محمد مسعد ياقوت*
"أحجار على رقعة الشطرنج"
بعد معركة بني النضير [4 هـ ] – التي أجلى فيها المسلمون يهود النضير إلى خارج المدينة، بعدما خانوا، وعزموا على اغتيال النبي – صلى الله عليه وسلم – تحرك وفد يهودي يجوب الجزيرة العربية لتجهيز أكبر جيش عربي لاستئصال الإسلام والمسلمين وقتل الرسول واحتلال المدينة ونهب خيراتها.
ونجح اليهود في إعداد هذا التحالف العربي الذي دخلت فيه أهم قبائل العرب...
وقد كان على رأس هذا الوفد اليهودي نخبة من زعماء اليهود ممن يحقدون على المسلمين حتى النخاع، وكان منهم:
1- سَلامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النّضْرِيّ 2- حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ النّضْرِيّ 3- َكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النّضْرِيّ
4- هَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيّ 5- َأَبُو عَمّارٍ الْوَائِلِيّ. 6- وَسَلام بْن مِشْكَمٍ [ابن القيم: زاد المعاد - 3 / 240].
وانضمت إلى هذا التحالف اليهودي والوثني أهم قبائل العرب: قريش وغطفان، و فزارة ومرة، وأشجع واتجهت جيوش الأحزاب نحو المدينة.
وهكذا كان اليهود وراء تحالف الأحزاب، فجابوا وساحوا في الجزيرة، وانصاعت لنفثهم القبائل، فكانت قبائل العرب أحجارًا على رقعة الشطرنج اليهودية.
اليهود يدعمون العقائد الوثنية:
وتروي كتب السير، قصةَ خروج اليهود إلى مكة لدعوة قريش إلى حرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهي عجيبة من عجائب الدهر؛ أن يتصعلك أهل كتاب عند أهل وثن، وأن يتحبب أتباع دين سماوي إلى أصحاب دين وثني، وأن يستعين اليهود بالوثنية لضرب الإسلام.
ولقد وجد صناديد مكة الفرصة سانحة بهذه الزيارة اليهودية؛ أن يضفوا الشرعية على عبادة الأصنام، وأن يحصلوا على شهادة من علماء بني إسرائيل على سلامة الدين الوثني، وأحقية اللات والعزى ومناة وقطعان الأصنام بالعبادة.
فقالت قريش: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ إنّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الأول، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟".
فقال زعماء اليهود وعلماء بني إسرئيل: "بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ..!! " [ابن هشام 2 / 214].
وهكذا سجل التاريخ هذه المَعرة اليهودية، وصور هذه العورة الإسرائيلية، في هذا المشهد المخزي من أناس – يدَّعون انتسابهم لموسى - خانوا الشرائع السماوية، ودلسوا الأمانة العلمية، وشهدوا زورًا وكذبًا بصحة دين الأصنام وأحقيته على دين خير الأنام.
وهم الذين قال الله فيهم، مسجِلاً هذه المساندة اليهودية لدين الأوثان: أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً، أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:51] .
إنه العار الذي لحق بالأمة اليهودية صاحبة الكتاب السماوي، لـمَّا تحالفت مع الوثنية ضد التوحيد، ومع الأعداء ضد أبناء الوطن.
الزحف نحو المدينة:
وخرجت جيوش التحالف وقد أجمعت أمرها على إفناء المسلمين، وتألفت هذه الجيوش على النحو التالي:
1- جيش قريش، تحت قيادة أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: (4000 جندي).
2- جيش غَطَفَانُ, بقيادة عُيَيْنَة بْنُ حِصْنِ, وفِيهم بَنِي فَزَارَةَ.
3- جيش بَنِي مُرّةَ،, بقيادة الْحَارِث بْنُ عَوْفِ (400 جندي)، وهي من بني غطفان.
4 - جيش أَشْجَعَ, بقيادة َمِسْعَر بْنُ رُخَيْلَةَ (400 جندي).
5- جيش بني أسد، بقيادة طليحة بن خويلد (4500 جندي)
6- جيش بني سليم، بقيادة سفيان بن عبد شمس (700 جندي)، وقد التحقوا بجيش التحالف في (مُرَّ الظهران)[انظر: ابن هشام 2 / 215].
ومن ثم تجاوز عددهم العشرة آلاف, وكانت القيادة العامة لأبي سفيان.
إن هذا التجمع الوثني الكبير – في هذا الوقت – يشي بمدى الجهد الكبير الذي بذله اليهود، علاوة على تلك الأطماع التي ظهرت وسال لعاب أصحابها، فالمدينة بالنسبة لأعراب الجزيرة صيد ثمين وغنيمة ضخمة، كما أن إفناء المسلمين هدف أسمى بالنسبة للوثنيين واليهود على حد سواء.
أهمية الشورى والأفكار المستحدثة في الحرب:
ورُفعت إلى حضرة النبي – صلى الله عليه وسلم - التقريرات الاستخباراتية، التي تفيد بتحرك جيوش التحالف صوب المدينة، فاسْتَشَارَ الصّحَابَةَ، ما العمل؟ وهو النبي المصطفى الذي يتنزل الوحي عليه من السماء. فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خَنْدَقٍ يَحُولُ بَيْنَ الْعَدُوّ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، وهي حيلة دفاعية يستخدمها الفرس، والحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق الناس بها.
إن درس الشورى يأبى الغياب بين فصل وآخر من فصول سيرة الرسول ..
إن الشورى ثمرة نضيجة من ثمرات الدعوة الإسلامية، نراها – أي الشورى – ماثلة حية في أحداث السيرة في ظلال النبوة وتحت قبة الوحي وبين يدي الرسول الصادق المصدوق، لتتوكد فريضة الشورى- تلك الفريضة الغائبة المجهولة – في نفوس المسلمين والمتمسلمين، حكاماً ومحكومين، ولنعرف أن جو الاستبداد ضَيّقٌ لا يتسع، وهَمٌ لا ينفرج، والجور والعسف لا يصنع عقولاً إنما يصنع أقفية.
تكريم العقول المبُتكِرة:
وطفق الناس يهتفون بسلمان، افتخارًا به، وسرورًا بفكرته، فقال المهاجرون: سَلْمَانُ مِنّا ؛ وَقَالَتْ الأنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنّا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ [ابن هشام2/224].
وهو الرد المعهود من القيادة الإسلامية التي شرعت في تكريم أصحاب الابتكارات وأصحاب الاختراعات.
لقد نال سلمان هذه المرتبة الشرفية، واستحق هذا الوسام النبوي الرفيع؛ لأنه أعمل عقله في خدمة الإسلام، واخترع وابتكر، وأبدع ما ينفع المسلمين، وفكر، وفكر، وفكر، ولم ينخذل ولم يتضعضع، فكان من زمرة آل البيت الأماجد.
وانظر. كيف تهيج العقول وتستوي على سوقها، فتَنتج وتبدع في جو الشورى، وبيئةِ الحوار بين الراعي والرعية، وتُربةِ التفاهم بين القائد وجنده!
هذه هي سمة البيئة الشورية في المجتمعات؛ بيئة جاذبة للعقول، تحتضن أصحاب المواهب والأفكار, وليست بيئة طاردة للعقول قاتلة للفهوم.
أيها المسؤول. ابدأ بنفسك!
فلما أصدر النبي – صلى الله عليه وسلم - قراره بضرب الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ, عَمِلَ فِيهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بنفسه – مشاركةً، و تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الأجر، وتحميسًا لهم, وتواضعاً منه – صلى الله عليه وسلم – فلا يليق بالقائد المسلم أن يجلس في رغد ولهو على الفراش اللين الدافىء من خلف جنوده الذين يتضورون جوعاً ويرتعدون من البرد شمال المدينة حيث أعمال الحفر ..
وفي ذلك، الدرس الأوفى؛ لأصحاب المسؤوليات في العمل الجماعي الدعوي؛ أن يتقوا الله في أنفسهم وإخوانهم والدعوة، فتجد أحدهم يلقي على إخوانه التكاليف الثقال؛ وليس له من الأمر إلا القعود وقيل وقال. أو تراه يتكلف ويتعمَّل، ويتصنع المشاركة ثم ينسل من بينهم، تاركًا الجَمل بما حمل، ولا حياء ولا خفر، وبعد العمل تراه قد خرج من جحره؛ ليلقي نظرياته في العمل الجماعي وينظِّر تنظير العلماء، ويعقب تعقيب الحكماء، عما كان وعما ينبغي، وهو الخطيب المِثْقع والمتحدث المِفْلق، لكن. دون مشاركة جادة ومعاونة فاعلة.
فقه الاستئذان:
وَعَمِلَ الأبطال في أعمال حفر الخندق؛ فَدَأَبَ فِيهِ القائد وَدَأَبُوا. وَأَبْطَأَ عن المجاهدين فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا يُوَرّونَ بِالضّعِيفِ مِنْ الْعَمَلِ، وَيَتَسَلّلُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ – هربًا من أعمال الحفر - بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ولا إذْنٍ. وَجَعَلَ الرّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا نَابَتْهُ النّائِبَةُ مِنْ الْحَاجَةِ الّتِي لا بُدّ لَهُ مِنْهَا, يَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي اللّحُوقِ بِحَاجَتِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ – في رحمة وعفو - فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلِهِ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَاحْتِسَابًا لَهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ: [ إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنّ الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [انظر: ابن هشام 2 / 215، 216].
