الإسلام دين جماعة والجماعة تتمثل في أمير وجند ومنهج
• سوء الفهم هو الذي أدى إلى وجود فرق إسلامية
• أصناف أربعة فهمت الإسلام بشكل خاطئ
• الأصل أن ندعو غير المسلمين للإسلام لا أن يدعو بعضنا بعضًا
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبعد: فنسأل الله تعالى شرح الصدور، وأن يفقهنا في هذا الدين، وأن يرزقنا الإخلاص في كل ما نقول ونعمل.. الحقيقة أنه في المرة الماضية تكلمنا عن ركن الفهم وأهميته، ولأهمية هذا الركن وضع له الإمام "البنا" عشرين أصلاً ليحدد الفهم تحديدًا دقيقًا بإطار واضح بحيث يجتمع عليه كل من آمن بهذا الفكر وسار في هذا الطريق؛ لأن وحدة التصور مهمة للغاية، ومن أجلها نزل القرآن في مكة ثلاثة عشر عامًا لم ينزل فيها حكم من الأحكام، إنما كانت القضية هي قضية الفهم في هذه الفترة المكية؛ بل إن الذي يقرأ منكم صدر سورة الأنعام يجد أن ما يقرب من الجزء يتكلم عن تحديد الفهم، وكأنَّ السورة تقول للمسلمين: إن أنتم فقهتم هذا الأمر، ووضحت لكم التصورات الصحيحة: ﴿تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ (الأنعام: 151)، والسورة كلها تتكلم عن تصورات تحدد إطار الفهم؛ لأنها قضية في منتهى الخطورة- كما نعلم- لدرجة أننا نعلم أن الفِرَقَ الإسلاميةَ ما أصبحت فِرَقًا إلا لسوء الفهم، مثل: الخوارج، والشيعة، والمعتزلة بأصنافها المختلفة، لا ينقصها الإخلاص؛ ولكن زلت القدم حين ضل القوم الفهم الصحيح للإسلام؛ ولذلك يقول "عمر بن عبدالعزيز" في هذا المعنى: "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح".. هذا كلام "عمر بن عبدالعزيز" رضي الله تعالى عنه، والرسول- صلى الله عليه وسلم- حين وصف هؤلاء الآبقين عن الفهم السليم لم يصفهم بقلة صلاة ولا صيام؛ بل بالعكس قال عنهم الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "... يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم.. يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية".
هذا كله راجع لسوء الفهم لا شك في ذلك.. سيدنا "عمر بن الخطاب"- رضي الله عنه- يقول: "لَمَوْتُ ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بالحلال والحرام"، ولما أثنى الله على سيدنا سليمان- عليه السلام- قال: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ (الأنبياء: 79)، ولن أزيد؛ لكني كي أربط الموضوع بسابقه أتكلم عن هذا الأمر بإيجاز لننتقل إلى موضوعنا بعد أن نسمع ما قاله ابن القيم- رضوان الله عليه وأرضاه- في هذه القضية.. يقول: "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده؛ بل ما أُعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما؛ بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت فهومهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين أُمرنا أن نسأل الله صراطهم في كل صلاة".. إذًا قضية الفهم كما رأيتم تستحق أن نُفصِّل فيها تفصيلاً حتى تثبت الأقدام على الطريق وتتضح الرؤيا وضوح الشمس في رابعة النهار.
مفاهيم خاطئة
ونقطة أخرى في أهمية الفهم؛ وهي أن الإنسان حين يخلص لابد أن يخلص لتصور معين، فإذا كان الإخلاص مرتبط بفهم معوج لا يكفي الإخلاص- كما قلنا- مع الخوارج والشيعة وغيرها، فإخلاصهم لا نتكلم فيه؛ ولكن فهومهم هي التي جعلتهم ينحرفون عن الصراط المستقيم؛ لذلك من فقه الإمام "البنا" ترتيب الأركان؛ جاء الفهم، ثم جاء الإخلاص، في حين أننا عندما نقرأ في كتب الفقه نجد دائمًا يتصدر باب الإخلاص؛ لكن عندما جاء يتكلم عن باب الفهم قدَّم الفهم على الإخلاص؛ لأن علامَ تخلص؟ تخلص لفهم محددٍ معين له ثوابته ومتغيراته، فيكون الإخلاص لهذا الفهم نفسه، ولا يستقيم الأمر في داخل الجماعة إلا بالأمرين معًا: فَهْمٌ سليم، وإخلاص لله تعالى فيه. والجماعة تحتاج إلى فهم تجتمع عليه، وأصول تقوم عليها، وإخلاص لهذا الفهم، وفقه يضبط الحركة في ضوء ثوابت الجماعة التي نحن ندين بفهمها؛ ولذلك لكي نجيب على تساؤلات الذين يقولون: ماذا قدمتم؟ وماذا فعلتم؟ نقول: لو قرأنا حال المسلمين قبل هذه الدعوة المباركة؛ ماذا كان حالهم؟ هذا الفهم الذي جاء به الإمام "البنا" كان يكاد يكون غريبًا على الأسماع لا أقول أسماع العامة والجهلة، لا بل بعض المتعلمة والدارسين لبعض العلوم الإسلامية استنكروا هذا الفهم؛ لأن الذي كان سائدًا في هذا الوقت أننا نرى صنفًا من الناس لا يرى في الإسلام إلا حدود العبادة الظاهرة: صلاة، وصوم، وزكاة، وحج.. وهذا هو فهمه للإسلام، لا يتعداه لغيره، فيطمئن قلبه، ويحسب أنه أتى بالإسلام وبما يرضي الله تعالى وبما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم..
صنف آخر يتكلم عن الروحانية الفياضة والخلق القويم، ولا مانع من أن يُستشهد بحديث: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وكأنَّ الشريعةَ الإسلاميةَ تنبع وتنبثق من عقيدة أساسها الخلق، فمعاملاتنا كلها مبنية على الأخلاق، ولم نحصرها في الأخلاق الفردية التي يتصف بها الفرد من أمانة وصدق وإخلاص وغير ذلك من هذه الصفات الكريمة؛ لكن القوم حصروها في هذا المعنى الذي أقول.
وصنف ثالث أيضًا دائمًا وأبدًا لا يفكر إلا في المعاني الحيوية والعملية في الإسلام، فلا يتطلب النظر إلى غيرها، ولا يعجبه التفكير في سواها.
صنف رابع أيضًا لا يرى في الإسلام إلا نوعًا من العقائد الموروثة والأعمال التقليدية التي لا غناء عنها ولا تقدم معها، وهؤلاء أصحاب أو تلاميذ المدرسة الغربية أصحاب (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، أصحاب (فصل الدين عن الدولة)، وهؤلاء الذين عادوا الحركة الإسلامية التي نادت بالشمول والعموم؛ سواء أكانت الحركة القومية أم الوطنية أم غيرها من التيارات التي كانت موجودة في زمان "البنا"، وناوأت هذه الحركة، وساد الأمر هكذا، ولم يتحدث أحد في هذه الفترة عن الإسلام بشموله وعمومه.
