مركز الجزيرة للدراسات
اليمن يقف أمام المجهول قبل توقيع المبادرة أو بعد التوقيع عليها، فكما كان من غير المؤكد توقيع الرئيس صالح عليها ليس من المؤكد أن يلتزم بنص المبادرة بعد توقيعها لأنه يريدها أن توقف الاحتجاجات، ويسعى لخلق انقسام بين الشباب الرافض لرفع الاعتصام وإنهاء مظاهر الاحتجاج قبل رحيله عن السلطة، وأحزاب اللقاء المشترك التي تلتزم بموجب المبادرة بإيقاف هذه المظاهر. علاوة على أن صالح يخشى في نفس الوقت من خسران أعوانه السلطة كليا إن هو التزم بالاستقالة الواردة في المبادرة. وفي حال رفض الرئيس الالتزام بالمبادرة بعد دخول الأحزاب في خلاف وشد وجذب مع الشباب، فإن ذلك سيوجه ضربة قوية للثورة، ويجعل من الصعب إعادتها إلى وضعها قبل توقيع المبادرة.
لكن في المقابل لن يوافق الثوار على وقف الاحتجاجات قبل أن يرحل صالح، ثم إنهم يريدون إسقاط النظام كله بكل أركانه ولن يكتفوا برحيل رأسه فقط. وهذا التعارض بين الفريقين يجعل الوضع متفجرا، وحتى إذا تمكن صالح من إضعاف الثورة أو إجهاضها بمناوراته فإن أسبابها ستظل مشتعلة، وتندلع مجددا بأية شرارة.
وهم تراجع الثورة
ثورة غير قابلة للتراجع
المواقف الخارجية مع المبادرة
وهم تراجع الثورة
أثار الرئيس صالح الشكوك حول جدية التزامه بالمبادرة الخليجية بعد أن صدرت عنه إشارات متناقضة تجاهها بين القبول حيناً والرفض أحيانا أخرى. وكانت الذرائع المعلنة للرفض متعددة. تارة بسبب الخلاف حول صفة التوقيع ومن يحق له التوقيع، وتارة بالقول أنها غير واضحة وتحتاج إلى ملحق تفصيلي بالإجراءات التي ستتم بعد التوقيع، بحيث تتضمن بوضوح التزام المعارضة بإزالة مظاهر التوتر كالاعتصام والمسيرات، وإزالة الانشقاق الحاصل في الجيش، وحل مشكلة الحوثيين في صعدة، والحراك في الجنوب، وحل المشكلة الاقتصادية. وجميعها مشاكل مستعصية لا يستطيع أي طرف تسويتها في مدة الشهر المتاحة للحكومة قبل تقديم الرئيس استقالته. وكان الرئيس صالح من خلال تماطله يراهن على عدة عوامل لإفشال الثورة وبقائه في الحكم.
رهانه الأول هو أن عامل الوقت يعمل لصالح النظام، وأن الأيام تدفع باتجاه ترجع الحماس والمشاعر الثورية، وإصابة الشباب بالملل واليأس من تحقيق أهداف الثورة، مع إبداء النظام مزيدا من الثبات والصمود، والتوسع في استخدام الأدوات الأمنية والدعائية المضادة، ونجاحه في تجاوز مرحلة الخطر بعد مضي أكثر من 100 يوم، دون تحقق هدف الثورة في إسقاط النظام أو رحيل الرئيس عن السلطة.
عزز من هذا التوجه قلة الضغوط الخارجية على السلطة، على خلاف ما حصل في الثورات المجاورة التونسية والمصرية والليبية، لأن القوى الخارجية المعنية يبدو أنها تفضل التعامل مع ما يجري في اليمن على أنه أزمة لا ثورة شعبية يكون من مآلاتها سقوط النظام. وتراهن السلطات اليمنية أيضا على استعداد أطراف إقليمية مجاورة تقديم الدعم اللازم لسد العجز المتزايد في الميزانية، الناتج عن تراجع إيرادات الدولة، بما يجنب الوصول إلى حالة الانهيار الاقتصادي، وإبقاء النظام منتصباً على قدميه مهما طالت حركة الاحتجاجات الشعبية.
