عبدالله بن ناصر الصبيح / كاتب وباحث سعودي
ورغم ما في الديمقراطية من عيوب ومخالفات، إلا أن معالجتها ممكنة، وبعض دول المنطقة العربية سارعت في الأخذ ببعض مظاهر الديمقراطية، وكان من أبرز ما أخذوا به المجالس البرلمانية والانتخابات، وبعض تجاربها مشوهة، لم يحصد منها الشعب إلا الحصرم، وبعض التجارب تضمنت بعض معاني الشورى، فكانت خيرا من استبداد غاشم ظلوم. وهذه الورقة تضمنت مراجعات لمفهوم الديمقراطية وإمكانية تطبيقها في مجتمع مسلم. كما تناولت ما يمكن أن ينتج عن تطبيق الديمقراطية من تغيرات ثقافية وتغيرات في البنية الاجتماعية.
بقلم د.عبدالله بن ناصر الصبيح
* مقدمة:
استقر في ذهن كثيرين في هذا العصر أن الديمقراطية من مواصفات الحكم الجيد، ومما رسخ هذا التصور عدم وضوح النماذج البديلة ودعاية الإعلام وما شاع في العالم العربي من نظم فاسدة متسلطة على رقاب الناس تمنع عنهم حقوقهم وتأبى تطبيق الشريعة وتحول بينهم وبين العيش في ظلها، مما دفعهم إلى التطلع إلى مخلص لهم، مما هم فيه من البلاء ورأوا أن في الديمقراطية فرجا.
ولاشك أن الديمقراطية تنطوي على بعض مواصفات الحكم الجيد كسيادة القانون ومحاسبة الحاكم وفصل السلطات واستقلال القضاء، ولكنها لا تخلو من عيوب ومنها تأثير أرباب الأموال على نتائج الانتخابات، وعلى قرارات المجالس المنتخبة فيما يعرف باللوبي lobbying، وتنطوي أيضا على مخالفة شرعية تهدم أصل الإسلام وهي الاعتقاد بأن المرجعية في الحكم إنما هي للشعب وليست لله عز وجل.
ورغم ما في الديمقراطية من عيوب ومخالفات، إلا أن معالجتها ممكنة، وبعض دول المنطقة العربية سارعت في الأخذ ببعض مظاهر الديمقراطية وكان من أبرز ما أخذوا به المجالس البرلمانية والانتخابات، وبعض تجاربها مشوهة برق خلب لم يحصد منها الشعب إلا الحصرم، وبعض التجارب تضمنت بعض معاني الشورى، فكانت خيرا من استبداد غاشم ظلوم.
وهذه الورقة تضمنت مراجعات لمفهوم الديمقراطية وإمكانية تطبيقها في مجتمع مسلم. كما تناولت ما يمكن أن ينتج عن تطبيق الديمقراطية من تغيرات ثقافية وتغيرات في البنية الاجتماعية.
وهدف الورقة بحث إمكانية تطبيق الديمقراطية في مجتمع هويته الإسلام، ذلك أن الديمقراطية بصيغتها المعهودة لا تتفق مع التصور الإسلامي في نقاط أبرزها ثلاث:
1. تعارض الديمقراطية مع حاكمية الشريعة
2. قد ينجح في الانتخابات الرئاسية من ليس مسلما أو من هو معارض للشريعة الإسلامية.
3. مشاركة غير المسلمين في الانتخابات الرئاسية.
والورقة جاءت في ستة أقسام موجزة:
أولا: مفهوم الديمقراطية.
ثانيا: مواصفات الديمقراطية.
ثالثا: الثقافة الديمقراطية والتطبيع عليها.
رابعا: المفاهيم الثقافية والأبعاد الاجتماعية للديمقراطية.
خامسا: الديمقراطية والعالم العربي.
سادسا: خاتمة
وهذه الورقة أعددتها منذ بضع سنوات، واطلع عليها من استأنس برأيه فاستحسنها بعضهم وانتقدها آخرون، وقد تريثت في نشرها لأضيف عليها واستكمل ما يحتاج إلى إكمال، وقد استكملت جوانب منها وبقي الكثير مما يمكن إضافته واستدراكه ورأيت نشرها لعلها تستثير رغبة البحث عند من يعنيه هذا الموضوع. وما كان في الورقة من صواب فهو من الله عز وجل وما كان فيها من خطأ فهو مني وأستغفر الله منه. وما أردت إلا الخير وعسى أن أبلغ بعضه.
أولا: مفهوم الديمقراطية
"الديمقراطية"، كلمة اخترعت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد لتصف نظام الحكم المستخدم هناك. ويجمع من تحدث عن الديمقراطية بأنها كلمة يونانية معناها حكم الشعب، أما كيف يحكم الشعب فيختلف بحسب تطور مفهوم الديمقراطية من عصر إلى آخر. و في الاستعمال المعاصر تعني الديمقراطية الحكومة المنتخبة من قبل المواطنين سواء كانت مباشرة أو بالتمثيل. وهذا المفهوم نشأ في القرن الثامن عشر الميلادي، ولكن لم يوجد قبل عام 19 دولة ديمقراطية ليبرالية واحدة يتمتع جميع أفراد شعبها بحق الاقتراع العام كما أفاد بذلك فريد زكريا في كتابه (The Future of Freedom).
ـ تطور الديمقراطية:
في الثمانينات من القرن الثامن عشر، تطورت الحركات الاجتماعية التي تصف نفسها بالديمقراطية، وبسبب الصراع السياسي الذي نشأ بينها وبين طبقة النبلاء تغيرت الصورة السلبية عن الديمقراطية في أوربا فأصبحت إيجابية ورأى فيها العامة حركة مضادة لاستبداد الطبقة الارستقراطية، وكان الناس يرونها من قبل كلمة مرادفة للفوضى.
وفي الفترة نفسها صدرت دساتير حددت صلاحيات السلطات ومنها الدستور الفرنسي والدستور الأمريكي.. وفي أول القرن التاسع عشر، ظهرت الأحزاب التي تتنافس على أصوات الجماهير، وهذا عزز من مكانة الديمقراطية في الفكر السياسي.
وفي الفترة نفسها نشأت فكرة الديمقراطية التمثيلية وانتخاب أعضاء للبرلمان، ومن ثم بدأ التحول من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية التمثيلية. وتوسعت الحقوق السياسية لتشمل أنواعا من الطبقات الاجتماعية. وبدأت تزول العقبات التي تحول بين بعض المواطنين وبين الانتخاب كاشتراط الثروة أوالملكية أو الذكورة أو العرق، وكانت شروطا لازمة في ديمقراطية أثينا.
وفيما يلي عرض لديمقراطية أثينا ومقارنتها ببعض الديمقراطيات الحديثة.
ـ ديمقراطية أثينا:
ممن تحدث عن ديمقراطية أثينا، ول ديورانت (1419)، في كتابه قصة الحضارة، وفيما يلي نصوص من كتابه:
"ولقد كان يحد منها أولا أن أقلية صغيرة من الأهلين كانت هي التي تستطيع القراءة، ويحد منها من الوجهة الطبيعية صعوبة الوصول إلى أثينة من المدن القاصية في أتكا.هذا إلى أن حق الانتخاب كان مقصورا على من ولد من أبويين أثنيين حرين، وبلغ الحادية والعشرين من العمر. وكان هؤلاء وأسرهم دون غيرهم هم الذين يستمتعون بالحقوق المدنية أو يتحملون مباشرة أعباء الدولة الحربية والمالية. وفي داخل محيط هذه الدائرة التي تضم 43 من المواطنين يحرصون على ألا تشمل غيرهم من سكان أتكا البالغين 315".
"قلما يحضر أي اجتماع من اجتماعاتها إلا عدد قليل من أعضائها قلما كان يزيد على ألفين أو ثلاثة آلاف، وكان المواطنون الذين يعيشون في أثينة أو في ثغر بيرية يحضرون وكأنهم مصممون على أن يكون موطنهم هو المسيطر على الجمعية" (ج7، ص23).