وفي هذا دلالة على أهمية الاستئذان إذا ما أراد الجندي الانصراف عن العمل الجماعي لضرورة أو لحاجة. فلا يجوز له – شرعًا ولاخُلقًا ولا عُرفًا– أن يتحول عن العمل الجماعي إلى العمل الفردي – أي من المصلحة العامة إلى المصلحة الخاصة – إلا بموافقة صريحة من القائد .
وفي ذلك المشهد درسٌ لهؤلاء الهذليين والكُسالى الذين يتخلفون عن المصلحة العامة لحساب مصلحتهم الشخصية، ويقدمون مستحب الفرد على واجب الأُمة، ويُبطئون عن إخوانهم بغير عذر ولا إذن، ويُوَرّون بالعمل المتصنع الضعيف الشكلي، ويتسللون إلى بيوتهم ومصالحهم الشخصية تسلل الثعالب، هربًا من الأعمال، وتهربًا من الأعباء، وفرارًا من المصلحة العامة – تالله إن هؤلاء متبرٌ ما هم فيه، وفاسدٌ ما هم عليه، وهم أحوج إلى التوبة والأوبة من العبد الآبق.
ولهؤلاء نقول: إن الله تعالى لم يذرأكم في هذه الأرض عَبَثاً، ولم يترككم فيها سُدًى، ولا يريد منكم من رزق فتَقْسمون، ولا قصور فتفخرون، ولا مراكب فتمرحون، وما بَينْ أحدكم وبيني الجَنَة والنار إلا الموتُ يأتيه اللحظة، أو بعد لحظة؛ وإنَّ طموحات تَنْقُصها اللحظةُ، ومشاريعًا دنيوية تَهْدِمها اللحظة، لجديرة بقِصَر العمر، وهوان الدنيا.. فيا لها حَسْرَةً على كلّ ذي غَفلة ! ويا لها عَبرة على كل ذي غَمرة !
أهمية الأدب الحماسي:
عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَنْدَقِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَادِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ والأنصار" [البخاري، برقم:(3789)].
وعن أنس قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ.. فَاغْفِرْ للأنصار وَالْمُهَاجِرَهْ".
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا.. عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.
فكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ [البخاري: برقم (3795)].
وكان من بين المجاهدين رجل من الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ جُعَيْلٌ. فسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرًا..
فطفق الصحابة يرددون مرارًا:
سَمّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرَا ... وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرَا
فَإِذَا مَرّوا "بِعَمْرٍو " قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "عَمْرًا !"
وَإِذَا مَرّوا "بِظَهْرٍ" قَالَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "ظَهْرًا" [ابن هشام 2 / 217].
وعن الْبَرَاءَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الأحْزَابِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَلَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
وَاللَّهِ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا .. وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا .. [إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا]
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا .. وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ أَبَيْنَا أَبَيْنَا. [البخاري: (3795)، ومسلم: (3365)].
إذا أردتَ أن تهدم شَعبًا فسلط عليه الأدب الرقيع، والشعر الرخيص، وقصص الجنس، وروايات العهر، وقصائد الخمر، فالأدب الخليع لا يقل ضراوة في الهدم من الصواريخ!
وإذا أردنا أن نؤسس جيشًا، ونبني أُمةً, - وقد قال الله تعالى: "وأعدوا" – فإن من تمام الإعدادِ تربيةَ الجنود على الأدب الإسلامي الجهادي، والشعر العربي الحماسي، وأناشيد الشجاعة، ومقالات الإباء، وقصص البطولة. و"حرض المؤمنين".
وفي هذه الغزوة، وقد بدأ الحصار، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتطايرت الظنون والشكوك, وساحت الأضاليل والأباطيل – نرى القائد العظيم والرئيس الحكيم يثَّبت جنده ويربط على قلوبهم ويشد على أيديهم مستخدمًا في ذلك القصيدة الحماسية والطرفة الظريفة، والترنيمة اللطيفة.
ومثل هذا أيضًا، يدلل على قدرة القائد في الجمع بين الجد والترويح عن النفس، لاسيما في كربة الحرب وشدة الضنك..
هذا، وإنشاد الأناشيد والأشعار الجهادية في ثنايا المحن دائمًا يحقق عدة فوائد, أهمها:
(1) الترويح عن الجنود. (2) إلهاب مشاعر المسلمين بشكل إيجابي نحو العقيدة والوطن.
(3) تقوية الصلة بين الجنود وقاداتهم، فضلاً عن الجنود وبعضهم.
الالتفاف حول شعار جهادي:
فلقد كَانَ شِعَارُ الجيش الإسلامي يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " حم, لا يُنْصَرُون"[ابن هشام 2 / 226 ]
إن الشعار الإسلامي أو الهتاف الحماسي رغم رمزيته إلا أن له أهمية في تنظيم الجيش وحشد الجنود وبثّهم.
ولعمري إن صيحة الشعار تهز القلوب وتنشط بها الجوارح، وتدمع بها العيون، وبها يتحرك الجنود نحوها أو انطلاقًا منها.
وينبغي أن يتسم الشعار بالقوة ووضوح الهدف.
إن شعارات العمل الإسلامي مهمة، تحتاج دومًا إلى تجديد وتفعيل وهمة، وشرح مغذاها للناس، وتبيين علاقتها بأهداف العمل، وتأكيد أخلاقيتها فلا سَبَ فيها ولا شتم.
الصبر على الشظف :
الصبر على قلة الزاد، من الآداب المهمة التي ينبغي أن يتربى عليها جند الله، ليكون الصبر وقودًا لهم في ساح القتال، تلك الساعات التي يكابد فيها الجند الحر العطش، والجوع والشظف.
ولقد ضرب الصحابة أروع المثل في الصبر على قلة الزاد، "فكانوا يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ، وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ !!" [البخاري: (3791)].
قال جابر- مشيرًا إلى أيام الخندق: "وَلَبِثْنَا ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا"[البخاري: (3792)].
وقال واصفًا حال قائدهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمَصًا شَدِيدًا"[البخاري: (3793)].
ولقد بلغ منه – صلى الله عليه وسلم – الجوع مبلغًا عظيمًا، يوم الخندق، حتى ربط على بطنه ليقاوم الجوع، قال أبو طلحة: "شكونا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن حجرين" [الترمذي: (2371)]!
البطن مَهلكة المسرفين، ومدرسة المُقلِّين.
فلا تكن – حبيبي – أسيرُ الجُوع، صرَيع الشِّبع.
فربما صوم يوم أعانك على جوع يوم، فالجوع رغبة منك، دربةً على الجوع رغمًا عنك.
ورب دولة صائمة وقاها الله لباس الجوع، فأحرى بشعب قضيته الكبرى الأكل والشرب أن يتوب وأن يصوم .
وليس تاريخ محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا تاريخ شدائد ومِحَن، ومجاهدة في هداية البشر، ومراغَمَة لكيان الفساد. فهو يجاهد رغم جوعه، ويعمل رغم جوعة، ويدعو رغم جوعه.
هكذا كانت الحلقة الأولى في غزوة الأحزاب.
1-أبانت تلك الحلقة كيف يخطط اليهود للإيقاع بالأمة الإسلامية، وحقيق أنهم أشد الناس عداوة للمسلمين، وشعارهم دومًا " ليس علينا في الأميين سبيل "، فهم يسعون دومًا أن يجعلوا من الكرة الأرضية رقعة شطرنج هم محركو أحجارها، ولو بالتحالف مع عبَّاد الأوثان. فأوصيك – أخي – ببغض اليهود.
2- وأنت قد رأيت – أخي القارئ – كيف كانت البيئة الإبداعية التي كان الصحابة يحبرون فيها في ظلال دولة الشورى، وكيف كان الإبداع متساوقًا مع الحرية، وكيف كان النظام الإسلامي يدعم أصحاب المواهب ويشجع المبتكرين. فأوصيك – أخي – بصناعة البيئة الشورية الإبداعية في بنيان العمل الجماعي، لتقر الأعين بعباقرة ونوابغ في خدمة الإسلام.
3- وعلمتَ، كيف أن القائم على ثغر من ثغور الإسلام؛ لا ينام عن إخوانه، ولا يتهرب من مهامه، ولا يَكتنُّ في كِسر بيته وإخوانه يكابدون قيظ الحَرِ. وما أقبح التخلف والإهمال في أبناء الصحوة الإسلامية ! أحَسِبَ هؤلاء أنهم كعامة الناس؟ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود! فعليك – أخي – بغرس قيمة المشاركة وقيمة الاستئذان.
