بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، والصلاة والسلام على أول المجاهدين نبينا محمد سيد العرب والعجم ، وعلى آله وصحبه الميامين أجمعين ، الذين قاتلوا تحت لوائه ونصروا دين الله ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، ممن كانوا لهم جنوداً في فتح الفتوح ، وعلى من اهتدى بهديهم وعمل مثل عملهم الجهادي إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن القضية العراقية قد أصبحت شديدة التعقيد بعد قبول العراق لقرار الأمم المتحدة بالتفتيش عن أسلحته وسجلاته وكشف أسرار المتعاملين معه ، ومع أن حيثيات القرار ونصوصه شديدة القسوة والانحياز إلى الرؤية الأمريكية وتؤدي إلى نفس نتائج الحرب من استسلام الحكومة العراقية التام للرغبات الأمريكية وفقدان الاستقلال وتدمير الأسلحة : إلا أن أمريكا ما زالت على وتيرةٍ عنيفة من الدعوة للحرب وتصعيد الأمور والتعبئة النفسية لشعبها وتكثيف الدعاية والحملة الإعلامية التي تهدف إلى غسل أدمغة جميع الشعوب وإقناعها بحق ٍ موهوم لأمريكا في التوكل عنهم للتدخل في تدمير أي دولة تشاء ، مما يجعلنا نرجح حصول الحرب ترجيحاً جازما ، تحت غطاء من القرار الدولي المنتزع بطريقة ملتوية عبر تأثير إرهاب جميع الدول وتهديدها ، أو بدون غطاء دولي .
وهذه الدراسة الشرعية السياسية لا تحاول أن تضيف جديداً إلى الفتاوى الصريحة المتكاملة لكبار علماء الإسلام في العصر الحاضر ، أصحاب الفضيلة الشيوخ الأساتذة : عبد الكريم زيدان ، ويوسف القرضاوي ، وعبد الله قادري الأهدل ، وفيصل مولوي ، ومَن جرى مجراهم وأفتى بمثل ما أفتوا به من حرمة التعاون مع الحملة الأمريكية ، وإنما تحاول تقريب فتواهم من نيل الإجماع بإضافة صوت آخر ، وحث مَن لم ينطق بعد من علماء الشرع على إفتاء مثيل يحصل به الإجماع ، فيتأكد المعنى ، ثم تجديد إسماع قول الشرع لجمهور المسلمين مرة بعد مرة ، وبصيغات عديدة ، ليرسخ في القلوب ، والاستشهاد بشواهد واقعية طرأت على القضية خلال الشهور الثلاثة الأخيرة بعد صدور الفتاوى المذكورة ، ورد شبهات المتأولين الذين يجوزون لأنفسهم التعاون ، مع إضافة لمسة عراقية خاصة إلى المنطق الفقهي والسياسي المتداول ، مستمدة مما نعلم من طبيعة العراقي وخصوصية بعض جوانب القضية العراقية ، ربما تغيب عن غير العراقي . ثم في هذه الفتوى زيادة حوار صريح مع المعارضة العراقية يؤسس الكثير من المعاني الخاصة النسبية في منطق التحريم والاحتياط تحتاجه المعاني المطلقة التعميمية الواردة في فتاوى العلماء ، وتكون تفسيراً لها يوضحها ويؤكدها ، وذلك هو الذي حركني للقول والمشاركة رغم وفرة القول المبارك الذي ورد في فتاوى شيوخي الأفاضل ، ولذلك فإني سوف لا أكرر إيراد النصوص الشرعية التي وردت في إفتاءات شيوخي ، وإنما أركز على بيان الموازنات الشرعية وعلى الأحوال العراقية .
وواضح أن السبب الذي تتستر وراءه أمريكا من زعمها إزالة صدام يختلط بالمصالح الأمريكية المحضة الهادفة إلى فرض هيمنتها وسيطرتها العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية والاقتصادية على المنطقة العربية كلها وبقية العالم الإسلامي ، تبعاً لخططها الاستراتيجية التي حددت مفهومها للنظام العالمي الجديد والعولمة ذات القطب الواحد ، وبذلك تظهر خطورة الأمر في الميزان الشرعي ، بل وفي الميزان الإنساني العام ، وموازين القانون الدولي : أنه عدوان ُأمة على ُأمة ، ودولة على دولة ، وقوي على ضعيف ، ويزيد الوصف الشرعي على ذلك أنه عدوان بلد كافر على بلاد إسلامية ، وفيه تحريض لدول كافرة أخرى على فرض هيمنتها الاستعمارية بدورها على شعوب إسلامية ترزح تحت سطوتها ، فقد سارعت روسيا إلى الإعلان عن تدابير قمعية جديدة في الشيشان ، وبدأت الهند التحرش بباكستان وبالمسلمين وقادتهم في كشمير وغيرها ، كل ذلك تحت غطاء التحرش الأمريكي ، مما يجعل الفتوى ظاهرة الأدلة وتامة المنطق في حِل وتسويغ دفاع دولة العراق عن نفسها ، ووجوب مساعدة دول العالم الإسلامي لها بحدود الاستطاعة ، وتحريم تعاون أي دولة إسلامية أو فرد مسلم مع أمريكا في حربها هذه . ويزيد الأمر وضوحاً أن هدف أمريكا المعلن هو إزالة الأسلحة العراقية الهجومية المتقدمة ، والتي تشكل تهديداً لإسرائيل ، مما يكشف عن قيام أمريكا بهذا الحرب ، في جانب منها ، وكالة عن إسرائيل ، خوفاً من احتمالات المستقبل . والذي نفهمه أن امتلاك هذه الأسلحة إنما هو حق من حقوق أمة الإسلام مثلما هو حق الأمم الأخرى ، وارتباطها بالمصالح الشخصية لحاكم يصنعها هو ارتباط وقتي لا يلغي ملكية الأمة لها ، كما أن سوء استعمال الحاكم لها إنما هو سوء قليل في مقابل فوائد جزيلة يمكن أن تجنيها الأمة في صراعها مع إسرائيل .
ولا تطمع هذه الفتوى أن تغيّر الموقف التحالفي لتركيا مع أمريكا ، فإن قرارها لا تغيره موعظة ، ولا في الموقف الرخو لكل دول العالم العربي والإسلامي التي تمشي على استحياء وتنكر بنبرة خفيضة ، إذ الأمر أكبر منها ، وقد أبدت الولاء لأمريكا في الأول وفتح بعضها للجيش الأمريكي القواعد ، فما تستطيع البراء في الآخر ، ولكن مطمح هذه الفتوى أن توقظ بعض الحميّة في رجال مجموعتين اختلط عليهما الأمر اختلاطاً شديداً مزج الحق بالباطل ، فصعب التمييز :
المجموعة الأولى : رجال المعارضة العراقية الشيعية ومَن حالفهم من العلمانيين العرب عبر مؤتمر لندن ، فإنهم ارتضوا العمل المشترك مع أمريكا لإزالة صدام ، وذلك خطأ كبير ، ويستبدل ظلماً بظلم ، والظلم الأمريكي سيكون مرهقاً للعراق ، وطويل المدى بالقياس إلى سيطرة صدام ، والطريق الإسلامي الأصيل في التغيير السياسي يكمن في تعليم الشعب طريق التضحية ونيل حقوقه وإن طال الوقت ، وشأننا مع الحاكم شأن داخلي ، وإن كانت الاستعانة ضرورة فأحرى أن تكون بحكام بلاد الإسلام وجمهور المسلمين ، وليس عبر دولة كافرة تهمها مصالحها الاستعمارية ، وكان أجدر بالمعارضة أن تقتدي بالمواقف الاستقلالية العفيفة لجماعة الإخوان المسلمين وطريقتهم في الجمع بين معارضة الاستبداد والبراءة من أمريكا ، والتوكل على الله تعالى في جعل طريق الشعب إلى الحرية قصيرا ، وإدارة النزاع عبر حمل هوية فكرية ذاتية مستنبطة من عقيدتنا الإسلامية وشرعنا الحنيف ، فلعل هذه الفتوى تكون فيها ذكرى لهذه المعارضة فتنتبه إلى مخاطر التعاون مع دول استعمارية ، فتكون إفاقة ، ويحصل استيعاب لتجارب في بلاد أخرى جثمت أمريكا فيها على صدور الشعوب ، محتجة بالنجدة ، بل ليس في خطب الرئيس بوش ما يشير إلى أنه ينجد أهل العراق ويغير الحكم برؤية ديمقراطية تنتظرها المعارضة ، وإنما هو يركز على خلع صدام وتنصيب جنرال أمريكي ويواصل منع صناعة السلاح العراقي المتطور ، وما كان الأمر خافياً على قادة المعارضة ، لأنهم في غمرة التعاون غير المتحفظ مع أمريكا أعلنوا استعدادهم ، إذا استلموا الحكم من اليد الأمريكية ، لتحجيم قدرات العراق العسكرية ، وإبرام الصلح مع إسرائيل ، وأن يطبقوا سياسات التطبيع ، وتلك أخطر نتائج هذه الحرب ، لأنها توفر الغطاء الأمني الذي تحتاجه إسرائيل عبر تحجيم الجيش العراقي وإلغاء صناعاته للسلاح المتطور والدخول في خطة السلم .
والمجموعة الثانية : الإخوة الأكراد في المعارضة العراقية ، من الحزبين العلمانيين ومن حالفهم من بقية العلمانيين وحتى التجمعات الإسلامية الكردية ، عبر مؤتمر لندن أيضا ، فإنهم في غمرة عشقهم لاستقلالهم ، وفي ثنايا استذكارهم لبطشٍ نالهم من صدام : أذنوا أن تكون أرض كردستان منطلقاً للجيوش الأمريكية وقاعدة ارتكاز لاستعمار العراق ، وهذا قرار سياسي يحفه الخطأ من جميع وجوهه ، وأخطر ما فيه أنه مجازفة تؤدي إلى انفصام العلاقات الاجتماعية داخل كتلة الشعب العراقي بعد الانفصام السياسي مع الحكومة ، وسيكون ذلك شرخاً اجتماعياً يتعمق بمستوى ما للجوانب النفسية والمعنوية من عمق في تكوين ذاكرة الشعوب ، ومَن وافق من قادة الأحزاب الكردية على الحرب ورحّب بها فقد ارتكب مخاطرة تنال المستقبل الكردي قبل غيره . هذا فضلاً عن أن توقيت الخطوة الاستقلالية يأتي في الزمن غير المناسب ، وبوسيلة حربية استعمارية تدمر كل العراق وتقتل وتعيق الملايين من أبناء الشعب ، والثمن بشع وضخم جداً وأكبر بكثير من سلعة الاستقلال المشتراة من الأمريكان ، والنشيد القومي الكردي سينشد على أنغام آهات ملايين الأيتام والمعوقين والمرضى بأمراض مزمنة ، أو أنين الفقراء الجائعين الذين سيحرمون الزراعة وأموال النفط معاً ، والقومي الكردي الذي يرى في ذلك انتقاماً لما جرى من ظلم حكومي في كردستان ويتشفى بذلك : لن يكون مصيباً ، إذ المؤمن يربأ بنفسه عن مثل هذا الشعور الثأري ، والخطأ لا يعالج بالخطأ ، وهو إحساس طارئ في الساحة الكردية ، فللأكراد تاريخ ناصع البياض مليء بصفحات الشرف في الوفاء لقضايا الإسلام العامة ، بها نلهج ولها نذكر وننشر قبل الأكراد أنفسهم ، وهي من مفاخرنا الإسلامية العامة التي رفعت رؤوسنا من قبل ، ومنها نستمد ضوابط المواقف الصحيحة أمام الهجمة الأمريكية الحاضرة .
وانطلاقاً من مثل هذا الاعتزاز العربي بالمساهمات الكردية : أرسل مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الإمام الشهيد حسن البنا برقية إلى الحكومة العراقية سنة 1945 م أثناء الثورة البارزانية يناشدها أن تحل القضية الكردية عبر الحوار وتحقيق المساواة ورفع الظلم لا عبر السلاح والقمع ، والبرقية منشورة في مجلة الإخوان المسلمين ، وتعتبر وثيقة عظيمة الدلالة تبين بوضوح كامل براءة الإخوان وأجيالهم وقياداتهم المتتالية بمصر والعراق والعالم من أي شعور سلبي تجاه إخوانهم الأكراد ، وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الوثيقة إشارة جازمة إلى عراقة وقدم الوعي السياسي لدى الإخوان ، وحيوية الفكر السياسي الإسلامي الدعوي في أيام قديمة لم تكن القضية الكردية خلالها قد اشتهرت بعد ، ثم زار وفد من قيادة الإخوان في العراق أواسط الستينات الملا مصطفى البارزاني ، وشرح له بصراحة الحرج المستولي على الإخوان من الموافقة على انفصال كردستان انطلاقا من مفهومهم الشرعي في وجوب وحدة الأمة ، ولكنهم يقرون بوجوب منح الحقوق السياسية واللغوية والإدارية والتراثية لكردستان وتقرير حصة في الميزانية مناسبة ، وأبدى الملا مصطفى آن ذاك تفهماً لاجتهاد الإخوان وشكرهم وصرح بأنه يود أن لو كان مجرد شرطي في الحكومة الإسلامية التي يدعو لها الإخوان إن قامت . واستمر الإخوان في العراق والخليج على سنة الوفاء هذه ، وكانت المساعدات الإنسانية الإغاثية في السنوات الأخيرة التي قدمها الإخوان لكردستان مباشرة أو بالواسطة أكبر دليل على صدق توجههم والروح الإيجابية التي تسيطر عليهم في التعامل مع القضية الكردية ، فكم من مسجد بنوه أو يتيم كفلوه أو دواء عالجوا به ، وليست تلك مِنـّة ، بل إعلام لمن لا يعلم بالمحركات الإيمانية التي تحرك الإخوان .