ويراهن الرئيس صالح أيضاً على إمكانية إجهاض الثورة من خلال تفتيت مكوناتها (غير المتجانسة)، بإثارة قضايا الخلاف والشقاق –باستخدام الأدوات الأمنية والدعائية- بين الشباب والأحزاب من جانب، وفيما بين هذه الأحزاب نفسها، وبينها وباقي مكونات الثورة؛ الحراك الجنوبي والحوثيون من جانب آخر، وبما يقود إلى تفكيك الثورة، وتجريد حركة الاحتجاجات من صفة الثورة، وإعادتها إلى مربع "الأزمة" بين النظام السياسي وأحزاب المعارضة، ليتم التعامل معها بوسائل الحوار والتفاوض بعد ذلك.
مأزق المبادرة الخليجية
صدرت إشارات عديدة من بعض قيادات الحزب الحاكم توحي أن المبادرة تمثل مأزقا للرئيس والحزب الحاكم، بسبب نص المبادرة في بندها الرابع الذي يقضي أن يقوم الرئيس بتقديم استقالته إلى مجلس النواب بعد شهر من التوقيع عليها. وهذا الخروج المبكر للرئيس صالح من السلطة يفقد النظام السياسي والحزب الحاكم محور الارتكاز فيه، بسبب سياسات دأبت ولسنوات عديدة على ربطهما بشخص الرئيس صالح، ليكون هو المحرك، والشخصية التي تلتف حولها الجماهير وقيادات المؤتمر، ولا توجد شخصية في النخبة الحاكمة الحالية قادرة على ملأ الفراغ بعد رحيل صالح من الحكم.
ورغم أن المبادرة الخليجية وضعت نوعا من التوازن في السلطة بين الحزب الحاكم واللقاء المشترك وشركائه، فنائب الرئيس من الحزب الحاكم ورئيس الحكومة من المعارضة، والحقائب الوزارية تتوزع بالمناصفة بين الطرفين، إلا أن ذلك لا يرضي الرئيس والحزب الحاكم بسبب الشكوك حول إمكانية المنافسة على منصب الرئيس الجديد في حال خروج الرئيس صالح من دائرة المنافسة، وعدم وجود شخصية بذات الوزن في الحزب الحاكم. فمن المرجح إذا أجريت انتخابات رئاسية حرة ونزيهة أن ينتقل منصب الرئيس إلى المعارضة، خصوصا بعد التعبئة المناهضة للحزب الحاكم طوال أشهر الثورة. وبالتالي فإن حزب المؤتمر الشعبي العام بعد انتخاب الرئيس الجديد سيتحول إلى شريك في السلطة، وليس الطرف المهيمن عليها كما تعود سابقاً، وقد يضعف ذلك حظوظ الحزب الحاكم في فرض تصوره للإصلاحات السياسية والدستور الجديد، وفي المنافسة على مقاعد البرلمان القادم. وكلها مخاوف غير معلنة من قبل الحزب الحاكم من أن يؤدي خروج الرئيس المبكر من السلطة إلى إضعاف الحزب الحاكم وربما انهياره بسبب احتمال تفكك مكوناته لتنضم إلى أحزاب أخرى أو تشكل أحزابا جديدة.
وبالتالي فان صيغة المبادرة بهذه الكيفية والترتيب لا تلقى قبولاً حقيقياً من الرئيس صالح ومعاونيه، وتجعلهم يتطلعون إلى إدخال تعديلات جوهرية عليها تطيل فترة بقاء صالح في السلطة حتى انتهاء الفترة الانتقالية، بما يتيح له الحفاظ على تماسك الحزب الحاكم في هذه الفترة، وترتيب وضعه بعدها، وكذلك ترتيب أوضاع النخبة الحاكمة المحسوبة على الرئيس، سواء تلك التي تربطها به علاقات قرابة، أو علاقات حزبية، والتي تعتقد أن خروج الرئيس المبكر من السلطة قبل ترتيب أوضاعها وضمان مواقعها في النظام الجديد سيلحق بها ضررا فادحاً، وقد يجعلها عرضة للمسألة والملاحقة القانونية.