"وكان أرقاء أتكا جميعهم البالغ عددهم 115، وجميع النساء وجميع العمال وجميع المستوطنين الغرباء البالغ عددهم 28 وعدد كبير من طبقة التجار كان هؤلاء كلهم تبعا لهذا محرومين من الحقوق السياسية" (ص 22).
من لهم الحق في الانتخاب لم يكونوا يجتمعون في أحزاب سياسية وإنما كانوا يقسمون إلى أنصار الألجركية أو أنصار الديمقراطية على أساس ميلهم إلى توسيع الحقوق السياسية أو تضييقها.
"وكان كل ناخب يعد بهذا الوصف عضوا في الهيئة الحاكمة الأساسية وهي الأكليزيا أو الجمعية، وعند هذا الحد من الحكم لم تكن هناك حكومة نيابية" (ص23).
" وكانت الجمعية تعقد جلساتها أربع مرات في الشهر، تعقدها في المناسبات الهامة في السوق العامة أو في ملهى ديونيس أو في ثغر بيرية. أما الجلسات العادية فكانت تعقد في مكان نصف دائري يدعى البنيكس على منحدر تل غرب الأريوبجوس وكان الأعضاء في هذه الحالات كلها يجلسون على مقاعد مكشوفة للسماء وتبدأ الجلسات عند مطلع الفجر ويفتتح كل دور بالتضحية بخنزير إلى زيوس" (ص23).
"ولم يكن يصح عرض تشريعات جديدة إلا في الجلسة الأولى في كل شهر وكان العضو الذي يقترحها هو الذي يعمل على قبولها. فإذا تبين بعد هذا أن هذه الشرائع شديدة الضرر كان من حق أي عضو آخر أن يلجأ خلال عام من قبولها إلى ما يسمى عدم الشرعية، فيطلب أن تفرض على صاحب التشريع غرامة أو أن يحرم من حقوقه السياسية أو يعدم. وكانت هذه هي الطريقة التي تتبعها أثينة لمنع العجلة في التشريع. (ص24).
"وكان لقرار عدم الشرعية هذا صيغة أخرى تجعل من حق الجمعية أن تعرض أي تشريع جديد قبل البت فيه على إحدى المحاكم لتبحثه من الناحية الدستورية أي من ناحية اتفاقه مع القوانين القائمة المعمول بها في البلاد. هذا إلى أنه كان على الجمعية قبل النظر في مشروع قانون أن تعرضه عن مجلس الخمس مائة ليبحثه أولا، كما يعرض أي مشروع قانون يقدم إلى مجلس الأمة الأمريكي في هذه الأيام قبل بحثه في المجلس على لجنة يفترض فيها أنها ذات علم خاص بموضوع المشروع وكفاية خاصة لبحثه. ولم يكن من حق مجلس الخمسمائة أن يرفض الاقتراح رفضا باتا بل كان كل ما يستطيعه أن يقدم تقريرا عنه مصحوبا بتوصية أو غير مصحوب بها" (ص 24).
"وكان المعتاد أن يفتتح رئيس الجمعية دور انعقادها بعرض تقرير عن مشروع مقدم لها. وكانت الجمعية تستمع إلى من يطلبون الكلام حسب سنهم، ولكن يجوز حرمان أي عضو من مخاطبة الجمعية إذا ثبت أنه لا يملك أرضا أو أنه غير متزوج زواجا شرعيا أو أهمل القيام بواجبه نحو أبويه أو أساء إلى الأخلاق العامة أو تهرب من القيام بالواجبات العسكرية أو ألقى درعه في إحدى المعارك الحربية أو أنه مدين للدولة بضريبة أو غيرها من المال" (ص 24).
"غير أن الخطباء المدربين وحدهم هم الذين كانوا يستخدمون حق الكلام لأنه لم يكن من السهل حمل الجمعية على الإصغاء للمتكلمين، فقد كانت تضحك من الخطأ في نطق الألفاظ وتحتج بصوت عال على الخروج عن موضوع النقاش وتعبر عن موافقتها بالصراخ الشديد والصفير والتصفيق باليدين وعن عدم موافقتها التامة بإحداث جلبة شديدة تضطر المتكلم إلى النزول عن المنصة وكان يحدد لكل متكلم وقت معين لايتجاوزه يقاس مداه بساعة مائية. وكانت طريقة الاقتراع هي رفع الأيدي إلا إذا كان للاقتراح أثر خاص مباشر في شخص ما، وفي هذه الحال يكون الاقتراع سريا" (ص24-25).
"وكانت هناك هيئة أعظم من الجمعية منزلة ولكنها أقل منها سلطانا، وهي هيئة المجلس المعروف باسم البول Boule. وكان البول في أصله مجلسا أعلى شبيها بمجالس الشيوخ في الحكومات النيابية. ولكن منزلته انحطت قبل عصر بركليز حتى أصبح لجنة تشريعية تابعة للإكليزيا. وكان أعضاؤه يختارون بالقرعة وبالدور من سجل المواطنين، على أن يختار خمسون منهم عن كل قبيلة من القبائل العشر وألا تطول مدة خدمتهم أكثر من سنة واحدة، كان العضو في القرن الرابع يتقاضى خمس أبولات في كل يوم من أيام انعقاد المجلس...(ص25).
"وكانت جلساته العادية علنية واختصاصاته تشريعية وتنفيذية واستشارية: فكان يفحص عن مشروعات القوانين المعروضة على الجمعية ويعدل صياغتها ويشرف على أعمال موظفي المدينة الدينيين والإداريين ويراقب حساباتهم ويشرف على الأموال والمشروعات والمباني العامة ويصدر مراسيم تنفيذية حين يتطلب العمل إصدارها، وتكون الجمعية غير منعقدة ويسيطر على شؤون الدولة الخارجية على أن تراجع الجمعية أعماله من هذه الناحية فيما بعد" (ص25-26).
ـ القوانين:
"يبدو أن القوانين كانت في نظر اليونان الأقدمين عادات مقدسة ارتضتها الآلهة وأوحت بها، وكانت لفظة ثميس themis في لغتهم تطلق على هذه العادات وعلى الآلهة التي يتمثل فيها نظام العالم الأخلاقي وائتلافه .. وكان القانون عندهم جزءا من الدين. وشاهد ذلك أن أقدم قوانين الملكية عند اليونان كانت ممتزجة بالطقوس الدينية وبقوانين المعابد".
"وكانت المرحلة الثانية من مراحل تاريخ التشريع اليوناني هي جمع العادات المقدسة وتنسيقها على يد مشترعين thesmothetai، أمثال زلولسوس وكرونداس ودراكون وصولون. وأما أن دون هؤلاء الرجال وأمثالهم قوانينهم الجديدة أصبحت العادات المقدسة thesmoi قوانين من وضع الإنسان nomoi. وفي هذه الكتب القانونية تحرر القانون من سيطرة الدين وازدادت على توالي الأيام صبغته الدنيوية.
"وكانت الخطوة الثالثة في تطور التشريع اليونان هي نمو الشرائع المطرد وتجمعها"(قصة الحضارة، 27-28).
"ولم تبلغ الشرائع الأثينية ما كنا نتوقعه لها من الاستنارة، وهي لا تسمو كثيرا عن شرائع حمورابي، وعيبها الأساسي أنها تقصر الحقوق القانونية على الأحرار الذين لا يكادون يتجاوزون سبع السكان، وحتى النساء والأطفال كانوا خارجين عن نطاق المواطنين أصحاب الحقوق. ولم يكن في وسع النزلاء أو الأجانب أو الأرقاء أن يرفعوا الدعاوى إلى المحاكم إلا عن طريق مواطن يأخذهم في كنفه. وكان ابتزاز المال بطريق الإرهاب وتعذيب العبيد المتكرر .. كان هذا كله وصمة لنظام أثينة القضائي الذي كانت تحسدها عليه سائر بلاد اليونان للينه وعدالته إذا قيس إلى غيره من النظم القضائية.." (قصة الحضارة، ج7، ص 34).