لكن جوانب الباطل والظلم مهما اتضحت في هذه الحرب فإنها عندي لا تحمل على الفتوى بفرضية حمل كل مسلم للسلاح والمشاركة في الدفاع عن العراق ، كما ذهب المفتون ، وذلك لعدم توفر جانب الأمن الجهادي ، ووقوع المجاهد بين محنتين إذا جاهد : محنة ملاقاة العدو الأمريكي ، ومحنة التصرفات غير الموزونة ولا المنضبطة بمعيار أو خطة ، التي يمكن أن يبديها صدام نفسه وأعوانه من منتسبي حزب البعث والمخابرات ، فإن الغوغائية هي الغالبة ، والقياس على السوابق يشير إلى احتمال المجازفة ، والعدوان على شخصية المجاهد المنجد الحُر الذي تحركه المحركات الإسلامية للدفاع عن أرض الإسلام ومصالح المسلمين ومكتسبات الأمة ، ويأبى الغوغائيون إلا أن ينحرفوا بها نحو تمجيد الاستبداد ، وقد يلقى المجاهد رَهَقاً ويصادف التفافاً عليه ، ولرجحان توقع ذلك أرى تجويز مشاركة المسلم متطوعاً في هذه الحرب في الصف العراقي ، من دون إيجاب ذلك ، وتسويغ تأخر مَن يتأخر ، والاستسلام للقدر الرباني إذ هو يجري في مجاريه ، أينما ستستقر ، لانعدام " الأمن الجهادي " ، ثم يكون لواذ الخطباء والوعاظ والكتّاب السياسيين بالإنكار القولي إذا استطاعوا ، واعتصام سواد المسلمين المستضعفين بالإنكار القلبي على أمريكا ونظامها العالمي ومَن يحالفها ويعينها ، وليس ذلك مما نزهد فيه أبداً ، فأن هذا الإنكار أول خطوات الاستدراك الواعي والرد المخطط الطويل النَفَس على الظلم الأمريكي وعلى الحكام المستبدين معا ، والتربية الفردية على موجب عقيدة التوحيد وأصول الشرع المبين هي نقطة الانطلاق ، وعلى أساسها يكون العمل الإسلامي الدعوي الجماعي المنظم ، والتحالف العريض من أجل التغيير ، والمؤمن يفتأ يرنو إلى الحرية ، ويسير نحوها ، لكنها لن تُهدى إليه من دولة تنافس من أجل النفط ، ولا عبر استخذاء لإسرائيل في صورة سِلم ، ولا عبر طموحات رئيس أمريكي يغامر بمستقبل بلاده ويدخل حرباً من أجل رشاوى وعمولات بليونية تغدقها عليه وعلى فريقه الأمني شركات النفط ومعامل السلاح ، والجهاد العيني الذي أفتانا به السادة العلماء أراه يكون بعد الحرب ، لدفع الاحتلال وإجلاء المستعمر عن بلادنا إذا انتصرت أمريكا ولم يستطع الجيش العراقي وأهل العراق المقاومة ، وأما أثناء الحرب فإني أخشى أن تكون مزاجية صدام أخطر على المجاهدين من نوايا الجنرالات الأمريكيين ، أو أن تكون فوضوية الحزبي البعثي أو العميل المخابراتي أضر من حقد الجندي الأمريكي ، ويشهد لصواب اجتهادي هذا في التوقف عن القول بعينية الجهاد على غير أهل العراق أننا لا نعلم استجابة جمهرة للفتوى العينية وذهابها للجهاد حتى الآن ، مما يدل على أنهم يعلمون ما في ذلك من مجازفة ، بينما الإيمان ما يزال عامرا في قلوب كثير من الناس والاستجابة للجهاد الواعي ممكنة ، قياسا على ذهاب الألوف إلى الجهاد الأفغاني الأول .
والتأمل البسيط يجعل الهدف الحقيقي من الحرب مفضوحاً ، فأن إزالة صدام لا تستدعي حرباً ، ولم يبق عنده شيء من سلاح دمار شامل ، وإنما هو النفط الذي يغري ، فإن دراسات الخبراء تشير إن أن الاحتياطي النفطي العراقي هو أكبر احتياطي في العالم ، خلافاً لما يعلن من أن احتياطي أرامكو هو الأكبر ، وكادت فرنسا وألمانيا أن تحصلا على امتياز حقل مجنون العملاق في أواخر الثمانينات ، ففوتت أمريكا الفرصة عليهما عبر إغراء صدام باحتلال الكويت ثم الانقضاض عليه ، وبدلت حرب الخليج الثانية جميع الخوارط والتراتيب القديمة ، وفرضت أمريكا نفسها عالمياً كقطب أوحد لا معارض له ، و أرخصت أسعار النفط بما يحفظ مصالح ميزانيتها ، حتى قال بعض خبراء النفط العرب أن ما فقدته البلاد العربية عبر الثمن النازل عن المقدار الواجب اللائق يقدر بأكثر من ألف وخمسمائة مليار دولار خلال هذه السنوات الأخيرة بعد تحرير الكويت ، ثم هي أمريكا تندفع اليوم لإكمال سيطرتها على نفط العالم بعامة ونفط العراق و الخليج بخاصة ، وتجعل ذلك ركناً في خطتها الاستراتيجية المقدمة إلى الرئيس بوش الابن قبل انتخابه بستة أشهر ، إذ أن العالم بعد سبع سنوات من الآن سيستورد من العراق فقط ربع كمية الاستهلاك اليومي ، ومن الخليج نصف الكمية ، فإذا أخذنا في الاعتبار أن نفط إيران معني من قبل أمريكا أيضاً ، ونفط الجزائر وليبيا والسودان : فإن اعتماد العالم في المستقبل سيكون بصورة تامة على النفط العربي إلا قليلا ، ومن الأسرار التي لا يعلمها إلا قليل من الناس أن أمريكا قد اكتشفت من قبل أن السودان كله يطفو فوق بحيرة من النفط ، لكنها لم تستخرجه وتركته ليكون الاحتياطي الرئيس إذا اضطربت أحوال الخليج وأغلقت قناة السويس ، وفي خطتها أن تستخرجه وتبني أنبوباً يوصله إلى سواحل غرب أفريقيا ليشحن إليها بحرية عبر المحيط بعيداً عن المضايق ، فجاءت حكومة الإنقاذ الإسلامي في السودان وتحدت الإرادة الأمريكية واستخرجته قبل أوانه الذي حددته الاستراتيجية الأمريكية ، ومن ثم كان الغضب الأمريكي على السودان ، وبعد إنجاز حربها واحتلال العراق سيكون أول بلد تصب عليه غضبها هو السودان ، لوقف عمليات الاستخراج والاحتفاظ بنفط السودان كاحتياطي مستقبلي فقط يوفر لها الطاقة .
كذلك تشير دراسات الخبراء إلى أن أمريكا لا تريد احتكار نفط العراق فحسب ، بل واستخدامه كسلاح سياسي فعال ليس تجاه دول العالم الثالث فقط ، بل وتجاه دول أوربا الكبرى أيضاً بحرمانها من شرائه إذا كانت تشاكس أمريكا وتتمرد ، وهذا هو بعض سر الموقف الفرنسي الألماني الرافض للحرب ، ثم تؤكد الأخبار أن أقطاب الإدارة الأمريكية : بوش ومن قبله أبيه وجده ، وديك تشيني ، ورامسفيلد ، وكونداليزا رايس : كلهم لهم شركات نفطية ستذهب لها بعض حصص نفط العراق والخليج ، وأفصح سقوط الطائرة الإغاثية في باكستان قبل أيام عن عمل خفي لوضع هندسة مرور أنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى عبر أفغانستان وصولاً إلى الخليج ، مما يعتبر الهدف الرئيس من غزو أمريكا لأفغانستان ، واستترت من أجله بستار مكافحة الإرهاب بعد أن أغرت ومكّنت الشباب المتحمس من تنفيذ عمليات اختطاف الطائرات ودك أبراج نيويورك ، ثم عادت تولول وتطبق خططها الاستعمارية تحت غطاء مقاومة الإرهاب ، وحري أن ننظر إلى ما في ثنايا قصة الطائرة من امتلاك جمعية إغاثية غربية لها ، فقد أصبح جزء من العمليات الاستخبارية التجسسية يطبق في بلادنا تحت مظلة الإغاثة ، كالذي كان ويكون من إعانة حركة تمرد جنوب السودان باسم الإغاثة الإنسانية وتوزيع السلاح هناك بطائرات الإغاثة .
وقد صرح بوش بأن آبار النفط العراقي ستكون وديعة عند أمريكا لحساب الشعب العراقي ، فأعاد إلى ذاكرتنا مَثل إيداع الشحم لدى القط .
وفي القصص أن الأسد استعان بالذئب والثعلب في يوم صيد ، فصادوا جملاً وغزالاً وأرنبا ، فضحك الثعلب وقال بفضول : قد جاءت النسبة قدرية واضحة التناسب : فالجمل لمولانا الملك ، والغزال للذئب ، والأرنب لي . فلطمه الأسد وأسال دمه على وجهه ، وألتفت إلى الذئب يستشيره ، فقال الذئب : بل الجمل تأكله الآن أيها الملك ، وُأحب لك أن تتلهى عصراً بين الوقتين بالأرنب ، ثم يكون عشاؤك الغزال فإنه أخف على المعدة عند النوم . فابتسم الأسد وقال : هذه هي الحكمة بعينها . من أين تعلمتها ؟ قال : رأيتها في الكتاب الذي كتب بالمداد الأحمر ، يعني وجه الثعلب الدامي .
فوديعتنا لدى الملك بوش لن تقسم إلا كذلك ، ودروس أمريكا لشعوب الأرض هي الكتاب البليغ الفصيح الأحمر ، وستسيطر على العراقيين أحزان وآلام نتيجة سعة التدمير ، وكثرة القتلى وجريان الدماء ، والأمريكي المنتصر سيتصرف بزهو وخيلاء وتكبّر ، ويتبجح علانية ، وستدون مكتبة واسعة من كتب سطرت بالمداد الأحمر التهديدي لكل البشرية ، وليس كتاباً واحدا .
وهذه بريطانيا حاربت في فوكلاند قبل عشرين سنة تحت شعار توريد الديمقراطية إلى الأرجنتين ، وهي الآن تستنبط النفط من تلك الجزيرة النائية التي عجب السذج من اهتمام بريطانيا بها ذاك اليوم ، وصار المثل الفوكلاندي واضحاً في قيادة حروب النفط بشعارات التباكي على الديمقراطية .
لكن التأمل يدلنا على أن هذه الأهداف النفطية والسياسية التي تريد أمريكا الوصول إليها عبر الحرب تعتبر ثانوية بالنسبة إلى الهدف الرئيس الأهم المتمثل في محاولة تحطيم العراق وجيشه وتدمير البنية الصحية والنفسية المعنوية للشعب العراقي بحيث يعجز عن دخول حرب مع إسرائيل ، فأمريكا تقوم بهذه المهمة نيابة عن إسرائيل ، إذ اليهود يجدون في التلمود أن خراب دولتهم الثانية هذه سيكون على أيادي جند ُأولي بأس شديد يخرجون من أرض بابل كما خرج نبوخذ نُصّر الذي خرب دولتهم الأولى قبل آلاف السنين وساقهم أسرى ، وإنما صممت أمريكا مواصفات حصار العراق وامتداد وقته بحيث تحصل حالة سوء تغذية في عموم الشعب طويلة الأمد تؤدي إلى وهن عام وإحداث طفرة وراثية تنتج المرض المنغولي وأنواع الإعاقة والتخلف إلى درجة يضمر معها الذكاء وعموم مستلزمات الأداء الحربي لشعب العراق وتحصل حالة انكفاء عام واهتمام بالآلام ، فينام اليهود عندئذ بأمان ، ولكن الله سلـّم ، وشاءت حكمته أن يكون التمر الكثير في العراق أفضل غذاء غني بأنواع المعادن والفيتامينات ، فأنجد أهل العراق ، وفشل الحصار في تحقيق هدفه ، وصار تحطيم هذا الشعب الجسور من مهمات الحرب الاستعمارية الأمريكية الجديدة ، بحيث صممت لنشر الموت الذريع في هذا الشعب الأبي ، أو الإعاقة الدائمة ، عبر استعمال آلاف الصواريخ والقنابل الذكية الليزرية وقنابل أخرى تسمى قنابل المايكرو ويف تعطل جميع الأجهزة الألكترونية وتحرق جلود الناس ، وربما استعملت أمريكا الأسلحة النووية والقنايل النيوترونية ، كما صرح رامسفيلد وزير دفاعها ، لنشر الإعاقة فيمن تناله إشعاعاتها ، مما يؤيد الشكوك في أن الحرب إنما تراد لتحطيم الشعب والبنية الصحية والطاقات الصناعية والزراعية ، وحرق النخيل الذي يتحدى التجويع ، ثم تتولى خطة إفقار العراق على المدى الطويل إتمام المهمة الشريرة ، وتحول مياه أنهاره إلى إسرائيل فتيبس الحقول ، وتحول أثمان نفطه إلى إطفاء الديون وسداد العقوبات وكلفة الحرب ، فتكون الكارثة الصحية ويحصل الانهيار المعنوي ، وإنما ملاذنا رحمة الله تعالى لعباده المستضعفين ، والثقة به : أنه يدافع عن الذين آمنوا ، ويثأر للمظلوم ، مع العلم أن مدير برنامج الغذاء العالمي قد صرح أمس بأن المتوقع أن الحرب ستصيب ما بين خمسة إلى عشرة مليون عراقي بنقص الغذاء ، وأن جمعيته لا تستطيع إلا مساعدة تسعمائة ألف فقط .
وإمعاناً في الاحتياط وفي تحقيق الأمن الإسرائيلي بصورة تامة : تجنح الخطة الأمريكية إلى استثمار الانتصار الحربي القادم لإجبار الحكومة العراقية العميلة التي سينصبونها على انتهاج ثلاثة مناهج سلبية تمنح لإسرائيل أمنها :
أولها : الاعتراف الرسمي بإسرائيل ، وعقد معاهدة على غرار معاهدات السلام التي وقعها السادات وغيره ، والقبول بالتطبيع السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع اليهود ، وبذلك تتوفر حماية دائمة لإسرائيل وفق القانون الدولي وأنظمة الأمم المتحدة وحلف الناتو تمنع العراق من شن حرب في المستقبل على إسرائيل أو ألحاق أي نوع من الأذى بها مهما صغر ، وذلك يعني تعطيل فريضة الجهاد والمفاصلة الإيمانية الواجبة تجاه أخبث الكفار . ويتضمن هذا الحال نزع الهوية الإسلامية للشعب العراقي عبر المناهج الدراسية والتلقين الإعلامي الكثيف ، وغرس تربية غربية جاهلية بديلة أمريكية الأنماط والأذواق ، وفرض هزيمة معنوية وفرض شعور يأس واستسلام للعدو . والجدير بالذكر أن رسائل كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي إلى أقطاب المعارضة العراقية اشترطت عليهم صراحة وجوب الاعتراف بإسرائيل ، وقبلت المعارضة ذلك .