4- وعلمتَ أهمية فنون الأدب في معركتنا مع العدو، فكم من قصيدة أحيت الجهاد في قلوب موات، وكم من أنشودة ناح بها المجاهدون حتى بلغوا بها المعالي، فعليك بأشعار الشجاعة عند المتنبي، وديوان الحماسة لأبي تمام، وقصائد الزهد لأبي العتاهية وغيرها من الأدب القديم، إضافة إلى الكتابات الأدبية الجهادية ما مضى منها وما استجد.
5- وعلمتَ كيف كان حال الصحابة من شظف وجوع، فالاخشوشان سمة من سمات المجاهدين، والمترفون لا يقيمون حضارة، ولا تقوى أياديهم الناعمة على حمل السلاح، فهيا، هيا. نغرس التربية الجهادية في نفوسنا وفي نفوس ذوينا.
* * *
غزوة الأحزاب .. دروس في ذكراها ..
الحلقة الثانية .. رسالة الإسلام
بقلم الأستاذ محمد مسعد ياقوت
بسم الله .. هذه هي الحلقة الثانية في مُدَارسة غزوة الأحزاب.
وفي هذه الحلقة درس في علاقة الراعي برعيته والقائد في كتيبته، ودرس ثانٍ في أهمية التبشير بالنصر، وبث روح التفاؤل في نفوس الجند، ودرس ثالث في بركات الجهاد وكرامات المجاهدين، ودرس رابع في فضل المكائد الحربية، ودرس خامس في حرب الرسائل، ودرس أخير – في هذه الحلقة – حول تدارك الثغرات والثلمات فقد يُأتى المجتمع الحريز من ثغرة هينة ومعظم النار من مستصغر الشرر.
القائد بين جنوده:
قال جابر ـ رضي الله عنه:
إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ [أي صخرة] شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ: " أَنَا نَازِلٌ"..
ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ- وَلَبِثْنَا ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا- فَأَخَذَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ ـ أَوْ أَهْيَمَ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائذنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ. فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ !فَعِنْدَكِ شَيْءٌ ؟
قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ [أي أنثى المعز].
فَذَبَحَتْ الْعَنَاقَ، وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الأثَافِيِّ [أي الـحَجر الذي تُوضَعُ عليه القِدْرُ] قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ. قَالَ: "كَمْ هُوَ ؟".. فَذَكَرْتُ لَهُ. . قَالَ: "كَثِيرٌ طَيِّبٌ ". . قَالَ: " قُلْ لَهَا لا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ ولا الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ". . فَقَالَ: " قُومُوا".. فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ !! فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ ! جَاءَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ..
قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟
قال: نَعَمْ.
فلما أقبل رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأهل الخندق قَالَ: "ادْخُلُوا وَلا تَضَاغَطُوا"..
[قَالَ جابر: فَجَلَسَ وَأَخْرَجْنَاهَا (يعني الشويهة) إلَيْهِ. قَالَ فَبَرّك وَسَمّى اللّهَ] [ابن هشام 2 / 218].. فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ, وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ: "كُلِي هَذَا، وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ"..[البخاري: (3792)].
في هذا المشهد، نرى نبينا – صلى الله عليه وسلم – بين جنوده، وفي خدمة جنوده في أول المشهد وآخره..
فكان في خدمتهم لما عَرَضَتْ عليهم صخرة شَدِيدَةٌ، فقال في تواضع جم: "أنا نازل"، وتحرك بمعوله الكريم صوب الصخرة؛ لينسفها نسفًا، وهو أشجع الشجعان، وأقوى الرجال – صلوات ربي وسلامه عليه.
وكان في خدمتهم في آخر المشهد، لما جاء جابر وقد أعد " طعيم" – على حد قوله – لرسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ, فما كان من القائد أن أطعم جنوده بنفسه، ووقف يوزع لهم الطعام بشخصه، حتى إذا ما أكلوا وشبعوا أكل هو.. !
إنها القيادة الرشيدة التي تهوى إليها الأفئدة بمثل هذه السلوكيات الكريمة، والأخلاق الحميدة، فما كان النبي- صلى الله عليه وسلم - ليرضى أن يَطعم طعامًا قبل رجاله، وهو الذي يصبِّرهم على العوز، وليس من أخلاقه أن يجلس إلى الموائد الشهية الفاخرة خلسة من وراء جنوده، أو أن يتميز عنهم في طعام أو شراب. .
وهذا درس لقادة الدعوات الذين أفلحوا في التنظير، ولم يفلحوا في كسب احترام جماهير المدعوين، ونجحوا كواجهة دعائية ولم ينجحوا كقدوة تربوية، وأجادوا وأبانوا العلم والفكر والدعوة، وفشلوا فشلاً ذريعاً في نصب راية الدعوة في ميدان الحياة، فضلاً عن مجتمع الدعاة الأقران. وخليق بجميع الدعاة كباراً وصغاراً؛ أن ينزلوا إلى ساحة المدعوين وإلى ميدان العمل ومشاركة الناس همومهم وتحطيم صخور أحزانهم بمعاول الإيمان والقرآن، وليَقُلْ ذلك الداعي الساكن في البرج العاجي: " أنا نازل ", أي إلى الشارع والحي والمجتمع، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
إن الفطنة والألمعية والجهبذة لن تفلح ما دامت نائمة في رؤوس العلماء والدعاة ولم تخرج إلى واقع الحياة ! كزير الماء الذي أُحكم غلقة ولم يستفد منه أحد.
أهمية التبشير بالنصر والفتوحات وقت المحن:
إن من أخلاقيات القيادة الإسلامية في ميادين القتال، التبشير بالنصر والتفاؤل بالظفر، والعمل الإعلامي الجاد المتواصل في بث روح الثقة في نصر الله ومدده. .
ففي مشهد الكدية التي عَرَضَتْ على الرجال، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، ليحطم الصخرة التي أرهقت الجنود، َقَالَ:
"تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". .
فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ ! وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ! فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَرْقَةٌ. . ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ:
"تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"..
فَنَدَرَ الثُّلُثُ الآخَرُ، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ!! فَرَآهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ:
"تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". .
فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ. .
قَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ مَا تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ !!
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"يَا سَلْمَانُ. . رَأَيْتَ ذَلِكَ ؟؟"
فَقَالَ: إِي، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ!
فقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم: " فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الأولَى رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ !!!" !!!
قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ... !!
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ.
قال: " ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ، وَمَا حَوْلَهَا، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ!!!" !!!
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ. ..
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِذَلِكَ
" ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ، وَمَا حَوْلَهَا مِنْ الْقُرَى، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ!!!" !!!
فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ ذَلِكَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ"[النسائي: (3125)، وصححه الألباني].
أرأيتَ هذا النبي العظيم وهو في كُربة الحرب وقد تكالب القاصي والداني عليه وأوشكت المدينة أن تكون كَلًئا مباحاً للأعراب واليهود – تراه كالطود الشامخ والعَلَم الراسخ يثَّبت الأرض من حوله، ويرِّسخ الإيمان في جنده، وينشر أحاديث البشائر، وأخبار الفتوحات، وأناجيل النصر، وفتح أوروبا وآسيا وأفريقيا. . فيثَّبتَ الجند، ويخفف عنهم. . وهو بهذه الأحاديث التي تُحيي النفوس؛ يسلِّيهم، ويُخَّفض عنهم، ويخفض جناحه لهم، ويَرأفُ بهم، ويرحمهم.
فما أحوجنا إلى الداعية المُبشر لا المنفر، المُيِسِّر لا المُعسِّر، المعتدل لا المتنطع، المتوسط لا المتكلف. الداعية الذي يغرس في نفوس الناس والنشء بذار الإيمان والثقة بنصر الله، والذي يؤكد للناس مراراً أن الدائرة للإسلام وأن الله متم نوره وأن الغلبة لدينه والعاقبة لأوليائه والتمكين لجنوده، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
بركات ومعجزات:
وعندما ينهمك الرجال في العمل الجهادي الخالص، سرعان ما يُعايشون كرامات المجاهدين وبركات الجهاد، تلك البركات التي تجعل من القليل كثيراً، وتجعل من طعام الواحد ما يكفي لمئات. .
قَالَتْ بْنِت بَشِيرٍ بن سعد:
دَعَتْنِي أُمّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ, فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي, ثُمّ قَالَتْ: أَيْ بُنَيّةُ، اذْهَبِي إلَى أَبِيك وَخَالِك عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا, قَالَتْ فَأَخَذْتهَا, فَانْطَلَقْت بِهَا, فَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي, فَقَالَ: "تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ مَا هَذَا مَعَك؟ " قالت: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ أُمّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدّيَانِهِ. قَالَ:
" هَاتِيهِ"، قَالَتْ: فَصَبَبْته فِي كَفّيْ رَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَمَا مَلأتْهُمَا! ثُمّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمّ دَحَا بِالتّمْرِ عَلَيْهِ فَتَبَدّدَ فَوْقَ الثّوْبِ، ثُمّ قَالَ لإنْسَانِ عِنْدَهُ: "اُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ: أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ!".. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ! وَجَعَلَ يَزِيدُ!حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ وَإِنّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ!![ابن هشام 2 / 218].