ـ النظام الإداري:
"حلت القرعة منذ عام 487 أو قبله محل الانتخاب في اختيار الاركونين، ذلك أنه كان لابد من إيجاد طريقة ما لمنع الأغنياء من أن يجدوا سبيلهم إلى هذا المنصب بالمال ومنع السفلة أن يصلوا إليه بالملق والدهان. وأرادوا مع هذا ألا يجعلوا الاختيار وليد المصادفة المحضة، فكانوا يفرضون على جميع من تقع عليهم القرعة أن يجتازوا قبل القيام بواجباتهم اختبارا صارما في الأخلاق، أمام المجلس أو المحاكم. فكان على الطالب أن يثبت أنه من أبوين أثينيين وأنه سليم من العيوب الجسمية والخلقية يكرم أسلافه ويقوم بواجباته العسكرية ويؤدي الضرائب كاملة" ( 37).
ـ "عدد الأركونين تسعة":
"ولم يكن الأركونون إلا هيئة من هيئات كثيرة تشترك كلها في تصريف شؤون المدينة الإدارية تحت إشراف الجمعية والمجلس والمحاكم ويذكر أرسطاليس خمسا وعشرين من هذه الهيئات المختلفة ويقدر عدد الموظفين الإداريين في المدينة بسبعمائة موظف. وكان هؤلاء كلهم يختارون كل عام بطريق القرعة، ولم يكن في وسع أي إنسان أن يكون عضوا في لجنة بعينها أكثر من مرة واحدة..(وأثينة) لم تكن تؤمن بطريقة الحكم على أيدي الخبراء الإخصائيين" (ص 38).
"وكانت المناصب العسكرية أكثر أهمية في نظرهم من المناصب المدنية، ولذلك لم يكن القواد العشرة يختارون بالقرعة بل كانوا ينتخبون انتخابا علنيا في الجمعية، وإن كانوا هم أيضا لا يبقون في مناصبهم أكثر من عام واحد.." (ص38).
ـ تقويم:
"تلك هي الديمقراطية الأثينية، أضيق الديمقراطيات وأكملها في التاريخ. لقد كانت أضيقها لقلة عدد من يشتركون في امتيازاتها، وأكملها لأنها تتيح لجميع المواطنين على قدم المساواة فرصة السيطرة بأنفسهم على التشريع وتصريف الشؤون الإدارية.
وتتكشف عيوب هذا النظام واضحة على مر الأيام ، بل إن الناس قد أخذوا يتحدثون بها في أيام أرسطوفان. وكان من أظهر هذه العيوب التي كفرت عنها أثينة بخضوعها لإسبارطة وفيليب والإسكندر ورومة أن قامت فيها جمعية لا تسأل عما تفعل تدفعها عواطفها فتقرر أمرا ما في أحد الأيام لا يعوقها عائق من سابقة أو مراجعة ثم تعود في اليوم الثاني فتندم أشد الندم على ما فعلت وهي بندمها لا تعاقب نفسها بل تعاقب من أضلوها . ومنها قصر السلطة التشريعية على الذين يستطيعون حضور الإكليزيا وتشجيع الزعماء المهرجين ونفي القادرين من الرجال نفيا أفقد المدينة عددا كبيرا من خبرة كبرائها وملء المناصب العامة بالقرعة والدور وتغيير الموظفين في كل عام وإشاعة الفوضى في الأداة الحكومية ومنها نزاع الأحزاب الذي لم ينفك يحدث الارتباك في توجيه أعمال الدولة الإدارية"(ص42).
من الفروق بين ديمقراطية أثينا وديمقراطية اليوم:
اختيار الحكومة التنفيذية في ديمقراطية أثينا بالاقتراع وليس بالانتخاب، والحكومة التنفيذية لا تتخذ قرارات وإنما تسير شؤون الدولة. والأثينيون لا يعدون الانتخاب نظاما ديمقراطيا وإنما يرونه حكومة أقلية.
أما التشريعات فتتخذ في مجالس دورية assemblies، يشارك فيها جميع الذكور من سكان أثينا ممن لهم حق المشاركة وفقا للضوابط التي وضعها الأثينيون.
وأحد الأسباب التي جعلت من الديمقراطية في أثينا ممكنة، أن عدد السكان قليل، فهم لا يتجاوزون ثلاثمائة ألف ومن يحق لهم الانتخاب منهم فئة محدودة جدا وهم الذكور البالغون الأحرار. وعلى هذا، فالعبيد والأطفال والنساء والأجانب والغرباء المقيمون في أثينا لا يحق لهم المشاركة في المجلس assembly.
ولهذا بعض مؤرخي الديمقراطية لا يرى أن المجتمع الأثيني كان مجتمعا ديمقراطيا بالمعنى الحديث، حيث لم يكن يتمتع بالديمقراطية إلا في حدود 16 في المائة من المجتمع، فهي إذن ديمقراطية تفتقد الاقتراع العام، وهو أحد أبرز سمات الديمقراطية المعاصرة.
وبعد سقوط أثينا ضعفت الديمقراطية. والجمهورية الرومانية التي جاءت بعد أثينا كانت تختار زعماءها وتصدر قراراتها من خلال المجالس الشعبية، ولكن هذا النظام كان يعمل لمصلحة الأغنياء.
وفي الديمقراطية الحديثة المشاركة مقصورة على المواطنين وهي محصورة في التصويت، والتصويت لايتم إلا مرة واحدة في عدد من السنين، والمنتخبون يختارون ممثليهم في السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية.
بعد هذا العرض الموجز لمفهوم الديمقراطية وتطورها، لابد من الإشارة إلى أمور:
1. لم يكن مفهوم الديمقراطية ثابتا مستقرا على معنى واحد ، وإنما كان يتغير بحسب حاجة الناس. يقول أليكسس توكفيل أحد منظري الديمقراطية ومؤرخيها في القرن التاسع عشر في كتابه "الديمقراطية في أمريكا":
"إن للنظام الديمقراطي أنواعا، يصح لكل شعب أن يختار منها النوع الذي يتفق وتاريخه وتقاليده، وإن الدستور الامريكي ليس إلا واحدا من هذه الأنواع، وإنه بالرغم من الفوائد العديدة التي يجنيها الأمريكيون منه، فإن هذه الفوائد يمكن الحصول عليها بنوع آخر من أنواع الدساتير والقوانين الديمقراطية".
2. رغم تبدل المفهوم من ديمقراطية مباشرة إلى ديمقراطية تمثيلية، إلا أن غاية الديمقراطية كانت واحدة لم تتغير، وهي تمكين الشعب من إدارة أموره بنفسه وإرجاع الأمر إليه.
ثانيا: مواصفات الديمقراطية
الديمقراطية مجردة لا تعني إلا حكم الشعب، وربما تكون الحكومة الناتجة عن ذلك حكومة عادلة أو ليبرالية أو ديكتاتورية أو دينية أو ما شئت أن تتخيله من الأنواع، مما يمكن أن يختاره الشعب.
وبعض الباحثين يفرقون بين نوعين من الديمقراطيات الديمقراطية الليبرالية أو الحرة والديمقراطية غير الليبرالية أو المحافظة. والديمقراطية غير الليبرالية مرفوضة عندهم تماما لأنها قد تأتي بأناس إلى الحكم لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يحافظون على الحريات الأساسية للأفراد. ومن التجارب الديمقراطية التي يرفضها الكتاب الغربيون تجربة إيران لأنها ديمقراطية دينية، تشترط مواصفات دينية معينة لمن يحق له ترشيح نفسه للانتخابات.
يقول فريد زكريا في كتابه (مستقبل الحرية) (The Future of Freedom): "الديمقراطية تعني للناس في الغرب الديمقراطية الليبرالية" ويوضحها بأنها "نظام سياسي لا يتميز فقط بانتخابات حرة نزيهة وإنما بسيادة القانون وفصل السلطات وحماية الحريات الأساسية وهي : حرية الكلام والتجمع والدين والملكية" (ص 17).