هذه المفاهيم من الأهمية بمكان أن نعرف الجو الذي نبعت وقامت فيه هذه الدعوة في ذلك الوقت.. وصل الأمر بأنه ساد في هذه الفترة مفاهيم عجيبة جدًّا، منها أن التمسك بالدين نوع من التعصب، حين يرى الإنسانُ إنسانًا مستمسكًا بالعروة الوثقى يصفه بالتعصب ويقول: هذا إنسان متعصب، والاستمساك بالدين أمر فيه تجاهل بغير المسلمين، ويريدون أن يقيموا الدين وكأنه ليس في البلد دين إلا الإسلام، فوصل الأمر إلى هذه المفاهيم، وكتبوها في مجلاتهم وفي جرائدهم وفي ندواتهم وفي محاضراتهم، ويسومون المسلمين سوء العذاب بألفاظهم، فضلاً عن أفعالهم أيضًا يقولون: إن هذا الدين ناسبَ عصره، وقد نزل هذا الدين لفترة محددة من الزمان على قوم معهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والصحابة، ولا يناسب غير هذا العصر الذي نزل فيه... وما يزعمونه إنما هو إفك وبهتان.
ثم ركزوا على أن التدين من الأعمال الشخصية التي تتصل بالفرد، يقول: "إيماني في قلبي"، "أنا بيني وبين ربنا عمار"، "أنت عايز مني إيه"، "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ونسوا أن الذي عندنا: "ما لقيصر لله وما لله لله"، كل أمر من الأمور هي لله تعالى.. هذه المفاهيم التي رآها الإمام "البنا"- رضوان الله عليه وأرضاه- في هذا الوقت، والتي ظهرت بعد أن انحصرت الخلافة الإسلامية- كما تعلمون- في بلاد السلمين، وغاب الحكم الإسلامي، وأصبح واقع المسلمين هكذا، وغزا أعداءُ الإسلام المسلمين بالشبهات والشهوات والدعاوى الباطلة، وإثارة أو ونشر المفاهيم المعوجة البعيدة عن الإسلام؛ ذلك لأن أعداء الإسلام في ذلك الوقت يعلمون أن الشخصية الإسلامية لا تكتمل فهمًا إلا ويتأكد الخطر الداهم الذي يزيلهم من على أرضهم؛ لأن المولى يقول: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: 18)، فركزوا على أن يكون المتدين شخصية ممسوخة.
افتقاد الشخصية الأخلاقية
والذي افتقدناه اليوم هو الشخصية الإسلامية الأخلاقية التي بناها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أولاً، فأقامت الإسلام في قلبها، ثم بعد ذلك جعلته حقيقة على أرضها، فهم ركزوا على هذه الشخصية كي تُشوه، ولا تُشوه إلا بالفهم المعوج والبعيد عن الفهم الذي جاء به صلى الله عليه وسلم.
اسمعوا لـ"زويمر" يقول: "إن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين المسيحية، فإن هذا هدية لهم وتكريم، إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلةَ له بالدين".. يقول "زويمر" هذا الكلام؛ لكي نرى المكيدة للإسلام والتخطيط القديم الموضوع، ولنرى فضل الله علينا بهذه الدعوة التي جاءت بالإسلام بشموله وعمومه، ويقول القس "دولسن": "أنا لا أشك في أن التربية الغربية هي من قبيل قوة تنحل بها عُرى الروابط الإسلامية".. انظروا إلى التخطيط الذي فعله أعداء الإسلام بهذا الدين ويقول "تكري": "يجب أن نشجع المدارس على النمط الغربي العلماني؛ لأن كثيرًا من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم في الإسلام والقرآن حينما درسوا المدرسة الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية".
وهذا التخطيط وُضِع موضع التنفيذ، ونتج عنه حُكام أكلوا وشربوا على مائدة الغرب، وتحوَّلت عقولهم إلى عقول غربية يحملون أسماء إسلامية؛ لكن كل أفكارهم وتصوراتهم غربية؛ بل إن الصليبي "كاتلي" يقول: "يجب أن نستخدم القرآن- وهو أخص سلاح الإسلام- ضد الإسلام نفسه حتى نقضي عليه تمامًا، يجب أن نُبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس بجديد، وأن الجديد ليس بصحيح".. حتى إذا ما قرأ العامة من المسلمين هذه الكتب حدثت لديهم شبهات وشك، وهذا الأمر يبين لنا أنه من الأهمية بمكان أن نمحص في مصدر التلقي، ليس كل ما نسمعه نقوله؛ لكن ما هو المصدر الذي أتلقى منه؟ لابد أن يكون ثقةً.
واسمعوا للصهيوني "بن جوريون": "نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن نخشى فقط الإسلام، ذلك المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ".
وقد جاء الإمام "البنا" وهذه الصورة أمام ناظريه؛ حرب لا هوادةَ فيها بجوار الغزو العسكري، غزو فكري وثقافي لأبعد الحدود.. وهذا الغزو مُمَكَّن له في مدارسنا وبلادنا، كل هذا لكي يصيغوا عقلية غير إسلامية، فإذا كان العقل غير إسلامي سيكون تفكيره غير إسلامي، فركزوا على هذا الأمر تركيزًا شديدًا، فجاء "البنا" ونقل المسلمين من هذه المعاني والانتصار على هذه الحرب لمعاني الإسلام الشاملة الكلية لمفاهيم الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم- ولو أن فضل جماعة (الإخوان) انحصر في هذه المسألة لكفت الجماعة من الجهد الذي بُذل.
هذه النقلة التي قام بها "البنا" بعد سقوط الخلافة اعتمدت على مبدأ شمولية الإسلام.. وفي هذا يقول لنا: "إن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعها؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو حق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، وهو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء".
كيف يتقبل الناس مثل هذا الفهم في هذا الزمان؟! وكيف لهذه الدعوة الغريبة على الأذهان أن تجد طريقها وسط هذه الحرب الضروس التي تشترك فيها دول صغرى وعظمى، وعندهم من الإمكانات ما عندهم؟! إن هذا يتحقق حينما يقف رجلٌ صحت نيته وقويت عزيمته وتوجه إلى الله تعالى ليفتح به القلوب، ويمنحه القدرة على تصحيح المفاهيم عند الناس، ذلك الرجل الذي كان يسعى بين المسلمين ليرسخ حقيقة راسخة في وجدانه ولا ينفك يرددها على لسانه: "إن تعاليم الإسلام تنتظم شئون الناس في الدنيا والآخرة".
هذه المفاهيم والتعاليم معينها كتاب الله تعالى وسنة رسوله اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدًا، ولفهمت الإسلام كما يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح، ولن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به.
إنني أتعمد أن أنقل لكم النصوص قراءةً كما قالها؛ لكي تعقدوا مقارنة بين النقلة في المفاهيم وبين الحرب الضروس التي كان الإمام "البنا" يتصدى لها حين يقول: "إن الإسلام كدين عام ينتظم شئون الحياة بين الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات في هذه الحياة، خصوصًا في الأمور الدنيوية البحتة؛ فهو يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشئون، ويرشد الناس للطريقة العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها"..
كلام لا شك حين يوزن بميزان الإسلام نجد أنه لا يقوله إلا من شرح الله صدره للإسلام، ومن آتاه الله فقهًا وعلمًا، فقدمه للناس، وهو يتكلم عن شمول الإسلام ويستشهد بكتاب الله، ويقول: إن الإسلام لم يأتِ بالصلاة والصوم والزكاة والحج فحسب؛ بل هو الذي أتى كما أتى بالعقيدة والعبادة كقول ربنا: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ (البينة: 5)، أتى أيضًا بتوجيه للحكم والقضاء.. ألم يقل في كتاب ربنا: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ (النساء: 65)، و﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (النساء: 105)، جاء في التجارة والدين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ (البقرة: 282)، جاء في الجهاد والقتال وسورة البقرة التي أمرت بالصيام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183)، ويستطيع كل إنسان أن يحقق الصيام في ذاته، نجد آيات بعدها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ (البقرة: 178)، وبعد هذه الآيات مباشرةً نجد: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة: 216).