وفي هذا المشهد على ما فيه من المعجزة الحسية المُبيِنة، أنْ أنمى اللهُ الطعام في يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهذا الشكل العجيب، فطعمَ طعامُ الكف الجيشَ عن بكرة أبيه – وفي ذلك تثبيت للقلوب في هذه الظروف التي قال فيها المنافقون: " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ". .. ـ إلى جانب هذا المشهد الإعجازي نرى مشهد البركات التي يصبها الله صباً للمجاهدين، تلك الكرامات التي تتجلى في مشاهد الجهاد، وهي كرامات لن تعدمها ساحات الوغى ما دام المجاهد أقبل إلى الله بقلب صادق منيب.
وكلاهما – مشاهد المعجزات للنبيين ومشاهد الكرامات للمجاهدين – تتنزل ليربط الله على قلوب المؤمنين، ويمددهم بين الفينة والأخرى بمدد من عنده، حتى يمنحهم أكتاف العدو. فاصْدقْ جهادك، يصدقكَ الله في التثبيت.
الحصار:
لَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ مِنْ الْخَنْدَقِ, أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتّى نَزَلَتْ بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ, بَيْنَ الْجُرُفِ وَزُغَابَةَ فِي عَشْرَةِ آلافٍ، منهم بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ, حَتّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نَقْمَى, إلَى جَانِبِ أُحُدٍ [ابن هشام 2 / 219].
فلما تقدموا، وكانت مفاجأة الخندق، قَالُوا – في ذهول: إنّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا [ابن القيم: زاد المعاد 3 / 240].
وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَالْمُسْلِمُونَ حَتّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إلَى سَلْعٍ, فِي ثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ. وقد َاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ.. وَأَمَرَ بِالذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ فَجُعِلُوا فِي الآطَامِ [أي الحصون][ابن هشام 2 / 219، 220].
لقد ظهرت أهمية الحيل الحربية في هذا المشهد، وتبيَّن رجحان فكرة سلمان، وظهر لنا كيف أن عقل رجل واحد قد يُنجّي أُمة من الهلاك كما في مثال حيلة الخندق التي كانت ثمرة تفكير رجل من المسلمين. فكم من عقل سعدت به البشرية دهوراً وكم من عقل تعست به الأرض قروناً!
ولقد ظهر للمتبصر كيف أن تعب ساعة قد يريحَ دهراً، وكسل لحظة قد يُتعبَ زمناً، فهؤلاء الصحاب تعبوا أشد التعب في حفر الخندق فكان في ذلك مفازتهم، ولو تأخروا عن هذا العمل الشاق المهم لكان في ذلك هلاكهم. فلا تكسل أبداً، وتحيل كل حيلة – شرعية ـ في نصرة الإسلام.
حرب الرسائل:
وأراد المشركون أن يشنوا حرباً نفسية برسالة توبيخية استفزازية.. فأرسل أبو سفيان رسالة مكتوبة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – جاء فيها:
"باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى.. وأساف ونائلة وهبل، لقد سرتُ إليك في جمع وأنا أريد ألا أعود إليك أبداً حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فراراً من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد".
فأرسل له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوابه فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، فقد أتاني كتابك، وقديماً غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافاً ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب "[الحلبي: السيرة الحلبية 2/ 628].
لا يخفى عليك خطر حرب الرسائل بين الجحفلين، ولا تغيب عن ناظريك تلك الحروب الكلامية التي يتلاحاها الخصوم في كل عصر ومَصر، وإن شئت انظر في قناة الجزيرة الفضائية وفي غيرها من القنوات الإخبارية؛ لترى أثر الكلمة، ووقع اللفظة في الاقتصاد والعلاقات وتحريك دفة الصراعات.
ومن ثم أراك تدرك حكمة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الرد على رسالة أبي سفيان هذه، على ما عُرف عن الأخير بالغوار البعيد في الدهاء والخِبِّ وجلائل الخُطط، وكيف قام النبي الهبرزي – صلوات الله وسلامه عليه – بتفنيد خطاب أبي سفيان، فقرة فقرة، وجملة جملة، فدمغه، فإذا هو زاهق قد زوى أثره، وصاحبه أسيف حسير، كمن ألقى قنبلة مسيَّلة للدموع في جهةٍ فتلقفها القوم سراعاً قبل انفجارها؛ فردتْ عليه فانفجرت فيه.
بل تراه - ليردعه ـ ينكأ له جرحه القديم في بدر، قائلاً: "وقديماً غرك بالله الغرور". وتراه يلوذ بحول الله ولا يتكبر فيقول: "أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه", وتراه يستبشر لجيشه ويثبط عدوه فيقول: " ويجعل لنا العاقبة". . وينفث الرعب في قلب أبي سفيان ومَن خلفه، فيقول: "وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافاً ونائلة وهبل".. ويوبخه قائلاً: "حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب". ....... هكذا يَلْقم القائد هذه المحاولات التي تهدف إلى زعزعة النفوس وخلخلة القلوب، فيردها على العدو وبالاً كالحريق المتسعر.
الحراسة وتدارك الثغرات ومتابعتها:
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يختلف إلى ثلمة في الخندق. تقول عائشة رضي الله عنها: وكان يذهب إلى تلك الثلمة، فإذا أخذه البرد جاء فأدفأته في حضني، فإذا دفيء خرج إلى تلك الثلمة ويقول: ما أخشى أن يؤتى المسلمون إلا منها، فبينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- في حضني صار يقول: "ليت رجلاً صالحاً يحرس هذه الثُّلْمَةَ الليلة"، فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم-:"من هذا؟" فقال سعد بن أبي وقاص: "سعد، يا رسول الله أتيتك أحرسك!".
فقال:"عليك هذه الثلمة فاحرسها". .
ونام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- حتى غط، وقام في قبته يصلي لأنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"[الحلبي 2/ 628].
ثم خرج من قبته، فقال: "هذه خيل المشركين تطيف بالخندق". . ثم نادى: "يا عباد بن بشر". .
قال: لبيك..
قال: "هل معك أحد؟"
قال: نعم، أنا في نفر حول قبتك يا رسول الله.
وكان ألزم الناس لقبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم يحرسها- فبعثه يطيف بالخندق، وأعلمه بأن خيل المشركين تطيف بهم [الحلبي 2/ 628]..
ولما استأخر المشركون الفتح، تَيَمّمُوا مَكَانًا ضَيّقاً مِنْ الْخَنْدَقِ, فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ, وَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ـ عَلَيْهِ السّلامُ ـ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثّغْرَةَ الّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ, فسدوا هذه الثغرة [ابن هشام 2 / 224].
إن في ذلك لعبرة لمن احتاط تمام الاحتياط ثم ترك في جُنته ثُّلمة ولو بمقدار قيد أنملة. وهو درس يشي باهتمام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – بثغور الوطن، ويحث المسلمين على الرباط والحراسة في سبيل الله فيقول: "ليت رجلاً صالحاً يحرس هذه الثُّلْمَةَ الليلة"..
وهو القائل: "عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" [الترمذي: 1563، عن ابن عباس، وصححه الألباني].
والحراسة في سبيل الله كالجهاد سواء بسواء، فقال – صلى الله عليه وسلم:
"رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" [البخاري: 2678, عن سهل بن سعد].
وتراه يقطع نومته إلى الصلاة تارة وإلى جنوده تارة أخرى محذراً إياهم قرصنة من العدو, قائلاً: "هذه خيل المشركين تطيف بالخندق".. ثم نادى: "يا عباد بن بشر" – ليكلفه بمهمة المتابعة، فكان جواب الجندي لقائده – في رباط وجأش:
"لبيك"!!
ويْ ! هكذا لبَّاه .. فالجندي المسلم يرى طاعته لقائده عبادة يُثاب عليها، فتراه يجيب قائده بأطايب الإجابات مثل: "لبيك"، و" سمعاً وطاعة". .
وهكذا كانت الحراسة في سبيل الله عبادة عظيمة، وسد الثغرات الحربية عبادة عظيمة, وسرعة استجابة الجندي لقائده عبادة عظيمة.
إن هذا الجيل الفريد عاش العبادة بكل معانيها وفي كل مناحيها. .. حتى النخاع.
فلقد تعلموا الحراسة في سبيل الله كما يتعلم أحدهم الصلاة، وتريضوا على سد الثغرات الأمنية كما يتريض الطفل للصيام، ولم يكن يُثْني أحدُهم عِطْفه – في قِحة – عند تلقي التعليمات والتكليفات، بل كانت كلمة الطاعة تنطق بها كل ذرة في أنفسهم. لبيك, لبيك.