ولهذا يرفض فريد زكريا وآخرون إدخال الديمقراطية إلى المجتمعات التي لم تنتشر فيها القيم الليبرالية، ويقولون إن دخول الديمقراطية للمجتمعات التقليدية معناه سيطرة القيم التقليدية ووصول من لا يؤمن بالديمقراطية للحكم. ويرى زكريا أنه يجب أولا الدعوة للقيم الليبرالية فإذا انتشرت أمكن إدخال الديمقراطية إلى العالم العربي، أما الدعوة إليها الآن فيرى أنها سوف تأتي للحكم بالإسلاميين أعداء الديمقراطية.
إذن الديمقراطية التي يراد نشرها في العالم العربي هي الديمقراطية الليبرالية، فما الديمقراطية الليبرالية؟
جاء في موسوعة ويكيبيديا الحرة (Wikipedia, the free encyclopedia) عن مواصفات الديمقراطية الليبرالية مايلي:
• دستور يحد من صلاحيات السلطة ويحمي الحقوق المدنية
• اقتراع عام
• حرية التعبير ويشمل حق الكلام وحق التجمع وحق الاعتراض
• حرية الروابط التنظيمية
• المساواة أمام القانون
• حق الملكية الخاصة وحق الخصوصية
• معرفة المواطنين بحقوقهم ومسؤولياتهم المدنية
• المجتمع المدني الراسخ
• القضاء المستقل
• فصل السلطات ووجود نظام المحاسبة والموازنة بين أنظمة الحكم checks and balances.
وهذا الإيضاح للديمقراطية الليبرالية ليس كافيا لأن أحد عناصرها لم يذكر وهو حقوق الفرد أو الحرية الفردية. وأوضح مما جاء في هذه الموسوعة ماورد في وثيقة صادرة من الولايات المتحدة الأمريكية عن قيم الديمقراطية الأساسية وعنوان الوثيقة هو "إطار للتربية المدنية" 2، وهي صادرة من مركز التربية المدنية ومجلس الرقي بالمواطنة والمجلس الوطني للدراسات الاجتماعية. هذه الوثيقة حددت قيم الديمقراطية وحددت أيضا معها القيم الدستورية وجاء في الورقة إن المصدر لهذه القيم هو إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الأمريكية والدستور الأمريكي ووثائق أخرى مهمة وكتابات وخطب الأمة الأمريكية. ووصفت الوثيقة هذه القيم بأنها هي ما يوحد جميع الأمريكيين.
قسمت الورقة القيم إلى قسمين، هما:
1. العقائد الأساسية Fundamental Beliefs، وهي بمثابة أسس الليبرالية.
2. المبادئ الدستورية Constitutional Principles
أولا: العقائد الأساسية
1. الحياة: احترام حياة الإنسان وعدم التعرض لها
2. الحرية وتشمل
o الحرية الشخصية : حق التفكير والتصرف من غير تقييدات الحكومة
o والحرية السياسية : حق المشاركة في العملية السياسية
o والحرية الاقتصادية: حق البيع والشراء والتملك وحق التوظف من غير تدخل الحكومة
3. البحث عن الحياة الطيبة أو السعادة: لكل فرد الحق في البحث عن الحياة الطيبة بطريقته الخاصة مادام لا يتعارض مع حقوق الآخرين. و لايوجد تحديد لمفهوم الحياة الطيبة متفق عليه بين المواطنين أو محدد من قبل الدستور أو الأنظمة والتشريعات فكل هذه تدخلات من قبل الدولة في حرية الفرد، وهي تدخلات غير مقبولة، ولهذا تحديد المفهوم متروك للفرد.
4. الخير العام: العمل من أجل مصلحة الجميع
5. العدل: العدل في معاملة الناس في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات
6. المساواة: معاملة الجميع على حد المساواة بغض النظر عن قيمهم الدينية والاجتماعية والعرقية ومستوياتهم الاقتصادية.
7. التنوع: في الثقافة والحضارة واللغة والدين
8. الحقيقة يتوقع المواطن ألا تكذب عليه الحكومة وألا يكذب هو عليها وأن تطلعه الحكومة على المعلومات المتعلقة بعملها
9. السيادة الشعبية: قوة الحكومة تأتي من الشعب ولهم السلطة العليا على الحكومة
1. الوطنية: تعبير المواطنين عن محبتهم وطنهم بالقول والفعل وتضحيتهم من أجله.
ثانيا: المبادئ الدستورية
1. سيادة القانون: يجب أن يخضع الجميع - الشعب والحكومة - لسلطة القانون
2. فصل السطات: السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية، فيجب أن تستقل هذه المؤسسات كل منها عن الآخر، فلا يصح أن تجمع مؤسسات الصلاحيات عندها وحدها.
3. الحكومة التمثيلية: للناس الحق في أن ينتخبوا من يمثلهم في الحكومة.
4. الرقابة وتوازن القوى: صلاحيات السلطات الثلاث يجب أن تكون متساوية فلا واحدة منها تستأثر بالسلطة دون البقية، ولكل فرع الحق في مراقبة بقية الفروع
5. الحقوق الفردية: لكل فرد الحق في الحياة والحرية والحرية الاقتصادية والبحث عن الحياة الطيبة . وهذه الحقوق حددها ميثاق الحقوق ويجب على الحكومة حمايتها وعدم وضع أي قيود عليها
6. الفيدرالية: الولايات والحكومة الفيدرالية يتقاسمون السلطة كما يحددها الدستور
7. حرية الدين: حرية التدين وعدمه وممارسة أي دين من غير قيد من الحكومة
8. السيطرة المدنية على الجيش: الشعب هو الذي يسيطر على الجيش من أجل حماية الديمقراطية.
بعد هذا العرض الموجز لمواصفات الديمقراطية، لابد من الإشارة إلى أمور:
1. في جميع مراحل الديمقراطية المرجعية محصورة في الشعب، ولا سلطة أعلى من سلطته، فالشعب هو الذي يمنح الحاكم مشروعية الحكم وهو ينزعها منه ويعزله، وهو الذي يقرر الدستور وهو الذي يغيره إذا أراد. وهذا المفهوم يثير قلقا كبيرا عند المسلم لأنه يعتقد أن الحكم لله عزوجل وليس للشعب، والله سبحانه وتعالى يقول :"إن الحكم إلا لله". ولمعالجة هذا الإشكال لابد من تحليل سلطة الشعب هذه التي منحته إياها الديمقراطية كي نستبعد منها ما يتعارض مع التصور الإسلامي ونقر منها ما يقره الإسلام.
سلطة الشعب في الديمقراطية تشمل أمورا:
i. التشريع من خلال وضع مواد الدستور وصياغة القوانين والنظم التي تحكم البلد
ii. تفسير القوانين والأنظمة.
iii. اختيار الحاكم وتنصيبه.
iv. عزله
v. مراقبة عمله ومحاسبته
هذه خمس وظائف داخلة في سلطة الشعب، وليست كلها مما يمنعه الإسلام، بل إن بعضها حقوق منحها الله عز وجل للناس لا يحق لأحد أن يحول بينهم وبينها. والسلطة التي ليست من حق الشعب وإنما هي حق لله عز وجل هي سلطة تشريع الدستور. أما سلطة صياغة بعض الأنظمة والقوانين التي تقنن المباح أو تحدد العقود وكذلك المذكرات التفسيرية فهي من حقوق الشعب من خلال علمائه المؤهلين لذلك. وهذه التشريعات إنما هي فيما لم يرد فيه نص من مصالح الناس المرسلة كبعض أنظمة المرور والعقوبات التعزيرية، وتخطيط المدن وتقييد المباحات محافظة على مصالح الناس، و نظم التعليم، والشريعة لا تمنع من وضع هذه التشريعات والنظم مادامت في مصلحة الناس ولا تتعارض مع نص شرعي أو مع مقاصد الشريعة.
وأما حق اختيار الحاكم وعزله ومراقبة عمله ومحاسبته، فهي حقوق جعلها الله للناس، ومن هذا الباب يمكن أن نقول إن للشعب على الحاكم سلطة عليا ولكن هذه السلطة محكومة بالشريعة الإسلامية. (يتبع).