ثم ثانياً : تسريح الجيش العراقي ، وبعثرة خبرته القتالية التي تراكمت عبر حربه مع إيران بخاصة ، وتشتيت معادنه القيادية ، ونزع أسلحته ، ومنع احتمالات تطويرها . وهذا شرط واضح أيضاً في رسائل مستشارة الأمن القومي قبلته المعارضة ، وفيه ما فيه من توفير الأمن لإسرائيل ، بل جميع حكام العرب بلا استثناء يلوكون نصيحة للعراق تحثه على التنفيذ الكامل لقرار الأمم المتحدة رقم 1441 ونزع أسلحة الدمار الشامل ، وكأنهم يخاطبون إسرائيل ، وكان المستشار الألماني شرويدر أحرص منهم على قول الحق ، فأوجب في خطابه أمام البرلمان الألماني نزع أسلحة الدمار من جميع الشرق الأوسط ، ويعني بذلك القدرات النووية الإسرائيلية .
وحيث يرد ذكر كونداليزا هذه : يتذكر كل عراقي مثقف رسائل مس بيل ، الجاسوسة الشهيرة التي رافقت حملة الجنرال مود لفتح العراق وأشرفت على تكوين الحكومة العراقية الأولى من عناصر مثيلة لعناصر المعارضة الحالية ، فالتاريخ يعيد نفسه .
والثالث : تقسيم العراق ، فوراً بلا مقدمات ، أو على مرحلتين ، عبر تكوين الفيدراليات التي يتطور أمرها بعد سنوات إلى استقلال ، وينصرف الأكراد حينئذ إلى ترسيخ قواعد دولتهم الوليدة وتوسيعها ويحدث منهم تنصل من سيرة صلاح الدين الأيوبي ، ويعفون أنفسهم من أي مشاركة في جهد إسلامي قادم يحاول تحرير فلسطين ، ويحتجون بالضرورة والضعف وأولوية تحرير بقية كردستان في تركيا وإيران وسوريا ، وسيكون منهم وفاء للمعاونة التي أبدتها إسرائيل للقضية الاستقلالية الكردية وللروابط التي أقامها الملا مصطفى البارزاني معها خلال زيارته الشهيرة لإسرائيل ، بحيث أن الدولة الكردية ستكون مأسورة إلى ذلك الجميل اليهودي ، واليوم نجد ألسنتنا معقولة عن مصارحة الأخوة الأكراد بأكثر من هذا ، لأن ظلماً بشعاً نالهم من صدام والذين قبله ، وأصبحت القضية الكردية شائكة ، إذ بينما ترتفع الدعوات الحقة لرفع الظلم عنهم ومنحهم الحقوق السياسية والإنسانية ، والتي نؤيدها ونراها أساساً مدنياً يدعم الأساس الإيماني الذي تقوم عليه روابط الأخوة بين شعوب الأمة الإسلامية : تختلط هذه الدعوات بشوق كردي عارم يحدوهم نحو الاستقلال ، والميزان الشرعي الذي نزن به أمورنا السياسية يقضي بوقف نزيف تقطيع أوصال الأمة الإسلامية الواحدة ، ومنع تكوين الدول على أساس قومي ، مما يجعلنا اليوم نجفل من تقسيم العراق ، ومنح الاستقلال للأكراد بقرار أمريكي وتحت سيطرة استعمارية تهدف إلى تحقيق الأمن الإسرائيلي عبر تقطيع أوصال العراق ، وقول الإخوة الأكراد حين دفاعهم عن توجههم بأن المنطقة مقسمة أصلاً على أساس قومي أرادته معاهدة سايكس بيكو وحرم من ذلك الأكراد فقط : هو قول ترفضه المعايير الشرعية أيضاً ، لأن الخطأ لا يقلد ، بل يبقى أمراً سلبيا نحاول تعديله ما استطعنا ، ومعاهدة بوش بلير الحالية إنما هي صيغة جديدة لجريمة سايكس بيكو ، والتاريخ يعيد نفسه ، والواجب أن نتنصل منهما معاً ، وأن نرفع شعار ما بقي موحدا على وحدته ، والدعوة إلى لم شمل ما فرقته السياسات الاستعمارية من قبل ، وتوحيد الأمة ثانية ، وكما أننا دعاة الإسلام العرب ننكر على العلمانيين والقوميين الذين بين ظهرانَينا من أبناء جلدتنا ونطالبهم بالتزام منهج القرآن وفكر الإسلام وروابط الإيمان ، ونقول لهم بصراحة أنهم على خطأ : فأن دعاة الإسلام الكرد عليهم التمرد على ردود فعل النكبات التي وقعت على الشعب الكردي ودعوة علمانيي الأكراد وقومييهم إلى التزام الحكم الشرعي في وحدة الأمة الإسلامية ، والتحول إلى بذل جهد مشترك مع جميع دعاة الإسلام العرب وغيرهم لإقامة حكم إسلامي عادل يمنع التظالم القومي ويعيد إلى كردستان الابتسام بعد مسلسل الأحزان .
وليست بقية قصة التقسيم التي تضع هندسة تكوين دويلة شيعية في جنوب العراق بأقل خطراً على الأمن الإسلامي وتوفيراً للأمن الإسرائيلي ، إذ أن هذه الدولة الوليدة بأياد أمريكية ستنشغل لدهر طويل بتمتين الروابط مع إيران ، وبتصفية حسابات تاريخية ، وتنصرف عن قضية تحرير فلسطين بالضرورة ، ويبقى الجهاد ضد إسرائيل مهمة دويلة وسط العراق فقط ، المكبلة بمعاهدة السلام ، وبالفقر والأمراض ، والتي لا جيش لها أصلا .
وبذلك تتضح خدمة خطة التقسيم وتسريح الجيش وتقنين السلام لعملية تحطيم الشعب العراقي جسدياً ونفسياً كركن من أركان الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية كما رواها قبل ما يقرب من نصف قرن الصحفي الهندي كارنجيا في كتابه " خنجر إسرائيل " نقلاً عن بعض رؤساء الدول وقادة إسرائيل أنفسهم .
ومع جسامة هذه الأهداف في الاستيلاء على النفط الوافر وتدمير الشعب العراقي وتوفير الأمن الإسرائيلي : يوجد في المخطط الأمريكي أبعاد أخرى عديدة :
منها بُعد الاستنزاف المالي والإفقار الطويل الأمد ، فعلى العراق أن يدفع عقوبات مالية للكويت وغيرها تزيد على مائتي مليار دولار ، وأن يدفع لأمريكا نفقات الحرب القادمة التي تبلغ أكثر من مائتين وسبعين مليار أخرى ، ولو ُأضيفت لها مديونيات العراق لروسيا وغيرها : يكون عليه أن يدفع أكثر من خمسمائة مليار دولار مع فوائدها ، مما يجعل ثلاثة أجيال عراقية قادمة أو أربعة تعيش تحت خط الفقر المدقع وبلا أمل ولا عمل حتى نهاية القرن الحادي والعشرين ، ويزداد الضرر عبر سريان الاستنزاف إلى الدول العربية التي أعلنت البنوك فيها فقط أنها ستخسر ستين مليار دولار بسبب الحرب ، وكل ذلك يشكل كارثة إنسانية لم تقع في الحياة البشرية بهذا الحجم عبر طرق الضغط السياسي الدولي ، وما من سبب سوى القدَر المكتوب على أهل العراق أن يكونوا هم الذين يهدمون هيكل سليمان الثاني ويفتحون القدس وُيتبرون علو يهود تتبيرا ، وخطة الإفقار تزيدنا إيماناً بذلك ، لتكون المعجزة أتم : أن قوماً فقراء يفتح الله على أيديهم الفتوح بلا سلاح وتكنولوجيا متقدمة ، بل بفداء الأرواح وعمق التصميم وشدة الإرادة وصلابة التحدي ، ويفعل الله ما يشاء .
ومنها البعد التدميري للزراعة ، فإن أمريكا تريد تعميم استخدام الحنطة كسلاح ضغط على جميع الأمم ، مارسته بنجاح في إسقاط الإتحاد السوفيتي ، وتمارسه اليوم تجاه مصر حيث لا تفرغ بواخر الحنطة الأمريكية حمولتها في الموانئ المصرية إلا بعد فراغ المخزون المصري واضطرار القاهرة لتقديم تنازلات سياسية والقيام بدور السمسار لتسويق الطلبات الأمريكية لدى الحكومات العربية ، وكانت أمريكا سنة 1990 م قد منعت دولة جزيرة العرب من إنتاج الحنطة ، في قصة شهيرة . وكما ثبت أن إسرائيل بعد معاهدة كامب ديفيد قد استخدمت مجالات التعاون الزراعي مع مصر لتدمير النظام الزراعي المصري الموروث وإفساد التربة وتسميم الأسمدة من أجل تجويع الشعب المصري وتسويق الحنطة الأمريكية ، فأن تدميراً أمريكياً لمنتوج الحنطة العراقي يوشك أن يكون ، لطعن خطة الأمن الغذائي العراقي والتحول إلى الاعتماد على الحنطة الأمريكية التي لن تكون بغير ثمن سياسي جديد مع كل شحنة تصل الميناء ، وسيزداد السوء بتدمير النخيل ، رمز العراق ، ومحور الأمن الغذائي العراقي ، لتمكين الطفرة الوراثية أن تجد لها مسرباً عبر سوء التغذية ونقص المعادن في الغذاء .
والبُعد المائي أيضاً : والماء بند رئيس في الخطة الأمنية الإسرائيلية ، فهي برغم تفوقها العسكري توشك أن تختنق عطشا ، وسيتبع احتلال العراق احتلال سوريا أو إجبارها على توقيع معاهدة صلح مع إسرائيل يكون من أهم بنودها السماح بمد القنوات أو الأنابيب عبر أراضيها من تركيا إلى إسرائيل لنقل معظم مياه الفرات ودجلة لها ، وكنا نعجب من مضي تركيا قدما في خطة بناء السدود المائية ، وما كنا ندري أنها تنتظر مثل هذه الحرب التي تفتح لها مجال بيع الماء إلى إسرائيل ، ومع الأسف فإن الحزب الإسلامي الذي وصل إلى الحكم في تركيا قد سقط في أول امتحان واجهه ، وسمح بانتشار القوات الكافرة في أراضيه لغزو بلد مسلم شقيق ، وسيبيع الماء لاحقاً إلى إسرائيل ، ولو كان رؤساء هذا الحزب حكماء لمنعوا أمريكا ، والشعب يؤيدهم ، ولصاروا أبطالاً ، لكنهم قدموا الولاء لكافر مقابل عشرين مليار دولار فقط ، لا يبارك الله بها ، ولو أبدوا صلابة وخلعهم الجيش عن الحكم لصاروا من كبار الأبطال لدى الأمة كلها ، ولعادوا لاحقاً إلى الحكم بإجماع من الشعب ، ولكن خدعتهم دعاوى السياسة الواقعية وأوهام وجوب المسايرة لأمريكا ، فزايد عليهم حزب الشعب التركي ، الأمريكي الولاء والعِرق والهوى والتمويل ، وأصبح يبيع الوطنية ويبشر بالسلام إذ هو الحزب العميل الخياني .
ثم البعد الثقافي ، بإشاعة النموذج الأمريكي والفلسفة المادية التي ابتنى عليها المجتمع الأمريكي الحاضر ، وستلغى المدارس الإسلامية ، وتبدل مناهج التربية المدرسية كلها ، وكانت معاهدة كامب ديفيد قد أتاحت تخريج ثلاثة آلاف طالب دكتوراه مصري بمنح دراسية من جمعيات صهيونية أمريكية تركتهم يؤمنون بالسلام والتطبيع ، وتحقق بذلك اختراق يهودي كبير لفئة المثقفين المصريين الذين وقفوا مواقف بطولية واعية ضد التطبيع بقيادة الإسلاميين ، وهؤلاء الذين خرجتهم المنح الدراسية الصهيونية مدخرون لأحداث هذه النقلة الثقافية التي تريد أمريكا تطبيقها بعد الحرب في العراق وعموم العالم العربي ، والمخفي أعظم من المعروف ، والمظنون أن قمعاً لكل الحركات الإسلامية ستمارسه المخابرات الأمريكية ضمن ترويج هذا النموذج الثقافي الكفري ، وتتم محاصرة كل داعية وعالم ومفكر وباحث وأديب ، ويسود زمن النكِرات والخونة والمهازيل .
وكل هذه الترديات المالية والزراعية والثقافية ، والعطش والجوع والمرض : ستتيح لإسرائيل بلوغ منزلة " العلو الإفسادي الكبير " التي أخبرنا عنها القرآن ، وسنرى منها مشية الخيلاء والكبرياء ، وذلك قدر رباني ينبغي أن تبلغه إسرائيل ويحل في عالم الواقع بوضوح ، ليأذن الله لعباده الذين أترضى أن يجوسوا خلال الديار ، ويدمروها ، ويرى مَن هنالك من مسلم وكافر وعد الله تعالى ، وأنه صار وعداً مفعولا ، فالحرب وجميع أبعادها : هي مقدمة لهذا الوعد الذي لابد أن يكون .