أهمية الجماعة
فإذا استطاع الفرد أن يحقق الإسلام في الصيام فلن يستطيع أن يحققه في القصاص وغيره من الأمور التي نعلم جميعًا.. فمَن يرد المظالم؟ ومَن يقيم العدل؟ ومَن يحقق الحدود على الأرض؟ أليست هذه كلها من الإسلام؟! ونحن لا نزيد في التأكيد على أن الإسلام دين جماعة، وأنه لابد أن يكون لهذه الجماعة أمير؛ لأنه إذا كانت هناك جماعة فلابد أن يكون هناك أمير وجند ومنهج يوضع موضع التنفيذ، والله تعالى يُبين لنا أنه هو القائل عن ذاته: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ﴾ (الأعراف:54).
إنه توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية؛ فالذي خلق يأمر، وما على المخلوق إلا الطاعة؛ ولذلك يقول سيدنا أبوبكر الصديق مجرد ما توفي الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمر خطير في (سقيفة بني ساعدة) فإذا بأبي بكر يجمع المسلمين ويقول: "أيها المسلمون، لابد لهذا الأمر من قائم يقوم عليه"، قالوا: صدقت يا أبا بكر، لابد أن يكون هناك قائم يقوم عليه، فالمسألة ليست مسألة فردية، وقال سيدنا عثمان: "إن الله ليزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن"، وقال سيدنا علي: "لابد للناس من إمارة بارة أو فاجرة، قيل يا أمير المؤمنين هذه البارة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال تُقام بها الحدود، وتُؤمن بها السبل، ويُجاهد بها العدو، ويُقسم بها الفيء"..
إذًا لابد من أن يكون هناك نظام يحكم المسلمين وينظم حياتهم، من خلال الجماعة التي ما أكثر أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- فيها والتحذير من البعد عنها. يقول الإمام البويني: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، هؤلاء أناس أعطاهم الله فقه؛ يعطون كلمات قليلة لكن تشمل التصور الإسلامي الشامل لقضيتنا التي نحن فيها، ويقول- صلى الله عليه وسلم-: "يد الله مع الجماعة، ومَن شذ شذ في النار"، ويقول أيضًا: "عليكم بالجماعة"، ويقول عنها ابن مسعود: "حبل الله المتين الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الخلاف والفرقة"، ويقول علي- رضي الله عنه-: "كدر الجماعة ولا صفاء الفرد"، فإذا قلنا إن الإسلام عقيدة وشريعة فإننا نؤكد أن الشريعة تنبثق من هذه العقيدة؛ عقيدة التوحيد التي نحملها بين جنبينا، فإذا صلحت العقيدة وصحت صحَّ السلوك وصح التصرف، ولن يقبل المولى الشريعة إلا إذا صحت العقيدة.
لابد أن تنبثق العقيدة عندنا برسوخ العقيدة في النفس، ويُبنى على أساسها المجتمع الذي يلتزم بشرع الله.. ألم تتذكروا قول الإمام "البنا" حين قلتُه في المرة الماضية؟ قال: "كونوا عُبَّادًا قبل أن تكونوا قُوَّادًا؛ تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة".
بناء الرجال
فأولاً نصحح عقيدتنا؛ لأن كمال العقيدة أمر مهم، حتى إن ابن القيم لما فسر (لا إله إلا الله) قال: "إن لـ(لا إله إلا الله) قلبًا وقالبًا.. وقالبها علمها؛ ولكن قلبها أثرها"، والرسول- صلى الله عليه وسلم- اهتم ببناء الرجال الذين يقام بهم البناء؛ ولذلك حينما نريد بناء عمارة يأتي المقاول يبحث عن العمال، ويختار منهم مَن صحت قوته، ونحن قوتنا في عقيدتنا.. فكلما كانت العقيدة قوية سهل إقامة البناء؛ ولذلك هناك نقطة مهمة يجب أن ننتبه إليها؛ وهي أن أول ما بدأ به الرسول- صلى الله عليه وسلم- قبل بناء الدولة هو تحقيق وحدة المشاعر.. فقبل كل شيء لابد أن أضع في اعتباري أن (لا إله إلا الله) توحد مشاعر المسلمين؛ فليس هناك فرق بين أبيض وأسود، أو عجمي وعربي، أو رئيس ومرءوس.. إنها تسوي بين الجميع: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)، فجاءت العقيدة وحدت المشاعر، ثم جاءت الشعائر بعدها وعمقت العلاقة بين العبد وربه، وأصبح أصحاب العقيدة الواحدة يعبدون ربًا واحدًا، ويتجهون لقبلة واحدة، ويتعلمون من رسول واحد، ويقرءون كتابًا واحدًا، ثم جاءت أخيرًا الشعائر بعد ما تحققت وحدة المشاعر، وهكذا نزل القرآن بهذا الترتيب، وجاءت قضية البناء في الشرائع متأخرة؛ لأن أمرها سهل جدًّا إذا حققنا كمال العقيدة، ثم تابعنا الرسول فيما أمر؛ ولكي نتأكد من هذا المعنى أتصور أن هذه الأمور لن تفوتكم، وأنها واضحة، غير أني أذكِّر بها.
إن نظرة واحدة للحفاة العراة رعاة الشاة.. نظرة واحدة لشاربي الخمر ولاعبي الميسر وآكلي الربا ومقترفي الزنا.. نظرة واحدة لمن كانت تشرئب أعناقهم حين يرون الرومي والفارسي.. هؤلاء الذين عاشوا في الجاهلية ما الذي حدث لهم، وجعل منهم رجالاً لدرجة أن أحدهم يقول: "إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومَن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"..
نريد رجالاً يقولون للحاكم إننا أولاً حراس على المجتمع، لسنا عمالاً عند الخليفة؛ لكننا حراسًا على العقيدة، والله لا سمع ولا طاعة حتى تخبرنا من أين أتيت بهذا الثوب؟ يقول قائل: اتق الله يا عمر، فلم يغضب لذلك عمر؛ بل قال: "لا خيرَ فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، وتصحح امرأة فهمًا عند أمير المؤمنين عندما أراد أن يحدد المهور، فردت عليه بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (النساء: 20)..
هذه الأمور أساسها اعتقاد وإيمان سرى في العروق؛ وهو ما أحدث نقلة عظيمة لأصحاب الأخدود أو سحرة فرعون الذين كانوا قبل أن تسري العقيدة في كيانهم كانوا يقولون له: ﴿إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ (الأعراف: 113)، يبحثون عن المال والأجر، ولم يكن لهم عزة، وكانوا يقسمون بعزة فرعون: ﴿وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ (الشعراء:44)، ما بال هؤلاء القوم الذين قال لهم فرعون ما ورد في سياق الآية: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى* قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه:71، 72، 73)..
إذًا وحدة المشاعر سابقة على وحدة الشرائع، وهذه نقطة مهمة، فلابد للداعي أن يضع في اعتباره هذا.. عندما سأل رجل الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الفرائض قال: "الصبح اثنان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع". قال: لا أزيد على ذلك، فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "أفلح إن صدق"؛ ولذلك كان الوصول للشريعة وصول متدرج؛ ولكن لا يصح أن يكون هناك تدرج في العقيدة؛ فالعقيدة جذورها في القلب، وتصلح حال الإنسان لا شك في ذلك..
