مما لاشك فيه أن الدقيقة التي تذهب لن تعود .. وكذلك الساعة واليوم والإجازة.. والوقت هو الحياة وإضاعته بما لاينفع إضاعة للحياة نفسها .. وفي ذلك دعوة إلى الاهتمام بالوقت واحترامه .. وترك الفراغ والانتظاروتمضية الوقت وهدره بالعبث ..
والإجازة الصيفية مناسبة هامة لكيفية التعامل مع الوقت والزمن والعمر.. وبعضهم يعتبرها فرصة للهو والعبث والعطالة والنوم ..وفرصة لتبديد المال وتضييع الوقت وصرف الطاقات دون جدوى .. كما يحلو للبعض الفراغ وانعدام المسؤوليات وقضاء أوقات طويلة في اللعب بأشكاله المتنوعة الحديثة والقديمة .. وكل ذلك سلوك سلبي وفيه مضمون عدواني موجه إلى الذات أوإلى الآخر ، بشكل لاشعوري ..
وطبعاً الراحة مطلوبة بعد الجهد والجد .. وكذلك اللعب والمرح والترفيه عن النفس والترويح عنها بكل الأساليب المتوفرة .. والمشكلة تظهر حين ينعدم التوازن بين الجد واللعب ويستغرق الإنسان في اللعب لأوقات طويلة ولايستطيع الموازنة بين أوقاته .. وهو بذلك قليل التحمل كثير التعب .. ويرتبط ذلك بالقيم والتربية وتكوين المجتمع وكثرة الملهيات ، وبالظروف الشخصية أيضاً ..
كما يرتبط بالفرص المتاحة والمتوفرة أمام الشباب والتي يمكن من خلالها قضاء اوقات مثمرة ومنتجة ومفيدة في العطلات ..بدلاً من العطالة وتبديد الوقت ..
ويقال أن الوقت من ذهب ، وأن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك .. والفراغ مرض نفسي ويؤدي إلى الأمراض النفسية والاجتماعية.. ويرتبط الفراغ بالمرض النفسي حيث يستغرق الفرد بتأملاته وبذاته بعيداً عن الواقع ومتطلباته ، ويمكن له أن يجتر أفكاراً وخيالات مرضية تسيطر عليه ويتأثر بها وتستهلك فكره وأعصابه ووقته ، مثل الوساوس المرضية والأفكار التشاؤمية الاكتئابية وأحلام اليقظة المرضية وغيرها .. وفي عدد من الاضطرابات النفسية مثل الفصام والاكتئاب الشديد ، يتعطل المريض وتقل درجة نشاطاته وتخف دافعيته وحيويته ، ويصبح جامداً متجمداً في مشاعره ومظهره وسلوكه ،مما يطرح أهمية تأهيله وإعادته للعالم الواقعي من خلال نشاطات مفيدة تدريجية .
والفراغ والملل يمكن لهما أن يؤديا بالبعض إلى تعاطي المواد الإدمانية ومن ثم إلى الإدمان وما يرتبط به من مشكلات اجتماعية واخلاقية . كما يمكن لهما أن يؤديا إلى الانحراف والسلوكيات العديدة المضادة للمجتمع .
وبعض الأشخاص يتصفون باللامبالاة وضعف تحمل المسؤوليات والميوعة .. وهم يتعاملون مع الحياة بالضحك واللعب في مختلف الأوقات .. وطبعاً فترة الإجازات فرصة ذهبية لهم لممارسة المزيد من التمتع باللامسؤولية .
وفي الجهة المقابلة بعض الأشخاص تمثل الإجازة لهم قلقاً وإزعاجاً وهم يكرهونها ويعتبرونها عبئاً ثقيلاً ، ولايعرفون مايصنعون بها.. وهم يفضلون الحياة الجادة باستمرار والعمل المتواصل ولايعرفون الاسترخاء وينزعجون من الفراغ ، وتكثر عصبيتهم ونكدهم ومشكلاتهم مع أنفسهم ومع الآخرين في فترة الإجازات.. وهم يشكون عادة من صفات الشخصية الوسواسية مثل الجمود والجدية المفرطة وضيق الأفق والبخل والإحساس الزائد بالذنب والدقة المتطرفة في المواعيد وفي مختلف الحسابات ، ومنها حسابات الوقت .. وهم يقلقون من الإجازات وإذا أخذوا إجازة تكون قصيرة ومتوترة .