ومن خلال سرد الحقائق وانكشاف الخطط الأمريكية يصبح من الواضح جداً أن تعاون أي مسلم مع هذه الحملة الاستعمارية هو من الحرام القطعي الذي لا مجال للتأول فيه ، سواء كان ذلك بالقتال مع الأمريكان ، كما هو شأن لواء بدر المسنود من إيران ، أو اللواء الكردي الذي تم تدريبه من قبل ضباط أمريكان ليكون طليعة الزحف الأمريكي في الجبهة الشمالية ، أو قتال الجيش التركي بمعية الجيش الأمريكي ، أو كان بنوع من أنواع الخدمات اللوجستية أو المحلية التي تقدمها الكويت وبعض البلاد العربية وتركيا ، بل حتى الميل القلبي وتمني انتصار أمريكا : كل ذلك يدخل في دائرة الحرام ، كما هي فتوى العلماء ، وبقولهم أقول . وتقديم الغطاء السياسي للغزو الأمريكي عبر مؤتمر المعارضة العراقية الذي انعقد في لندن وينعقد الآن ثانية في أربيل : يعتبر المنزلة الوسطى في هذا الحرام ، تقع بين القتال والتمني ، فمن اقترف ذلك عالماً بأبعاد السياسة وخفاياها ففقد ارتكب إثماً مبيناً وذنباً غليظاً تؤكد قواعد الفكر السياسي الإسلامي حرمته القطعية ومَن حَشَر نفسه بسذاجة وعفوية مع العامدين فهو بحاجة إلى توبة واستغفار من خطأ مجزوم به ، وهدى الله دعاة جماعة الإخوان المسلمين إلى براءة من تعاون مشبوه ، وتمذهبوا بمذهب الاستقلال والتميز والاستعلاء الإيماني في يوم الاختلاط وضجيج الصيحات الثأرية وحشرجة المضايق الطائفية والشعوبية ، وقد اقترب دعاة الإخوان من المعارضة العراقية ، يدفعهم حسن الظن وتأولاً في إسماعها كلمات الحق الذي يؤمنون به ، فوجدوا أن أمرها ليس في يدها ، بل بيد السفير الأمريكي المبعوث لها ، وبيد الفتاة الشرسة والنحسة كونداليزا رايس ، فارتد الدعاة سريعاً يلوذون بعفافهم وفكرهم النقي وأسلوبهم السياسي الناصع البياض ، وأبوا أن تتلوث جماعة الإخوان بشيء مما في الساحة من غبار وجراثيم تنخر أصل القلوب والنوايا من بعد ما حرفت العقول ، واسترجعت الجماعة مواقفها التاريخية المشرفة ضد الحصار و التقسيم والطائفية والثأرية ، فثبتت بحمد الله على منهجها القديم الجديد في موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين .
ولئن أوهمت المعارضة نفسها بوهم تكوين حكومة من أحزابها ورجالها بعد انتهاء الحرب فإن هذا الخيال أصبح مفنداً تماماً بتأكيدات الإدارة الأمريكية أنها ستعين جنرالاً يحكم العراق سنوات عديدة ، ويختار لجنة صغيرة معه تحكم العراق حكماً عسكرياً عرفياً ، ويكون من ضمنهم جنرال تركي يمنع استقلال الأكراد . والمفروض أن تعي المعارضة هذا الدرس جيداً وتتوقف عن خداع أتباعها بعدما تبين لها أنها كانت مجرد أداة لتحقيق غطاء سياسي لمشروع الحرب الأمريكية عبر مؤتمر لندن واجتماعات واشنطن التي سبقته واجتماع أربيل الحالي ، لكنها لم تفعل ، لأنها تعتمد على الأموال الأمريكية وبعض عناصرها مربوط استخبارياً وأمنياً ، والتفلت محال ، وكانت هناك بدايات ومقدمات جعلت التزام نتائجها أمراً لا مناص منه ، واستمرار الارتباط حتمي ، وإلا أنكشف سِر وانكسر ضلع ، ووجدت المعارضة نفسها أسيرة محبوسة في نطاق الولاء الذي بذلته دون وعي سياسي ، فضلاً عن وعي حضاري يجب أن ترتكز عليه القرارات المصيرية ، فضلاً عن وعي إيماني شرعي باعتبارهم مسلمين يخاطبهم القرآن بجهاد وعزة ، وقد أبطلت صراحة الإدارة الأمريكية مزاعم المعارضة العراقية الواثقة بها ، وهناك اليوم يأس تام من أن يكون لأحزاب المعارضة أي دور في الفترة الانتقالية التي قد تطول ، ورجع الأمر في النهاية إلى صواب جماعة الإخوان المسلمين في العراق وأرجاء العالم في رؤاها التي توقعت فيها استبداداً جديداً يمارسه الجنرال الأمريكي حاكم العراق العام ، وأولى بالمعارضة أن تيأس وأن تعترف بخطأ التقدير والتدبير ، وكان أبشع ما في هذا الخطأ : التوافق مع المنطق الكويتي الحكومي الزاعم تمكين الجيش الأمريكي من تحرير شعب العراق ومنحه الديموقراطية دون النظر إلى القتل الذريع والإعاقة الواسعة التي تصاحب هذا العطف الكاذب عبر حرب لئيمة قد يصل أمرها إلى استعمال القنابل النيوترونية ، وصدق أحد المراقبين في التنبيه إلى أن من الحب ما قتل ، كما قال الشاعر قديما ، وإن مَن أعان على قتل مسلم هو في الحكم الشرعي مسرف في الإثم ومحروم من رحمة الله ، فكيف بمن سيعين على قتل مئات ألوف أو ملايين ؟
إن نقطة ضعف المعارضة العراقية تكمن في أنها رهنت القضية العراقية لدى أمريكا ، وباتت تعتقد اعتقاد أنور السادات في أن تسعة وتسعين بالمائة من الحلول هي في السلة الأمريكية ، ونزلت مرتبة العلاقة مع أمريكا من منزلة التفاوض المفترض إلى مرتبة التبعية وحسن الاستماع للسفير الأمريكي لدى المعارضة ، وفي هذا ما يؤسس في المفهوم الشرعي حالة ولاء لكافر تخالف قواعد الإيمان ، وتحول التفاوض إلى تفويض ، وفي آخر تصريحات السيد محمود عثمان ، أحد أقطاب المعارضة الكردية مساء يوم 24/2/2003 في قناة ANN الفضائية فيما ينقله عن القيادات الكردية أن تأجيل اجتماع المعارضة في أربيل لأكثر من أسبوعين إنما هو بسبب عدم وصول الطرف الأمريكي ، وأنه هو الطرف الأهم في الاجتماع لا الأحزاب العراقية الأخرى ، وأن الأكراد يريدون التباحث مع الأمريكان مباشرة ، وبخاصة في موضوع إشراك تركيا في الترتيبات الأمنية وفي الحكم القادم وامتلاكها حصة من نفط العراق ثمناً لتعاونها ، والأكراد في حرج من ذلك شديد ، وانطلى عليهم المقلب الأمريكي ، وعلى بقية المعارضة ، ولم تتضمن كلمة السفير الأمريكي زلماي خليل زاده بالأمس في صلاح الدين أية وعود للمعارضة واضحة ، والمفروض أن يتوب الجميع من هذا الاعتقاد بولاية أمريكا على قضيتهم ووصايتها على العراق ، وخير للمعارضة أن تستقل عن أمريكا ، وأن تعارض الحرب ، وتسعى إلى انتزاع الحقوق عبر طرق ذاتية ، لو كان رجالها يفقهون ، والاعتراف بالخطأ فضيلة ، والتوكل على الله أولى ، ولهم في خطة استقلال " الإخوان المسلمون " ُأسوة حسنة إذا كانوا يريدون الإنصاف وتجنيب الشعب المتعَب منذ مدة طويلة ويلات حرب جديدة ماحقة ، وإذا كانت هذه التدبيرات المستقلة أضعف من أن تمنع الحرب فليؤمنوا بأن الدنيا تؤخذ غلابا ، وليستعدوا لمرحلة مقاومة ودفاع فيما بعد الحرب ، معتصمين بالإيمان ، وساعين إلى عراق موحد تحت راية حكم إسلامي ، لأن الجيش الأمريكي محروم من الصبر على ضرائب سجال الحروب ، وإنما يتقن الحرب السريعة فقط عبر تفوق السلاح ، فإذا كان هناك قتل جندي واحد في اليوم فإن القيادة توشك أن تعلن انسحابها ، وإنما نقتدي بتجارب الأمم ، والله يبارك عمل المجاهدين إذا صدقت نياتهم ، ويجعل القليل كثيرا ، والضعيف قويا ، والجيل السياسي الحاضر قد نسي بركات هذه الموازين الإيمانية ، وذهل عن معنى العزة الإسلامية وهو بحاجة إلى مثل هذه الموعظة التي ترجعه إلى الأصالة وإلى المنهج القرآني في العمل السياسي ، والنظر إلى مدلول الفقه ، والتفرقة بين الحلال والحرام ، وتحدوه إلى التزام البراء من الكافرين ، ولا يحق لأي كبير من رجال المعارضة مهما سطع نجمه أن يكون فوق هذه الموعظة ويسوم سعره غاليا ، بل الكبير صغير إذا تجاوز الشرع وارتكب المعاصي السياسية ، وما كانت أحكام الشرع والتزامات الإيمان لتحرج أحداً وتعقله عن تحقيق المصالح السياسية لبلاده بالحسنى ، لأننا حين نأمر بالتزام الموازين : نأذن في نفس الوقت بإتباع فقه الموازنات ، وما فيها من التفاف وتملص ، وفي الفقه مرونة ، ولكن ذلك إنما يسوغ لمن يفاوض من موطن المكافأة ، وليس لمن يلغي أفكاره ويصير تابعاً ويرتضي غزو الكافر لبلده ويقدم الغطاء السياسي لحروبه ، والقلب الحي العامر بالإيمان يميز الفرق ما بين السيرتين ، ويستروح لتأويل مخرّج على قواعد الشرع ، ويشمئز من منطق التبعية وفلسفة استضعاف النفس ، والعلماني بعيد عن إدراك هذه المعاني ، والطائفي أبعد ، ويجعل القومي التعاون مع الشيطان ضرورة مرحلية ، وفاز بلذة السكينة القلبية وثبات المنهج الجهادي مؤمن يشعر بالأخوة الإسلامية العامة ويجرد أعماله " في سبيل الله " وابتغاء مرضاته ، والفقه لا يسمح أبداً لمعارض أن يفسد في الأرض عبر الحرب وتمكين الكفار بمقابل التخلص من نظام ظالم مهما بلغ ظلمه ، وجميع ما ارتكبه صدام من قتل وظلم وعدوان لن يبغ عُشر ويلات الحرب الأمريكية ، والمصالح التي فوتها صدام على الشعب العراقي وعلى الأمة لن تبلغ أيضاً عُشر الأضرار النفطية والاقتصادية والمعنوية التي تنويها أمريكا تجاه العراق والمنطقة والأمة جمعاء ، والمزايدات الجزافية التي ترتكبها المعارضة ليست بشيء ، ولا لها من الحكمة سند ، وإنما هي تدور بين تنفيسات ثأرية ، أو مصالح شخصية ، ويبقى منهج الاستقلال عن الكافر الغازي والظالم المستبد معاً في الوقت الواحد هو المنهج الأصوب الأطهر ، وقد سلكه " الإخوان المسلمون العراقيون " بشجاعة ، وكل مخلص مدعو إلى إقتداء ، وقامة " الإخوان " الفارعة هي القامة الوحيدة المنتصبة في الساحة بلا طائفية ولا قومية ، وذلك امتياز في محيط منحاز ، أحرى أن يفهمه عقلاء العراق ويسلكوا سبيل الإخوان ورؤاهم وإشاعة فكرهم السياسي وتحليلهم لأسباب الحملة وحلولهم للمعضلة العراقية ومناداتهم بمذهب الاستقلال والعفاف في يوم الاختلاط وسطوة الكافر ، والعراقي الأصيل يأبى مصافحة الكافر المستعمر ، وكما سلك آباؤنا تجاه الجنرال البريطاني المستعمر " مود " ينبغي أن نسلك ، وكما ثار آباؤنا ينبغي أن نثور على الاحتلال الأمريكي .
ومن منطق بعض أطراف المعارضة أنها تدعو إلى إنقاذ العراق من صدام بأي ثمن ، وليأت بعده من يأت !!
وهذه صيحة مظلوم ناله الإحباط ونفذ صبره ، وهو قول يرده الفقه وتنكره موازين الشرع ، لأن الموازنة تبدي أن الظالم صدام مهما بلغ أقل ضرراً من جنرال أمريكي يحكم العراق وينفذ أوامر بوش ويمتص رحيقنا ويسرح جيشنا ويقسرنا على الصلح مع إسرائيل ويطبّع حياتنا مع يهود وينشر الفساد ويبدل مناهج المدارس إلى ما يوافق مصالحه ويجعل العراق منطلقاً لتغيير الحكومات العربية والمجاورة إلى حكومات أكثر تبعية لأمريكا وأعتى في محاربة الدعوة الإسلامية .
والذي يقول مثل هذا القول ممن هو في داخل العراق لن يكون لقوله ميزة ، كما يتبادر إلى ذهن المستعجل ، يظن أنها شهادة مكتوٍ بنار الظلم تمثل حقيقة الوضع ، بل هي هدر ، لأن الناس في الداخل في شبه سجن ، حيث لا جرائد ولا وثائق ولا سماع للقنوات الفضائية إلا قليلا ، وهم لا يعلمون أسواء الخطة الأمريكية : فنتأول لهم أنهم في ظرف صعب يجنح بهم إلى الإغراب والتمني غير الواعي ، ولا مساغ لترجيح قولهم على موازين الشرع ، والفكر السياسي الإسلامي لا يشهد لهذه الاستغاثة ، وإنما يزال ظلم صدام بطرق أخرى غير الحرب .