ورغم ما في الديمقراطية من عيوب ومخالفات، إلا أن معالجتها ممكنة، وبعض دول المنطقة العربية سارعت في الأخذ ببعض مظاهر الديمقراطية، وكان من أبرز ما أخذوا به المجالس البرلمانية والانتخابات، وبعض تجاربها مشوهة، لم يحصد منها الشعب إلا الحصرم، وبعض التجارب تضمنت بعض معاني الشورى، فكانت خيرا من استبداد غاشم ظلوم. وهذه الورقة تضمنت مراجعات لمفهوم الديمقراطية وإمكانية تطبيقها في مجتمع مسلم. كما تناولت ما يمكن أن ينتج عن تطبيق الديمقراطية من تغيرات ثقافية وتغيرات في البنية الاجتماعية.
بقلم د.عبدالله بن ناصر الصبيح
* مقدمة:
استقر في ذهن كثيرين في هذا العصر أن الديمقراطية من مواصفات الحكم الجيد، ومما رسخ هذا التصور عدم وضوح النماذج البديلة ودعاية الإعلام وما شاع في العالم العربي من نظم فاسدة متسلطة على رقاب الناس تمنع عنهم حقوقهم وتأبى تطبيق الشريعة وتحول بينهم وبين العيش في ظلها، مما دفعهم إلى التطلع إلى مخلص لهم، مما هم فيه من البلاء ورأوا أن في الديمقراطية فرجا.
ولاشك أن الديمقراطية تنطوي على بعض مواصفات الحكم الجيد كسيادة القانون ومحاسبة الحاكم وفصل السلطات واستقلال القضاء، ولكنها لا تخلو من عيوب ومنها تأثير أرباب الأموال على نتائج الانتخابات، وعلى قرارات المجالس المنتخبة فيما يعرف باللوبي lobbying، وتنطوي أيضا على مخالفة شرعية تهدم أصل الإسلام وهي الاعتقاد بأن المرجعية في الحكم إنما هي للشعب وليست لله عز وجل.
ورغم ما في الديمقراطية من عيوب ومخالفات، إلا أن معالجتها ممكنة، وبعض دول المنطقة العربية سارعت في الأخذ ببعض مظاهر الديمقراطية وكان من أبرز ما أخذوا به المجالس البرلمانية والانتخابات، وبعض تجاربها مشوهة برق خلب لم يحصد منها الشعب إلا الحصرم، وبعض التجارب تضمنت بعض معاني الشورى، فكانت خيرا من استبداد غاشم ظلوم.
وهذه الورقة تضمنت مراجعات لمفهوم الديمقراطية وإمكانية تطبيقها في مجتمع مسلم. كما تناولت ما يمكن أن ينتج عن تطبيق الديمقراطية من تغيرات ثقافية وتغيرات في البنية الاجتماعية.
وهدف الورقة بحث إمكانية تطبيق الديمقراطية في مجتمع هويته الإسلام، ذلك أن الديمقراطية بصيغتها المعهودة لا تتفق مع التصور الإسلامي في نقاط أبرزها ثلاث:
1. تعارض الديمقراطية مع حاكمية الشريعة
2. قد ينجح في الانتخابات الرئاسية من ليس مسلما أو من هو معارض للشريعة الإسلامية.
3. مشاركة غير المسلمين في الانتخابات الرئاسية.
والورقة جاءت في ستة أقسام موجزة:
أولا: مفهوم الديمقراطية.
ثانيا: مواصفات الديمقراطية.
ثالثا: الثقافة الديمقراطية والتطبيع عليها.
رابعا: المفاهيم الثقافية والأبعاد الاجتماعية للديمقراطية.
خامسا: الديمقراطية والعالم العربي.
سادسا: خاتمة
وهذه الورقة أعددتها منذ بضع سنوات، واطلع عليها من استأنس برأيه فاستحسنها بعضهم وانتقدها آخرون، وقد تريثت في نشرها لأضيف عليها واستكمل ما يحتاج إلى إكمال، وقد استكملت جوانب منها وبقي الكثير مما يمكن إضافته واستدراكه ورأيت نشرها لعلها تستثير رغبة البحث عند من يعنيه هذا الموضوع. وما كان في الورقة من صواب فهو من الله عز وجل وما كان فيها من خطأ فهو مني وأستغفر الله منه. وما أردت إلا الخير وعسى أن أبلغ بعضه.
أولا: مفهوم الديمقراطية
"الديمقراطية"، كلمة اخترعت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد لتصف نظام الحكم المستخدم هناك. ويجمع من تحدث عن الديمقراطية بأنها كلمة يونانية معناها حكم الشعب، أما كيف يحكم الشعب فيختلف بحسب تطور مفهوم الديمقراطية من عصر إلى آخر. و في الاستعمال المعاصر تعني الديمقراطية الحكومة المنتخبة من قبل المواطنين سواء كانت مباشرة أو بالتمثيل. وهذا المفهوم نشأ في القرن الثامن عشر الميلادي، ولكن لم يوجد قبل عام 19 دولة ديمقراطية ليبرالية واحدة يتمتع جميع أفراد شعبها بحق الاقتراع العام كما أفاد بذلك فريد زكريا في كتابه (The Future of Freedom).
ـ تطور الديمقراطية:
في الثمانينات من القرن الثامن عشر، تطورت الحركات الاجتماعية التي تصف نفسها بالديمقراطية، وبسبب الصراع السياسي الذي نشأ بينها وبين طبقة النبلاء تغيرت الصورة السلبية عن الديمقراطية في أوربا فأصبحت إيجابية ورأى فيها العامة حركة مضادة لاستبداد الطبقة الارستقراطية، وكان الناس يرونها من قبل كلمة مرادفة للفوضى.
وفي الفترة نفسها صدرت دساتير حددت صلاحيات السلطات ومنها الدستور الفرنسي والدستور الأمريكي.. وفي أول القرن التاسع عشر، ظهرت الأحزاب التي تتنافس على أصوات الجماهير، وهذا عزز من مكانة الديمقراطية في الفكر السياسي.
وفي الفترة نفسها نشأت فكرة الديمقراطية التمثيلية وانتخاب أعضاء للبرلمان، ومن ثم بدأ التحول من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية التمثيلية. وتوسعت الحقوق السياسية لتشمل أنواعا من الطبقات الاجتماعية. وبدأت تزول العقبات التي تحول بين بعض المواطنين وبين الانتخاب كاشتراط الثروة أوالملكية أو الذكورة أو العرق، وكانت شروطا لازمة في ديمقراطية أثينا.
وفيما يلي عرض لديمقراطية أثينا ومقارنتها ببعض الديمقراطيات الحديثة.
ـ ديمقراطية أثينا:
ممن تحدث عن ديمقراطية أثينا، ول ديورانت (1419)، في كتابه قصة الحضارة، وفيما يلي نصوص من كتابه:
"ولقد كان يحد منها أولا أن أقلية صغيرة من الأهلين كانت هي التي تستطيع القراءة، ويحد منها من الوجهة الطبيعية صعوبة الوصول إلى أثينة من المدن القاصية في أتكا.هذا إلى أن حق الانتخاب كان مقصورا على من ولد من أبويين أثنيين حرين، وبلغ الحادية والعشرين من العمر. وكان هؤلاء وأسرهم دون غيرهم هم الذين يستمتعون بالحقوق المدنية أو يتحملون مباشرة أعباء الدولة الحربية والمالية. وفي داخل محيط هذه الدائرة التي تضم 43 من المواطنين يحرصون على ألا تشمل غيرهم من سكان أتكا البالغين 315".
"قلما يحضر أي اجتماع من اجتماعاتها إلا عدد قليل من أعضائها قلما كان يزيد على ألفين أو ثلاثة آلاف، وكان المواطنون الذين يعيشون في أثينة أو في ثغر بيرية يحضرون وكأنهم مصممون على أن يكون موطنهم هو المسيطر على الجمعية" (ج7، ص23).