ولابد من التوازن وتطويروتعديل أنماط السلوك والشخصية .. كل يبحث عما يكمله وينقصه ليطور من نفسه وقدراتها وأساليبها ويحقق صحة نفسية واجتماعية أفضل .
ومما لاشك فيه أن الشباب يمتلك طاقات كبيرة ، كامنة وفعلية .. وطاقة الشباب تختلف عن طاقة الشيوخ المتناقصة وطاقة الأطفال العبثية.. ومن الممكن أن تكون هذه الطاقات بناءة وإيجابية ومسؤولة . ولابد للشباب من أن يخلعوا عنهم ثياب الطفولة ويلبسوا ثياباً تناسبهم .. وتناسب مرحلة الشباب بما فيها من استقلال ونضج وجد وبناء وخلق ووعي وطموح .
وترتبط الإجازة عموماً بالنشاطات الخفيفة والمسلية ، والإكثار من المتع واللذات ، وأيضاً الابتعاد عن الهموم والمشكلات والتعقيدات .. ومن الناحية النفسية العميقة تمثل الإجازة " ضوءاً " أخضر يضيء في الفضاء الداخلي للإنسان . وهو يبيح له أن يتفلت من ضوابطه بشكل نسبي .. حيث تقل الممنوعات وتزيد المسموحات . وينطبق ذلك على عدد من الأمور ومنها قواعد الثياب وشكلها وأوقات النوم واليقظة والإحساس بالوقت ونوعية الطعام .. إضافة للسلوكيات الأخلاقية والنشاطات الترفيهية السطحية وغير ذلك .
وفي مواجهة الفراغ الطويل والعطالة تبدأ قائمة النشاطات والأعمال المفيدة والمثمرة خلال الإجازة.. مثل الرياضة وممارستها وبذل الجهد والوقت لتنمية المهارات الرياضية المتنوعة والاستمتاع فيها .. والنشاطات الثقافية عديدة مثل القراءة الجادة للكتب والمجلات ومتابعة المناسبات والنشاطات الثقافية المتنوعة .. وهناك نشاطات تعليمية واكاديمية متنوعة ودورات تضيف إلى مهارات الشاب وقدراته .. كما أن الأعمال المهنية ممكنة وبأشكال مختلفة .
ووقت الفراغ يساعد الإنسان على أن يتم فيه مالم يستطع إنجازه خلال أوقات العمل او الانشغال ، فيما يتعلق بنفسه أو أهله أو مجتمعه .. وبعضهم يهتم بالقراءة أو الكتابة أو الرياضة أو التأمل .. وبعضهم يهتم بأنواع المأكولات والمشتريات والتسوق .. وبعضهم ينكب على التسلية الموسيقية أو البصرية .
ولابد من التخطيط لأوقات الفراغ وبذل الجهود للتعرف على مايمكن عمله وانجازه خلال الإجازة .
واخيراً .. الإجازة وسيلة ناجحة للتخفف من الضغوط اليومية والمسؤوليات وتجديد النشاط والحيوية، ومن ثم العودة إلى العمل والانتاج .. ولابد من مراجعة النفس وسلوكياتها .. أثناء العمل وأثناء الإجازة .. والعمل على تعديل الأنماط السلبية في السلوك والتفكير بما يتناسب مع حياة منتجة وفعالة .. ومع إجازة مفيدة وإيجابية .
" نشر هذا المقال في مجلة شبابلك العدد 14 شهر حزيران 2006 ، ويعاد نشره هنا "
الدكتور حسان المالح
استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية - شارع العابد - جوار المطعم الصحي