ومن الخطأ المحض جنوح المعارضة إلى القول بأن استقلالها عن أمريكا لا يمنع أمريكا من ضرب العراق ، وأن الأمر ما دام كذلك فإن الأفضل أن تكون ضمن الحملة وعلى علاقة بأمريكا . فهذا منطق سياسي بحت يبالغ في الواقعية لا يشهد له تاريخ الاستعمار الذي يضع مثل هذه المعارضة في موضع التابع المأمور فقط ، فوق أنه مناقض للمفهوم الشرعي في النهي عن المنكر والجهاد ، فلو كل منكر لا نستطيع دفعه نكون معه لتم نحت التطبيقات العملية للأوامر الشرعية شيئاً بعد شيء إلى درجة أن نكون داجنين لا مدججين ، وتابعين للكافر والفاسق إذا كان هو الأقوى سلاحاً ومالاً وأثرا ، ولكنه صراع قدَر السوء بقدر الخير هو الطريق الإيماني الذي نؤمر به ، فالحرب لا نقدر على دفعها كلياً ، فندفعها جزئياً بالامتناع عن تقديم الغطاء السياسي لها أو بعض الغطاء ، وبالعفاف وال
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، والصلاة والسلام على أول المجاهدين نبينا محمد سيد العرب والعجم ، وعلى آله وصحبه الميامين أجمعين ، الذين قاتلوا تحت لوائه ونصروا دين الله ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، ممن كانوا لهم جنوداً في فتح الفتوح ، وعلى من اهتدى بهديهم وعمل مثل عملهم الجهادي إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن القضية العراقية قد أصبحت شديدة التعقيد بعد قبول العراق لقرار الأمم المتحدة بالتفتيش عن أسلحته وسجلاته وكشف أسرار المتعاملين معه ، ومع أن حيثيات القرار ونصوصه شديدة القسوة والانحياز إلى الرؤية الأمريكية وتؤدي إلى نفس نتائج الحرب من استسلام الحكومة العراقية التام للرغبات الأمريكية وفقدان الاستقلال وتدمير الأسلحة : إلا أن أمريكا ما زالت على وتيرةٍ عنيفة من الدعوة للحرب وتصعيد الأمور والتعبئة النفسية لشعبها وتكثيف الدعاية والحملة الإعلامية التي تهدف إلى غسل أدمغة جميع الشعوب وإقناعها بحق ٍ موهوم لأمريكا في التوكل عنهم للتدخل في تدمير أي دولة تشاء ، مما يجعلنا نرجح حصول الحرب ترجيحاً جازما ، تحت غطاء من القرار الدولي المنتزع بطريقة ملتوية عبر تأثير إرهاب جميع الدول وتهديدها ، أو بدون غطاء دولي .
وهذه الدراسة الشرعية السياسية لا تحاول أن تضيف جديداً إلى الفتاوى الصريحة المتكاملة لكبار علماء الإسلام في العصر الحاضر ، أصحاب الفضيلة الشيوخ الأساتذة : عبد الكريم زيدان ، ويوسف القرضاوي ، وعبد الله قادري الأهدل ، وفيصل مولوي ، ومَن جرى مجراهم وأفتى بمثل ما أفتوا به من حرمة التعاون مع الحملة الأمريكية ، وإنما تحاول تقريب فتواهم من نيل الإجماع بإضافة صوت آخر ، وحث مَن لم ينطق بعد من علماء الشرع على إفتاء مثيل يحصل به الإجماع ، فيتأكد المعنى ، ثم تجديد إسماع قول الشرع لجمهور المسلمين مرة بعد مرة ، وبصيغات عديدة ، ليرسخ في القلوب ، والاستشهاد بشواهد واقعية طرأت على القضية خلال الشهور الثلاثة الأخيرة بعد صدور الفتاوى المذكورة ، ورد شبهات المتأولين الذين يجوزون لأنفسهم التعاون ، مع إضافة لمسة عراقية خاصة إلى المنطق الفقهي والسياسي المتداول ، مستمدة مما نعلم من طبيعة العراقي وخصوصية بعض جوانب القضية العراقية ، ربما تغيب عن غير العراقي . ثم في هذه الفتوى زيادة حوار صريح مع المعارضة العراقية يؤسس الكثير من المعاني الخاصة النسبية في منطق التحريم والاحتياط تحتاجه المعاني المطلقة التعميمية الواردة في فتاوى العلماء ، وتكون تفسيراً لها يوضحها ويؤكدها ، وذلك هو الذي حركني للقول والمشاركة رغم وفرة القول المبارك الذي ورد في فتاوى شيوخي الأفاضل ، ولذلك فإني سوف لا أكرر إيراد النصوص الشرعية التي وردت في إفتاءات شيوخي ، وإنما أركز على بيان الموازنات الشرعية وعلى الأحوال العراقية .
وواضح أن السبب الذي تتستر وراءه أمريكا من زعمها إزالة صدام يختلط بالمصالح الأمريكية المحضة الهادفة إلى فرض هيمنتها وسيطرتها العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية والاقتصادية على المنطقة العربية كلها وبقية العالم الإسلامي ، تبعاً لخططها الاستراتيجية التي حددت مفهومها للنظام العالمي الجديد والعولمة ذات القطب الواحد ، وبذلك تظهر خطورة الأمر في الميزان الشرعي ، بل وفي الميزان الإنساني العام ، وموازين القانون الدولي : أنه عدوان ُأمة على ُأمة ، ودولة على دولة ، وقوي على ضعيف ، ويزيد الوصف الشرعي على ذلك أنه عدوان بلد كافر على بلاد إسلامية ، وفيه تحريض لدول كافرة أخرى على فرض هيمنتها الاستعمارية بدورها على شعوب إسلامية ترزح تحت سطوتها ، فقد سارعت روسيا إلى الإعلان عن تدابير قمعية جديدة في الشيشان ، وبدأت الهند التحرش بباكستان وبالمسلمين وقادتهم في كشمير وغيرها ، كل ذلك تحت غطاء التحرش الأمريكي ، مما يجعل الفتوى ظاهرة الأدلة وتامة المنطق في حِل وتسويغ دفاع دولة العراق عن نفسها ، ووجوب مساعدة دول العالم الإسلامي لها بحدود الاستطاعة ، وتحريم تعاون أي دولة إسلامية أو فرد مسلم مع أمريكا في حربها هذه . ويزيد الأمر وضوحاً أن هدف أمريكا المعلن هو إزالة الأسلحة العراقية الهجومية المتقدمة ، والتي تشكل تهديداً لإسرائيل ، مما يكشف عن قيام أمريكا بهذا الحرب ، في جانب منها ، وكالة عن إسرائيل ، خوفاً من احتمالات المستقبل . والذي نفهمه أن امتلاك هذه الأسلحة إنما هو حق من حقوق أمة الإسلام مثلما هو حق الأمم الأخرى ، وارتباطها بالمصالح الشخصية لحاكم يصنعها هو ارتباط وقتي لا يلغي ملكية الأمة لها ، كما أن سوء استعمال الحاكم لها إنما هو سوء قليل في مقابل فوائد جزيلة يمكن أن تجنيها الأمة في صراعها مع إسرائيل .
ولا تطمع هذه الفتوى أن تغيّر الموقف التحالفي لتركيا مع أمريكا ، فإن قرارها لا تغيره موعظة ، ولا في الموقف الرخو لكل دول العالم العربي والإسلامي التي تمشي على استحياء وتنكر بنبرة خفيضة ، إذ الأمر أكبر منها ، وقد أبدت الولاء لأمريكا في الأول وفتح بعضها للجيش الأمريكي القواعد ، فما تستطيع البراء في الآخر ، ولكن مطمح هذه الفتوى أن توقظ بعض الحميّة في رجال مجموعتين اختلط عليهما الأمر اختلاطاً شديداً مزج الحق بالباطل ، فصعب التمييز :
المجموعة الأولى : رجال المعارضة العراقية الشيعية ومَن حالفهم من العلمانيين العرب عبر مؤتمر لندن ، فإنهم ارتضوا العمل المشترك مع أمريكا لإزالة صدام ، وذلك خطأ كبير ، ويستبدل ظلماً بظلم ، والظلم الأمريكي سيكون مرهقاً للعراق ، وطويل المدى بالقياس إلى سيطرة صدام ، والطريق الإسلامي الأصيل في التغيير السياسي يكمن في تعليم الشعب طريق التضحية ونيل حقوقه وإن طال الوقت ، وشأننا مع الحاكم شأن داخلي ، وإن كانت الاستعانة ضرورة فأحرى أن تكون بحكام بلاد الإسلام وجمهور المسلمين ، وليس عبر دولة كافرة تهمها مصالحها الاستعمارية ، وكان أجدر بالمعارضة أن تقتدي بالمواقف الاستقلالية العفيفة لجماعة الإخوان المسلمين وطريقتهم في الجمع بين معارضة الاستبداد والبراءة من أمريكا ، والتوكل على الله تعالى في جعل طريق الشعب إلى الحرية قصيرا ، وإدارة النزاع عبر حمل هوية فكرية ذاتية مستنبطة من عقيدتنا الإسلامية وشرعنا الحنيف ، فلعل هذه الفتوى تكون فيها ذكرى لهذه المعارضة فتنتبه إلى مخاطر التعاون مع دول استعمارية ، فتكون إفاقة ، ويحصل استيعاب لتجارب في بلاد أخرى جثمت أمريكا فيها على صدور الشعوب ، محتجة بالنجدة ، بل ليس في خطب الرئيس بوش ما يشير إلى أنه ينجد أهل العراق ويغير الحكم برؤية ديمقراطية تنتظرها المعارضة ، وإنما هو يركز على خلع صدام وتنصيب جنرال أمريكي ويواصل منع صناعة السلاح العراقي المتطور ، وما كان الأمر خافياً على قادة المعارضة ، لأنهم في غمرة التعاون غير المتحفظ مع أمريكا أعلنوا استعدادهم ، إذا استلموا الحكم من اليد الأمريكية ، لتحجيم قدرات العراق العسكرية ، وإبرام الصلح مع إسرائيل ، وأن يطبقوا سياسات التطبيع ، وتلك أخطر نتائج هذه الحرب ، لأنها توفر الغطاء الأمني الذي تحتاجه إسرائيل عبر تحجيم الجيش العراقي وإلغاء صناعاته للسلاح المتطور والدخول في خطة السلم .
والمجموعة الثانية : الإخوة الأكراد في المعارضة العراقية ، من الحزبين العلمانيين ومن حالفهم من بقية العلمانيين وحتى التجمعات الإسلامية الكردية ، عبر مؤتمر لندن أيضا ، فإنهم في غمرة عشقهم لاستقلالهم ، وفي ثنايا استذكارهم لبطشٍ نالهم من صدام : أذنوا أن تكون أرض كردستان منطلقاً للجيوش الأمريكية وقاعدة ارتكاز لاستعمار العراق ، وهذا قرار سياسي يحفه الخطأ من جميع وجوهه ، وأخطر ما فيه أنه مجازفة تؤدي إلى انفصام العلاقات الاجتماعية داخل كتلة الشعب العراقي بعد الانفصام السياسي مع الحكومة ، وسيكون ذلك شرخاً اجتماعياً يتعمق بمستوى ما للجوانب النفسية والمعنوية من عمق في تكوين ذاكرة الشعوب ، ومَن وافق من قادة الأحزاب الكردية على الحرب ورحّب بها فقد ارتكب مخاطرة تنال المستقبل الكردي قبل غيره . هذا فضلاً عن أن توقيت الخطوة الاستقلالية يأتي في الزمن غير المناسب ، وبوسيلة حربية استعمارية تدمر كل العراق وتقتل وتعيق الملايين من أبناء الشعب ، والثمن بشع وضخم جداً وأكبر بكثير من سلعة الاستقلال المشتراة من الأمريكان ، والنشيد القومي الكردي سينشد على أنغام آهات ملايين الأيتام والمعوقين والمرضى بأمراض مزمنة ، أو أنين الفقراء الجائعين الذين سيحرمون الزراعة وأموال النفط معاً ، والقومي الكردي الذي يرى في ذلك انتقاماً لما جرى من ظلم حكومي في كردستان ويتشفى بذلك : لن يكون مصيباً ، إذ المؤمن يربأ بنفسه عن مثل هذا الشعور الثأري ، والخطأ لا يعالج بالخطأ ، وهو إحساس طارئ في الساحة الكردية ، فللأكراد تاريخ ناصع البياض مليء بصفحات الشرف في الوفاء لقضايا الإسلام العامة ، بها نلهج ولها نذكر وننشر قبل الأكراد أنفسهم ، وهي من مفاخرنا الإسلامية العامة التي رفعت رؤوسنا من قبل ، ومنها نستمد ضوابط المواقف الصحيحة أمام الهجمة الأمريكية الحاضرة .
وانطلاقاً من مثل هذا الاعتزاز العربي بالمساهمات الكردية : أرسل مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الإمام الشهيد حسن البنا برقية إلى الحكومة العراقية سنة 1945 م أثناء الثورة البارزانية يناشدها أن تحل القضية الكردية عبر الحوار وتحقيق المساواة ورفع الظلم لا عبر السلاح والقمع ، والبرقية منشورة في مجلة الإخوان المسلمين ، وتعتبر وثيقة عظيمة الدلالة تبين بوضوح كامل براءة الإخوان وأجيالهم وقياداتهم المتتالية بمصر والعراق والعالم من أي شعور سلبي تجاه إخوانهم الأكراد ، وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الوثيقة إشارة جازمة إلى عراقة وقدم الوعي السياسي لدى الإخوان ، وحيوية الفكر السياسي الإسلامي الدعوي في أيام قديمة لم تكن القضية الكردية خلالها قد اشتهرت بعد ، ثم زار وفد من قيادة الإخوان في العراق أواسط الستينات الملا مصطفى البارزاني ، وشرح له بصراحة الحرج المستولي على الإخوان من الموافقة على انفصال كردستان انطلاقا من مفهومهم الشرعي في وجوب وحدة الأمة ، ولكنهم يقرون بوجوب منح الحقوق السياسية واللغوية والإدارية والتراثية لكردستان وتقرير حصة في الميزانية مناسبة ، وأبدى الملا مصطفى آن ذاك تفهماً لاجتهاد الإخوان وشكرهم وصرح بأنه يود أن لو كان مجرد شرطي في الحكومة الإسلامية التي يدعو لها الإخوان إن قامت . واستمر الإخوان في العراق والخليج على سنة الوفاء هذه ، وكانت المساعدات الإنسانية الإغاثية في السنوات الأخيرة التي قدمها الإخوان لكردستان مباشرة أو بالواسطة أكبر دليل على صدق توجههم والروح الإيجابية التي تسيطر عليهم في التعامل مع القضية الكردية ، فكم من مسجد بنوه أو يتيم كفلوه أو دواء عالجوا به ، وليست تلك مِنـّة ، بل إعلام لمن لا يعلم بالمحركات الإيمانية التي تحرك الإخوان .