"وكان أرقاء أتكا جميعهم البالغ عددهم 115، وجميع النساء وجميع العمال وجميع المستوطنين الغرباء البالغ عددهم 28 وعدد كبير من طبقة التجار كان هؤلاء كلهم تبعا لهذا محرومين من الحقوق السياسية" (ص 22).
من لهم الحق في الانتخاب لم يكونوا يجتمعون في أحزاب سياسية وإنما كانوا يقسمون إلى أنصار الألجركية أو أنصار الديمقراطية على أساس ميلهم إلى توسيع الحقوق السياسية أو تضييقها.
"وكان كل ناخب يعد بهذا الوصف عضوا في الهيئة الحاكمة الأساسية وهي الأكليزيا أو الجمعية، وعند هذا الحد من الحكم لم تكن هناك حكومة نيابية" (ص23).
" وكانت الجمعية تعقد جلساتها أربع مرات في الشهر، تعقدها في المناسبات الهامة في السوق العامة أو في ملهى ديونيس أو في ثغر بيرية. أما الجلسات العادية فكانت تعقد في مكان نصف دائري يدعى البنيكس على منحدر تل غرب الأريوبجوس وكان الأعضاء في هذه الحالات كلها يجلسون على مقاعد مكشوفة للسماء وتبدأ الجلسات عند مطلع الفجر ويفتتح كل دور بالتضحية بخنزير إلى زيوس" (ص23).
"ولم يكن يصح عرض تشريعات جديدة إلا في الجلسة الأولى في كل شهر وكان العضو الذي يقترحها هو الذي يعمل على قبولها. فإذا تبين بعد هذا أن هذه الشرائع شديدة الضرر كان من حق أي عضو آخر أن يلجأ خلال عام من قبولها إلى ما يسمى عدم الشرعية، فيطلب أن تفرض على صاحب التشريع غرامة أو أن يحرم من حقوقه السياسية أو يعدم. وكانت هذه هي الطريقة التي تتبعها أثينة لمنع العجلة في التشريع. (ص24).
"وكان لقرار عدم الشرعية هذا صيغة أخرى تجعل من حق الجمعية أن تعرض أي تشريع جديد قبل البت فيه على إحدى المحاكم لتبحثه من الناحية الدستورية أي من ناحية اتفاقه مع القوانين القائمة المعمول بها في البلاد. هذا إلى أنه كان على الجمعية قبل النظر في مشروع قانون أن تعرضه عن مجلس الخمس مائة ليبحثه أولا، كما يعرض أي مشروع قانون يقدم إلى مجلس الأمة الأمريكي في هذه الأيام قبل بحثه في المجلس على لجنة يفترض فيها أنها ذات علم خاص بموضوع المشروع وكفاية خاصة لبحثه. ولم يكن من حق مجلس الخمسمائة أن يرفض الاقتراح رفضا باتا بل كان كل ما يستطيعه أن يقدم تقريرا عنه مصحوبا بتوصية أو غير مصحوب بها" (ص 24).
"وكان المعتاد أن يفتتح رئيس الجمعية دور انعقادها بعرض تقرير عن مشروع مقدم لها. وكانت الجمعية تستمع إلى من يطلبون الكلام حسب سنهم، ولكن يجوز حرمان أي عضو من مخاطبة الجمعية إذا ثبت أنه لا يملك أرضا أو أنه غير متزوج زواجا شرعيا أو أهمل القيام بواجبه نحو أبويه أو أساء إلى الأخلاق العامة أو تهرب من القيام بالواجبات العسكرية أو ألقى درعه في إحدى المعارك الحربية أو أنه مدين للدولة بضريبة أو غيرها من المال" (ص 24).
"غير أن الخطباء المدربين وحدهم هم الذين كانوا يستخدمون حق الكلام لأنه لم يكن من السهل حمل الجمعية على الإصغاء للمتكلمين، فقد كانت تضحك من الخطأ في نطق الألفاظ وتحتج بصوت عال على الخروج عن موضوع النقاش وتعبر عن موافقتها بالصراخ الشديد والصفير والتصفيق باليدين وعن عدم موافقتها التامة بإحداث جلبة شديدة تضطر المتكلم إلى النزول عن المنصة وكان يحدد لكل متكلم وقت معين لايتجاوزه يقاس مداه بساعة مائية. وكانت طريقة الاقتراع هي رفع الأيدي إلا إذا كان للاقتراح أثر خاص مباشر في شخص ما، وفي هذه الحال يكون الاقتراع سريا" (ص24-25).
"وكانت هناك هيئة أعظم من الجمعية منزلة ولكنها أقل منها سلطانا، وهي هيئة المجلس المعروف باسم البول Boule. وكان البول في أصله مجلسا أعلى شبيها بمجالس الشيوخ في الحكومات النيابية. ولكن منزلته انحطت قبل عصر بركليز حتى أصبح لجنة تشريعية تابعة للإكليزيا. وكان أعضاؤه يختارون بالقرعة وبالدور من سجل المواطنين، على أن يختار خمسون منهم عن كل قبيلة من القبائل العشر وألا تطول مدة خدمتهم أكثر من سنة واحدة، كان العضو في القرن الرابع يتقاضى خمس أبولات في كل يوم من أيام انعقاد المجلس...(ص25).
"وكانت جلساته العادية علنية واختصاصاته تشريعية وتنفيذية واستشارية: فكان يفحص عن مشروعات القوانين المعروضة على الجمعية ويعدل صياغتها ويشرف على أعمال موظفي المدينة الدينيين والإداريين ويراقب حساباتهم ويشرف على الأموال والمشروعات والمباني العامة ويصدر مراسيم تنفيذية حين يتطلب العمل إصدارها، وتكون الجمعية غير منعقدة ويسيطر على شؤون الدولة الخارجية على أن تراجع الجمعية أعماله من هذه الناحية فيما بعد" (ص25-26).
ـ القوانين:
"يبدو أن القوانين كانت في نظر اليونان الأقدمين عادات مقدسة ارتضتها الآلهة وأوحت بها، وكانت لفظة ثميس themis في لغتهم تطلق على هذه العادات وعلى الآلهة التي يتمثل فيها نظام العالم الأخلاقي وائتلافه .. وكان القانون عندهم جزءا من الدين. وشاهد ذلك أن أقدم قوانين الملكية عند اليونان كانت ممتزجة بالطقوس الدينية وبقوانين المعابد".
"وكانت المرحلة الثانية من مراحل تاريخ التشريع اليوناني هي جمع العادات المقدسة وتنسيقها على يد مشترعين thesmothetai، أمثال زلولسوس وكرونداس ودراكون وصولون. وأما أن دون هؤلاء الرجال وأمثالهم قوانينهم الجديدة أصبحت العادات المقدسة thesmoi قوانين من وضع الإنسان nomoi. وفي هذه الكتب القانونية تحرر القانون من سيطرة الدين وازدادت على توالي الأيام صبغته الدنيوية.
"وكانت الخطوة الثالثة في تطور التشريع اليونان هي نمو الشرائع المطرد وتجمعها"(قصة الحضارة، 27-28).
"ولم تبلغ الشرائع الأثينية ما كنا نتوقعه لها من الاستنارة، وهي لا تسمو كثيرا عن شرائع حمورابي، وعيبها الأساسي أنها تقصر الحقوق القانونية على الأحرار الذين لا يكادون يتجاوزون سبع السكان، وحتى النساء والأطفال كانوا خارجين عن نطاق المواطنين أصحاب الحقوق. ولم يكن في وسع النزلاء أو الأجانب أو الأرقاء أن يرفعوا الدعاوى إلى المحاكم إلا عن طريق مواطن يأخذهم في كنفه. وكان ابتزاز المال بطريق الإرهاب وتعذيب العبيد المتكرر .. كان هذا كله وصمة لنظام أثينة القضائي الذي كانت تحسدها عليه سائر بلاد اليونان للينه وعدالته إذا قيس إلى غيره من النظم القضائية.." (قصة الحضارة، ج7، ص 34).