ثورة غير قابلة للتراجع
هناك شبه إجماع على أن الرئيس صالح بارع في التكتيكات بكل المقاييس، وذلك ما أتاح له البقاء في السلطة طيلة 33 عاماً، كانت أشبه – كما وصفها الرئيس نفسه- بالرقص على رؤوس الثعابين. لكن في مقابل ذلك يصفه البعض بأنه يفتقر إلى الرؤية الإستراتيجية البعيدة، وإلا ما كان للبلاد أن تصل لتكون برميل بارود قابلا للانفجار في أي وقت.
والرهان على إجهاض الثورة الشعبية بإجراءات تكتيكية قد لا يفلح هذه المرة إذا قسناه بإصرار الثوار على مطالبهم رغم التكلفة الباهظة، فليست الثورة في اليمن جزءا من موجه ثورية تجتاح المنطقة فحسب، بل لوجود أسباب موضوعية داخلية عميقة هي المحفز الرئيسي للثورة، أهمها التردي الكبير للأوضاع الاقتصادية، والوصول إلى حالة الانسداد التام في الأفق السياسي بين السلطة والمعارضة، واستشراء الفساد والفقر والبطالة، وحدوث بوادر انشقاقات اجتماعية وسياسية خطيرة تهدد وحدة الدولة. وكانت بنية النظام السياسي وفلسفته عائقا رئيسيا أمام النجاح في حل هذه المشاكل، ولازالت حتى اليوم؛ فالرئيس لن يستطيع الاستغناء عن أقاربه الموزعين في مفاصل الدولة والذين يقع عليهم اليوم العبء الأكبر في إجهاض الثورة. كما انه لم يستطع القضاء على الفساد الذي يعد العامل الرئيسي لإهدار موارد البلد وتردي أوضاعه الاقتصادية، حيث يعد الفساد آلية من آليات تثبيت النظام، ووسيلة لتوزيع المنافع على الأعوان والمناصرين. واتخاذا إجراءات جادة في محاربة الفساد يعني أن يبدأ النظام في هدم دعائمه والأسس التي يستند عليها.وبالتالي حتى وإن عاد المعتصمون إلى منازلهم وتوقفت مظاهر الثورة السلمية، فإن مشاكل اليمن ستظل باقية. ثم لا يمكن العودة إلى السابق بعد أن أحدثت الثورة شقاً اجتماعياً وسياسياً عميقاً وصل إلى داخل لنظام السياسي والمؤسسة العسكرية والبنية القبلية، ومن الصعوبة بمكان تصور أن يتراجع الفريق المنادي بالثورة قبل تحقيق هدفه في رحيل الرئيس بعد أن جاهر بذلك علانية.
كما لا يمكن من جانب آخر القفز على دماء الضحايا التي سالت في هذه الثورة. وإقناع شباب معتصم في 16 محافظة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ما يقارب أربعة أشهر متواصلة العودة إلى منازلهم، ونسيان حلم الثورة وكأن شيئا لم يكن.
كما أن الثورة الشبابية الشعبية لم تستنفذ جميع أدواتها، ولازال بيدها خيارات متاحة لتصعيد الأعمال الاحتجاجية، وإرهاق النظام السياسي بالمسيرات السلمية والمواجهات اليومية، وتوسيع حالة العصيان المدني، ومحاصرة المقار الحكومية قي المحافظات وإغلاقها لشل الحياة فيها وإخراجها من سيطرة الحكومة (حتى الآن هناك خمس محافظات خارجة كلياً أو جزئياً عن سيطرة الحكومة، وتشمل حركة الاعتصام 16 محافظة من أصل 21 محافظة). وبيدها أيضا خيار الزحف السلمي على دار الرئاسة، والذي قد يكون من نتائجه تقديم تضحيات كبيرة تجبر العالم على الالتفاف حول ثورة اليمن والتعاطي الايجابي معها.