***
فيا شباب.. قد كثرت ثُّلمات الأُمة فمن الحارس؟ وقد كثرت ثغرات المسلمين فمن الفارس؟ فامضوا إلى كتيبة التوحيد منيبين، في مجتمع الإيمان والإخاء منضبطين، ولا تُفزعنكم رسائل العدو ونفثه ونفخه، أنتم أقوياء بالله ولو حاصركم أهل الأرض
"أحجار على رقعة الشطرنج"
بعد معركة بني النضير [4 هـ ] – التي أجلى فيها المسلمون يهود النضير إلى خارج المدينة، بعدما خانوا، وعزموا على اغتيال النبي – صلى الله عليه وسلم – تحرك وفد يهودي يجوب الجزيرة العربية لتجهيز أكبر جيش عربي لاستئصال الإسلام والمسلمين وقتل الرسول واحتلال المدينة ونهب خيراتها.
ونجح اليهود في إعداد هذا التحالف العربي الذي دخلت فيه أهم قبائل العرب...
وقد كان على رأس هذا الوفد اليهودي نخبة من زعماء اليهود ممن يحقدون على المسلمين حتى النخاع، وكان منهم:
1- سَلامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النّضْرِيّ 2- حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ النّضْرِيّ 3- َكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النّضْرِيّ
4- هَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيّ 5- َأَبُو عَمّارٍ الْوَائِلِيّ. 6- وَسَلام بْن مِشْكَمٍ [ابن القيم: زاد المعاد - 3 / 240].
وانضمت إلى هذا التحالف اليهودي والوثني أهم قبائل العرب: قريش وغطفان، و فزارة ومرة، وأشجع واتجهت جيوش الأحزاب نحو المدينة.
وهكذا كان اليهود وراء تحالف الأحزاب، فجابوا وساحوا في الجزيرة، وانصاعت لنفثهم القبائل، فكانت قبائل العرب أحجارًا على رقعة الشطرنج اليهودية.
اليهود يدعمون العقائد الوثنية:
وتروي كتب السير، قصةَ خروج اليهود إلى مكة لدعوة قريش إلى حرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهي عجيبة من عجائب الدهر؛ أن يتصعلك أهل كتاب عند أهل وثن، وأن يتحبب أتباع دين سماوي إلى أصحاب دين وثني، وأن يستعين اليهود بالوثنية لضرب الإسلام.
ولقد وجد صناديد مكة الفرصة سانحة بهذه الزيارة اليهودية؛ أن يضفوا الشرعية على عبادة الأصنام، وأن يحصلوا على شهادة من علماء بني إسرائيل على سلامة الدين الوثني، وأحقية اللات والعزى ومناة وقطعان الأصنام بالعبادة.
فقالت قريش: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ إنّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الأول، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟".
فقال زعماء اليهود وعلماء بني إسرئيل: "بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ..!! " [ابن هشام 2 / 214].
وهكذا سجل التاريخ هذه المَعرة اليهودية، وصور هذه العورة الإسرائيلية، في هذا المشهد المخزي من أناس – يدَّعون انتسابهم لموسى - خانوا الشرائع السماوية، ودلسوا الأمانة العلمية، وشهدوا زورًا وكذبًا بصحة دين الأصنام وأحقيته على دين خير الأنام.
وهم الذين قال الله فيهم، مسجِلاً هذه المساندة اليهودية لدين الأوثان: أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً، أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:51] .
إنه العار الذي لحق بالأمة اليهودية صاحبة الكتاب السماوي، لـمَّا تحالفت مع الوثنية ضد التوحيد، ومع الأعداء ضد أبناء الوطن.
الزحف نحو المدينة:
وخرجت جيوش التحالف وقد أجمعت أمرها على إفناء المسلمين، وتألفت هذه الجيوش على النحو التالي:
1- جيش قريش، تحت قيادة أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: (4000 جندي).
2- جيش غَطَفَانُ, بقيادة عُيَيْنَة بْنُ حِصْنِ, وفِيهم بَنِي فَزَارَةَ.
3- جيش بَنِي مُرّةَ،, بقيادة الْحَارِث بْنُ عَوْفِ (400 جندي)، وهي من بني غطفان.
4 - جيش أَشْجَعَ, بقيادة َمِسْعَر بْنُ رُخَيْلَةَ (400 جندي).
5- جيش بني أسد، بقيادة طليحة بن خويلد (4500 جندي)
6- جيش بني سليم، بقيادة سفيان بن عبد شمس (700 جندي)، وقد التحقوا بجيش التحالف في (مُرَّ الظهران)[انظر: ابن هشام 2 / 215].
ومن ثم تجاوز عددهم العشرة آلاف, وكانت القيادة العامة لأبي سفيان.
إن هذا التجمع الوثني الكبير – في هذا الوقت – يشي بمدى الجهد الكبير الذي بذله اليهود، علاوة على تلك الأطماع التي ظهرت وسال لعاب أصحابها، فالمدينة بالنسبة لأعراب الجزيرة صيد ثمين وغنيمة ضخمة، كما أن إفناء المسلمين هدف أسمى بالنسبة للوثنيين واليهود على حد سواء.
أهمية الشورى والأفكار المستحدثة في الحرب:
ورُفعت إلى حضرة النبي – صلى الله عليه وسلم - التقريرات الاستخباراتية، التي تفيد بتحرك جيوش التحالف صوب المدينة، فاسْتَشَارَ الصّحَابَةَ، ما العمل؟ وهو النبي المصطفى الذي يتنزل الوحي عليه من السماء. فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خَنْدَقٍ يَحُولُ بَيْنَ الْعَدُوّ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، وهي حيلة دفاعية يستخدمها الفرس، والحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق الناس بها.
إن درس الشورى يأبى الغياب بين فصل وآخر من فصول سيرة الرسول ..
إن الشورى ثمرة نضيجة من ثمرات الدعوة الإسلامية، نراها – أي الشورى – ماثلة حية في أحداث السيرة في ظلال النبوة وتحت قبة الوحي وبين يدي الرسول الصادق المصدوق، لتتوكد فريضة الشورى- تلك الفريضة الغائبة المجهولة – في نفوس المسلمين والمتمسلمين، حكاماً ومحكومين، ولنعرف أن جو الاستبداد ضَيّقٌ لا يتسع، وهَمٌ لا ينفرج، والجور والعسف لا يصنع عقولاً إنما يصنع أقفية.
تكريم العقول المبُتكِرة:
وطفق الناس يهتفون بسلمان، افتخارًا به، وسرورًا بفكرته، فقال المهاجرون: سَلْمَانُ مِنّا ؛ وَقَالَتْ الأنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنّا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ [ابن هشام2/224].
وهو الرد المعهود من القيادة الإسلامية التي شرعت في تكريم أصحاب الابتكارات وأصحاب الاختراعات.
لقد نال سلمان هذه المرتبة الشرفية، واستحق هذا الوسام النبوي الرفيع؛ لأنه أعمل عقله في خدمة الإسلام، واخترع وابتكر، وأبدع ما ينفع المسلمين، وفكر، وفكر، وفكر، ولم ينخذل ولم يتضعضع، فكان من زمرة آل البيت الأماجد.
وانظر. كيف تهيج العقول وتستوي على سوقها، فتَنتج وتبدع في جو الشورى، وبيئةِ الحوار بين الراعي والرعية، وتُربةِ التفاهم بين القائد وجنده!
هذه هي سمة البيئة الشورية في المجتمعات؛ بيئة جاذبة للعقول، تحتضن أصحاب المواهب والأفكار, وليست بيئة طاردة للعقول قاتلة للفهوم.
أيها المسؤول. ابدأ بنفسك!
فلما أصدر النبي – صلى الله عليه وسلم - قراره بضرب الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ, عَمِلَ فِيهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بنفسه – مشاركةً، و تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الأجر، وتحميسًا لهم, وتواضعاً منه – صلى الله عليه وسلم – فلا يليق بالقائد المسلم أن يجلس في رغد ولهو على الفراش اللين الدافىء من خلف جنوده الذين يتضورون جوعاً ويرتعدون من البرد شمال المدينة حيث أعمال الحفر ..
وفي ذلك، الدرس الأوفى؛ لأصحاب المسؤوليات في العمل الجماعي الدعوي؛ أن يتقوا الله في أنفسهم وإخوانهم والدعوة، فتجد أحدهم يلقي على إخوانه التكاليف الثقال؛ وليس له من الأمر إلا القعود وقيل وقال. أو تراه يتكلف ويتعمَّل، ويتصنع المشاركة ثم ينسل من بينهم، تاركًا الجَمل بما حمل، ولا حياء ولا خفر، وبعد العمل تراه قد خرج من جحره؛ ليلقي نظرياته في العمل الجماعي وينظِّر تنظير العلماء، ويعقب تعقيب الحكماء، عما كان وعما ينبغي، وهو الخطيب المِثْقع والمتحدث المِفْلق، لكن. دون مشاركة جادة ومعاونة فاعلة.
فقه الاستئذان:
وَعَمِلَ الأبطال في أعمال حفر الخندق؛ فَدَأَبَ فِيهِ القائد وَدَأَبُوا. وَأَبْطَأَ عن المجاهدين فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا يُوَرّونَ بِالضّعِيفِ مِنْ الْعَمَلِ، وَيَتَسَلّلُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ – هربًا من أعمال الحفر - بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ولا إذْنٍ. وَجَعَلَ الرّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا نَابَتْهُ النّائِبَةُ مِنْ الْحَاجَةِ الّتِي لا بُدّ لَهُ مِنْهَا, يَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي اللّحُوقِ بِحَاجَتِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ – في رحمة وعفو - فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلِهِ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَاحْتِسَابًا لَهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ: [ إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنّ الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [انظر: ابن هشام 2 / 215، 216].