إذًا الإمام "البنا" وضع في اعتباره أن توحيد الله بقول (لا إله إلا لله محمد رسول الله) ليس أمر عقيدة تستقر في النفوس، ثم تترجم لصلاة، ويكتفي الأمر عند ذلك.. إن كان هذا الأمر يضع لنا لبنات قوية ومتينة، فلا يمكن أن نطلق على اللبنات المتناثرة- ولو كانت قوية- بناءً؛ لكن لابد أن يشد بعضها بعضًا لكي يكون هناك بناء نحتمي به؛ لذلك يقول: "لو كان التوحيد متصلاً بالنفوس دون المجتمع لبقي النبي في مكة لا يغادرها.. لماذا يذهب إلى المدينة إذا كان الأمر أمر عقيدة، فإن دار ابن أبي الأرقم موجودة، وقد آمن معه نماذج كثيرة، وتربى في جامعة النبوة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وكان الإيمان في النفوس بلغ ذروته، ورغم هذا هاجر الرسول- صلى الله عليه وسلم- من مكة وهدفه المدينة؛ فلماذا خرج؟ يقول: لأن الإسلام ليس عقيدة توحيد تعمل عملها في نفس الإنسان فحسب؛ ولكن لأنه لابد أن يتعدى العمل في النفس إلى المجتمع فتهاجر؛ لأن الإسلام يحتاج إلى مجتمع مسلم، فسعى إليه لكي يبنيه ويقيمه، هذا الكلام كلام طيب ومقنع في نفس الوقت؛ لأن هذا الذي يقول هو صبغة الله، ومَن أحسن من الله صبغة؟! لذلك توجد نقطة لطيفة؛ وهي أن الإسلام لا يكتفي بالإنسان الصالح لأن صلاحه لذاته؛ لكن الإسلام يريد من المسلم أن يكون مصلحًا وليس صالحًا، فيكون المسلم صالح في ذاته مصلح لغيره.
والحركة الديناميكية التي في المجتمع هي السعي لإقامة دين الله على الأرض؛ ولذلك مما أشار في الآية أشار ليعلم المفسد من المصلح.. لم يقل ليعلم الفاسد من الصالح؛ لأن المفسد يتعدى فساده للغير، والمصلح يتعدى صلاحه للغير.. وهذا هو الذي يبحث عنه الإسلام، فإن الأزمة ليست أزمة بطون كما يقول القائلون؛ وإنما الأزمة أزمة عقول، تُصاغ الصياغة الإسلامية؛ لكي ينتج من العقل سلوك يبني المجتمع على أمرين، الأول: أن الإسلام ليس عقيدة تستقر في القلب فحسب ولا شعائر يؤديها المسلم قربةً إلى الله؛ ولكن هي منهج حياة يُقام بها دين الله على الأرض، ولكي نقيم الإسلام بشموله لابد أن يسبق هذا الأمر خطوات نحقق بها مجالات بعينها:
خطوات للإصلاح
الأولى: إيجاد يقظة روحية إيمانية مهمة جدًّا، وهي أن نوقظ قلب وعقل الأمة أولاً وقبل أي شيء، لا أن نأتي بالكرباج من أجل أن نقيم دولة الإسلام، ويوجد تعبير لطيف للإمام "البنا" في هذا المعنى يقول: نحن لا نسعى للحكم؛ ولكن الحكم هو الذي يسعى إلينا"، فعندما توجد اليقظة الإيمانية والحب لدين الله، الناس أنفسهم سيطالبون بنا؛ لكن لا نفرض أبدًا نظامًا بعينه مع قلوب وحال الأمة على هذه الحال، ليس من الحكمة بمكان أن نسرع الخطا؛ ولكن أن نوقظ القلوب ونبني رجال على الإيمان.
الثانية: تربية الفرد المسلم تربية إسلامية بمفهومها الشامل.. نربي الإنسان الفرد تربية إسلامية أساسها- كما قلنا- إيمان بالله وتوحيد يملأ القلب، فيعرف أنه يركن ظهره إلى القوي المتين، ويقول: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ (الزمر:36)، نريد فردًا يُربى تربية إسلامية متأنية، وهي التي صنعت الرجال حتى يكون من الذين قال الله فيهم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).
لو أخذنا بهذا التسلسل: أن نوقظ الإيمان، ثم نركز على الأفراد في التربية.. وإذا كان الأفراد أنفسهم آمنوا فيبقى من السهل جدًّا أن تتكون الأسرة المسلمة ليقيموا حدود الله، وهنا: "فاظفر بذات الدين تربت يداك" و"إذا جاءكم مَن ترضون دينه فزوجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".. فهذه الخطوات مقصودة لذاتها، لا يمكن أبدًا بأي حال من الأحوال أن يتجاوزها فرد مسلم.. من الطبيعي جدًّا أن يكون لبنة، فسيختار المسلمة لكي ننشئ البيوت المسلمة التي في الخطوة الثالثة تصنع المجتمع المسلم، ثم نحيي بعد ذلك الخلافة الإسلامية لإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، ومن هنا توجد أمور ثلاثة يجب أن نراعيها.. إذا كانت هذه خطوات يجب أن نمر بها ونركز عليها حين ننادي بشمول الإسلام وكماله وعمومه فلابد أن نضع في اعتبارنا أننا سنحتاج إلى هذه المفاهيم:
أولاً: أن الهدف من تطبيق أحكام الإسلام التي ذكرناها هو إيجاد واقع عملي إسلامي؛ لأن الناس ملت من كلام المنابر، وملت من الكتب والمؤلفات التي تقرؤها، فنحن عندما جعلنا من المدرسة الإسلامية واقعًا؛ واقع نحن لا نرضى عنه ونرى فيه عيوبًا، نسأل الله أن يعيننا على تلافيها.. لكن ضغط الناس علينا لا يتصوره عقل؛ لأن النموذج وُجد وإن الواقع أمامهم، فحينما قلت لواحد من أولياء الأمور عمر ابنه ست سنوات إلا يومين ومتقدم إلى الحضانة بعد ما أصبح للحضانة تنسيق كتنسيق الجامعة قلت له: حرام عليك! عمر ابنك ست سنوات إلا يومين؛ يعني بدل دخوله الحضانة يدخل أولى ابتدائي في مدرسة أخرى؛ لماذا تأت إلى هذه المدرسة؟! أتضيع على الولد سنتين؟! يقول لي: والله أنا ما كنت أنتظر هذا الكلام منك أنت بالذات! هو ضياع سنتين أم ضياع دينه؟! وجاء رده مفحمًا فلم أستطع جوابًا..
ما الذي جعله يفعل ذلك؟ إنه النموذج الموجود، فإننا أصلاً حينما ننادي بشمول الإسلام وعمومه نقدم النموذج العملي الذي يراه الناس رأي العين بناءً موجودًا، إذا كنا في مرحلة إيجاد رأي عام إسلامي غير مطلوب منا التحوصل، والأخوات يلتفون حول بعضهن (المحجبات)، وكأن الأخريات ميكروب، بينما الأصل هو العمل معهن لإيجاد رأي عام إسلامي يحمي المجتمع المسلم؛ لأننا لسنا نوابًا عنهم.. نحن في المقدمة، ولكن لابد أنم نُفعِّل الآخر، وإلا لن نكون أصحاب دعوة.