المواقف الخارجية مع المبادرة
يبدو أن الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، وتحديداً الوسطاء في الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تخشى مآل انتشار الفوضى في اليمن وتداعياته على الاستقرار الإقليمي، وظاهرة الإرهاب الدولي، وسلامة الملاحة الدولية في بحار المنطقة. وحسب التسريبات، فإنها تمارس حالياً ضغوطاً قوية على الطرفين لمنع الانزلاق إلى خيار العنف. صحيح أن بعضها يشترك مع الرئيس صالح في تفضيل التعامل مع ما يجري في اليمن على أنها أزمة وليست ثورة، إلا أنها جميعا تتفق -على ما يبدو- على أن رحيل الرئيس صالح قد حان بعد 33 عاماً انتهت بهذا الاحتجاج على حكمه قد يؤدي إلى حرب أهلية، وأن عليه أن يقوم بنقل السلطة إلى شخص آخر بطريقة سلسة وسلمية، تجنب النظام خطر الانهيار، وتبقي على الحزب الحاكم كقوة سياسية يشترك مع باقي القوى السياسية في إدارة البلاد في الفترة القادمة.
المبادرة الخليجية تواجه صعوبات قبل التوقيع وصعوبات أخرى بعد التوقيع عليها، فكل طرف من المتنازعين باليمن يريد أن يقوي بها أوراقه في معركة السلطة، وسيأخذ كل طرف منها بحسب قوته على الأرض. فالمبادرة التزام قد يضيع بين التفسيرات المتضاربة وفقدان جهة ثالثة تلزم الأطراف المتنازعة بتنفيذ بنوده.
اليمن يقف أمام المجهول قبل توقيع المبادرة أو بعد التوقيع عليها، فكما كان من غير المؤكد توقيع الرئيس صالح عليها ليس من المؤكد أن يلتزم بنص المبادرة بعد توقيعها لأنه يريدها أن توقف الاحتجاجات، ويسعى لخلق انقسام بين الشباب الرافض لرفع الاعتصام وإنهاء مظاهر الاحتجاج قبل رحيله عن السلطة، وأحزاب اللقاء المشترك التي تلتزم بموجب المبادرة بإيقاف هذه المظاهر. علاوة على أن صالح يخشى في نفس الوقت من خسران أعوانه السلطة كليا إن هو التزم بالاستقالة الواردة في المبادرة. وفي حال رفض الرئيس الالتزام بالمبادرة بعد دخول الأحزاب في خلاف وشد وجذب مع الشباب، فإن ذلك سيوجه ضربة قوية للثورة، ويجعل من الصعب إعادتها إلى وضعها قبل توقيع المبادرة.
لكن في المقابل لن يوافق الثوار على وقف الاحتجاجات قبل أن يرحل صالح، ثم إنهم يريدون إسقاط النظام كله بكل أركانه ولن يكتفوا برحيل رأسه فقط. وهذا التعارض بين الفريقين يجعل الوضع متفجرا، وحتى إذا تمكن صالح من إضعاف الثورة أو إجهاضها بمناوراته فإن أسبابها ستظل مشتعلة، وتندلع مجددا بأية شرارة.