وفي هذا دلالة على أهمية الاستئذان إذا ما أراد الجندي الانصراف عن العمل الجماعي لضرورة أو لحاجة. فلا يجوز له – شرعًا ولاخُلقًا ولا عُرفًا– أن يتحول عن العمل الجماعي إلى العمل الفردي – أي من المصلحة العامة إلى المصلحة الخاصة – إلا بموافقة صريحة من القائد .
وفي ذلك المشهد درسٌ لهؤلاء الهذليين والكُسالى الذين يتخلفون عن المصلحة العامة لحساب مصلحتهم الشخصية، ويقدمون مستحب الفرد على واجب الأُمة، ويُبطئون عن إخوانهم بغير عذر ولا إذن، ويُوَرّون بالعمل المتصنع الضعيف الشكلي، ويتسللون إلى بيوتهم ومصالحهم الشخصية تسلل الثعالب، هربًا من الأعمال، وتهربًا من الأعباء، وفرارًا من المصلحة العامة – تالله إن هؤلاء متبرٌ ما هم فيه، وفاسدٌ ما هم عليه، وهم أحوج إلى التوبة والأوبة من العبد الآبق.
ولهؤلاء نقول: إن الله تعالى لم يذرأكم في هذه الأرض عَبَثاً، ولم يترككم فيها سُدًى، ولا يريد منكم من رزق فتَقْسمون، ولا قصور فتفخرون، ولا مراكب فتمرحون، وما بَينْ أحدكم وبيني الجَنَة والنار إلا الموتُ يأتيه اللحظة، أو بعد لحظة؛ وإنَّ طموحات تَنْقُصها اللحظةُ، ومشاريعًا دنيوية تَهْدِمها اللحظة، لجديرة بقِصَر العمر، وهوان الدنيا.. فيا لها حَسْرَةً على كلّ ذي غَفلة ! ويا لها عَبرة على كل ذي غَمرة !
أهمية الأدب الحماسي:
عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَنْدَقِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَادِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ والأنصار" [البخاري، برقم:(3789)].
وعن أنس قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ.. فَاغْفِرْ للأنصار وَالْمُهَاجِرَهْ".
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا.. عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.
فكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ [البخاري: برقم (3795)].
وكان من بين المجاهدين رجل من الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ جُعَيْلٌ. فسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرًا..
فطفق الصحابة يرددون مرارًا:
سَمّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرَا ... وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرَا
فَإِذَا مَرّوا "بِعَمْرٍو " قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "عَمْرًا !"
وَإِذَا مَرّوا "بِظَهْرٍ" قَالَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "ظَهْرًا" [ابن هشام 2 / 217].
وعن الْبَرَاءَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الأحْزَابِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَلَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
وَاللَّهِ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا .. وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا .. [إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا]
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا .. وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ أَبَيْنَا أَبَيْنَا. [البخاري: (3795)، ومسلم: (3365)].
إذا أردتَ أن تهدم شَعبًا فسلط عليه الأدب الرقيع، والشعر الرخيص، وقصص الجنس، وروايات العهر، وقصائد الخمر، فالأدب الخليع لا يقل ضراوة في الهدم من الصواريخ!
وإذا أردنا أن نؤسس جيشًا، ونبني أُمةً, - وقد قال الله تعالى: "وأعدوا" – فإن من تمام الإعدادِ تربيةَ الجنود على الأدب الإسلامي الجهادي، والشعر العربي الحماسي، وأناشيد الشجاعة، ومقالات الإباء، وقصص البطولة. و"حرض المؤمنين".
وفي هذه الغزوة، وقد بدأ الحصار، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتطايرت الظنون والشكوك, وساحت الأضاليل والأباطيل – نرى القائد العظيم والرئيس الحكيم يثَّبت جنده ويربط على قلوبهم ويشد على أيديهم مستخدمًا في ذلك القصيدة الحماسية والطرفة الظريفة، والترنيمة اللطيفة.
ومثل هذا أيضًا، يدلل على قدرة القائد في الجمع بين الجد والترويح عن النفس، لاسيما في كربة الحرب وشدة الضنك..
هذا، وإنشاد الأناشيد والأشعار الجهادية في ثنايا المحن دائمًا يحقق عدة فوائد, أهمها:
(1) الترويح عن الجنود. (2) إلهاب مشاعر المسلمين بشكل إيجابي نحو العقيدة والوطن.
(3) تقوية الصلة بين الجنود وقاداتهم، فضلاً عن الجنود وبعضهم.
الالتفاف حول شعار جهادي:
فلقد كَانَ شِعَارُ الجيش الإسلامي يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " حم, لا يُنْصَرُون"[ابن هشام 2 / 226 ]
إن الشعار الإسلامي أو الهتاف الحماسي رغم رمزيته إلا أن له أهمية في تنظيم الجيش وحشد الجنود وبثّهم.
ولعمري إن صيحة الشعار تهز القلوب وتنشط بها الجوارح، وتدمع بها العيون، وبها يتحرك الجنود نحوها أو انطلاقًا منها.
وينبغي أن يتسم الشعار بالقوة ووضوح الهدف.
إن شعارات العمل الإسلامي مهمة، تحتاج دومًا إلى تجديد وتفعيل وهمة، وشرح مغذاها للناس، وتبيين علاقتها بأهداف العمل، وتأكيد أخلاقيتها فلا سَبَ فيها ولا شتم.
الصبر على الشظف :
الصبر على قلة الزاد، من الآداب المهمة التي ينبغي أن يتربى عليها جند الله، ليكون الصبر وقودًا لهم في ساح القتال، تلك الساعات التي يكابد فيها الجند الحر العطش، والجوع والشظف.
ولقد ضرب الصحابة أروع المثل في الصبر على قلة الزاد، "فكانوا يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ، وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ !!" [البخاري: (3791)].
قال جابر- مشيرًا إلى أيام الخندق: "وَلَبِثْنَا ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا"[البخاري: (3792)].
وقال واصفًا حال قائدهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمَصًا شَدِيدًا"[البخاري: (3793)].
ولقد بلغ منه – صلى الله عليه وسلم – الجوع مبلغًا عظيمًا، يوم الخندق، حتى ربط على بطنه ليقاوم الجوع، قال أبو طلحة: "شكونا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن حجرين" [الترمذي: (2371)]!
البطن مَهلكة المسرفين، ومدرسة المُقلِّين.
فلا تكن – حبيبي – أسيرُ الجُوع، صرَيع الشِّبع.
فربما صوم يوم أعانك على جوع يوم، فالجوع رغبة منك، دربةً على الجوع رغمًا عنك.
ورب دولة صائمة وقاها الله لباس الجوع، فأحرى بشعب قضيته الكبرى الأكل والشرب أن يتوب وأن يصوم .
وليس تاريخ محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا تاريخ شدائد ومِحَن، ومجاهدة في هداية البشر، ومراغَمَة لكيان الفساد. فهو يجاهد رغم جوعه، ويعمل رغم جوعة، ويدعو رغم جوعه.
هكذا كانت الحلقة الأولى في غزوة الأحزاب.
1-أبانت تلك الحلقة كيف يخطط اليهود للإيقاع بالأمة الإسلامية، وحقيق أنهم أشد الناس عداوة للمسلمين، وشعارهم دومًا " ليس علينا في الأميين سبيل "، فهم يسعون دومًا أن يجعلوا من الكرة الأرضية رقعة شطرنج هم محركو أحجارها، ولو بالتحالف مع عبَّاد الأوثان. فأوصيك – أخي – ببغض اليهود.
2- وأنت قد رأيت – أخي القارئ – كيف كانت البيئة الإبداعية التي كان الصحابة يحبرون فيها في ظلال دولة الشورى، وكيف كان الإبداع متساوقًا مع الحرية، وكيف كان النظام الإسلامي يدعم أصحاب المواهب ويشجع المبتكرين. فأوصيك – أخي – بصناعة البيئة الشورية الإبداعية في بنيان العمل الجماعي، لتقر الأعين بعباقرة ونوابغ في خدمة الإسلام.
3- وعلمتَ، كيف أن القائم على ثغر من ثغور الإسلام؛ لا ينام عن إخوانه، ولا يتهرب من مهامه، ولا يَكتنُّ في كِسر بيته وإخوانه يكابدون قيظ الحَرِ. وما أقبح التخلف والإهمال في أبناء الصحوة الإسلامية ! أحَسِبَ هؤلاء أنهم كعامة الناس؟ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود! فعليك – أخي – بغرس قيمة المشاركة وقيمة الاستئذان.
