقلب خلال هذه الفترة.
هذا النوع من العمل من الخارج لجأت إليه في المدة الأخيرة وبمناسبة اقتراب الانتخابات التشريعية (ربيع 2007) المنظمات النسوية للمطالبة بحصول المرأة على نسبة تواجد لا تقل عن 30 % في قوائم الترشيحات للانتخابات. لقد تطلب الأمر من هذه المنظمات النسوية القيام بدراسة مغاربية مقارنة حول مشاركة المرأة في العمل السياسي العمومي والهيئات السياسية الرسمية كالبرلمان والحكومة ؛ مما سمح لها بوضع مذكرة تتضمن عدة اقتراحات للوصول إلى تمثيل عادل للمرأة على مستوى المؤسسات السياسية. وقد تم إرسال نسخ من هذه المذكرة إلى المسئولين السياسيين وعلى رأسهم السيد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الخارجية وبالطبع رئيسي المجلس الوطني الشعبي ومجلس الأمة .
الاقتراحات المعروضة تضمنت تعديل المادة 51 من الدستور التي جاء فيها : يتساوى جميع المواطنين في تقلد المهام والوظائف في الدولة دون أية شروط أخرى غير الشروط التي يحددها القانون والقانون الانتخابي وقانون الأحزاب. كما تضمنت اقتراحا بمنح تشجيعا ماليا للأحزاب السياسية التي تتبنى النساء في قوائمها بنسبة لا تقل عن 30%، وغير ذلك من الاقتراحات التي تصب في خانة "التمثيل العادل للمرأة داخل المؤسسات السياسية والعمومية" .
مع العلم أخيرا ، أن المجلس الوطني الشعبي لا يضم ضمن لجانه الدائمة الاثنتي عشرة إلا لجنة واحدة تهتم بالعمل الجمعوي ألا وهي لجنة الشباب والرياضة والنشاط الجمعوي