• سوء الفهم هو الذي أدى إلى وجود فرق إسلامية
• أصناف أربعة فهمت الإسلام بشكل خاطئ
• الأصل أن ندعو غير المسلمين للإسلام لا أن يدعو بعضنا بعضًا
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبعد: فنسأل الله تعالى شرح الصدور، وأن يفقهنا في هذا الدين، وأن يرزقنا الإخلاص في كل ما نقول ونعمل.. الحقيقة أنه في المرة الماضية تكلمنا عن ركن الفهم وأهميته، ولأهمية هذا الركن وضع له الإمام "البنا" عشرين أصلاً ليحدد الفهم تحديدًا دقيقًا بإطار واضح بحيث يجتمع عليه كل من آمن بهذا الفكر وسار في هذا الطريق؛ لأن وحدة التصور مهمة للغاية، ومن أجلها نزل القرآن في مكة ثلاثة عشر عامًا لم ينزل فيها حكم من الأحكام، إنما كانت القضية هي قضية الفهم في هذه الفترة المكية؛ بل إن الذي يقرأ منكم صدر سورة الأنعام يجد أن ما يقرب من الجزء يتكلم عن تحديد الفهم، وكأنَّ السورة تقول للمسلمين: إن أنتم فقهتم هذا الأمر، ووضحت لكم التصورات الصحيحة: ﴿تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ (الأنعام: 151)، والسورة كلها تتكلم عن تصورات تحدد إطار الفهم؛ لأنها قضية في منتهى الخطورة- كما نعلم- لدرجة أننا نعلم أن الفِرَقَ الإسلاميةَ ما أصبحت فِرَقًا إلا لسوء الفهم، مثل: الخوارج، والشيعة، والمعتزلة بأصنافها المختلفة، لا ينقصها الإخلاص؛ ولكن زلت القدم حين ضل القوم الفهم الصحيح للإسلام؛ ولذلك يقول "عمر بن عبدالعزيز" في هذا المعنى: "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح".. هذا كلام "عمر بن عبدالعزيز" رضي الله تعالى عنه، والرسول- صلى الله عليه وسلم- حين وصف هؤلاء الآبقين عن الفهم السليم لم يصفهم بقلة صلاة ولا صيام؛ بل بالعكس قال عنهم الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "... يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم.. يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية".
هذا كله راجع لسوء الفهم لا شك في ذلك.. سيدنا "عمر بن الخطاب"- رضي الله عنه- يقول: "لَمَوْتُ ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بالحلال والحرام"، ولما أثنى الله على سيدنا سليمان- عليه السلام- قال: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ (الأنبياء: 79)، ولن أزيد؛ لكني كي أربط الموضوع بسابقه أتكلم عن هذا الأمر بإيجاز لننتقل إلى موضوعنا بعد أن نسمع ما قاله ابن القيم- رضوان الله عليه وأرضاه- في هذه القضية.. يقول: "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده؛ بل ما أُعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما؛ بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت فهومهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين أُمرنا أن نسأل الله صراطهم في كل صلاة".. إذًا قضية الفهم كما رأيتم تستحق أن نُفصِّل فيها تفصيلاً حتى تثبت الأقدام على الطريق وتتضح الرؤيا وضوح الشمس في رابعة النهار.
مفاهيم خاطئة
ونقطة أخرى في أهمية الفهم؛ وهي أن الإنسان حين يخلص لابد أن يخلص لتصور معين، فإذا كان الإخلاص مرتبط بفهم معوج لا يكفي الإخلاص- كما قلنا- مع الخوارج والشيعة وغيرها، فإخلاصهم لا نتكلم فيه؛ ولكن فهومهم هي التي جعلتهم ينحرفون عن الصراط المستقيم؛ لذلك من فقه الإمام "البنا" ترتيب الأركان؛ جاء الفهم، ثم جاء الإخلاص، في حين أننا عندما نقرأ في كتب الفقه نجد دائمًا يتصدر باب الإخلاص؛ لكن عندما جاء يتكلم عن باب الفهم قدَّم الفهم على الإخلاص؛ لأن علامَ تخلص؟ تخلص لفهم محددٍ معين له ثوابته ومتغيراته، فيكون الإخلاص لهذا الفهم نفسه، ولا يستقيم الأمر في داخل الجماعة إلا بالأمرين معًا: فَهْمٌ سليم، وإخلاص لله تعالى فيه. والجماعة تحتاج إلى فهم تجتمع عليه، وأصول تقوم عليها، وإخلاص لهذا الفهم، وفقه يضبط الحركة في ضوء ثوابت الجماعة التي نحن ندين بفهمها؛ ولذلك لكي نجيب على تساؤلات الذين يقولون: ماذا قدمتم؟ وماذا فعلتم؟ نقول: لو قرأنا حال المسلمين قبل هذه الدعوة المباركة؛ ماذا كان حالهم؟ هذا الفهم الذي جاء به الإمام "البنا" كان يكاد يكون غريبًا على الأسماع لا أقول أسماع العامة والجهلة، لا بل بعض المتعلمة والدارسين لبعض العلوم الإسلامية استنكروا هذا الفهم؛ لأن الذي كان سائدًا في هذا الوقت أننا نرى صنفًا من الناس لا يرى في الإسلام إلا حدود العبادة الظاهرة: صلاة، وصوم، وزكاة، وحج.. وهذا هو فهمه للإسلام، لا يتعداه لغيره، فيطمئن قلبه، ويحسب أنه أتى بالإسلام وبما يرضي الله تعالى وبما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم..
صنف آخر يتكلم عن الروحانية الفياضة والخلق القويم، ولا مانع من أن يُستشهد بحديث: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وكأنَّ الشريعةَ الإسلاميةَ تنبع وتنبثق من عقيدة أساسها الخلق، فمعاملاتنا كلها مبنية على الأخلاق، ولم نحصرها في الأخلاق الفردية التي يتصف بها الفرد من أمانة وصدق وإخلاص وغير ذلك من هذه الصفات الكريمة؛ لكن القوم حصروها في هذا المعنى الذي أقول.
وصنف ثالث أيضًا دائمًا وأبدًا لا يفكر إلا في المعاني الحيوية والعملية في الإسلام، فلا يتطلب النظر إلى غيرها، ولا يعجبه التفكير في سواها.
صنف رابع أيضًا لا يرى في الإسلام إلا نوعًا من العقائد الموروثة والأعمال التقليدية التي لا غناء عنها ولا تقدم معها، وهؤلاء أصحاب أو تلاميذ المدرسة الغربية أصحاب (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، أصحاب (فصل الدين عن الدولة)، وهؤلاء الذين عادوا الحركة الإسلامية التي نادت بالشمول والعموم؛ سواء أكانت الحركة القومية أم الوطنية أم غيرها من التيارات التي كانت موجودة في زمان "البنا"، وناوأت هذه الحركة، وساد الأمر هكذا، ولم يتحدث أحد في هذه الفترة عن الإسلام بشموله وعمومه.