4- وعلمتَ أهمية فنون الأدب في معركتنا مع العدو، فكم من قصيدة أحيت الجهاد في قلوب موات، وكم من أنشودة ناح بها المجاهدون حتى بلغوا بها المعالي، فعليك بأشعار الشجاعة عند المتنبي، وديوان الحماسة لأبي تمام، وقصائد الزهد لأبي العتاهية وغيرها من الأدب القديم، إضافة إلى الكتابات الأدبية الجهادية ما مضى منها وما استجد.
5- وعلمتَ كيف كان حال الصحابة من شظف وجوع، فالاخشوشان سمة من سمات المجاهدين، والمترفون لا يقيمون حضارة، ولا تقوى أياديهم الناعمة على حمل السلاح، فهيا، هيا. نغرس التربية الجهادية في نفوسنا وفي نفوس ذوينا.
* * *
غزوة الأحزاب .. دروس في ذكراها ..
الحلقة الثانية .. رسالة الإسلام
بقلم الأستاذ محمد مسعد ياقوت
بسم الله .. هذه هي الحلقة الثانية في مُدَارسة غزوة الأحزاب.
وفي هذه الحلقة درس في علاقة الراعي برعيته والقائد في كتيبته، ودرس ثانٍ في أهمية التبشير بالنصر، وبث روح التفاؤل في نفوس الجند، ودرس ثالث في بركات الجهاد وكرامات المجاهدين، ودرس رابع في فضل المكائد الحربية، ودرس خامس في حرب الرسائل، ودرس أخير – في هذه الحلقة – حول تدارك الثغرات والثلمات فقد يُأتى المجتمع الحريز من ثغرة هينة ومعظم النار من مستصغر الشرر.
القائد بين جنوده:
قال جابر ـ رضي الله عنه:
إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ [أي صخرة] شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ: " أَنَا نَازِلٌ"..
ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ- وَلَبِثْنَا ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا- فَأَخَذَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ ـ أَوْ أَهْيَمَ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائذنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ. فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ !فَعِنْدَكِ شَيْءٌ ؟
قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ [أي أنثى المعز].
فَذَبَحَتْ الْعَنَاقَ، وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الأثَافِيِّ [أي الـحَجر الذي تُوضَعُ عليه القِدْرُ] قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ. قَالَ: "كَمْ هُوَ ؟".. فَذَكَرْتُ لَهُ. . قَالَ: "كَثِيرٌ طَيِّبٌ ". . قَالَ: " قُلْ لَهَا لا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ ولا الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ". . فَقَالَ: " قُومُوا".. فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ !! فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ ! جَاءَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ..
قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟
قال: نَعَمْ.
فلما أقبل رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأهل الخندق قَالَ: "ادْخُلُوا وَلا تَضَاغَطُوا"..
[قَالَ جابر: فَجَلَسَ وَأَخْرَجْنَاهَا (يعني الشويهة) إلَيْهِ. قَالَ فَبَرّك وَسَمّى اللّهَ] [ابن هشام 2 / 218].. فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ, وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ: "كُلِي هَذَا، وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ"..[البخاري: (3792)].
في هذا المشهد، نرى نبينا – صلى الله عليه وسلم – بين جنوده، وفي خدمة جنوده في أول المشهد وآخره..
فكان في خدمتهم لما عَرَضَتْ عليهم صخرة شَدِيدَةٌ، فقال في تواضع جم: "أنا نازل"، وتحرك بمعوله الكريم صوب الصخرة؛ لينسفها نسفًا، وهو أشجع الشجعان، وأقوى الرجال – صلوات ربي وسلامه عليه.
وكان في خدمتهم في آخر المشهد، لما جاء جابر وقد أعد " طعيم" – على حد قوله – لرسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ, فما كان من القائد أن أطعم جنوده بنفسه، ووقف يوزع لهم الطعام بشخصه، حتى إذا ما أكلوا وشبعوا أكل هو.. !
إنها القيادة الرشيدة التي تهوى إليها الأفئدة بمثل هذه السلوكيات الكريمة، والأخلاق الحميدة، فما كان النبي- صلى الله عليه وسلم - ليرضى أن يَطعم طعامًا قبل رجاله، وهو الذي يصبِّرهم على العوز، وليس من أخلاقه أن يجلس إلى الموائد الشهية الفاخرة خلسة من وراء جنوده، أو أن يتميز عنهم في طعام أو شراب. .
وهذا درس لقادة الدعوات الذين أفلحوا في التنظير، ولم يفلحوا في كسب احترام جماهير المدعوين، ونجحوا كواجهة دعائية ولم ينجحوا كقدوة تربوية، وأجادوا وأبانوا العلم والفكر والدعوة، وفشلوا فشلاً ذريعاً في نصب راية الدعوة في ميدان الحياة، فضلاً عن مجتمع الدعاة الأقران. وخليق بجميع الدعاة كباراً وصغاراً؛ أن ينزلوا إلى ساحة المدعوين وإلى ميدان العمل ومشاركة الناس همومهم وتحطيم صخور أحزانهم بمعاول الإيمان والقرآن، وليَقُلْ ذلك الداعي الساكن في البرج العاجي: " أنا نازل ", أي إلى الشارع والحي والمجتمع، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
إن الفطنة والألمعية والجهبذة لن تفلح ما دامت نائمة في رؤوس العلماء والدعاة ولم تخرج إلى واقع الحياة ! كزير الماء الذي أُحكم غلقة ولم يستفد منه أحد.
أهمية التبشير بالنصر والفتوحات وقت المحن:
إن من أخلاقيات القيادة الإسلامية في ميادين القتال، التبشير بالنصر والتفاؤل بالظفر، والعمل الإعلامي الجاد المتواصل في بث روح الثقة في نصر الله ومدده. .
ففي مشهد الكدية التي عَرَضَتْ على الرجال، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، ليحطم الصخرة التي أرهقت الجنود، َقَالَ:
"تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". .
فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ ! وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ! فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَرْقَةٌ. . ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ:
"تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"..
فَنَدَرَ الثُّلُثُ الآخَرُ، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ!! فَرَآهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ:
"تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". .
فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ. .
قَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ مَا تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ !!
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"يَا سَلْمَانُ. . رَأَيْتَ ذَلِكَ ؟؟"
فَقَالَ: إِي، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ!
فقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم: " فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الأولَى رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ !!!" !!!
قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ... !!
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ.
قال: " ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ، وَمَا حَوْلَهَا، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ!!!" !!!
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ. ..
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِذَلِكَ
" ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ، وَمَا حَوْلَهَا مِنْ الْقُرَى، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ!!!" !!!
فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ ذَلِكَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ"[النسائي: (3125)، وصححه الألباني].
أرأيتَ هذا النبي العظيم وهو في كُربة الحرب وقد تكالب القاصي والداني عليه وأوشكت المدينة أن تكون كَلًئا مباحاً للأعراب واليهود – تراه كالطود الشامخ والعَلَم الراسخ يثَّبت الأرض من حوله، ويرِّسخ الإيمان في جنده، وينشر أحاديث البشائر، وأخبار الفتوحات، وأناجيل النصر، وفتح أوروبا وآسيا وأفريقيا. . فيثَّبتَ الجند، ويخفف عنهم. . وهو بهذه الأحاديث التي تُحيي النفوس؛ يسلِّيهم، ويُخَّفض عنهم، ويخفض جناحه لهم، ويَرأفُ بهم، ويرحمهم.
فما أحوجنا إلى الداعية المُبشر لا المنفر، المُيِسِّر لا المُعسِّر، المعتدل لا المتنطع، المتوسط لا المتكلف. الداعية الذي يغرس في نفوس الناس والنشء بذار الإيمان والثقة بنصر الله، والذي يؤكد للناس مراراً أن الدائرة للإسلام وأن الله متم نوره وأن الغلبة لدينه والعاقبة لأوليائه والتمكين لجنوده، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
بركات ومعجزات:
وعندما ينهمك الرجال في العمل الجهادي الخالص، سرعان ما يُعايشون كرامات المجاهدين وبركات الجهاد، تلك البركات التي تجعل من القليل كثيراً، وتجعل من طعام الواحد ما يكفي لمئات. .
قَالَتْ بْنِت بَشِيرٍ بن سعد:
دَعَتْنِي أُمّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ, فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي, ثُمّ قَالَتْ: أَيْ بُنَيّةُ، اذْهَبِي إلَى أَبِيك وَخَالِك عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا, قَالَتْ فَأَخَذْتهَا, فَانْطَلَقْت بِهَا, فَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي, فَقَالَ: "تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ مَا هَذَا مَعَك؟ " قالت: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ أُمّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدّيَانِهِ. قَالَ:
" هَاتِيهِ"، قَالَتْ: فَصَبَبْته فِي كَفّيْ رَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَمَا مَلأتْهُمَا! ثُمّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمّ دَحَا بِالتّمْرِ عَلَيْهِ فَتَبَدّدَ فَوْقَ الثّوْبِ، ثُمّ قَالَ لإنْسَانِ عِنْدَهُ: "اُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ: أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ!".. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ! وَجَعَلَ يَزِيدُ!حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ وَإِنّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ!![ابن هشام 2 / 218].