لكن جوانب الباطل والظلم مهما اتضحت في هذه الحرب فإنها عندي لا تحمل على الفتوى بفرضية حمل كل مسلم للسلاح والمشاركة في الدفاع عن العراق ، كما ذهب المفتون ، وذلك لعدم توفر جانب الأمن الجهادي ، ووقوع المجاهد بين محنتين إذا جاهد : محنة ملاقاة العدو الأمريكي ، ومحنة التصرفات غير الموزونة ولا المنضبطة بمعيار أو خطة ، التي يمكن أن يبديها صدام نفسه وأعوانه من منتسبي حزب البعث والمخابرات ، فإن الغوغائية هي الغالبة ، والقياس على السوابق يشير إلى احتمال المجازفة ، والعدوان على شخصية المجاهد المنجد الحُر الذي تحركه المحركات الإسلامية للدفاع عن أرض الإسلام ومصالح المسلمين ومكتسبات الأمة ، ويأبى الغوغائيون إلا أن ينحرفوا بها نحو تمجيد الاستبداد ، وقد يلقى المجاهد رَهَقاً ويصادف التفافاً عليه ، ولرجحان توقع ذلك أرى تجويز مشاركة المسلم متطوعاً في هذه الحرب في الصف العراقي ، من دون إيجاب ذلك ، وتسويغ تأخر مَن يتأخر ، والاستسلام للقدر الرباني إذ هو يجري في مجاريه ، أينما ستستقر ، لانعدام " الأمن الجهادي " ، ثم يكون لواذ الخطباء والوعاظ والكتّاب السياسيين بالإنكار القولي إذا استطاعوا ، واعتصام سواد المسلمين المستضعفين بالإنكار القلبي على أمريكا ونظامها العالمي ومَن يحالفها ويعينها ، وليس ذلك مما نزهد فيه أبداً ، فأن هذا الإنكار أول خطوات الاستدراك الواعي والرد المخطط الطويل النَفَس على الظلم الأمريكي وعلى الحكام المستبدين معا ، والتربية الفردية على موجب عقيدة التوحيد وأصول الشرع المبين هي نقطة الانطلاق ، وعلى أساسها يكون العمل الإسلامي الدعوي الجماعي المنظم ، والتحالف العريض من أجل التغيير ، والمؤمن يفتأ يرنو إلى الحرية ، ويسير نحوها ، لكنها لن تُهدى إليه من دولة تنافس من أجل النفط ، ولا عبر استخذاء لإسرائيل في صورة سِلم ، ولا عبر طموحات رئيس أمريكي يغامر بمستقبل بلاده ويدخل حرباً من أجل رشاوى وعمولات بليونية تغدقها عليه وعلى فريقه الأمني شركات النفط ومعامل السلاح ، والجهاد العيني الذي أفتانا به السادة العلماء أراه يكون بعد الحرب ، لدفع الاحتلال وإجلاء المستعمر عن بلادنا إذا انتصرت أمريكا ولم يستطع الجيش العراقي وأهل العراق المقاومة ، وأما أثناء الحرب فإني أخشى أن تكون مزاجية صدام أخطر على المجاهدين من نوايا الجنرالات الأمريكيين ، أو أن تكون فوضوية الحزبي البعثي أو العميل المخابراتي أضر من حقد الجندي الأمريكي ، ويشهد لصواب اجتهادي هذا في التوقف عن القول بعينية الجهاد على غير أهل العراق أننا لا نعلم استجابة جمهرة للفتوى العينية وذهابها للجهاد حتى الآن ، مما يدل على أنهم يعلمون ما في ذلك من مجازفة ، بينما الإيمان ما يزال عامرا في قلوب كثير من الناس والاستجابة للجهاد الواعي ممكنة ، قياسا على ذهاب الألوف إلى الجهاد الأفغاني الأول .
والتأمل البسيط يجعل الهدف الحقيقي من الحرب مفضوحاً ، فأن إزالة صدام لا تستدعي حرباً ، ولم يبق عنده شيء من سلاح دمار شامل ، وإنما هو النفط الذي يغري ، فإن دراسات الخبراء تشير إن أن الاحتياطي النفطي العراقي هو أكبر احتياطي في العالم ، خلافاً لما يعلن من أن احتياطي أرامكو هو الأكبر ، وكادت فرنسا وألمانيا أن تحصلا على امتياز حقل مجنون العملاق في أواخر الثمانينات ، ففوتت أمريكا الفرصة عليهما عبر إغراء صدام باحتلال الكويت ثم الانقضاض عليه ، وبدلت حرب الخليج الثانية جميع الخوارط والتراتيب القديمة ، وفرضت أمريكا نفسها عالمياً كقطب أوحد لا معارض له ، و أرخصت أسعار النفط بما يحفظ مصالح ميزانيتها ، حتى قال بعض خبراء النفط العرب أن ما فقدته البلاد العربية عبر الثمن النازل عن المقدار الواجب اللائق يقدر بأكثر من ألف وخمسمائة مليار دولار خلال هذه السنوات الأخيرة بعد تحرير الكويت ، ثم هي أمريكا تندفع اليوم لإكمال سيطرتها على نفط العالم بعامة ونفط العراق و الخليج بخاصة ، وتجعل ذلك ركناً في خطتها الاستراتيجية المقدمة إلى الرئيس بوش الابن قبل انتخابه بستة أشهر ، إذ أن العالم بعد سبع سنوات من الآن سيستورد من العراق فقط ربع كمية الاستهلاك اليومي ، ومن الخليج نصف الكمية ، فإذا أخذنا في الاعتبار أن نفط إيران معني من قبل أمريكا أيضاً ، ونفط الجزائر وليبيا والسودان : فإن اعتماد العالم في المستقبل سيكون بصورة تامة على النفط العربي إلا قليلا ، ومن الأسرار التي لا يعلمها إلا قليل من الناس أن أمريكا قد اكتشفت من قبل أن السودان كله يطفو فوق بحيرة من النفط ، لكنها لم تستخرجه وتركته ليكون الاحتياطي الرئيس إذا اضطربت أحوال الخليج وأغلقت قناة السويس ، وفي خطتها أن تستخرجه وتبني أنبوباً يوصله إلى سواحل غرب أفريقيا ليشحن إليها بحرية عبر المحيط بعيداً عن المضايق ، فجاءت حكومة الإنقاذ الإسلامي في السودان وتحدت الإرادة الأمريكية واستخرجته قبل أوانه الذي حددته الاستراتيجية الأمريكية ، ومن ثم كان الغضب الأمريكي على السودان ، وبعد إنجاز حربها واحتلال العراق سيكون أول بلد تصب عليه غضبها هو السودان ، لوقف عمليات الاستخراج والاحتفاظ بنفط السودان كاحتياطي مستقبلي فقط يوفر لها الطاقة .
كذلك تشير دراسات الخبراء إلى أن أمريكا لا تريد احتكار نفط العراق فحسب ، بل واستخدامه كسلاح سياسي فعال ليس تجاه دول العالم الثالث فقط ، بل وتجاه دول أوربا الكبرى أيضاً بحرمانها من شرائه إذا كانت تشاكس أمريكا وتتمرد ، وهذا هو بعض سر الموقف الفرنسي الألماني الرافض للحرب ، ثم تؤكد الأخبار أن أقطاب الإدارة الأمريكية : بوش ومن قبله أبيه وجده ، وديك تشيني ، ورامسفيلد ، وكونداليزا رايس : كلهم لهم شركات نفطية ستذهب لها بعض حصص نفط العراق والخليج ، وأفصح سقوط الطائرة الإغاثية في باكستان قبل أيام عن عمل خفي لوضع هندسة مرور أنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى عبر أفغانستان وصولاً إلى الخليج ، مما يعتبر الهدف الرئيس من غزو أمريكا لأفغانستان ، واستترت من أجله بستار مكافحة الإرهاب بعد أن أغرت ومكّنت الشباب المتحمس من تنفيذ عمليات اختطاف الطائرات ودك أبراج نيويورك ، ثم عادت تولول وتطبق خططها الاستعمارية تحت غطاء مقاومة الإرهاب ، وحري أن ننظر إلى ما في ثنايا قصة الطائرة من امتلاك جمعية إغاثية غربية لها ، فقد أصبح جزء من العمليات الاستخبارية التجسسية يطبق في بلادنا تحت مظلة الإغاثة ، كالذي كان ويكون من إعانة حركة تمرد جنوب السودان باسم الإغاثة الإنسانية وتوزيع السلاح هناك بطائرات الإغاثة .
وقد صرح بوش بأن آبار النفط العراقي ستكون وديعة عند أمريكا لحساب الشعب العراقي ، فأعاد إلى ذاكرتنا مَثل إيداع الشحم لدى القط .
وفي القصص أن الأسد استعان بالذئب والثعلب في يوم صيد ، فصادوا جملاً وغزالاً وأرنبا ، فضحك الثعلب وقال بفضول : قد جاءت النسبة قدرية واضحة التناسب : فالجمل لمولانا الملك ، والغزال للذئب ، والأرنب لي . فلطمه الأسد وأسال دمه على وجهه ، وألتفت إلى الذئب يستشيره ، فقال الذئب : بل الجمل تأكله الآن أيها الملك ، وُأحب لك أن تتلهى عصراً بين الوقتين بالأرنب ، ثم يكون عشاؤك الغزال فإنه أخف على المعدة عند النوم . فابتسم الأسد وقال : هذه هي الحكمة بعينها . من أين تعلمتها ؟ قال : رأيتها في الكتاب الذي كتب بالمداد الأحمر ، يعني وجه الثعلب الدامي .
فوديعتنا لدى الملك بوش لن تقسم إلا كذلك ، ودروس أمريكا لشعوب الأرض هي الكتاب البليغ الفصيح الأحمر ، وستسيطر على العراقيين أحزان وآلام نتيجة سعة التدمير ، وكثرة القتلى وجريان الدماء ، والأمريكي المنتصر سيتصرف بزهو وخيلاء وتكبّر ، ويتبجح علانية ، وستدون مكتبة واسعة من كتب سطرت بالمداد الأحمر التهديدي لكل البشرية ، وليس كتاباً واحدا .
وهذه بريطانيا حاربت في فوكلاند قبل عشرين سنة تحت شعار توريد الديمقراطية إلى الأرجنتين ، وهي الآن تستنبط النفط من تلك الجزيرة النائية التي عجب السذج من اهتمام بريطانيا بها ذاك اليوم ، وصار المثل الفوكلاندي واضحاً في قيادة حروب النفط بشعارات التباكي على الديمقراطية .
لكن التأمل يدلنا على أن هذه الأهداف النفطية والسياسية التي تريد أمريكا الوصول إليها عبر الحرب تعتبر ثانوية بالنسبة إلى الهدف الرئيس الأهم المتمثل في محاولة تحطيم العراق وجيشه وتدمير البنية الصحية والنفسية المعنوية للشعب العراقي بحيث يعجز عن دخول حرب مع إسرائيل ، فأمريكا تقوم بهذه المهمة نيابة عن إسرائيل ، إذ اليهود يجدون في التلمود أن خراب دولتهم الثانية هذه سيكون على أيادي جند ُأولي بأس شديد يخرجون من أرض بابل كما خرج نبوخذ نُصّر الذي خرب دولتهم الأولى قبل آلاف السنين وساقهم أسرى ، وإنما صممت أمريكا مواصفات حصار العراق وامتداد وقته بحيث تحصل حالة سوء تغذية في عموم الشعب طويلة الأمد تؤدي إلى وهن عام وإحداث طفرة وراثية تنتج المرض المنغولي وأنواع الإعاقة والتخلف إلى درجة يضمر معها الذكاء وعموم مستلزمات الأداء الحربي لشعب العراق وتحصل حالة انكفاء عام واهتمام بالآلام ، فينام اليهود عندئذ بأمان ، ولكن الله سلـّم ، وشاءت حكمته أن يكون التمر الكثير في العراق أفضل غذاء غني بأنواع المعادن والفيتامينات ، فأنجد أهل العراق ، وفشل الحصار في تحقيق هدفه ، وصار تحطيم هذا الشعب الجسور من مهمات الحرب الاستعمارية الأمريكية الجديدة ، بحيث صممت لنشر الموت الذريع في هذا الشعب الأبي ، أو الإعاقة الدائمة ، عبر استعمال آلاف الصواريخ والقنابل الذكية الليزرية وقنابل أخرى تسمى قنابل المايكرو ويف تعطل جميع الأجهزة الألكترونية وتحرق جلود الناس ، وربما استعملت أمريكا الأسلحة النووية والقنايل النيوترونية ، كما صرح رامسفيلد وزير دفاعها ، لنشر الإعاقة فيمن تناله إشعاعاتها ، مما يؤيد الشكوك في أن الحرب إنما تراد لتحطيم الشعب والبنية الصحية والطاقات الصناعية والزراعية ، وحرق النخيل الذي يتحدى التجويع ، ثم تتولى خطة إفقار العراق على المدى الطويل إتمام المهمة الشريرة ، وتحول مياه أنهاره إلى إسرائيل فتيبس الحقول ، وتحول أثمان نفطه إلى إطفاء الديون وسداد العقوبات وكلفة الحرب ، فتكون الكارثة الصحية ويحصل الانهيار المعنوي ، وإنما ملاذنا رحمة الله تعالى لعباده المستضعفين ، والثقة به : أنه يدافع عن الذين آمنوا ، ويثأر للمظلوم ، مع العلم أن مدير برنامج الغذاء العالمي قد صرح أمس بأن المتوقع أن الحرب ستصيب ما بين خمسة إلى عشرة مليون عراقي بنقص الغذاء ، وأن جمعيته لا تستطيع إلا مساعدة تسعمائة ألف فقط .
وإمعاناً في الاحتياط وفي تحقيق الأمن الإسرائيلي بصورة تامة : تجنح الخطة الأمريكية إلى استثمار الانتصار الحربي القادم لإجبار الحكومة العراقية العميلة التي سينصبونها على انتهاج ثلاثة مناهج سلبية تمنح لإسرائيل أمنها :
أولها : الاعتراف الرسمي بإسرائيل ، وعقد معاهدة على غرار معاهدات السلام التي وقعها السادات وغيره ، والقبول بالتطبيع السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع اليهود ، وبذلك تتوفر حماية دائمة لإسرائيل وفق القانون الدولي وأنظمة الأمم المتحدة وحلف الناتو تمنع العراق من شن حرب في المستقبل على إسرائيل أو ألحاق أي نوع من الأذى بها مهما صغر ، وذلك يعني تعطيل فريضة الجهاد والمفاصلة الإيمانية الواجبة تجاه أخبث الكفار . ويتضمن هذا الحال نزع الهوية الإسلامية للشعب العراقي عبر المناهج الدراسية والتلقين الإعلامي الكثيف ، وغرس تربية غربية جاهلية بديلة أمريكية الأنماط والأذواق ، وفرض هزيمة معنوية وفرض شعور يأس واستسلام للعدو . والجدير بالذكر أن رسائل كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي إلى أقطاب المعارضة العراقية اشترطت عليهم صراحة وجوب الاعتراف بإسرائيل ، وقبلت المعارضة ذلك .