هذه المفاهيم من الأهمية بمكان أن نعرف الجو الذي نبعت وقامت فيه هذه الدعوة في ذلك الوقت.. وصل الأمر بأنه ساد في هذه الفترة مفاهيم عجيبة جدًّا، منها أن التمسك بالدين نوع من التعصب، حين يرى الإنسانُ إنسانًا مستمسكًا بالعروة الوثقى يصفه بالتعصب ويقول: هذا إنسان متعصب، والاستمساك بالدين أمر فيه تجاهل بغير المسلمين، ويريدون أن يقيموا الدين وكأنه ليس في البلد دين إلا الإسلام، فوصل الأمر إلى هذه المفاهيم، وكتبوها في مجلاتهم وفي جرائدهم وفي ندواتهم وفي محاضراتهم، ويسومون المسلمين سوء العذاب بألفاظهم، فضلاً عن أفعالهم أيضًا يقولون: إن هذا الدين ناسبَ عصره، وقد نزل هذا الدين لفترة محددة من الزمان على قوم معهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والصحابة، ولا يناسب غير هذا العصر الذي نزل فيه... وما يزعمونه إنما هو إفك وبهتان.
ثم ركزوا على أن التدين من الأعمال الشخصية التي تتصل بالفرد، يقول: "إيماني في قلبي"، "أنا بيني وبين ربنا عمار"، "أنت عايز مني إيه"، "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ونسوا أن الذي عندنا: "ما لقيصر لله وما لله لله"، كل أمر من الأمور هي لله تعالى.. هذه المفاهيم التي رآها الإمام "البنا"- رضوان الله عليه وأرضاه- في هذا الوقت، والتي ظهرت بعد أن انحصرت الخلافة الإسلامية- كما تعلمون- في بلاد السلمين، وغاب الحكم الإسلامي، وأصبح واقع المسلمين هكذا، وغزا أعداءُ الإسلام المسلمين بالشبهات والشهوات والدعاوى الباطلة، وإثارة أو ونشر المفاهيم المعوجة البعيدة عن الإسلام؛ ذلك لأن أعداء الإسلام في ذلك الوقت يعلمون أن الشخصية الإسلامية لا تكتمل فهمًا إلا ويتأكد الخطر الداهم الذي يزيلهم من على أرضهم؛ لأن المولى يقول: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: 18)، فركزوا على أن يكون المتدين شخصية ممسوخة.
افتقاد الشخصية الأخلاقية
والذي افتقدناه اليوم هو الشخصية الإسلامية الأخلاقية التي بناها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أولاً، فأقامت الإسلام في قلبها، ثم بعد ذلك جعلته حقيقة على أرضها، فهم ركزوا على هذه الشخصية كي تُشوه، ولا تُشوه إلا بالفهم المعوج والبعيد عن الفهم الذي جاء به صلى الله عليه وسلم.
اسمعوا لـ"زويمر" يقول: "إن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين المسيحية، فإن هذا هدية لهم وتكريم، إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلةَ له بالدين".. يقول "زويمر" هذا الكلام؛ لكي نرى المكيدة للإسلام والتخطيط القديم الموضوع، ولنرى فضل الله علينا بهذه الدعوة التي جاءت بالإسلام بشموله وعمومه، ويقول القس "دولسن": "أنا لا أشك في أن التربية الغربية هي من قبيل قوة تنحل بها عُرى الروابط الإسلامية".. انظروا إلى التخطيط الذي فعله أعداء الإسلام بهذا الدين ويقول "تكري": "يجب أن نشجع المدارس على النمط الغربي العلماني؛ لأن كثيرًا من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم في الإسلام والقرآن حينما درسوا المدرسة الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية".
وهذا التخطيط وُضِع موضع التنفيذ، ونتج عنه حُكام أكلوا وشربوا على مائدة الغرب، وتحوَّلت عقولهم إلى عقول غربية يحملون أسماء إسلامية؛ لكن كل أفكارهم وتصوراتهم غربية؛ بل إن الصليبي "كاتلي" يقول: "يجب أن نستخدم القرآن- وهو أخص سلاح الإسلام- ضد الإسلام نفسه حتى نقضي عليه تمامًا، يجب أن نُبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس بجديد، وأن الجديد ليس بصحيح".. حتى إذا ما قرأ العامة من المسلمين هذه الكتب حدثت لديهم شبهات وشك، وهذا الأمر يبين لنا أنه من الأهمية بمكان أن نمحص في مصدر التلقي، ليس كل ما نسمعه نقوله؛ لكن ما هو المصدر الذي أتلقى منه؟ لابد أن يكون ثقةً.
واسمعوا للصهيوني "بن جوريون": "نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن نخشى فقط الإسلام، ذلك المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ".
وقد جاء الإمام "البنا" وهذه الصورة أمام ناظريه؛ حرب لا هوادةَ فيها بجوار الغزو العسكري، غزو فكري وثقافي لأبعد الحدود.. وهذا الغزو مُمَكَّن له في مدارسنا وبلادنا، كل هذا لكي يصيغوا عقلية غير إسلامية، فإذا كان العقل غير إسلامي سيكون تفكيره غير إسلامي، فركزوا على هذا الأمر تركيزًا شديدًا، فجاء "البنا" ونقل المسلمين من هذه المعاني والانتصار على هذه الحرب لمعاني الإسلام الشاملة الكلية لمفاهيم الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم- ولو أن فضل جماعة (الإخوان) انحصر في هذه المسألة لكفت الجماعة من الجهد الذي بُذل.
هذه النقلة التي قام بها "البنا" بعد سقوط الخلافة اعتمدت على مبدأ شمولية الإسلام.. وفي هذا يقول لنا: "إن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعها؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو حق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، وهو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء".
كيف يتقبل الناس مثل هذا الفهم في هذا الزمان؟! وكيف لهذه الدعوة الغريبة على الأذهان أن تجد طريقها وسط هذه الحرب الضروس التي تشترك فيها دول صغرى وعظمى، وعندهم من الإمكانات ما عندهم؟! إن هذا يتحقق حينما يقف رجلٌ صحت نيته وقويت عزيمته وتوجه إلى الله تعالى ليفتح به القلوب، ويمنحه القدرة على تصحيح المفاهيم عند الناس، ذلك الرجل الذي كان يسعى بين المسلمين ليرسخ حقيقة راسخة في وجدانه ولا ينفك يرددها على لسانه: "إن تعاليم الإسلام تنتظم شئون الناس في الدنيا والآخرة".
هذه المفاهيم والتعاليم معينها كتاب الله تعالى وسنة رسوله اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدًا، ولفهمت الإسلام كما يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح، ولن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به.
إنني أتعمد أن أنقل لكم النصوص قراءةً كما قالها؛ لكي تعقدوا مقارنة بين النقلة في المفاهيم وبين الحرب الضروس التي كان الإمام "البنا" يتصدى لها حين يقول: "إن الإسلام كدين عام ينتظم شئون الحياة بين الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات في هذه الحياة، خصوصًا في الأمور الدنيوية البحتة؛ فهو يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشئون، ويرشد الناس للطريقة العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها"..
كلام لا شك حين يوزن بميزان الإسلام نجد أنه لا يقوله إلا من شرح الله صدره للإسلام، ومن آتاه الله فقهًا وعلمًا، فقدمه للناس، وهو يتكلم عن شمول الإسلام ويستشهد بكتاب الله، ويقول: إن الإسلام لم يأتِ بالصلاة والصوم والزكاة والحج فحسب؛ بل هو الذي أتى كما أتى بالعقيدة والعبادة كقول ربنا: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ (البينة: 5)، أتى أيضًا بتوجيه للحكم والقضاء.. ألم يقل في كتاب ربنا: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ (النساء: 65)، و﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (النساء: 105)، جاء في التجارة والدين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ (البقرة: 282)، جاء في الجهاد والقتال وسورة البقرة التي أمرت بالصيام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183)، ويستطيع كل إنسان أن يحقق الصيام في ذاته، نجد آيات بعدها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ (البقرة: 178)، وبعد هذه الآيات مباشرةً نجد: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة: 216).