وفي هذا المشهد على ما فيه من المعجزة الحسية المُبيِنة، أنْ أنمى اللهُ الطعام في يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهذا الشكل العجيب، فطعمَ طعامُ الكف الجيشَ عن بكرة أبيه – وفي ذلك تثبيت للقلوب في هذه الظروف التي قال فيها المنافقون: " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ". .. ـ إلى جانب هذا المشهد الإعجازي نرى مشهد البركات التي يصبها الله صباً للمجاهدين، تلك الكرامات التي تتجلى في مشاهد الجهاد، وهي كرامات لن تعدمها ساحات الوغى ما دام المجاهد أقبل إلى الله بقلب صادق منيب.
وكلاهما – مشاهد المعجزات للنبيين ومشاهد الكرامات للمجاهدين – تتنزل ليربط الله على قلوب المؤمنين، ويمددهم بين الفينة والأخرى بمدد من عنده، حتى يمنحهم أكتاف العدو. فاصْدقْ جهادك، يصدقكَ الله في التثبيت.
الحصار:
لَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ مِنْ الْخَنْدَقِ, أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتّى نَزَلَتْ بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ, بَيْنَ الْجُرُفِ وَزُغَابَةَ فِي عَشْرَةِ آلافٍ، منهم بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ, حَتّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نَقْمَى, إلَى جَانِبِ أُحُدٍ [ابن هشام 2 / 219].
فلما تقدموا، وكانت مفاجأة الخندق، قَالُوا – في ذهول: إنّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا [ابن القيم: زاد المعاد 3 / 240].
وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَالْمُسْلِمُونَ حَتّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إلَى سَلْعٍ, فِي ثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ. وقد َاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ.. وَأَمَرَ بِالذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ فَجُعِلُوا فِي الآطَامِ [أي الحصون][ابن هشام 2 / 219، 220].
لقد ظهرت أهمية الحيل الحربية في هذا المشهد، وتبيَّن رجحان فكرة سلمان، وظهر لنا كيف أن عقل رجل واحد قد يُنجّي أُمة من الهلاك كما في مثال حيلة الخندق التي كانت ثمرة تفكير رجل من المسلمين. فكم من عقل سعدت به البشرية دهوراً وكم من عقل تعست به الأرض قروناً!
ولقد ظهر للمتبصر كيف أن تعب ساعة قد يريحَ دهراً، وكسل لحظة قد يُتعبَ زمناً، فهؤلاء الصحاب تعبوا أشد التعب في حفر الخندق فكان في ذلك مفازتهم، ولو تأخروا عن هذا العمل الشاق المهم لكان في ذلك هلاكهم. فلا تكسل أبداً، وتحيل كل حيلة – شرعية ـ في نصرة الإسلام.
حرب الرسائل:
وأراد المشركون أن يشنوا حرباً نفسية برسالة توبيخية استفزازية.. فأرسل أبو سفيان رسالة مكتوبة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – جاء فيها:
"باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى.. وأساف ونائلة وهبل، لقد سرتُ إليك في جمع وأنا أريد ألا أعود إليك أبداً حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فراراً من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد".
فأرسل له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوابه فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، فقد أتاني كتابك، وقديماً غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافاً ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب "[الحلبي: السيرة الحلبية 2/ 628].
لا يخفى عليك خطر حرب الرسائل بين الجحفلين، ولا تغيب عن ناظريك تلك الحروب الكلامية التي يتلاحاها الخصوم في كل عصر ومَصر، وإن شئت انظر في قناة الجزيرة الفضائية وفي غيرها من القنوات الإخبارية؛ لترى أثر الكلمة، ووقع اللفظة في الاقتصاد والعلاقات وتحريك دفة الصراعات.
ومن ثم أراك تدرك حكمة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الرد على رسالة أبي سفيان هذه، على ما عُرف عن الأخير بالغوار البعيد في الدهاء والخِبِّ وجلائل الخُطط، وكيف قام النبي الهبرزي – صلوات الله وسلامه عليه – بتفنيد خطاب أبي سفيان، فقرة فقرة، وجملة جملة، فدمغه، فإذا هو زاهق قد زوى أثره، وصاحبه أسيف حسير، كمن ألقى قنبلة مسيَّلة للدموع في جهةٍ فتلقفها القوم سراعاً قبل انفجارها؛ فردتْ عليه فانفجرت فيه.
بل تراه - ليردعه ـ ينكأ له جرحه القديم في بدر، قائلاً: "وقديماً غرك بالله الغرور". وتراه يلوذ بحول الله ولا يتكبر فيقول: "أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه", وتراه يستبشر لجيشه ويثبط عدوه فيقول: " ويجعل لنا العاقبة". . وينفث الرعب في قلب أبي سفيان ومَن خلفه، فيقول: "وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافاً ونائلة وهبل".. ويوبخه قائلاً: "حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب". ....... هكذا يَلْقم القائد هذه المحاولات التي تهدف إلى زعزعة النفوس وخلخلة القلوب، فيردها على العدو وبالاً كالحريق المتسعر.
الحراسة وتدارك الثغرات ومتابعتها:
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يختلف إلى ثلمة في الخندق. تقول عائشة رضي الله عنها: وكان يذهب إلى تلك الثلمة، فإذا أخذه البرد جاء فأدفأته في حضني، فإذا دفيء خرج إلى تلك الثلمة ويقول: ما أخشى أن يؤتى المسلمون إلا منها، فبينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- في حضني صار يقول: "ليت رجلاً صالحاً يحرس هذه الثُّلْمَةَ الليلة"، فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم-:"من هذا؟" فقال سعد بن أبي وقاص: "سعد، يا رسول الله أتيتك أحرسك!".
فقال:"عليك هذه الثلمة فاحرسها". .
ونام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- حتى غط، وقام في قبته يصلي لأنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"[الحلبي 2/ 628].
ثم خرج من قبته، فقال: "هذه خيل المشركين تطيف بالخندق". . ثم نادى: "يا عباد بن بشر". .
قال: لبيك..
قال: "هل معك أحد؟"
قال: نعم، أنا في نفر حول قبتك يا رسول الله.
وكان ألزم الناس لقبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم يحرسها- فبعثه يطيف بالخندق، وأعلمه بأن خيل المشركين تطيف بهم [الحلبي 2/ 628]..
ولما استأخر المشركون الفتح، تَيَمّمُوا مَكَانًا ضَيّقاً مِنْ الْخَنْدَقِ, فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ, وَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ـ عَلَيْهِ السّلامُ ـ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثّغْرَةَ الّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ, فسدوا هذه الثغرة [ابن هشام 2 / 224].
إن في ذلك لعبرة لمن احتاط تمام الاحتياط ثم ترك في جُنته ثُّلمة ولو بمقدار قيد أنملة. وهو درس يشي باهتمام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – بثغور الوطن، ويحث المسلمين على الرباط والحراسة في سبيل الله فيقول: "ليت رجلاً صالحاً يحرس هذه الثُّلْمَةَ الليلة"..
وهو القائل: "عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" [الترمذي: 1563، عن ابن عباس، وصححه الألباني].
والحراسة في سبيل الله كالجهاد سواء بسواء، فقال – صلى الله عليه وسلم:
"رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" [البخاري: 2678, عن سهل بن سعد].
وتراه يقطع نومته إلى الصلاة تارة وإلى جنوده تارة أخرى محذراً إياهم قرصنة من العدو, قائلاً: "هذه خيل المشركين تطيف بالخندق".. ثم نادى: "يا عباد بن بشر" – ليكلفه بمهمة المتابعة، فكان جواب الجندي لقائده – في رباط وجأش:
"لبيك"!!
ويْ ! هكذا لبَّاه .. فالجندي المسلم يرى طاعته لقائده عبادة يُثاب عليها، فتراه يجيب قائده بأطايب الإجابات مثل: "لبيك"، و" سمعاً وطاعة". .
وهكذا كانت الحراسة في سبيل الله عبادة عظيمة، وسد الثغرات الحربية عبادة عظيمة, وسرعة استجابة الجندي لقائده عبادة عظيمة.
إن هذا الجيل الفريد عاش العبادة بكل معانيها وفي كل مناحيها. .. حتى النخاع.
فلقد تعلموا الحراسة في سبيل الله كما يتعلم أحدهم الصلاة، وتريضوا على سد الثغرات الأمنية كما يتريض الطفل للصيام، ولم يكن يُثْني أحدُهم عِطْفه – في قِحة – عند تلقي التعليمات والتكليفات، بل كانت كلمة الطاعة تنطق بها كل ذرة في أنفسهم. لبيك, لبيك.
***
فيا شباب.. قد كثرت ثُّلمات الأُمة فمن الحارس؟ وقد كثرت ثغرات المسلمين فمن الفارس؟ فامضوا إلى كتيبة التوحيد منيبين، في مجتمع الإيمان والإخاء منضبطين، ولا تُفزعنكم رسائل العدو ونفثه ونفخه، أنتم أقوياء بالله ولو حاصركم أهل الأرض