ـ النظام الإداري:
"حلت القرعة منذ عام 487 أو قبله محل الانتخاب في اختيار الاركونين، ذلك أنه كان لابد من إيجاد طريقة ما لمنع الأغنياء من أن يجدوا سبيلهم إلى هذا المنصب بالمال ومنع السفلة أن يصلوا إليه بالملق والدهان. وأرادوا مع هذا ألا يجعلوا الاختيار وليد المصادفة المحضة، فكانوا يفرضون على جميع من تقع عليهم القرعة أن يجتازوا قبل القيام بواجباتهم اختبارا صارما في الأخلاق، أمام المجلس أو المحاكم. فكان على الطالب أن يثبت أنه من أبوين أثينيين وأنه سليم من العيوب الجسمية والخلقية يكرم أسلافه ويقوم بواجباته العسكرية ويؤدي الضرائب كاملة" ( 37).
ـ "عدد الأركونين تسعة":
"ولم يكن الأركونون إلا هيئة من هيئات كثيرة تشترك كلها في تصريف شؤون المدينة الإدارية تحت إشراف الجمعية والمجلس والمحاكم ويذكر أرسطاليس خمسا وعشرين من هذه الهيئات المختلفة ويقدر عدد الموظفين الإداريين في المدينة بسبعمائة موظف. وكان هؤلاء كلهم يختارون كل عام بطريق القرعة، ولم يكن في وسع أي إنسان أن يكون عضوا في لجنة بعينها أكثر من مرة واحدة..(وأثينة) لم تكن تؤمن بطريقة الحكم على أيدي الخبراء الإخصائيين" (ص 38).
"وكانت المناصب العسكرية أكثر أهمية في نظرهم من المناصب المدنية، ولذلك لم يكن القواد العشرة يختارون بالقرعة بل كانوا ينتخبون انتخابا علنيا في الجمعية، وإن كانوا هم أيضا لا يبقون في مناصبهم أكثر من عام واحد.." (ص38).
ـ تقويم:
"تلك هي الديمقراطية الأثينية، أضيق الديمقراطيات وأكملها في التاريخ. لقد كانت أضيقها لقلة عدد من يشتركون في امتيازاتها، وأكملها لأنها تتيح لجميع المواطنين على قدم المساواة فرصة السيطرة بأنفسهم على التشريع وتصريف الشؤون الإدارية.
وتتكشف عيوب هذا النظام واضحة على مر الأيام ، بل إن الناس قد أخذوا يتحدثون بها في أيام أرسطوفان. وكان من أظهر هذه العيوب التي كفرت عنها أثينة بخضوعها لإسبارطة وفيليب والإسكندر ورومة أن قامت فيها جمعية لا تسأل عما تفعل تدفعها عواطفها فتقرر أمرا ما في أحد الأيام لا يعوقها عائق من سابقة أو مراجعة ثم تعود في اليوم الثاني فتندم أشد الندم على ما فعلت وهي بندمها لا تعاقب نفسها بل تعاقب من أضلوها . ومنها قصر السلطة التشريعية على الذين يستطيعون حضور الإكليزيا وتشجيع الزعماء المهرجين ونفي القادرين من الرجال نفيا أفقد المدينة عددا كبيرا من خبرة كبرائها وملء المناصب العامة بالقرعة والدور وتغيير الموظفين في كل عام وإشاعة الفوضى في الأداة الحكومية ومنها نزاع الأحزاب الذي لم ينفك يحدث الارتباك في توجيه أعمال الدولة الإدارية"(ص42).
من الفروق بين ديمقراطية أثينا وديمقراطية اليوم:
اختيار الحكومة التنفيذية في ديمقراطية أثينا بالاقتراع وليس بالانتخاب، والحكومة التنفيذية لا تتخذ قرارات وإنما تسير شؤون الدولة. والأثينيون لا يعدون الانتخاب نظاما ديمقراطيا وإنما يرونه حكومة أقلية.
أما التشريعات فتتخذ في مجالس دورية assemblies، يشارك فيها جميع الذكور من سكان أثينا ممن لهم حق المشاركة وفقا للضوابط التي وضعها الأثينيون.
وأحد الأسباب التي جعلت من الديمقراطية في أثينا ممكنة، أن عدد السكان قليل، فهم لا يتجاوزون ثلاثمائة ألف ومن يحق لهم الانتخاب منهم فئة محدودة جدا وهم الذكور البالغون الأحرار. وعلى هذا، فالعبيد والأطفال والنساء والأجانب والغرباء المقيمون في أثينا لا يحق لهم المشاركة في المجلس assembly.
ولهذا بعض مؤرخي الديمقراطية لا يرى أن المجتمع الأثيني كان مجتمعا ديمقراطيا بالمعنى الحديث، حيث لم يكن يتمتع بالديمقراطية إلا في حدود 16 في المائة من المجتمع، فهي إذن ديمقراطية تفتقد الاقتراع العام، وهو أحد أبرز سمات الديمقراطية المعاصرة.
وبعد سقوط أثينا ضعفت الديمقراطية. والجمهورية الرومانية التي جاءت بعد أثينا كانت تختار زعماءها وتصدر قراراتها من خلال المجالس الشعبية، ولكن هذا النظام كان يعمل لمصلحة الأغنياء.
وفي الديمقراطية الحديثة المشاركة مقصورة على المواطنين وهي محصورة في التصويت، والتصويت لايتم إلا مرة واحدة في عدد من السنين، والمنتخبون يختارون ممثليهم في السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية.
بعد هذا العرض الموجز لمفهوم الديمقراطية وتطورها، لابد من الإشارة إلى أمور:
1. لم يكن مفهوم الديمقراطية ثابتا مستقرا على معنى واحد ، وإنما كان يتغير بحسب حاجة الناس. يقول أليكسس توكفيل أحد منظري الديمقراطية ومؤرخيها في القرن التاسع عشر في كتابه "الديمقراطية في أمريكا":
"إن للنظام الديمقراطي أنواعا، يصح لكل شعب أن يختار منها النوع الذي يتفق وتاريخه وتقاليده، وإن الدستور الامريكي ليس إلا واحدا من هذه الأنواع، وإنه بالرغم من الفوائد العديدة التي يجنيها الأمريكيون منه، فإن هذه الفوائد يمكن الحصول عليها بنوع آخر من أنواع الدساتير والقوانين الديمقراطية".
2. رغم تبدل المفهوم من ديمقراطية مباشرة إلى ديمقراطية تمثيلية، إلا أن غاية الديمقراطية كانت واحدة لم تتغير، وهي تمكين الشعب من إدارة أموره بنفسه وإرجاع الأمر إليه.
ثانيا: مواصفات الديمقراطية
الديمقراطية مجردة لا تعني إلا حكم الشعب، وربما تكون الحكومة الناتجة عن ذلك حكومة عادلة أو ليبرالية أو ديكتاتورية أو دينية أو ما شئت أن تتخيله من الأنواع، مما يمكن أن يختاره الشعب.
وبعض الباحثين يفرقون بين نوعين من الديمقراطيات الديمقراطية الليبرالية أو الحرة والديمقراطية غير الليبرالية أو المحافظة. والديمقراطية غير الليبرالية مرفوضة عندهم تماما لأنها قد تأتي بأناس إلى الحكم لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يحافظون على الحريات الأساسية للأفراد. ومن التجارب الديمقراطية التي يرفضها الكتاب الغربيون تجربة إيران لأنها ديمقراطية دينية، تشترط مواصفات دينية معينة لمن يحق له ترشيح نفسه للانتخابات.
يقول فريد زكريا في كتابه (مستقبل الحرية) (The Future of Freedom): "الديمقراطية تعني للناس في الغرب الديمقراطية الليبرالية" ويوضحها بأنها "نظام سياسي لا يتميز فقط بانتخابات حرة نزيهة وإنما بسيادة القانون وفصل السلطات وحماية الحريات الأساسية وهي : حرية الكلام والتجمع والدين والملكية" (ص 17).