وهم تراجع الثورة
ثورة غير قابلة للتراجع
المواقف الخارجية مع المبادرة
وهم تراجع الثورة
أثار الرئيس صالح الشكوك حول جدية التزامه بالمبادرة الخليجية بعد أن صدرت عنه إشارات متناقضة تجاهها بين القبول حيناً والرفض أحيانا أخرى. وكانت الذرائع المعلنة للرفض متعددة. تارة بسبب الخلاف حول صفة التوقيع ومن يحق له التوقيع، وتارة بالقول أنها غير واضحة وتحتاج إلى ملحق تفصيلي بالإجراءات التي ستتم بعد التوقيع، بحيث تتضمن بوضوح التزام المعارضة بإزالة مظاهر التوتر كالاعتصام والمسيرات، وإزالة الانشقاق الحاصل في الجيش، وحل مشكلة الحوثيين في صعدة، والحراك في الجنوب، وحل المشكلة الاقتصادية. وجميعها مشاكل مستعصية لا يستطيع أي طرف تسويتها في مدة الشهر المتاحة للحكومة قبل تقديم الرئيس استقالته. وكان الرئيس صالح من خلال تماطله يراهن على عدة عوامل لإفشال الثورة وبقائه في الحكم.
رهانه الأول هو أن عامل الوقت يعمل لصالح النظام، وأن الأيام تدفع باتجاه ترجع الحماس والمشاعر الثورية، وإصابة الشباب بالملل واليأس من تحقيق أهداف الثورة، مع إبداء النظام مزيدا من الثبات والصمود، والتوسع في استخدام الأدوات الأمنية والدعائية المضادة، ونجاحه في تجاوز مرحلة الخطر بعد مضي أكثر من 100 يوم، دون تحقق هدف الثورة في إسقاط النظام أو رحيل الرئيس عن السلطة.
عزز من هذا التوجه قلة الضغوط الخارجية على السلطة، على خلاف ما حصل في الثورات المجاورة التونسية والمصرية والليبية، لأن القوى الخارجية المعنية يبدو أنها تفضل التعامل مع ما يجري في اليمن على أنه أزمة لا ثورة شعبية يكون من مآلاتها سقوط النظام. وتراهن السلطات اليمنية أيضا على استعداد أطراف إقليمية مجاورة تقديم الدعم اللازم لسد العجز المتزايد في الميزانية، الناتج عن تراجع إيرادات الدولة، بما يجنب الوصول إلى حالة الانهيار الاقتصادي، وإبقاء النظام منتصباً على قدميه مهما طالت حركة الاحتجاجات الشعبية.
ويراهن الرئيس صالح أيضاً على إمكانية إجهاض الثورة من خلال تفتيت مكوناتها (غير المتجانسة)، بإثارة قضايا الخلاف والشقاق –باستخدام الأدوات الأمنية والدعائية- بين الشباب والأحزاب من جانب، وفيما بين هذه الأحزاب نفسها، وبينها وباقي مكونات الثورة؛ الحراك الجنوبي والحوثيون من جانب آخر، وبما يقود إلى تفكيك الثورة، وتجريد حركة الاحتجاجات من صفة الثورة، وإعادتها إلى مربع "الأزمة" بين النظام السياسي وأحزاب المعارضة، ليتم التعامل معها بوسائل الحوار والتفاوض بعد ذلك.
مأزق المبادرة الخليجية
صدرت إشارات عديدة من بعض قيادات الحزب الحاكم توحي أن المبادرة تمثل مأزقا للرئيس والحزب الحاكم، بسبب نص المبادرة في بندها الرابع الذي يقضي أن يقوم الرئيس بتقديم استقالته إلى مجلس النواب بعد شهر من التوقيع عليها. وهذا الخروج المبكر للرئيس صالح من السلطة يفقد النظام السياسي والحزب الحاكم محور الارتكاز فيه، بسبب سياسات دأبت ولسنوات عديدة على ربطهما بشخص الرئيس صالح، ليكون هو المحرك، والشخصية التي تلتف حولها الجماهير وقيادات المؤتمر، ولا توجد شخصية في النخبة الحاكمة الحالية قادرة على ملأ الفراغ بعد رحيل صالح من الحكم.