أهمية الجماعة
فإذا استطاع الفرد أن يحقق الإسلام في الصيام فلن يستطيع أن يحققه في القصاص وغيره من الأمور التي نعلم جميعًا.. فمَن يرد المظالم؟ ومَن يقيم العدل؟ ومَن يحقق الحدود على الأرض؟ أليست هذه كلها من الإسلام؟! ونحن لا نزيد في التأكيد على أن الإسلام دين جماعة، وأنه لابد أن يكون لهذه الجماعة أمير؛ لأنه إذا كانت هناك جماعة فلابد أن يكون هناك أمير وجند ومنهج يوضع موضع التنفيذ، والله تعالى يُبين لنا أنه هو القائل عن ذاته: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ﴾ (الأعراف:54).
إنه توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية؛ فالذي خلق يأمر، وما على المخلوق إلا الطاعة؛ ولذلك يقول سيدنا أبوبكر الصديق مجرد ما توفي الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمر خطير في (سقيفة بني ساعدة) فإذا بأبي بكر يجمع المسلمين ويقول: "أيها المسلمون، لابد لهذا الأمر من قائم يقوم عليه"، قالوا: صدقت يا أبا بكر، لابد أن يكون هناك قائم يقوم عليه، فالمسألة ليست مسألة فردية، وقال سيدنا عثمان: "إن الله ليزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن"، وقال سيدنا علي: "لابد للناس من إمارة بارة أو فاجرة، قيل يا أمير المؤمنين هذه البارة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال تُقام بها الحدود، وتُؤمن بها السبل، ويُجاهد بها العدو، ويُقسم بها الفيء"..
إذًا لابد من أن يكون هناك نظام يحكم المسلمين وينظم حياتهم، من خلال الجماعة التي ما أكثر أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- فيها والتحذير من البعد عنها. يقول الإمام البويني: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، هؤلاء أناس أعطاهم الله فقه؛ يعطون كلمات قليلة لكن تشمل التصور الإسلامي الشامل لقضيتنا التي نحن فيها، ويقول- صلى الله عليه وسلم-: "يد الله مع الجماعة، ومَن شذ شذ في النار"، ويقول أيضًا: "عليكم بالجماعة"، ويقول عنها ابن مسعود: "حبل الله المتين الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الخلاف والفرقة"، ويقول علي- رضي الله عنه-: "كدر الجماعة ولا صفاء الفرد"، فإذا قلنا إن الإسلام عقيدة وشريعة فإننا نؤكد أن الشريعة تنبثق من هذه العقيدة؛ عقيدة التوحيد التي نحملها بين جنبينا، فإذا صلحت العقيدة وصحت صحَّ السلوك وصح التصرف، ولن يقبل المولى الشريعة إلا إذا صحت العقيدة.
لابد أن تنبثق العقيدة عندنا برسوخ العقيدة في النفس، ويُبنى على أساسها المجتمع الذي يلتزم بشرع الله.. ألم تتذكروا قول الإمام "البنا" حين قلتُه في المرة الماضية؟ قال: "كونوا عُبَّادًا قبل أن تكونوا قُوَّادًا؛ تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة".
بناء الرجال
فأولاً نصحح عقيدتنا؛ لأن كمال العقيدة أمر مهم، حتى إن ابن القيم لما فسر (لا إله إلا الله) قال: "إن لـ(لا إله إلا الله) قلبًا وقالبًا.. وقالبها علمها؛ ولكن قلبها أثرها"، والرسول- صلى الله عليه وسلم- اهتم ببناء الرجال الذين يقام بهم البناء؛ ولذلك حينما نريد بناء عمارة يأتي المقاول يبحث عن العمال، ويختار منهم مَن صحت قوته، ونحن قوتنا في عقيدتنا.. فكلما كانت العقيدة قوية سهل إقامة البناء؛ ولذلك هناك نقطة مهمة يجب أن ننتبه إليها؛ وهي أن أول ما بدأ به الرسول- صلى الله عليه وسلم- قبل بناء الدولة هو تحقيق وحدة المشاعر.. فقبل كل شيء لابد أن أضع في اعتباري أن (لا إله إلا الله) توحد مشاعر المسلمين؛ فليس هناك فرق بين أبيض وأسود، أو عجمي وعربي، أو رئيس ومرءوس.. إنها تسوي بين الجميع: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)، فجاءت العقيدة وحدت المشاعر، ثم جاءت الشعائر بعدها وعمقت العلاقة بين العبد وربه، وأصبح أصحاب العقيدة الواحدة يعبدون ربًا واحدًا، ويتجهون لقبلة واحدة، ويتعلمون من رسول واحد، ويقرءون كتابًا واحدًا، ثم جاءت أخيرًا الشعائر بعد ما تحققت وحدة المشاعر، وهكذا نزل القرآن بهذا الترتيب، وجاءت قضية البناء في الشرائع متأخرة؛ لأن أمرها سهل جدًّا إذا حققنا كمال العقيدة، ثم تابعنا الرسول فيما أمر؛ ولكي نتأكد من هذا المعنى أتصور أن هذه الأمور لن تفوتكم، وأنها واضحة، غير أني أذكِّر بها.
إن نظرة واحدة للحفاة العراة رعاة الشاة.. نظرة واحدة لشاربي الخمر ولاعبي الميسر وآكلي الربا ومقترفي الزنا.. نظرة واحدة لمن كانت تشرئب أعناقهم حين يرون الرومي والفارسي.. هؤلاء الذين عاشوا في الجاهلية ما الذي حدث لهم، وجعل منهم رجالاً لدرجة أن أحدهم يقول: "إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومَن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"..
نريد رجالاً يقولون للحاكم إننا أولاً حراس على المجتمع، لسنا عمالاً عند الخليفة؛ لكننا حراسًا على العقيدة، والله لا سمع ولا طاعة حتى تخبرنا من أين أتيت بهذا الثوب؟ يقول قائل: اتق الله يا عمر، فلم يغضب لذلك عمر؛ بل قال: "لا خيرَ فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، وتصحح امرأة فهمًا عند أمير المؤمنين عندما أراد أن يحدد المهور، فردت عليه بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (النساء: 20)..
هذه الأمور أساسها اعتقاد وإيمان سرى في العروق؛ وهو ما أحدث نقلة عظيمة لأصحاب الأخدود أو سحرة فرعون الذين كانوا قبل أن تسري العقيدة في كيانهم كانوا يقولون له: ﴿إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ (الأعراف: 113)، يبحثون عن المال والأجر، ولم يكن لهم عزة، وكانوا يقسمون بعزة فرعون: ﴿وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ (الشعراء:44)، ما بال هؤلاء القوم الذين قال لهم فرعون ما ورد في سياق الآية: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى* قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه:71، 72، 73)..
إذًا وحدة المشاعر سابقة على وحدة الشرائع، وهذه نقطة مهمة، فلابد للداعي أن يضع في اعتباره هذا.. عندما سأل رجل الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الفرائض قال: "الصبح اثنان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع". قال: لا أزيد على ذلك، فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "أفلح إن صدق"؛ ولذلك كان الوصول للشريعة وصول متدرج؛ ولكن لا يصح أن يكون هناك تدرج في العقيدة؛ فالعقيدة جذورها في القلب، وتصلح حال الإنسان لا شك في ذلك..