ولهذا يرفض فريد زكريا وآخرون إدخال الديمقراطية إلى المجتمعات التي لم تنتشر فيها القيم الليبرالية، ويقولون إن دخول الديمقراطية للمجتمعات التقليدية معناه سيطرة القيم التقليدية ووصول من لا يؤمن بالديمقراطية للحكم. ويرى زكريا أنه يجب أولا الدعوة للقيم الليبرالية فإذا انتشرت أمكن إدخال الديمقراطية إلى العالم العربي، أما الدعوة إليها الآن فيرى أنها سوف تأتي للحكم بالإسلاميين أعداء الديمقراطية.
إذن الديمقراطية التي يراد نشرها في العالم العربي هي الديمقراطية الليبرالية، فما الديمقراطية الليبرالية؟
جاء في موسوعة ويكيبيديا الحرة (Wikipedia, the free encyclopedia) عن مواصفات الديمقراطية الليبرالية مايلي:
• دستور يحد من صلاحيات السلطة ويحمي الحقوق المدنية
• اقتراع عام
• حرية التعبير ويشمل حق الكلام وحق التجمع وحق الاعتراض
• حرية الروابط التنظيمية
• المساواة أمام القانون
• حق الملكية الخاصة وحق الخصوصية
• معرفة المواطنين بحقوقهم ومسؤولياتهم المدنية
• المجتمع المدني الراسخ
• القضاء المستقل
• فصل السلطات ووجود نظام المحاسبة والموازنة بين أنظمة الحكم checks and balances.
وهذا الإيضاح للديمقراطية الليبرالية ليس كافيا لأن أحد عناصرها لم يذكر وهو حقوق الفرد أو الحرية الفردية. وأوضح مما جاء في هذه الموسوعة ماورد في وثيقة صادرة من الولايات المتحدة الأمريكية عن قيم الديمقراطية الأساسية وعنوان الوثيقة هو "إطار للتربية المدنية" 2، وهي صادرة من مركز التربية المدنية ومجلس الرقي بالمواطنة والمجلس الوطني للدراسات الاجتماعية. هذه الوثيقة حددت قيم الديمقراطية وحددت أيضا معها القيم الدستورية وجاء في الورقة إن المصدر لهذه القيم هو إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الأمريكية والدستور الأمريكي ووثائق أخرى مهمة وكتابات وخطب الأمة الأمريكية. ووصفت الوثيقة هذه القيم بأنها هي ما يوحد جميع الأمريكيين.
قسمت الورقة القيم إلى قسمين، هما:
1. العقائد الأساسية Fundamental Beliefs، وهي بمثابة أسس الليبرالية.
2. المبادئ الدستورية Constitutional Principles
أولا: العقائد الأساسية
1. الحياة: احترام حياة الإنسان وعدم التعرض لها
2. الحرية وتشمل
o الحرية الشخصية : حق التفكير والتصرف من غير تقييدات الحكومة
o والحرية السياسية : حق المشاركة في العملية السياسية
o والحرية الاقتصادية: حق البيع والشراء والتملك وحق التوظف من غير تدخل الحكومة
3. البحث عن الحياة الطيبة أو السعادة: لكل فرد الحق في البحث عن الحياة الطيبة بطريقته الخاصة مادام لا يتعارض مع حقوق الآخرين. و لايوجد تحديد لمفهوم الحياة الطيبة متفق عليه بين المواطنين أو محدد من قبل الدستور أو الأنظمة والتشريعات فكل هذه تدخلات من قبل الدولة في حرية الفرد، وهي تدخلات غير مقبولة، ولهذا تحديد المفهوم متروك للفرد.
4. الخير العام: العمل من أجل مصلحة الجميع
5. العدل: العدل في معاملة الناس في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات
6. المساواة: معاملة الجميع على حد المساواة بغض النظر عن قيمهم الدينية والاجتماعية والعرقية ومستوياتهم الاقتصادية.
7. التنوع: في الثقافة والحضارة واللغة والدين
8. الحقيقة يتوقع المواطن ألا تكذب عليه الحكومة وألا يكذب هو عليها وأن تطلعه الحكومة على المعلومات المتعلقة بعملها
9. السيادة الشعبية: قوة الحكومة تأتي من الشعب ولهم السلطة العليا على الحكومة
1. الوطنية: تعبير المواطنين عن محبتهم وطنهم بالقول والفعل وتضحيتهم من أجله.
ثانيا: المبادئ الدستورية
1. سيادة القانون: يجب أن يخضع الجميع - الشعب والحكومة - لسلطة القانون
2. فصل السطات: السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية، فيجب أن تستقل هذه المؤسسات كل منها عن الآخر، فلا يصح أن تجمع مؤسسات الصلاحيات عندها وحدها.
3. الحكومة التمثيلية: للناس الحق في أن ينتخبوا من يمثلهم في الحكومة.
4. الرقابة وتوازن القوى: صلاحيات السلطات الثلاث يجب أن تكون متساوية فلا واحدة منها تستأثر بالسلطة دون البقية، ولكل فرع الحق في مراقبة بقية الفروع
5. الحقوق الفردية: لكل فرد الحق في الحياة والحرية والحرية الاقتصادية والبحث عن الحياة الطيبة . وهذه الحقوق حددها ميثاق الحقوق ويجب على الحكومة حمايتها وعدم وضع أي قيود عليها
6. الفيدرالية: الولايات والحكومة الفيدرالية يتقاسمون السلطة كما يحددها الدستور
7. حرية الدين: حرية التدين وعدمه وممارسة أي دين من غير قيد من الحكومة
8. السيطرة المدنية على الجيش: الشعب هو الذي يسيطر على الجيش من أجل حماية الديمقراطية.
بعد هذا العرض الموجز لمواصفات الديمقراطية، لابد من الإشارة إلى أمور:
1. في جميع مراحل الديمقراطية المرجعية محصورة في الشعب، ولا سلطة أعلى من سلطته، فالشعب هو الذي يمنح الحاكم مشروعية الحكم وهو ينزعها منه ويعزله، وهو الذي يقرر الدستور وهو الذي يغيره إذا أراد. وهذا المفهوم يثير قلقا كبيرا عند المسلم لأنه يعتقد أن الحكم لله عزوجل وليس للشعب، والله سبحانه وتعالى يقول :"إن الحكم إلا لله". ولمعالجة هذا الإشكال لابد من تحليل سلطة الشعب هذه التي منحته إياها الديمقراطية كي نستبعد منها ما يتعارض مع التصور الإسلامي ونقر منها ما يقره الإسلام.
سلطة الشعب في الديمقراطية تشمل أمورا:
i. التشريع من خلال وضع مواد الدستور وصياغة القوانين والنظم التي تحكم البلد
ii. تفسير القوانين والأنظمة.
iii. اختيار الحاكم وتنصيبه.
iv. عزله
v. مراقبة عمله ومحاسبته
هذه خمس وظائف داخلة في سلطة الشعب، وليست كلها مما يمنعه الإسلام، بل إن بعضها حقوق منحها الله عز وجل للناس لا يحق لأحد أن يحول بينهم وبينها. والسلطة التي ليست من حق الشعب وإنما هي حق لله عز وجل هي سلطة تشريع الدستور. أما سلطة صياغة بعض الأنظمة والقوانين التي تقنن المباح أو تحدد العقود وكذلك المذكرات التفسيرية فهي من حقوق الشعب من خلال علمائه المؤهلين لذلك. وهذه التشريعات إنما هي فيما لم يرد فيه نص من مصالح الناس المرسلة كبعض أنظمة المرور والعقوبات التعزيرية، وتخطيط المدن وتقييد المباحات محافظة على مصالح الناس، و نظم التعليم، والشريعة لا تمنع من وضع هذه التشريعات والنظم مادامت في مصلحة الناس ولا تتعارض مع نص شرعي أو مع مقاصد الشريعة.
وأما حق اختيار الحاكم وعزله ومراقبة عمله ومحاسبته، فهي حقوق جعلها الله للناس، ومن هذا الباب يمكن أن نقول إن للشعب على الحاكم سلطة عليا ولكن هذه السلطة محكومة بالشريعة الإسلامية. (يتبع).