ورغم أن المبادرة الخليجية وضعت نوعا من التوازن في السلطة بين الحزب الحاكم واللقاء المشترك وشركائه، فنائب الرئيس من الحزب الحاكم ورئيس الحكومة من المعارضة، والحقائب الوزارية تتوزع بالمناصفة بين الطرفين، إلا أن ذلك لا يرضي الرئيس والحزب الحاكم بسبب الشكوك حول إمكانية المنافسة على منصب الرئيس الجديد في حال خروج الرئيس صالح من دائرة المنافسة، وعدم وجود شخصية بذات الوزن في الحزب الحاكم. فمن المرجح إذا أجريت انتخابات رئاسية حرة ونزيهة أن ينتقل منصب الرئيس إلى المعارضة، خصوصا بعد التعبئة المناهضة للحزب الحاكم طوال أشهر الثورة. وبالتالي فإن حزب المؤتمر الشعبي العام بعد انتخاب الرئيس الجديد سيتحول إلى شريك في السلطة، وليس الطرف المهيمن عليها كما تعود سابقاً، وقد يضعف ذلك حظوظ الحزب الحاكم في فرض تصوره للإصلاحات السياسية والدستور الجديد، وفي المنافسة على مقاعد البرلمان القادم. وكلها مخاوف غير معلنة من قبل الحزب الحاكم من أن يؤدي خروج الرئيس المبكر من السلطة إلى إضعاف الحزب الحاكم وربما انهياره بسبب احتمال تفكك مكوناته لتنضم إلى أحزاب أخرى أو تشكل أحزابا جديدة.
وبالتالي فان صيغة المبادرة بهذه الكيفية والترتيب لا تلقى قبولاً حقيقياً من الرئيس صالح ومعاونيه، وتجعلهم يتطلعون إلى إدخال تعديلات جوهرية عليها تطيل فترة بقاء صالح في السلطة حتى انتهاء الفترة الانتقالية، بما يتيح له الحفاظ على تماسك الحزب الحاكم في هذه الفترة، وترتيب وضعه بعدها، وكذلك ترتيب أوضاع النخبة الحاكمة المحسوبة على الرئيس، سواء تلك التي تربطها به علاقات قرابة، أو علاقات حزبية، والتي تعتقد أن خروج الرئيس المبكر من السلطة قبل ترتيب أوضاعها وضمان مواقعها في النظام الجديد سيلحق بها ضررا فادحاً، وقد يجعلها عرضة للمسألة والملاحقة القانونية.
ثورة غير قابلة للتراجع
هناك شبه إجماع على أن الرئيس صالح بارع في التكتيكات بكل المقاييس، وذلك ما أتاح له البقاء في السلطة طيلة 33 عاماً، كانت أشبه – كما وصفها الرئيس نفسه- بالرقص على رؤوس الثعابين. لكن في مقابل ذلك يصفه البعض بأنه يفتقر إلى الرؤية الإستراتيجية البعيدة، وإلا ما كان للبلاد أن تصل لتكون برميل بارود قابلا للانفجار في أي وقت.