إذًا الإمام "البنا" وضع في اعتباره أن توحيد الله بقول (لا إله إلا لله محمد رسول الله) ليس أمر عقيدة تستقر في النفوس، ثم تترجم لصلاة، ويكتفي الأمر عند ذلك.. إن كان هذا الأمر يضع لنا لبنات قوية ومتينة، فلا يمكن أن نطلق على اللبنات المتناثرة- ولو كانت قوية- بناءً؛ لكن لابد أن يشد بعضها بعضًا لكي يكون هناك بناء نحتمي به؛ لذلك يقول: "لو كان التوحيد متصلاً بالنفوس دون المجتمع لبقي النبي في مكة لا يغادرها.. لماذا يذهب إلى المدينة إذا كان الأمر أمر عقيدة، فإن دار ابن أبي الأرقم موجودة، وقد آمن معه نماذج كثيرة، وتربى في جامعة النبوة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وكان الإيمان في النفوس بلغ ذروته، ورغم هذا هاجر الرسول- صلى الله عليه وسلم- من مكة وهدفه المدينة؛ فلماذا خرج؟ يقول: لأن الإسلام ليس عقيدة توحيد تعمل عملها في نفس الإنسان فحسب؛ ولكن لأنه لابد أن يتعدى العمل في النفس إلى المجتمع فتهاجر؛ لأن الإسلام يحتاج إلى مجتمع مسلم، فسعى إليه لكي يبنيه ويقيمه، هذا الكلام كلام طيب ومقنع في نفس الوقت؛ لأن هذا الذي يقول هو صبغة الله، ومَن أحسن من الله صبغة؟! لذلك توجد نقطة لطيفة؛ وهي أن الإسلام لا يكتفي بالإنسان الصالح لأن صلاحه لذاته؛ لكن الإسلام يريد من المسلم أن يكون مصلحًا وليس صالحًا، فيكون المسلم صالح في ذاته مصلح لغيره.
والحركة الديناميكية التي في المجتمع هي السعي لإقامة دين الله على الأرض؛ ولذلك مما أشار في الآية أشار ليعلم المفسد من المصلح.. لم يقل ليعلم الفاسد من الصالح؛ لأن المفسد يتعدى فساده للغير، والمصلح يتعدى صلاحه للغير.. وهذا هو الذي يبحث عنه الإسلام، فإن الأزمة ليست أزمة بطون كما يقول القائلون؛ وإنما الأزمة أزمة عقول، تُصاغ الصياغة الإسلامية؛ لكي ينتج من العقل سلوك يبني المجتمع على أمرين، الأول: أن الإسلام ليس عقيدة تستقر في القلب فحسب ولا شعائر يؤديها المسلم قربةً إلى الله؛ ولكن هي منهج حياة يُقام بها دين الله على الأرض، ولكي نقيم الإسلام بشموله لابد أن يسبق هذا الأمر خطوات نحقق بها مجالات بعينها:
خطوات للإصلاح
الأولى: إيجاد يقظة روحية إيمانية مهمة جدًّا، وهي أن نوقظ قلب وعقل الأمة أولاً وقبل أي شيء، لا أن نأتي بالكرباج من أجل أن نقيم دولة الإسلام، ويوجد تعبير لطيف للإمام "البنا" في هذا المعنى يقول: نحن لا نسعى للحكم؛ ولكن الحكم هو الذي يسعى إلينا"، فعندما توجد اليقظة الإيمانية والحب لدين الله، الناس أنفسهم سيطالبون بنا؛ لكن لا نفرض أبدًا نظامًا بعينه مع قلوب وحال الأمة على هذه الحال، ليس من الحكمة بمكان أن نسرع الخطا؛ ولكن أن نوقظ القلوب ونبني رجال على الإيمان.
الثانية: تربية الفرد المسلم تربية إسلامية بمفهومها الشامل.. نربي الإنسان الفرد تربية إسلامية أساسها- كما قلنا- إيمان بالله وتوحيد يملأ القلب، فيعرف أنه يركن ظهره إلى القوي المتين، ويقول: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ (الزمر:36)، نريد فردًا يُربى تربية إسلامية متأنية، وهي التي صنعت الرجال حتى يكون من الذين قال الله فيهم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).
لو أخذنا بهذا التسلسل: أن نوقظ الإيمان، ثم نركز على الأفراد في التربية.. وإذا كان الأفراد أنفسهم آمنوا فيبقى من السهل جدًّا أن تتكون الأسرة المسلمة ليقيموا حدود الله، وهنا: "فاظفر بذات الدين تربت يداك" و"إذا جاءكم مَن ترضون دينه فزوجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".. فهذه الخطوات مقصودة لذاتها، لا يمكن أبدًا بأي حال من الأحوال أن يتجاوزها فرد مسلم.. من الطبيعي جدًّا أن يكون لبنة، فسيختار المسلمة لكي ننشئ البيوت المسلمة التي في الخطوة الثالثة تصنع المجتمع المسلم، ثم نحيي بعد ذلك الخلافة الإسلامية لإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، ومن هنا توجد أمور ثلاثة يجب أن نراعيها.. إذا كانت هذه خطوات يجب أن نمر بها ونركز عليها حين ننادي بشمول الإسلام وكماله وعمومه فلابد أن نضع في اعتبارنا أننا سنحتاج إلى هذه المفاهيم:
أولاً: أن الهدف من تطبيق أحكام الإسلام التي ذكرناها هو إيجاد واقع عملي إسلامي؛ لأن الناس ملت من كلام المنابر، وملت من الكتب والمؤلفات التي تقرؤها، فنحن عندما جعلنا من المدرسة الإسلامية واقعًا؛ واقع نحن لا نرضى عنه ونرى فيه عيوبًا، نسأل الله أن يعيننا على تلافيها.. لكن ضغط الناس علينا لا يتصوره عقل؛ لأن النموذج وُجد وإن الواقع أمامهم، فحينما قلت لواحد من أولياء الأمور عمر ابنه ست سنوات إلا يومين ومتقدم إلى الحضانة بعد ما أصبح للحضانة تنسيق كتنسيق الجامعة قلت له: حرام عليك! عمر ابنك ست سنوات إلا يومين؛ يعني بدل دخوله الحضانة يدخل أولى ابتدائي في مدرسة أخرى؛ لماذا تأت إلى هذه المدرسة؟! أتضيع على الولد سنتين؟! يقول لي: والله أنا ما كنت أنتظر هذا الكلام منك أنت بالذات! هو ضياع سنتين أم ضياع دينه؟! وجاء رده مفحمًا فلم أستطع جوابًا..
ما الذي جعله يفعل ذلك؟ إنه النموذج الموجود، فإننا أصلاً حينما ننادي بشمول الإسلام وعمومه نقدم النموذج العملي الذي يراه الناس رأي العين بناءً موجودًا، إذا كنا في مرحلة إيجاد رأي عام إسلامي غير مطلوب منا التحوصل، والأخوات يلتفون حول بعضهن (المحجبات)، وكأن الأخريات ميكروب، بينما الأصل هو العمل معهن لإيجاد رأي عام إسلامي يحمي المجتمع المسلم؛ لأننا لسنا نوابًا عنهم.. نحن في المقدمة، ولكن لابد أنم نُفعِّل الآخر، وإلا لن نكون أصحاب دعوة.