ثم ثانياً : تسريح الجيش العراقي ، وبعثرة خبرته القتالية التي تراكمت عبر حربه مع إيران بخاصة ، وتشتيت معادنه القيادية ، ونزع أسلحته ، ومنع احتمالات تطويرها . وهذا شرط واضح أيضاً في رسائل مستشارة الأمن القومي قبلته المعارضة ، وفيه ما فيه من توفير الأمن لإسرائيل ، بل جميع حكام العرب بلا استثناء يلوكون نصيحة للعراق تحثه على التنفيذ الكامل لقرار الأمم المتحدة رقم 1441 ونزع أسلحة الدمار الشامل ، وكأنهم يخاطبون إسرائيل ، وكان المستشار الألماني شرويدر أحرص منهم على قول الحق ، فأوجب في خطابه أمام البرلمان الألماني نزع أسلحة الدمار من جميع الشرق الأوسط ، ويعني بذلك القدرات النووية الإسرائيلية .
وحيث يرد ذكر كونداليزا هذه : يتذكر كل عراقي مثقف رسائل مس بيل ، الجاسوسة الشهيرة التي رافقت حملة الجنرال مود لفتح العراق وأشرفت على تكوين الحكومة العراقية الأولى من عناصر مثيلة لعناصر المعارضة الحالية ، فالتاريخ يعيد نفسه .
والثالث : تقسيم العراق ، فوراً بلا مقدمات ، أو على مرحلتين ، عبر تكوين الفيدراليات التي يتطور أمرها بعد سنوات إلى استقلال ، وينصرف الأكراد حينئذ إلى ترسيخ قواعد دولتهم الوليدة وتوسيعها ويحدث منهم تنصل من سيرة صلاح الدين الأيوبي ، ويعفون أنفسهم من أي مشاركة في جهد إسلامي قادم يحاول تحرير فلسطين ، ويحتجون بالضرورة والضعف وأولوية تحرير بقية كردستان في تركيا وإيران وسوريا ، وسيكون منهم وفاء للمعاونة التي أبدتها إسرائيل للقضية الاستقلالية الكردية وللروابط التي أقامها الملا مصطفى البارزاني معها خلال زيارته الشهيرة لإسرائيل ، بحيث أن الدولة الكردية ستكون مأسورة إلى ذلك الجميل اليهودي ، واليوم نجد ألسنتنا معقولة عن مصارحة الأخوة الأكراد بأكثر من هذا ، لأن ظلماً بشعاً نالهم من صدام والذين قبله ، وأصبحت القضية الكردية شائكة ، إذ بينما ترتفع الدعوات الحقة لرفع الظلم عنهم ومنحهم الحقوق السياسية والإنسانية ، والتي نؤيدها ونراها أساساً مدنياً يدعم الأساس الإيماني الذي تقوم عليه روابط الأخوة بين شعوب الأمة الإسلامية : تختلط هذه الدعوات بشوق كردي عارم يحدوهم نحو الاستقلال ، والميزان الشرعي الذي نزن به أمورنا السياسية يقضي بوقف نزيف تقطيع أوصال الأمة الإسلامية الواحدة ، ومنع تكوين الدول على أساس قومي ، مما يجعلنا اليوم نجفل من تقسيم العراق ، ومنح الاستقلال للأكراد بقرار أمريكي وتحت سيطرة استعمارية تهدف إلى تحقيق الأمن الإسرائيلي عبر تقطيع أوصال العراق ، وقول الإخوة الأكراد حين دفاعهم عن توجههم بأن المنطقة مقسمة أصلاً على أساس قومي أرادته معاهدة سايكس بيكو وحرم من ذلك الأكراد فقط : هو قول ترفضه المعايير الشرعية أيضاً ، لأن الخطأ لا يقلد ، بل يبقى أمراً سلبيا نحاول تعديله ما استطعنا ، ومعاهدة بوش بلير الحالية إنما هي صيغة جديدة لجريمة سايكس بيكو ، والتاريخ يعيد نفسه ، والواجب أن نتنصل منهما معاً ، وأن نرفع شعار ما بقي موحدا على وحدته ، والدعوة إلى لم شمل ما فرقته السياسات الاستعمارية من قبل ، وتوحيد الأمة ثانية ، وكما أننا دعاة الإسلام العرب ننكر على العلمانيين والقوميين الذين بين ظهرانَينا من أبناء جلدتنا ونطالبهم بالتزام منهج القرآن وفكر الإسلام وروابط الإيمان ، ونقول لهم بصراحة أنهم على خطأ : فأن دعاة الإسلام الكرد عليهم التمرد على ردود فعل النكبات التي وقعت على الشعب الكردي ودعوة علمانيي الأكراد وقومييهم إلى التزام الحكم الشرعي في وحدة الأمة الإسلامية ، والتحول إلى بذل جهد مشترك مع جميع دعاة الإسلام العرب وغيرهم لإقامة حكم إسلامي عادل يمنع التظالم القومي ويعيد إلى كردستان الابتسام بعد مسلسل الأحزان .
وليست بقية قصة التقسيم التي تضع هندسة تكوين دويلة شيعية في جنوب العراق بأقل خطراً على الأمن الإسلامي وتوفيراً للأمن الإسرائيلي ، إذ أن هذه الدولة الوليدة بأياد أمريكية ستنشغل لدهر طويل بتمتين الروابط مع إيران ، وبتصفية حسابات تاريخية ، وتنصرف عن قضية تحرير فلسطين بالضرورة ، ويبقى الجهاد ضد إسرائيل مهمة دويلة وسط العراق فقط ، المكبلة بمعاهدة السلام ، وبالفقر والأمراض ، والتي لا جيش لها أصلا .
وبذلك تتضح خدمة خطة التقسيم وتسريح الجيش وتقنين السلام لعملية تحطيم الشعب العراقي جسدياً ونفسياً كركن من أركان الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية كما رواها قبل ما يقرب من نصف قرن الصحفي الهندي كارنجيا في كتابه " خنجر إسرائيل " نقلاً عن بعض رؤساء الدول وقادة إسرائيل أنفسهم .
ومع جسامة هذه الأهداف في الاستيلاء على النفط الوافر وتدمير الشعب العراقي وتوفير الأمن الإسرائيلي : يوجد في المخطط الأمريكي أبعاد أخرى عديدة :
منها بُعد الاستنزاف المالي والإفقار الطويل الأمد ، فعلى العراق أن يدفع عقوبات مالية للكويت وغيرها تزيد على مائتي مليار دولار ، وأن يدفع لأمريكا نفقات الحرب القادمة التي تبلغ أكثر من مائتين وسبعين مليار أخرى ، ولو ُأضيفت لها مديونيات العراق لروسيا وغيرها : يكون عليه أن يدفع أكثر من خمسمائة مليار دولار مع فوائدها ، مما يجعل ثلاثة أجيال عراقية قادمة أو أربعة تعيش تحت خط الفقر المدقع وبلا أمل ولا عمل حتى نهاية القرن الحادي والعشرين ، ويزداد الضرر عبر سريان الاستنزاف إلى الدول العربية التي أعلنت البنوك فيها فقط أنها ستخسر ستين مليار دولار بسبب الحرب ، وكل ذلك يشكل كارثة إنسانية لم تقع في الحياة البشرية بهذا الحجم عبر طرق الضغط السياسي الدولي ، وما من سبب سوى القدَر المكتوب على أهل العراق أن يكونوا هم الذين يهدمون هيكل سليمان الثاني ويفتحون القدس وُيتبرون علو يهود تتبيرا ، وخطة الإفقار تزيدنا إيماناً بذلك ، لتكون المعجزة أتم : أن قوماً فقراء يفتح الله على أيديهم الفتوح بلا سلاح وتكنولوجيا متقدمة ، بل بفداء الأرواح وعمق التصميم وشدة الإرادة وصلابة التحدي ، ويفعل الله ما يشاء .
ومنها البعد التدميري للزراعة ، فإن أمريكا تريد تعميم استخدام الحنطة كسلاح ضغط على جميع الأمم ، مارسته بنجاح في إسقاط الإتحاد السوفيتي ، وتمارسه اليوم تجاه مصر حيث لا تفرغ بواخر الحنطة الأمريكية حمولتها في الموانئ المصرية إلا بعد فراغ المخزون المصري واضطرار القاهرة لتقديم تنازلات سياسية والقيام بدور السمسار لتسويق الطلبات الأمريكية لدى الحكومات العربية ، وكانت أمريكا سنة 1990 م قد منعت دولة جزيرة العرب من إنتاج الحنطة ، في قصة شهيرة . وكما ثبت أن إسرائيل بعد معاهدة كامب ديفيد قد استخدمت مجالات التعاون الزراعي مع مصر لتدمير النظام الزراعي المصري الموروث وإفساد التربة وتسميم الأسمدة من أجل تجويع الشعب المصري وتسويق الحنطة الأمريكية ، فأن تدميراً أمريكياً لمنتوج الحنطة العراقي يوشك أن يكون ، لطعن خطة الأمن الغذائي العراقي والتحول إلى الاعتماد على الحنطة الأمريكية التي لن تكون بغير ثمن سياسي جديد مع كل شحنة تصل الميناء ، وسيزداد السوء بتدمير النخيل ، رمز العراق ، ومحور الأمن الغذائي العراقي ، لتمكين الطفرة الوراثية أن تجد لها مسرباً عبر سوء التغذية ونقص المعادن في الغذاء .
والبُعد المائي أيضاً : والماء بند رئيس في الخطة الأمنية الإسرائيلية ، فهي برغم تفوقها العسكري توشك أن تختنق عطشا ، وسيتبع احتلال العراق احتلال سوريا أو إجبارها على توقيع معاهدة صلح مع إسرائيل يكون من أهم بنودها السماح بمد القنوات أو الأنابيب عبر أراضيها من تركيا إلى إسرائيل لنقل معظم مياه الفرات ودجلة لها ، وكنا نعجب من مضي تركيا قدما في خطة بناء السدود المائية ، وما كنا ندري أنها تنتظر مثل هذه الحرب التي تفتح لها مجال بيع الماء إلى إسرائيل ، ومع الأسف فإن الحزب الإسلامي الذي وصل إلى الحكم في تركيا قد سقط في أول امتحان واجهه ، وسمح بانتشار القوات الكافرة في أراضيه لغزو بلد مسلم شقيق ، وسيبيع الماء لاحقاً إلى إسرائيل ، ولو كان رؤساء هذا الحزب حكماء لمنعوا أمريكا ، والشعب يؤيدهم ، ولصاروا أبطالاً ، لكنهم قدموا الولاء لكافر مقابل عشرين مليار دولار فقط ، لا يبارك الله بها ، ولو أبدوا صلابة وخلعهم الجيش عن الحكم لصاروا من كبار الأبطال لدى الأمة كلها ، ولعادوا لاحقاً إلى الحكم بإجماع من الشعب ، ولكن خدعتهم دعاوى السياسة الواقعية وأوهام وجوب المسايرة لأمريكا ، فزايد عليهم حزب الشعب التركي ، الأمريكي الولاء والعِرق والهوى والتمويل ، وأصبح يبيع الوطنية ويبشر بالسلام إذ هو الحزب العميل الخياني .
ثم البعد الثقافي ، بإشاعة النموذج الأمريكي والفلسفة المادية التي ابتنى عليها المجتمع الأمريكي الحاضر ، وستلغى المدارس الإسلامية ، وتبدل مناهج التربية المدرسية كلها ، وكانت معاهدة كامب ديفيد قد أتاحت تخريج ثلاثة آلاف طالب دكتوراه مصري بمنح دراسية من جمعيات صهيونية أمريكية تركتهم يؤمنون بالسلام والتطبيع ، وتحقق بذلك اختراق يهودي كبير لفئة المثقفين المصريين الذين وقفوا مواقف بطولية واعية ضد التطبيع بقيادة الإسلاميين ، وهؤلاء الذين خرجتهم المنح الدراسية الصهيونية مدخرون لأحداث هذه النقلة الثقافية التي تريد أمريكا تطبيقها بعد الحرب في العراق وعموم العالم العربي ، والمخفي أعظم من المعروف ، والمظنون أن قمعاً لكل الحركات الإسلامية ستمارسه المخابرات الأمريكية ضمن ترويج هذا النموذج الثقافي الكفري ، وتتم محاصرة كل داعية وعالم ومفكر وباحث وأديب ، ويسود زمن النكِرات والخونة والمهازيل .
وكل هذه الترديات المالية والزراعية والثقافية ، والعطش والجوع والمرض : ستتيح لإسرائيل بلوغ منزلة " العلو الإفسادي الكبير " التي أخبرنا عنها القرآن ، وسنرى منها مشية الخيلاء والكبرياء ، وذلك قدر رباني ينبغي أن تبلغه إسرائيل ويحل في عالم الواقع بوضوح ، ليأذن الله لعباده الذين أترضى أن يجوسوا خلال الديار ، ويدمروها ، ويرى مَن هنالك من مسلم وكافر وعد الله تعالى ، وأنه صار وعداً مفعولا ، فالحرب وجميع أبعادها : هي مقدمة لهذا الوعد الذي لابد أن يكون .