والرهان على إجهاض الثورة الشعبية بإجراءات تكتيكية قد لا يفلح هذه المرة إذا قسناه بإصرار الثوار على مطالبهم رغم التكلفة الباهظة، فليست الثورة في اليمن جزءا من موجه ثورية تجتاح المنطقة فحسب، بل لوجود أسباب موضوعية داخلية عميقة هي المحفز الرئيسي للثورة، أهمها التردي الكبير للأوضاع الاقتصادية، والوصول إلى حالة الانسداد التام في الأفق السياسي بين السلطة والمعارضة، واستشراء الفساد والفقر والبطالة، وحدوث بوادر انشقاقات اجتماعية وسياسية خطيرة تهدد وحدة الدولة. وكانت بنية النظام السياسي وفلسفته عائقا رئيسيا أمام النجاح في حل هذه المشاكل، ولازالت حتى اليوم؛ فالرئيس لن يستطيع الاستغناء عن أقاربه الموزعين في مفاصل الدولة والذين يقع عليهم اليوم العبء الأكبر في إجهاض الثورة. كما انه لم يستطع القضاء على الفساد الذي يعد العامل الرئيسي لإهدار موارد البلد وتردي أوضاعه الاقتصادية، حيث يعد الفساد آلية من آليات تثبيت النظام، ووسيلة لتوزيع المنافع على الأعوان والمناصرين. واتخاذا إجراءات جادة في محاربة الفساد يعني أن يبدأ النظام في هدم دعائمه والأسس التي يستند عليها.وبالتالي حتى وإن عاد المعتصمون إلى منازلهم وتوقفت مظاهر الثورة السلمية، فإن مشاكل اليمن ستظل باقية. ثم لا يمكن العودة إلى السابق بعد أن أحدثت الثورة شقاً اجتماعياً وسياسياً عميقاً وصل إلى داخل لنظام السياسي والمؤسسة العسكرية والبنية القبلية، ومن الصعوبة بمكان تصور أن يتراجع الفريق المنادي بالثورة قبل تحقيق هدفه في رحيل الرئيس بعد أن جاهر بذلك علانية.
كما لا يمكن من جانب آخر القفز على دماء الضحايا التي سالت في هذه الثورة. وإقناع شباب معتصم في 16 محافظة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ما يقارب أربعة أشهر متواصلة العودة إلى منازلهم، ونسيان حلم الثورة وكأن شيئا لم يكن.
كما أن الثورة الشبابية الشعبية لم تستنفذ جميع أدواتها، ولازال بيدها خيارات متاحة لتصعيد الأعمال الاحتجاجية، وإرهاق النظام السياسي بالمسيرات السلمية والمواجهات اليومية، وتوسيع حالة العصيان المدني، ومحاصرة المقار الحكومية قي المحافظات وإغلاقها لشل الحياة فيها وإخراجها من سيطرة الحكومة (حتى الآن هناك خمس محافظات خارجة كلياً أو جزئياً عن سيطرة الحكومة، وتشمل حركة الاعتصام 16 محافظة من أصل 21 محافظة). وبيدها أيضا خيار الزحف السلمي على دار الرئاسة، والذي قد يكون من نتائجه تقديم تضحيات كبيرة تجبر العالم على الالتفاف حول ثورة اليمن والتعاطي الايجابي معها.
المواقف الخارجية مع المبادرة
يبدو أن الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، وتحديداً الوسطاء في الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تخشى مآل انتشار الفوضى في اليمن وتداعياته على الاستقرار الإقليمي، وظاهرة الإرهاب الدولي، وسلامة الملاحة الدولية في بحار المنطقة. وحسب التسريبات، فإنها تمارس حالياً ضغوطاً قوية على الطرفين لمنع الانزلاق إلى خيار العنف. صحيح أن بعضها يشترك مع الرئيس صالح في تفضيل التعامل مع ما يجري في اليمن على أنها أزمة وليست ثورة، إلا أنها جميعا تتفق -على ما يبدو- على أن رحيل الرئيس صالح قد حان بعد 33 عاماً انتهت بهذا الاحتجاج على حكمه قد يؤدي إلى حرب أهلية، وأن عليه أن يقوم بنقل السلطة إلى شخص آخر بطريقة سلسة وسلمية، تجنب النظام خطر الانهيار، وتبقي على الحزب الحاكم كقوة سياسية يشترك مع باقي القوى السياسية في إدارة البلاد في الفترة القادمة.
المبادرة الخليجية تواجه صعوبات قبل التوقيع وصعوبات أخرى بعد التوقيع عليها، فكل طرف من المتنازعين باليمن يريد أن يقوي بها أوراقه في معركة السلطة، وسيأخذ كل طرف منها بحسب قوته على الأرض. فالمبادرة التزام قد يضيع بين التفسيرات المتضاربة وفقدان جهة ثالثة تلزم الأطراف المتنازعة بتنفيذ بنوده.