ومن خلال سرد الحقائق وانكشاف الخطط الأمريكية يصبح من الواضح جداً أن تعاون أي مسلم مع هذه الحملة الاستعمارية هو من الحرام القطعي الذي لا مجال للتأول فيه ، سواء كان ذلك بالقتال مع الأمريكان ، كما هو شأن لواء بدر المسنود من إيران ، أو اللواء الكردي الذي تم تدريبه من قبل ضباط أمريكان ليكون طليعة الزحف الأمريكي في الجبهة الشمالية ، أو قتال الجيش التركي بمعية الجيش الأمريكي ، أو كان بنوع من أنواع الخدمات اللوجستية أو المحلية التي تقدمها الكويت وبعض البلاد العربية وتركيا ، بل حتى الميل القلبي وتمني انتصار أمريكا : كل ذلك يدخل في دائرة الحرام ، كما هي فتوى العلماء ، وبقولهم أقول . وتقديم الغطاء السياسي للغزو الأمريكي عبر مؤتمر المعارضة العراقية الذي انعقد في لندن وينعقد الآن ثانية في أربيل : يعتبر المنزلة الوسطى في هذا الحرام ، تقع بين القتال والتمني ، فمن اقترف ذلك عالماً بأبعاد السياسة وخفاياها ففقد ارتكب إثماً مبيناً وذنباً غليظاً تؤكد قواعد الفكر السياسي الإسلامي حرمته القطعية ومَن حَشَر نفسه بسذاجة وعفوية مع العامدين فهو بحاجة إلى توبة واستغفار من خطأ مجزوم به ، وهدى الله دعاة جماعة الإخوان المسلمين إلى براءة من تعاون مشبوه ، وتمذهبوا بمذهب الاستقلال والتميز والاستعلاء الإيماني في يوم الاختلاط وضجيج الصيحات الثأرية وحشرجة المضايق الطائفية والشعوبية ، وقد اقترب دعاة الإخوان من المعارضة العراقية ، يدفعهم حسن الظن وتأولاً في إسماعها كلمات الحق الذي يؤمنون به ، فوجدوا أن أمرها ليس في يدها ، بل بيد السفير الأمريكي المبعوث لها ، وبيد الفتاة الشرسة والنحسة كونداليزا رايس ، فارتد الدعاة سريعاً يلوذون بعفافهم وفكرهم النقي وأسلوبهم السياسي الناصع البياض ، وأبوا أن تتلوث جماعة الإخوان بشيء مما في الساحة من غبار وجراثيم تنخر أصل القلوب والنوايا من بعد ما حرفت العقول ، واسترجعت الجماعة مواقفها التاريخية المشرفة ضد الحصار و التقسيم والطائفية والثأرية ، فثبتت بحمد الله على منهجها القديم الجديد في موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين .
ولئن أوهمت المعارضة نفسها بوهم تكوين حكومة من أحزابها ورجالها بعد انتهاء الحرب فإن هذا الخيال أصبح مفنداً تماماً بتأكيدات الإدارة الأمريكية أنها ستعين جنرالاً يحكم العراق سنوات عديدة ، ويختار لجنة صغيرة معه تحكم العراق حكماً عسكرياً عرفياً ، ويكون من ضمنهم جنرال تركي يمنع استقلال الأكراد . والمفروض أن تعي المعارضة هذا الدرس جيداً وتتوقف عن خداع أتباعها بعدما تبين لها أنها كانت مجرد أداة لتحقيق غطاء سياسي لمشروع الحرب الأمريكية عبر مؤتمر لندن واجتماعات واشنطن التي سبقته واجتماع أربيل الحالي ، لكنها لم تفعل ، لأنها تعتمد على الأموال الأمريكية وبعض عناصرها مربوط استخبارياً وأمنياً ، والتفلت محال ، وكانت هناك بدايات ومقدمات جعلت التزام نتائجها أمراً لا مناص منه ، واستمرار الارتباط حتمي ، وإلا أنكشف سِر وانكسر ضلع ، ووجدت المعارضة نفسها أسيرة محبوسة في نطاق الولاء الذي بذلته دون وعي سياسي ، فضلاً عن وعي حضاري يجب أن ترتكز عليه القرارات المصيرية ، فضلاً عن وعي إيماني شرعي باعتبارهم مسلمين يخاطبهم القرآن بجهاد وعزة ، وقد أبطلت صراحة الإدارة الأمريكية مزاعم المعارضة العراقية الواثقة بها ، وهناك اليوم يأس تام من أن يكون لأحزاب المعارضة أي دور في الفترة الانتقالية التي قد تطول ، ورجع الأمر في النهاية إلى صواب جماعة الإخوان المسلمين في العراق وأرجاء العالم في رؤاها التي توقعت فيها استبداداً جديداً يمارسه الجنرال الأمريكي حاكم العراق العام ، وأولى بالمعارضة أن تيأس وأن تعترف بخطأ التقدير والتدبير ، وكان أبشع ما في هذا الخطأ : التوافق مع المنطق الكويتي الحكومي الزاعم تمكين الجيش الأمريكي من تحرير شعب العراق ومنحه الديموقراطية دون النظر إلى القتل الذريع والإعاقة الواسعة التي تصاحب هذا العطف الكاذب عبر حرب لئيمة قد يصل أمرها إلى استعمال القنابل النيوترونية ، وصدق أحد المراقبين في التنبيه إلى أن من الحب ما قتل ، كما قال الشاعر قديما ، وإن مَن أعان على قتل مسلم هو في الحكم الشرعي مسرف في الإثم ومحروم من رحمة الله ، فكيف بمن سيعين على قتل مئات ألوف أو ملايين ؟
إن نقطة ضعف المعارضة العراقية تكمن في أنها رهنت القضية العراقية لدى أمريكا ، وباتت تعتقد اعتقاد أنور السادات في أن تسعة وتسعين بالمائة من الحلول هي في السلة الأمريكية ، ونزلت مرتبة العلاقة مع أمريكا من منزلة التفاوض المفترض إلى مرتبة التبعية وحسن الاستماع للسفير الأمريكي لدى المعارضة ، وفي هذا ما يؤسس في المفهوم الشرعي حالة ولاء لكافر تخالف قواعد الإيمان ، وتحول التفاوض إلى تفويض ، وفي آخر تصريحات السيد محمود عثمان ، أحد أقطاب المعارضة الكردية مساء يوم 24/2/2003 في قناة ANN الفضائية فيما ينقله عن القيادات الكردية أن تأجيل اجتماع المعارضة في أربيل لأكثر من أسبوعين إنما هو بسبب عدم وصول الطرف الأمريكي ، وأنه هو الطرف الأهم في الاجتماع لا الأحزاب العراقية الأخرى ، وأن الأكراد يريدون التباحث مع الأمريكان مباشرة ، وبخاصة في موضوع إشراك تركيا في الترتيبات الأمنية وفي الحكم القادم وامتلاكها حصة من نفط العراق ثمناً لتعاونها ، والأكراد في حرج من ذلك شديد ، وانطلى عليهم المقلب الأمريكي ، وعلى بقية المعارضة ، ولم تتضمن كلمة السفير الأمريكي زلماي خليل زاده بالأمس في صلاح الدين أية وعود للمعارضة واضحة ، والمفروض أن يتوب الجميع من هذا الاعتقاد بولاية أمريكا على قضيتهم ووصايتها على العراق ، وخير للمعارضة أن تستقل عن أمريكا ، وأن تعارض الحرب ، وتسعى إلى انتزاع الحقوق عبر طرق ذاتية ، لو كان رجالها يفقهون ، والاعتراف بالخطأ فضيلة ، والتوكل على الله أولى ، ولهم في خطة استقلال " الإخوان المسلمون " ُأسوة حسنة إذا كانوا يريدون الإنصاف وتجنيب الشعب المتعَب منذ مدة طويلة ويلات حرب جديدة ماحقة ، وإذا كانت هذه التدبيرات المستقلة أضعف من أن تمنع الحرب فليؤمنوا بأن الدنيا تؤخذ غلابا ، وليستعدوا لمرحلة مقاومة ودفاع فيما بعد الحرب ، معتصمين بالإيمان ، وساعين إلى عراق موحد تحت راية حكم إسلامي ، لأن الجيش الأمريكي محروم من الصبر على ضرائب سجال الحروب ، وإنما يتقن الحرب السريعة فقط عبر تفوق السلاح ، فإذا كان هناك قتل جندي واحد في اليوم فإن القيادة توشك أن تعلن انسحابها ، وإنما نقتدي بتجارب الأمم ، والله يبارك عمل المجاهدين إذا صدقت نياتهم ، ويجعل القليل كثيرا ، والضعيف قويا ، والجيل السياسي الحاضر قد نسي بركات هذه الموازين الإيمانية ، وذهل عن معنى العزة الإسلامية وهو بحاجة إلى مثل هذه الموعظة التي ترجعه إلى الأصالة وإلى المنهج القرآني في العمل السياسي ، والنظر إلى مدلول الفقه ، والتفرقة بين الحلال والحرام ، وتحدوه إلى التزام البراء من الكافرين ، ولا يحق لأي كبير من رجال المعارضة مهما سطع نجمه أن يكون فوق هذه الموعظة ويسوم سعره غاليا ، بل الكبير صغير إذا تجاوز الشرع وارتكب المعاصي السياسية ، وما كانت أحكام الشرع والتزامات الإيمان لتحرج أحداً وتعقله عن تحقيق المصالح السياسية لبلاده بالحسنى ، لأننا حين نأمر بالتزام الموازين : نأذن في نفس الوقت بإتباع فقه الموازنات ، وما فيها من التفاف وتملص ، وفي الفقه مرونة ، ولكن ذلك إنما يسوغ لمن يفاوض من موطن المكافأة ، وليس لمن يلغي أفكاره ويصير تابعاً ويرتضي غزو الكافر لبلده ويقدم الغطاء السياسي لحروبه ، والقلب الحي العامر بالإيمان يميز الفرق ما بين السيرتين ، ويستروح لتأويل مخرّج على قواعد الشرع ، ويشمئز من منطق التبعية وفلسفة استضعاف النفس ، والعلماني بعيد عن إدراك هذه المعاني ، والطائفي أبعد ، ويجعل القومي التعاون مع الشيطان ضرورة مرحلية ، وفاز بلذة السكينة القلبية وثبات المنهج الجهادي مؤمن يشعر بالأخوة الإسلامية العامة ويجرد أعماله " في سبيل الله " وابتغاء مرضاته ، والفقه لا يسمح أبداً لمعارض أن يفسد في الأرض عبر الحرب وتمكين الكفار بمقابل التخلص من نظام ظالم مهما بلغ ظلمه ، وجميع ما ارتكبه صدام من قتل وظلم وعدوان لن يبغ عُشر ويلات الحرب الأمريكية ، والمصالح التي فوتها صدام على الشعب العراقي وعلى الأمة لن تبلغ أيضاً عُشر الأضرار النفطية والاقتصادية والمعنوية التي تنويها أمريكا تجاه العراق والمنطقة والأمة جمعاء ، والمزايدات الجزافية التي ترتكبها المعارضة ليست بشيء ، ولا لها من الحكمة سند ، وإنما هي تدور بين تنفيسات ثأرية ، أو مصالح شخصية ، ويبقى منهج الاستقلال عن الكافر الغازي والظالم المستبد معاً في الوقت الواحد هو المنهج الأصوب الأطهر ، وقد سلكه " الإخوان المسلمون العراقيون " بشجاعة ، وكل مخلص مدعو إلى إقتداء ، وقامة " الإخوان " الفارعة هي القامة الوحيدة المنتصبة في الساحة بلا طائفية ولا قومية ، وذلك امتياز في محيط منحاز ، أحرى أن يفهمه عقلاء العراق ويسلكوا سبيل الإخوان ورؤاهم وإشاعة فكرهم السياسي وتحليلهم لأسباب الحملة وحلولهم للمعضلة العراقية ومناداتهم بمذهب الاستقلال والعفاف في يوم الاختلاط وسطوة الكافر ، والعراقي الأصيل يأبى مصافحة الكافر المستعمر ، وكما سلك آباؤنا تجاه الجنرال البريطاني المستعمر " مود " ينبغي أن نسلك ، وكما ثار آباؤنا ينبغي أن نثور على الاحتلال الأمريكي .
ومن منطق بعض أطراف المعارضة أنها تدعو إلى إنقاذ العراق من صدام بأي ثمن ، وليأت بعده من يأت !!
وهذه صيحة مظلوم ناله الإحباط ونفذ صبره ، وهو قول يرده الفقه وتنكره موازين الشرع ، لأن الموازنة تبدي أن الظالم صدام مهما بلغ أقل ضرراً من جنرال أمريكي يحكم العراق وينفذ أوامر بوش ويمتص رحيقنا ويسرح جيشنا ويقسرنا على الصلح مع إسرائيل ويطبّع حياتنا مع يهود وينشر الفساد ويبدل مناهج المدارس إلى ما يوافق مصالحه ويجعل العراق منطلقاً لتغيير الحكومات العربية والمجاورة إلى حكومات أكثر تبعية لأمريكا وأعتى في محاربة الدعوة الإسلامية .
والذي يقول مثل هذا القول ممن هو في داخل العراق لن يكون لقوله ميزة ، كما يتبادر إلى ذهن المستعجل ، يظن أنها شهادة مكتوٍ بنار الظلم تمثل حقيقة الوضع ، بل هي هدر ، لأن الناس في الداخل في شبه سجن ، حيث لا جرائد ولا وثائق ولا سماع للقنوات الفضائية إلا قليلا ، وهم لا يعلمون أسواء الخطة الأمريكية : فنتأول لهم أنهم في ظرف صعب يجنح بهم إلى الإغراب والتمني غير الواعي ، ولا مساغ لترجيح قولهم على موازين الشرع ، والفكر السياسي الإسلامي لا يشهد لهذه الاستغاثة ، وإنما يزال ظلم صدام بطرق أخرى غير الحرب .
ومن الخطأ المحض جنوح المعارضة إلى القول بأن استقلالها عن أمريكا لا يمنع أمريكا من ضرب العراق ، وأن الأمر ما دام كذلك فإن الأفضل أن تكون ضمن الحملة وعلى علاقة بأمريكا . فهذا منطق سياسي بحت يبالغ في الواقعية لا يشهد له تاريخ الاستعمار الذي يضع مثل هذه المعارضة في موضع التابع المأمور فقط ، فوق أنه مناقض للمفهوم الشرعي في النهي عن المنكر والجهاد ، فلو كل منكر لا نستطيع دفعه نكون معه لتم نحت التطبيقات العملية للأوامر الشرعية شيئاً بعد شيء إلى درجة أن نكون داجنين لا مدججين ، وتابعين للكافر والفاسق إذا كان هو الأقوى سلاحاً ومالاً وأثرا ، ولكنه صراع قدَر السوء بقدر الخير هو الطريق الإيماني الذي نؤمر به ، فالحرب لا نقدر على دفعها كلياً ، فندفعها جزئياً بالامتناع عن تقديم الغطاء السياسي لها أو بعض الغطاء ، وبالعفاف وال